فقه القرآن (لليزدي)

اشارة

نام كتاب: فقه القرآن

موضوع: آيات الأحكام

نويسنده: يزدي، محمد

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 4

ناشر: مؤسسه اسماعيليان

تاريخ نشر: 1415 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

الجزء الاول من فقه القرآن «العبادات»

بين يدي الكتاب

اشارة

بقلم الدكتور عباس الترجمان

بسم الله الرحمن الرحيم

و له الحمد و به نستعين

و صلي الله علي سيّدنا محمّد و آله الطاهرين و الطيّبين من أصحابه أجمعين

لما كان الدين الاسلامي أكمل الأديان و آخرها، و جاء به من جاء رحمة للعالمين، للنّاس كافّة، للأسود و الأبيض و الأصفر و الأحمر، للعربي و العجمي، و لكل زمان و مكان، فوجب أن يقدّم قانونا يضمن تنظيم حياة الانسان الي يوم القيامة، و هذا ما ضمنه و تضمّنه القرآن الكريم معجزة الاسلام الخالدة، و دستور الحياة الاسلامية السعيدة، الذي ينظّم- بمعونة السنة الشريفة- شئون الانسان قبل انعقاد نطفته الي ما بعد موته وفق المصلحة العامة و الخاصة، و علي جميع الابعاد و الجوانب. و هو الاصل الاصيل الاوّل من اصول استنباط الاحكام الفرعية الجزئيّة الشرعيّة، و عليه الاعتماد و المعوّل في معرفة الواجبات و المحرّمات و المستحبات و المكروهات و المباحات، و إليه استند المجتهدون الاوائل من الفريقين، و الأواخر من الشيعة الامامية الاصولية في مباحثهم و استدلالاتهم الفقهيّة، و هو الطريق الواضح لمن سلكه، و الدليل القاطع لمن استدلّ به، و أحد الثقلين العاصمين معا من الضّلال لمن تمسك بهما.

فليس من الغريب اذا اهتمّ العلماء المسلمون من السلف و الخلف هذا الاهتمام البالغ بهذا الكتاب البليغ الذي لٰا يَأْتِيهِ الْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لٰا مِنْ خَلْفِهِ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 8

تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. فراح الواحد تلو الآخر يستضيئون بنوره، و يغوصون في بحوره، ليستخرجوا من درره المكنونة، و جواهره المخزونة،

و معارفه التي ليس لها نهاية، و علومه من اجل بلوغ الغاية؛ فكان موضع درس و تدريس و تحقيق و تمحيص، في المحكم من التنزيل، و المتشابه في التأويل؛ فصنفت في علومه مئات الكتب و الرسائل. و قد بذل العلماء الاعلام (رضوان الله عليهم) علي مرّ التاريخ غاية الجهد، و تسابقوا في خير هذا المضمار، و خدموا الاسلام و المسلمين، و خلّفوا آثارا خالدة قيّمة هي مناهل للواردين، و منائر للسالكين، و متاع للمتزوّدين، و منهاج عمل للصالحين، فجزاهم الله عن الاسلام و المسلمين خير جزاء و أوفاه.

و قد نال أكثر حظّ من هذه المصنفات موضوع الاحكام التي عليها مدار العمل.

و قد ألّف الكثيرون من الفريقين في أحكام القرآن أو فقه القرآن منذ بدايات التاريخ الاسلامي حيث بادر أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) و شيعتهم من حملة آثارهم- رضوان الله عليهم- الي تفسير الكتاب العزيز، و استجلاء غوامضه، و استخراج احكامه، سبقهم الي ذلك السابق الي الايمان و الي كل مكرمة مولانا أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام)، و حفيده الامام محمّد الباقر (عليه السّلام) و من شيعتهم السابقين الي ذلك أبو حمزة الثمالي، و اسمه ثابت بن دينار، و كنية دينار ابو صفية، و كان ابو حمزة من شيعة علي (عليه السّلام) من النجباء الثقات و صحب أبا جعفر (عليه السّلام) كما ذكر ذلك ابن النديم في الفهرست. و ذكر كتاب تفسير الكلبيّ و هو محمد بن السائب المتوفي سنة 146 ه، و هو «أحكام القرآن» كما ذكره حيث قال: «كتاب احكام القرآن للكلبيّ رواه عن ابن عباس».

ثمّ توالي العلماء من الفريقين في تأليف الكتب في احكام القرآن، و قد ذكر ابن النديم في فهرسته

قائمة بأسمائهم. و نثبت هنا قائمة بأسماء بعض الكتب المؤلّفة في أحكام القرآن من قبل أصحابنا فقط، نختصرها عما جاء في مجلة «تراثنا» في حقل:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 9

«فقه القرآن في التراث الشيعيّ» بقلم الشيخ محمد علي الحائري الخرّم آبادي و أليك هذه القائمة: -

1- احكام القرآن. لمحمد بن السائب الكلبيّ المتوفي سنة 146 ه.

2- احكام القرآن. لأبي الحسن عبّاد بن العبّاس بن عبّاد الديلمي القزويني الطالقاني، «أبي الصاحب بن عباد»، المتوفي سنة 334 او 335.

3- فقه القرآن في شرح آيات الاحكام لقطب الدين ابي الحسن سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي الكاشاني المتوفي سنة 573 ه.

4- النهاية في تفسير خمسمائة آية للشيخ احمد بن عبد الله بن سعيد المتوّج، او سعيد بن المتوّج البحراني، المتوفي حدود 800 ه.

5- منهاج الهداية للشيخ ابي الناصر جمال الدين احمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسن بن المتوّج البحراني. المتوفي سنة 820 ه.

6- آيات الاحكام. للشيخ ناصر بن الشيخ جمال الدين احمد بن الشيخ عبد الله بن المتوّج البحراني.

7- كنز العرفان في فقه القرآن. للشيخ شرف الدين ابي عبد الله مقداد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن محمد الحلّي الاسدي السيوري، المتوفي سنة 826 ه.

8- معدن العرفان في فقه مجمع البيان لعلوم القرآن. للشيخ ابراهيم بن حسن الدرّاق أو الورّاق- من اهل اوائل المائة العاشرة.

9- معارج السّئول و مدارج المأمول في تفسير آيات الاحكام، و يعرف ب «تفسير اللباب» للشيخ كمال الدين حسن بن شمس الدين محمد بن حسن الأسترآبادي المولد، النجفي المسكن، المتوفي في اواخر القرن التاسع.

10- تفسير آيات الاحكام. للشيخ شرف الدين الشهفينگي او الشيفتگي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 10

المتوفّي

سنة 907 ه.

11- التفسير الشاهي. للسيّد الأمير أبي الفتح بن الميرزا مخدوم الحسيني العربشاهي الجرجاني المتوفّي سنة 976 ه.

12- آيات الاحكام. للسيد الأمير أبي الفتح الشرقة. المتوفّي سنة 976 ه.

13- آيات الاحكام. للشيخ محمد بن الحسن الطبسي المتوفّي سنة 993 ه.

14- زبدة البيان في تفسير آيات احكام القرآن، للشيخ المقدّس احمد بن محمّد الاردبيلي، المتوفّي سنة 993 ه.

15- التعليقة علي زبدة البيان في احكام القرآن. للأمير فيض الله بن عبد القاهر الحسيني التفرشي النجفي. المتوفّي سنة 1025 ه.

16- شرح آيات الاحكام في تفسير كلام الله الملك العلّام. للميرزا محمد بن علي بن ابراهيم الأسترآبادي المتوفّي سنة 1028 ه.

17- مشرق الشمسين و اكسير السعادتين. للشيخ البهائي بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد، المتوفّي سنة 1030 ه.

18- تفسير القطب شاهي، او آيات الاحكام، للشيخ محمد اليزدي المعروف بشاه قاضي اليزدي، من علماء الامامية في اوائل القرن الحادي عشر الهجري.

19- التعليقة علي زبدة البيان في آيات الاحكام. للسيد الامير فضل الله الأسترآبادي من اعلام القرن الحادي عشر.

20- إماطة اللثام عن الآيات الواردة في الصيام. مؤلّفه من اعلام القرن الحادي عشر الهجري.

21- آيات الاحكام الفقهية. للمولي ملك علي التوني، من اعلام القرن الحادي عشر الهجري.

22- مسالك الافهام الي آيات الاحكام. للشيخ الجواد الكاظمي، من اعلام

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 11

القرن الحادي عشر الهجري.

23- مفاتيح الاحكام في شرح آيات الاحكام. للسيد محمد سعيد بن سراج الدين قاسم بن الامير محمد الطباطبائي القهبائي المتوفّي سنة 1092 ه.

24- التعليقة عن زبدة البيان في احكام القرآن. للفيض الكاشاني محمد بن مرتضي، من اعلام القرن الحادي عشر الهجري.

25- التعليقة علي زبدة البيان في احكام القرآن. للسيد الجزائري المتوفّي سنة 1112 ه.

26- التعليقة

علي مشرق الشمسين. للشيخ سليمان بن عبد الله بن علي البحراني الماحوزي، المعروف بالمحقّق البحراني، المتوفّي حدود سنة 1121 ه.

27- التعليقة علي زبدة البيان في احكام القرآن. للعلّامة محمد بن عبد الفتّاح التنكابني المشهور ب «سراب»، المتوفّي سنة 1124 ه.

28- التعليقة علي مسالك الافهام الي آيات الاحكام. للعلامة الميرزا عبد الله بن عيسي التبريزي الاصفهاني، المشتهر بالافندي، المتوفّي حدود سنة 1130 ه.

29- ايناس سلطان المؤمنين باقتباس علوم الدين من النبراس المعجز المبين.

للسيد محمد بن علي بن حيدر بن محمد بن نجم الدين الموسوي العاملي الكركي المعروف بمحمد بن حيدر العاملي المكّي المتوفّي سنة 1139 ه.

30- تحصيل الاطمينان في شرح زبدة البيان في أحكام القرآن. للأمير محمد ابراهيم بن الامير معصوم بن الامير فصيح بن الامير اولياء الحسيني التبريزي القزويني، المتوفّي سنة 1149 ه.

31- التعليقة علي زبدة البيان في احكام القرآن. للشيخ اسماعيل الخاجوئي.

32- التعليقة علي زبدة البيان في احكام القرآن. للامير بهاء الدين محمد بن الامير محمد باقر المختاري الحسيني النائيني السبزواري المتوفّي أواسط القرن الثاني

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 12

عشر الهجري.

33- قلائد الدرر في بيان آيات الاحكام بالأثر. للشيخ احمد بن اسماعيل بن عبد النبي الجزائري، المتوفّي سنة 1151 ه.

34- التعليقة علي مشرق الشمسين. للشيخ اسماعيل بن محمد حسين بن محمد رضا بن علاء الدين محمد المازندراني المشهور بالخاجوئي المتوفّي سنة 1173، أو 1177 ه.

35- تقريب الافهام في تفسير آيات الاحكام. للمفتي السيد محمّد قلي بن محمد حسين بن حامد حسين بن زين العابدين النيشابوري الكنتوري المتوفّي سنة 1260 ه.

36- دلائل المرام في تفسير آيات الاحكام. للشيخ محمد جعفر بن سيف الدين الأسترآبادي الطهراني، الشهير ب «شريعتمداري» المتوفّي سنة 1263 ه.

37- الدرر الايتام في

تفصيل تفسير آيات الاحكام للشيخ علي بن محمّد جعفر الأسترآبادي الشهير بشريعتمدار، المتوفّي سنة 1315 ه.

38- درر الايتام في أنموذج تفسير آيات الاحكام للشيخ علي بن محمد جعفر الأسترآبادي الشهير بشريعتمدار، المتوفّي سنة 1315 ه. و هو ملخّص الكتاب السابق.

39- آيات الاحكام. للشيخ محمد باقر بن محمد حسن بن أسد الله بن علي محمد الشريف البيرجندي الكازاري القائيني، المتوفّي سنة 1352 ه.

40- لبّ اللباب في تفسير أحكام الكتاب. للسيّد أبي تراب بن السيّد أبي القاسم بن السيد مهدي الموسوي الخونساري، المتوفّي سنة 1346 ه.

41- آيات الاحكام. للشيخ اسماعيل بن علي نقي الأرومي التبريزي، من اعلام القرن الرابع عشر الهجري.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 13

42- تفسير آيات الأحكام. للسيّد محمد حسين بن محمود الطباطبائي اليزدي، المتوفّي سنة 1386 ه.

43- أحكام قرآن. للدكتور محمد الخزائلي، أستاذ جامعة طهران، طبع في طهران سنة (1353 ه. ش).

44- الجمان الحسان في احكام القرآن. للسيّد محمود الموسوي الدهسرخي الاصفهاني طبع سنة 1403 ه «1».

و أمّا «فقه القرآن» و هو الكتاب الذي نقدّمه للقارئ الكريم، فلا يتمشّي فيه مؤلفه مع ترتيب السور، بل يتحرّي آيات الاحكام في أيّة سورة كانت، فينظّمها في ابوابها، و يضمّ بعضها الي بعض. و قد ساير فيه ترتيب ابواب الفقه المنتظمة في الكتب الفقهية لدي الشيعة الاماميّة الاصوليّة، و هو المنهج الذي سار عليه أغلب الفقهاء، فبدأ بالطهارة، فجمع في هذا الباب الآيات التي لها صلة بها اينما كانت، سواء الطهارة المائية التي تشمل الوضوء و الغسل، أو الطهارة الترابية التي تضمّ التيمم بدل الوضوء و بدل الغسل؛ فتحدّث في هذا الباب عن التيمم و موارده، و ما يجوز فيه، و حول ماهيّة الماء المطلق، و إزالة

الخبث، و في فضل مسجد النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلم)، و إعمار المؤسّسات الداعية الي الحق، و حرمة إدخال النجس في المسجد، و نجاسة المشركين، و نجاسة الدم و الميتة …، ثمّ يستخلص القول؛ كلّ ذلك يقدّمه بشرح مقتضب للآيات الكريمة التي لها صلة بالموضوع.

ثمّ ينتقل الي الصلاة: تعريفها، وجوبها، أجزائها، الخشوع فيها، الإخلاص فيها، وجوب القيام و الركوع و السجود، التسبيح في الركوع و السجود، الجهر و الإخفات، الوقت، الصلاة الوسطي، وقت نافلة الليل، القبلة، تغيير القبلة، مكان المصلّي، لباس المصلي، ثم يتناول الجهر و الاخفاف ثانية، فالقصر و التمام، و صلاة

______________________________

(1)- مجلة تراثنا- العدد الثاني (15) السنة الرابعة- العدد الثاني (19) السنة الخامسة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 14

الخوف، صلاة الجمعة، صلاة الجماعة، صلاة الميّت، وجوب التسبيح، قراءة القرآن، في الاستماع و الإنصات للقرآن، في وجوب السجود مع آيات العزائم.

و نتيجة البحث و خاتمة المطاف.

هذان نموذجان لسرد المواضيع التي يتطرّق إليها، و يتفرّع بها، في كل باب من أبواب الفقه؛ جئت بهما علي سبيل المثال ليتّضح أسلوب المؤلّف الفاضل في تناول المواضيع التي لها صلة بالموضوع من قريب أو بعيد. و علي هذا المنوال جري (حفظه الله) في كلّ أبواب الفقه التي يتناولها الكتاب.

و قد جعل الكتاب في أربعة أجزاء، يضمّ الأوّل بين دفّتيه: الطهارة، الصلاة، الصوم، الزكاة، الخمس، الحج و العمرة، كما تري ذلك في محتويات الجزء الأوّل.

و يضمّ الجزء الثاني: الولاية و الحكومة، الجهاد، الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، القصاص، الحدود، و القضاء و الشهادات. و هكذا يخطو في الجزءين الثالث و الرابع.

و كما قلت انّ المؤلف- حفظه الله- جاء بآيات الاحكام، و قدّم لها شرحا في غاية

الاقتضاب، قد لا يتجاوز- احيانا- التفسير اللفظي، و مصدره الوحيد في ذلك كتاب الله العزيز، كما يقول في تصدير كتابه، و قد قام بهذا العمل، و قدّم هذا الجهد للمجتمع الاسلامي و هو في السجن أو المنفي و تحت المراقبة الشديدة من قبل جلاوزة النظام المباد الذين يحاسبونه علي كلّ كبيرة و صغيرة، و يراقبون حركاته و سكناته. و لا يخفي أنّ الكتاب العزيز لا يتناول الجزئيّات و الخصوصيّات و المواصفات، و إنّما يضمن بيان الكليّات في الاحكام، و أمّا في مقام الامتثال و ذكر الجزئيّات و المواصفات فلا بدّ من السنة الشريفة؛ لتعضد الكتاب الكريم، و تبيّن ما أجمله، و تفسّر معضله، و تفصل بين محكمه و متشابهه، و ناسخه و منسوخه، و تعرض- قولا و عملا- الشروط و المواصفات، و المقدّمات و المعقّبات، و ما شابه هذه الامور.

فالسنّة المباركة و منها العترة الطاهرة الّذين هم عدل الكتاب كما ورد في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 15

حديث الثقلين المتواتر لدي الفريقين لا تنفك عن الكتاب بأيّة حال، إذ هما كلاهما معا عاصمان من الضلال- كما هو لسان الحديث. و الذي يريد تفصيل البحث في تفسير الكتاب العزيز، و بيان ما تضمّنه من أحكام و قوانين و تشريعات، لا بدّ له من الاستعانة بالسنة المباركة التي هي قول «المعصوم» (عليه السّلام) و فعله و تقريره كما هو الحقّ لدي أصحابنا- رضوان الله عليهم- من الشيعة الامامية.

فكتاب كهذا يستند الي القرآن الكريم، و يكتب في مثل الظروف التي عاشها المؤلّف الفاضل آنذاك لجدير بالإكبار و التعظيم، و إن كان مختصرا مقتضبا، فهو اشبه ما يكون بتفسير القرآن بالقرآن، فقد اعتمد في استدلالاته علي آيات القرآن الاخري لتوضيح

آيات الاحكام، و بالإضافة الي ذلك استعان بخلفيّاته من المعلومات و المحفوظات المخزونة في حافظة ذاكرته. و سيواجه القارئ العزيز هذه الظاهرة و تلك في دراسته و مطالعته لهذا السفر الشريف.

فحيّا الله هذه الجهود التي تنبئ عن صلابة ايمان، و جهاد قلم، و وفر معلومات، و اغتنام الفرص لتكريس أيّام من العمر تتخلّد خلود الكتاب. شكر الله سعي المؤلّف الفاضل، و بوّأه مقعد صدق، و أعطاه الأجر الجزيل، و أحسن له العواقب بمحمّد و آله الطاهرين عليهم السّلام.

و المؤلّف:

هو الفاضل المجاهد الفقيه آية الله الشيخ محمد بن علي اليزدي، ولد سنة (1310 ه. ش) في مدينة اصفهان، و نشأ في بيت علم و دين، و ترعرع في دراساته الابتدائية و بعض المقدّمات من العلوم علي يد والده المرحوم فضيلة الشيخ علي اليزدي، الذي كان من رجال الدين الكرام في اصفهان، و أخذ الأدب العربي و بعض السطوح من اساتذة الحوزة العلمية في اصفهان، و أكمل سائر السطوح في حوزة قم العلميّة، و حضر دروس الخارج التي كان يلقيها آية الله البروجردي (قدّس سرّه) و حرّر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 16

تقريرات استاذه البروجرديّ من بحث لباس المصلي الي آخر كتاب القضاء، الذي كان يلقيه علي تلامذته في اواخر ايام حياته المباركة، كذلك حضر الدورة الكاملة لبحث الاصول الذي كان يلقيه الاستاذ اللوذعيّ جامع المعقول و المنقول، مرجع عالم التشيّع، و قائد الثورة العظيم، و مؤسّس الجمهورية الاسلامية في ايران، سماحة آية الله العظمي الامام الخميني (قدس الله روحه الزكيّة) و حرّر تقريراته؛ و حضر و حرّر بحثه الفقهيّ في المكاسب الي ما درّسه في قم. و درس العلوم العقلية و الفلسفية و التفسير علي يد الاستاذ

سماحة العلامة السيّد محمد الحسين الطباطبائي (قدس الله روحه الزكيّة)، و كان خلال طلبه العلم يقوم بمحاضرات التدريس في الفقه و الاصول و الفلسفة.

و كان في حوادث الكفاح و الثورة الاسلاميّة إلي جانب القائد منذ الايام الاوائل، و تقدّم في كفاحه بعضويّته في جامعة المدرّسين مع سائر الأعضاء، و تحمّل في هذه السبيل السجون و سنوات النفي، و قام بواجبه الثوري في كل سجن و منفي، و له آثار في ذلك.

آثاره:

قلنا: انّه حرّر تقريرات اساتذته الكرام، و له مؤلفات غير ذلك باللغة العربية منها: -

1- فقه القرآن. في أربعة اجزاء، قد كتبه في السجن و المنفي، و هو هذا الكتاب.

2- أسس الايمان. دورة من أصول الدين، مقتبسة من القرآن الكريم. مجلّد واحد.

3- نبذ من المعارف الاسلاميّة. مجلد واحد. و رسائل اخري.

و مؤلفاته الفارسيّة المطبوعة:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 17

1- «گمشدۀ شما»: أي: ضالّتكم.

2- «پاسخ مردوخ»: أي: الرّد علي مردوخ.

3- «حسين بن علي را بهتر بشناسيم»: أي: لنعرف الحسين بن علي بصورة أفضل.

4- «روانشناسي اسلامي»: أي: علم النفس الاسلامي.

5- «اسلام همگام با زمان»: أي: الاسلام يواكب الزمن.

6- «سيري در تاريخ حديث»: أي: رحلة في التاريخ الحديث.

7- «علي عليه السّلام بر منبر وعظ»: أي: عليّ علي منبر الوعظ.

8- «سازندگي محيط»: أي: صناعة البيئة.

9- «ولايت فقيه يا حكومت اسلامي در عهد غيبت»: أي: ولاية الفقيه أو الحكومة الاسلامية في عصر الغيبة.

10- «تفسير قانون اساسي»: أي: شرح الدستور.

و عدد من الكتب الصغيرة الاخري، و المقالات المنتشرة في الصحف و المجلات.

و بعد انتصار الثورة الاسلاميّة أنتخب عضوا في مجلس الخبراء عن أهالي كرمانشاهان في دورته الاولي و تولّي رئاسة اللجنة الثوريّة و محكمة مدينة قم. ثمّ انتخب ممثّلا عن

أهالي قم الكرام في مجلس الشوري الاسلامي، و كان يؤدّي مهمّة النائب الاوّل لرئاسة المجلس.

و في دورة مجلس الشوري الاسلامي الثانية انتخب ممثّلا عن أهالي طهران، و كان في هذه الدورة أيضا يؤدّي دوره نائبا أوّل لرئاسة المجلس.

و مزامنا لدورة مجلس الشوري الاسلامي الثالثة عيّنه قائد الثورة الاسلاميّة العظيم سماحة الامام الخميني (قدّس سرّه الشريف) في شهر خرداد 1367 هجرية

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 18

شمسيّة عضوا في مجلس فقهاء صيانة الدستور.

و بعد الرحلة الملكوتية المؤلمة لامام مسلمي العالم و مؤسّس الجمهورية الاسلاميّة في ايران، تعيّن من قبل سيادة القائد سماحة آية الله السيّد علي الخامنئي (حفظه اللّه) رئيسا عامّا للقوّة القضائيّة في ايران. و انتخب من قبل أهالي طهران عضوا في مجلس الخبراء أيضا.

و هو الآن دائب علي تنفيذ العدل في البلاد بين العباد، و قد قام بعدد من الاصلاحات الجذريّة في مجال القضاء، يطول شرحها، و يسافر الي سائر المناطق بنفسه من كبر سنّه للإشراف علي الامور القضائية و القضاة عن كثب، و يتولّي- احيانا- إمامة صلاة الجمعة في طهران، و يشرح للمصلّين في احدي خطبتيه بعض الامور القضائية، و ما استجدّ من اصلاحات. كثّر الله أمثاله، و منحه العمر المديد بالتأييد و التسديد.

طهران- صبيحة يوم الجمعة 23 ذي القعدة 1411 ه. ق.

17 خرداد 1370 ه. ش.

عباس الترجمان

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 19

الجزء الأول

من

فقه القرآن

«العبادات»

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 21

محتويات الجزء الأول

تصدير 25

المقدمة 29

كتاب الطهارة 35

التيمم و موارده و ما يجوز فيه 37

كيفية الوضوء 41

الغسل من الحدث 43

ماهية الماء المطلق 44

ازالة الخبث 45

في فضل مسجد النبي 47

في اعمار المؤسسات الداعية الي الحق 48

حرمة ادخال النجس في المسجد 49

نجاسة المشركين 50

نجاسة الدم و الميتة 51

خلاصة الباب

(أو الفروع المستفادة من الآيات) 53

كتاب الصلاة 55

تعريفها 57

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 22

وجوبها 58

اجزاؤها 64

الخشوع فيها 65

وجوب القيام و الركوع و السجود 67

التسبيح في الركوع و السجود 68

وقتها 71

الصلاة الوسطي 77

وقت نافلة الليل 78

القبلة 83

تغيير القبلة 84

مكان المصلّي 86

قراءة القرآن 90

في الاستماع و الانصات 93

في وجوب السجدة مع آيات العزائم 94

نتيجة البحث 95

في الجهر و الاخفات 97

في القصر و التمام 100

صلاة الخوف 103

صلاة الجمعة 107

صلاة الجماعة 110

صلاة الميت 113

وجوب التسبيح 116

ملخص الكتاب و الفروع المستفادة من الآيات في الباب 130

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 23

خاتمة المطاف 134

كتاب الصوم 135

مباشرة النساء 138

الاعتكاف 140

نتيجة البحث 141

كتاب الزكاة 143

وجوب الزكاة 146

فيما ينطبق علي وجوب الزكاة 150

في المتعلق 154

في مصرف الزكاة 160

كيفية ايتاء الزكاة 162

نتيجة البحث 169

كتاب الخمس و الانفال 171

موارد الخمس 173

الأنفال 177

الفي ء 180

نتيجة البحث 183

كتاب الحج و العمرة 185

الحج و العمرة شعيرتان 187

الحج و العمرة قيام للناس 190

الصدّ عن الحج و العمرة 191

وجوب الحج 193

مناسك الحج 195

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 24

ذكر اللّه تعالي 198

الصفا و المروة 199

الحرمات في الحج 200

امان البيت 201

في الحلق و التقصير 202

نتيجة البحث 203

خاتمة المطاف 205

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 25

تصدير

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي هَدٰانٰا لِهٰذٰا وَ مٰا كُنّٰا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لٰا أَنْ هَدٰانَا اللّٰهُ «1».

و الصلاة و السلام علي رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلم) و خاتم النبيين الذي ارسله بِالْهُديٰ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «2» و علي خليفته و وصيّه الذي هو نفسه في قوله تعالي لدي تحكيم شريعته: … فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ

فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّٰهِ عَلَي الْكٰاذِبِينَ «3» و كذلك الصلاة و السلام علي آله و أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا «4».

اما بعد:

فعند ما نفيت عن عشّ آل محمد (عليهم السّلام) مدينة قم المقدسة الي أحد موانئ الجنوب باسم (كنگان) ضمن تبعيد جمع من الأفاضل و الاساتذة الي أقطار البلاد، ثم نقلت الي سجن ميناء مدينة بوشهر جنوبي البلاد أيضا، و ذلك في شهر رمضان المبارك سنة (1393) من الهجرة علي مهاجرها آلاف التحية و السلام «5» و لم يكن

______________________________

(1)- الاعراف [7] الآية 45.

(2)- الصف [61] الآية 9، و التوبة [9] الآية 33، و الفتح [48] الآية 28.

(3)- آل عمران [3] الآية 61.

(4)- الأحزاب [33] الآية 33.

(5)- و لعلك تستكشف من تاريخ الحروب التي وقعت في الشرق الأوسط بين اخواننا المسلمين و الصهاينة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 26

معي إلّا كتاب الله تعالي الذي لا يغادر صغيرة و لا كبيرة الّا أحصاها، و الذي فصّلت آياته من لدن حكيم خبير، حيث هو أدل الأدلة الأربعة و عمادها …

… ففي هذه الفترة انتهزت الفرصة و آثرت الاستفادة من الآيات التي تخصّ الأحكام الشرعية منه ثم أعدت النظر فيها علي مستوي الاستنباط منها، مراعيا في ذلك: الاختصار، و قد جعلت في نهاية كل باب تذييلا بذكر الأحكام المستفادة.

و أنت بما تري من بيان الكليات و تشريع الاصل غالبا في الذكر الحكيم دون ذكر خصوصيات الحكم و حدوده في اكثر الابواب، و حينما تعلم ان العمل في الخارج- و هو ظرف جزئي- و مقام الامتثال لا يساعد الكلي المطلق، تدرك امتناع انفكاك الكتاب عن السنّة الشريفة، المبيّنة لعدله العترة الطاهرة الي يوم القيامة، و تتيقّن بتوقّف

الهداية عليهما سوية، و انّه لا فلاح إلّا بالتمسك بهما معا، كما صرّح به الرسول الاعظم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في السنّة المتواترة عن الفريقين قائلا: «اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، و عترتي لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا …».

و قد أوجب الكتاب ذلك أي اتّباع العترة الطاهرة و السنة الشريفة بقوله: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1».

إلّا أننا نتفقّه في المقام علي اساس الكتاب فقط تبيانا للافتقار الي السنّة المباركة بعد عدم وجود الوسيلة إليه كما عرفت «2».

______________________________

و موقف ايران من ذلك دليل الأمر و سرّ العلاقة.

(1)- الحشر [59] الآية 7. و قد سرّني أن أذكر الحديث في المقام حال المرور علي مشروع الكتاب.

(2)- عن أبي بصير أنّه قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن قول اللّه عز و جل: «أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»، فقال: نزلت في علي بن أبي طالب و الحسن و الحسين (عليهم السّلام) فقلت له: إن الناس يقولون:

فما له لم يسمّ عليا و أهل بيته (عليهم السّلام) في كتاب اللّه (عز و جل)، فقال: قولوا لهم: ان رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) نزلت عليه الصلاة و لم يسمّ اللّه لهم ثلاثا، و لا أربعا حتي كان رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) هو الذي فسّر ذلك لهم، و نزلت عليه الزكاة و لم يسمّ لهم من كلّ أربعين درهما حتي كان رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) هو الذي فسّر ذلك و نزل عليه-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 27

و أمّا

بعد:

فلقد قسّمنا مجهودنا المسمّي بفقه القرآن بعد الفراغ و ملاحظة الأبواب الي أربعة أجزاء حسب الأهمية و الابتلاء- غير متابعين لترتيب الأصحاب و تبويبهم في هذا التقسيم- و هو علي هذا النحو:

الجزء الأوّل في: «العبادات» و هو عبارة عن:

1- كتاب الطهارة.

2- كتاب الصلاة.

3- كتاب الصوم.

4- كتاب الزكاة.

5- كتاب الخمس.

6- كتاب الحج.

الجزء الثاني في: «الحكوميات» و هو عبارة عن:

1- كتاب الولاية و الحكومة.

2- كتاب الجهاد.

3- كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

4- كتاب الحدود.

5- كتاب القصاص.

6- كتاب القضاء و الشهادة.

الجزء الثالث في «العقود و الإيقاعات» و هو عبارة عن:

1- كتاب النكاح.

2- كتاب الطلاق و التسريح.

______________________________

الحج فلم يقل لهم طوفوا سبعا حتي كان رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلم) هو الذي فسّر ذلك لهم و نزلت أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول … الحديث بتفصيله/ الكافي باب الحجة ص 286.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 28

3- كتاب التجارة.

4- كتاب القرض.

5- كتاب العهود و الأيمان.

الجزء الرابع في «الاجتماعيات» و هو عبارة عن:

1- كتاب المحرمات.

2- كتاب الأطعمة و الأشربة.

3- كتاب المجتمع و الآداب.

4- كتاب الوصية.

5- كتاب الارث.

6- ختام في الدعاء و الابتهال من القرآن.

و نرجو من اللّه تعالي القبول و ان يجعله ذخرا ليوم لا خلّة فيه و لا شفاعة إلّا لمن ارتضي، و لا ينفع فيه مال و لا بنون إلّا من أتي اللّه بقلب سليم، و أن ينفع به المشتغلين بعلوم الدين، كثّر اللّه أمثالهم و وفّقهم بتأييداته.

و الحمد للّه أوّلا و آخرا.

محمد اليزدي 3/ ذي القعدة/ 1395 ه ق رودبار

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 29

المقدمة

لا شك في ان كتاب الله تعالي هو الملجأ الوحيد للناس و الرحمة الفريدة عليهم، فإن جعلوه امامهم قادهم الي

الجنة، و الّا ساقهم الي النار، فهل هو كاف بنفسه و لوحده في استنباط الاحكام او الاهتداء به حتي يمكن الاستدلال بظاهره او لا، بل لا بدّ من العترة الطاهرة و السنّة الشريفة معا، حيث انما يعرف القرآن من خوطب به، و هما معا قد شركهما رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلم) لهداية الامة، و ما ان تمسكوا بهما لن يضلوا ابدا.

قد يستدلّ للأول بجواز الاستنباط من ظاهر الآيات في الاحكام بل مطلقا بأمور:

الاول: آيات تدل علي ذلك صراحة او ظهورا، نشير الي بعضها:

1- ذٰلِكَ الْكِتٰابُ لٰا رَيْبَ فِيهِ هُديً لِلْمُتَّقِينَ. (البقرة [1] الآية 2)

2- … قَدْ جٰاءَكُمْ مِنَ اللّٰهِ نُورٌ وَ كِتٰابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّٰهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوٰانَهُ سُبُلَ السَّلٰامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَي النُّورِ … (المائدة [5] الآية 15 و 16)

3- … وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُديً وَ رَحْمَةً وَ بُشْريٰ لِلْمُسْلِمِينَ. (النحل [16] الآية 89)

4- وَ قُرْآناً فَرَقْنٰاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَي النّٰاسِ عَليٰ مُكْثٍ وَ نَزَّلْنٰاهُ تَنْزِيلًا.

(الاسراء [17] الآية 106)

5- وَ كَذٰلِكَ أَنْزَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنٰا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً. (طه [20] الآية 113)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 30

6- وَ لَقَدْ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكُمْ آيٰاتٍ مُبَيِّنٰاتٍ وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. (النور [24] الآية 34)

7- كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ إِلَيْكَ مُبٰارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيٰاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبٰابِ.

(ص [38] الآية 29)

8- أَ فَلٰا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَليٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا. (محمد [47] الآية 24)

و غيرها من الآيات التي تأمر بالتعقّل، كالآية:

… لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. (يوسف [12] الآية 2، و الزخرف [43] الآية 3)

أو تجعل القرآن ذكرا، كالآية:

إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا

الذِّكْرَ … (الحجر [15] الآية 9)

هٰذٰا ذِكْرٌ مُبٰارَكٌ أَنْزَلْنٰاهُ … (الأنبياء [21] الآية 50)

وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. (ص [38] الآية 1)

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. (القمر [54] الآية 17 و 22 و 32 و 40)

و غير ذلك من الآيات المباركة.

الثاني: الاخبار العلاجية الآمرة بعرض الاخبار علي القرآن الكريم و الأخذ بما يوافقه، فان ذلك لا يتم الّا بعد التسليم بحجيّة ظواهره و إمكان الاخذ بها، ففيها- أي الأخبار-: «ما وافق كتاب الله فخذوه و ما خالف كتاب الله فدعوه» (الوسائل/ الرواية 10/ الباب 9/ صفات القاضي/ كتاب القضاء) و «كل شي ء لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» (الرواية 14 من الباب، و غيرهما كما تراه في روايات الباب و الجامع منها رواية 21 من الباب).

الّا ان للشيخ الحرّ (رضوان الله عليه) نظرا في ذلك، بحمل المطلق هذا علي المقيّد في بعض روايات الباب من العرض علي الكتاب و السنّة كما في مقبولة عمر بن حنظلة (الرواية 1 من الباب) و غيرها.

فلا يتمّ العرض علي الكتاب وحده؛ لذا لا يمكن التمسّك به حتي يكون

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 31

ظاهره حجة.

و فيه أنه لا وجه لذلك الحمل بعد كونهما مثبتين مع التصريح بالعرض عليه وحده.

الثالث: ارجاع الائمة (عليهم السّلام) الي كتاب الله و الاستنباط منه بعد سيرتهم العملية في ذلك مثل قولهم في باب المسح- مثلا- و امسح علي المرارة يعرف هذا و اشباهه من كتاب الله. (راجع الرواية 5 الباب 39 من ابواب الوضوء/ الوسائل) و ذلك دليل علي حجيّة ظاهر الكتاب.

و اما ما يمكن الاستدلال به علي الثاني و انه لا بدّ من مراجعة السنّة مع الكتاب معا في استنباط الاحكام و

عدم حجية ظاهر الكتاب، فأمور؛ منها:

الاول: وجود آيات في كتاب الله لا يعلم ظواهرها بالنسبة للاحكام و المعارف الالهية، كقوله تعالي: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّٰاهِرُ وَ الْبٰاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و أمثالها.

و قوله تعالي: أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ و: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ و:

لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ و امثالها، في حين لا يعلم عدد الركعات في الصلاة بل و كثير من خصوصياتها، كما لا يعلم المفطرات في الصيام، و عدد مرات الطواف و اشواطه و سائر الخصوصيات في الحج، و ليس لنا ان نبدع من عند انفسنا في شي ء، اذن لا بد من السنّة و العترة معا.

الثاني: حديث الثقلين المروي عن الفريقين الدالّ علي امتناع انفكاكهما الي يوم القيامة، و ان المتمسك بهما هو الناجي دون المتمسّك بأحدهما.

الثالث: وجود الروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي، علي ما جمعه الشيخ الأجل الحرّ العاملي (رضوان الله عليه) في وسائله في كتاب القضاء و الشهادات في الباب 13 من ابواب صفات القاضي، حيث قال:

عن ابي جعفر (عليه السّلام) انه قال لقتادة:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 32

«ويحك يا قتادة ان كنت فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و ان كنت فسّرته من الرجال فقد هلكت و أهلكت، ويحك يا قتادة، انما يعرف القرآن من خوطب به». (الرواية 25 من الباب)

و عن الامام الصادق (عليه السّلام) انه قال:

«سمعت جدي رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلم) يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار». (35 من الباب)

و قوله (عليه السّلام):

«من فسّر القرآن برأيه فقد افتري علي الله الكذب». (37 و 41 من الباب) و غيرها.

و لكن بعد

ذلك كله هناك أمور يرتفع بها الخلاف و يتم الامر من الطرفين لتمامية الاستدلال بظواهر الكتاب و حجيتها و صحة الروايات أيضا:

الاول: قوله تعالي:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتٰابَ مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ ابْتِغٰاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّٰهُ وَ الرّٰاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. (آل عمران [3] الآية 7)

فان صريح الآية تقسم آيات الكتاب الي قسمين:

1- المحكمات التي لا شبهة فيها فهي المرجع و الاساس لسائر الآيات فانها أمّ الكتاب.

2- المتشابهات التي تحتمل وجوها و تحمل معاني و لها ظاهر و باطن، فهي تحتاج الي التأويل و التفسير، و هو استخراج ما في الخفاء و ارجاع الظاهر الي الباطن و كشف القناع و السر، و لا يعلم ذلك الّا من خوطب به، و نفس المخاطب ظاهر.

و حينئذ فالتمسّك بظواهر الآيات المحكمات الظاهرة في بيان المراد غير المحتمل للمعاني لا بأس به، كما ان التفسير و التأويل فيما يحتاج إليهما مما يتحمل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 33

الوجوه لا يجوز بالرأي أو الاجمال، و إنّما يعرف القرآن من خوطب به، و المعرفة غير العلم.

الثاني: الاخبار الخاصة الواردة في المقام، فانها تدلّ علي جواز الاستدلال بظواهر الكتاب- في الجملة- مع لزوم الاتكال علي السنّة في الموارد اللازمة، فعن ابي جعفر (عليه السّلام) ان رجلا قال له: أنت الذي تقول: ليس شي ء من كتاب الله الّا معروف؟ قال: ليس هكذا قلت، انّما قلت: ليس شي ء من كتاب الله الّا عليه دليل ناطق عن الله في كتابه مما لا يعلمه الناس (الي ان قال): ان للقرآن ناسخا و منسوخا و محكما و متشابها

و سننا و أمثالا و فصلا و وصلا و أحرفا و تصريفا فمن زعم أن الكتاب مبهم فقد هلك و أهلك (الحديث 39/ الباب 13 من ابواب صفات القاضي).

و ما عن النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في احتجاجه يوم الغدير علي تفسير كتاب الله … - الي قوله «معاشر الناس تدبّروا و افهموا آياته و انظروا في محكماته، و لا تتبعوا متشابهه …» (الحديث 43 من الباب).

و غيرها مما لا يخفي علي المتتبع فانها تدل علي جواز الاتكال علي ظواهر الكتاب بل لزومه.

الثالث: ان سيرتهم العملية (صلوات الله عليهم أجمعين)- مع أنهم هم الراسخون في العلم و هم الذين يستنبط منهم معالم القرآن الحكيم، و هم الابواب التي أمر الله تعالي إتيانها في قوله تعالي: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰابِهٰا- كان الاستدلال بظواهر الكتاب و الاستنباط من آياته، و الارجاع الي كتاب الله، و أمر الناس بالاستنباط من ظواهره، كما تراه في شراشر الفقه و شتات الاحكام كثيرا، مثل ما جاء في أحكام الوضوء كما ذكرناه من قوله: «يعرف هذا و اشباهه من كتاب الله» (الحديث/ 5/ الباب 39 من ابواب الوضوء)، و الاحاديث/ باب 15 من الابواب و غيرها).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 34

و الحاصل: لزوم التمسّك بالعترة الطاهرة (صلوات الله عليهم) في تفسير القرآن و تأويله و الاستنتاج من مشكلاته و متشابهاته مع بقاء الظواهر علي الحجية و جواز التمسّك بل الوجوب في المحكمات الظاهرات كما تعلم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 35

كتاب الطهارة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 37

الطهارة

و في الباب آيات بينات، الاولي: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ حَتّٰي تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لٰا

جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَوْ عَليٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَفُوًّا غَفُوراً. (النساء [4] الآية 43)

المستفاد من الآية الكريمة أمور:

الأول- النهي عن الصلاة في حال كون المكلّف لا يعلم ما يقول- من أيّة علّة كانت و لو من النوم أو الغضب و غيره- كما هو مقتضي معني السكران، و قد صرّحت بذلك السنّة المباركة (بل باختصاصه بسكر النوم و نفي سكر الخمر) كما في صحيحة الحلبي و زرارة في نور الثقلين في ذيل الآية، و الرواية الخامسة من الباب الاول من افعال الصلاة/ ج 4 الوسائل و غيرها، فراجع روايات الباب.

و الظاهر الحرمة؛ و النهي في العبادات يفيد الفساد، و الالتزام به في مطلق:

«من لا يعلم ما يقول …» لمطلق السكر مشكل، و ان كان يتمّ في الخمر لزوال العقل و عدم التكليف، فلا بد من حضور القلب و الخشوع ما أمكن «1» و ان لم نقل بدلالة

______________________________

(1)- التأمّل في سياق الآية يفيد عدم ارتباطها بالصلاة حال السكر من شرب الخمر، لا كما توهّم البعض و استدلّ به علي التدرج في تحريمه و هو غير تامّ، كما فصّلناه في باب الأطعمة و الأشربة؛ و الآية في مقام بيان لزوم الطهارة و لزوم التوجّه و الخضوع نفسيا، و لا بأس باستعمال اللفظ في المعنيين علي استخدام بعد القرينة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 38

الأمر «1» بالشي ء علي النهي عن ضدّه، فان النهي في المقام بعد الأمر بأصل الصلاة يعطي لزوم ذلك، و علي القول به فالأمر بالخضوع المستفاد من مجموع الغاية و

المغيّي يقتضي النهي عن تركه، الظاهر في الفساد بدونه، نعم لا يجب العلم بمفهوم ما يقال في الصلاة و ما يؤدي من اعمال، كما هو الحال في أكثر المصلّين لا سيما في غير العرب منهم لعدم تمكّنه علي ذلك الّا الأوحدي من الناس، و قد يعدّ ذلك قرينة علي إرادة الكراهة حتي يستحب الحضور كما لا يبعد فقهيا، و لكن الأقوي بقاؤه علي ظاهره فيجب المراعاة لا سيما علي شمول اطلاق سكر الخمر علي نزولها قبل تحريمه صريحا كما لا يخفي «2»، و يقابله قوله تعالي في المنافقين: وَ إِذٰا قٰامُوا إِلَي الصَّلٰاةِ قٰامُوا كُسٰاليٰ يُرٰاؤُنَ النّٰاسَ وَ لٰا يَذْكُرُونَ اللّٰهَ إِلّٰا قَلِيلًا.

(النساء [4] الآية 142)

الثاني- النهي عن التقرّب الي الصلاة في حال كون المكلّف مجنبا، فلا صلاة له قبل الاغتسال لأنه محدث، فيجب عليه اذن رفعه عند إرادة الصلاة و التقرّب إليها، و ذلك صريح في كفاية غسل الجنابة عن الوضوء للصلاة من غير افتقار الي جعل الطهارة عن الجنابة قسيما للوضوء كما سيأتي البحث عنه ان شاء الله في قوله تعالي:

وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا لإمكان الخلل في تفسير التطهير بالغسل و لا يحتمل في المقام بعد التصريح بقوله تعالي: حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا أو في كونه واجبا للصلاة «3».

الثالث- الاستثناء و هو في قوله تعالي: إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حيث لا يناسب نفس الصلاة، كما لا يساعد إرادة السفر منه لغة و استعمالا في القرآن ألا تري في ذيل

______________________________

(1)- الأمر بالخضوع و العلم بما يقول هو المستفاد من مجموع الغاية. و علي القول بالاقتضاء لا بدّ من الفساد بدونه، فإنّ النهي عن العبادة يقتضيه.

(2)- كما يفيد ذلك أيضا قوله تعالي: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ

فِي صَلٰاتِهِمْ خٰاشِعُونَ» (المؤمنون [23] 1 و 2)، فإنّ فلاح المؤمن مشروط بالخضوع في صلاته، و الصلاة بلا خشوع ليست بصلاة، فلا فلاح فيها اذن، و سيأتي تفصيل الكلام عنه في كتاب الصلاة إن شاء اللّه.

(3)- لإمكان الوجوب النفسي كما عن بعض الاعلام دون المقام فانه لا يحتمل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 39

الآية نفسها و آية الوضوء و الصوم و القصر في الصلاة من تعبير السفر و الضرب في الارض، و قول أهل اللغة في السفر أنه ضدّ الحضر، و في العبور الجواز من عبرة الي عبرة، و المعبر ما عبر به النهر، و المعبر الشط المهيّأ للعبور (القاموس)، و غيره قريب منه.

فعبور السبيل غير السفر أوّلا، مع لزوم التكرار علي ارادته لضرورة التقييد بالتيمم و يكون المعني: لا تقربوا الصلاة جنبا الّا أن تكونوا مسافرين فلا بأس بالتقرّب إليها جنبا مع التيمم، و يشعر بأنه مباح لا رافع للحدث- كما عن الطبرسي (رحمه اللّه) و غيره، فلا بد و ان يرجع الي مصلاه بتعميم المستثني منه؛ و لا ينطبق الّا علي المسجد فانه لا اشكال في جواز الوقوف او العبور- و هو جنب- في غيره (أي في غير المسجد) و منه (أي المسجد) ضرورة فتدلّ علي حرمة وقوف الجنب في المسجد و عبوره منه حتي يتم الاغتسال و التطهّر بالماء او بالصعيد، كما في ذيل الآية «1» و اطلاق الاغتسال يدلّ علي لزوم غسل جميع البدن.

الرابع- ان من لم يجد الماء أو كان مريضا يضرّه الماء (فهو غير واجد باعتبار) او كان مسافرا فلم يجد الماء أوّلا- فإنّها من المصاديق المعتبرة- و كان محدثا بأن جاء من الغائط أو لامس النساء مثلا «2»، فعليه

التيمم علي الصعيد الطيّب و هو وجه الارض ثم مسح الوجه و اليدين.

و حيث ان المرض و السفر مما يورث عدم وجدان الماء اعتبارا او حقيقة دون الحدث، فلا يبعد ان يكون (او) في قوله تعالي: أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ …

______________________________

(1)- و اما استعمال لفظ الصلاة في أكثر من معني فلا بأس به لا سيما علي وجه الاستخدام كما في محله.

(2)- ان من أدب القرآن الكريم ذكر القبائح بلوازمها فذكر التخلّي بالغائط أي بالمكان المنخفض، و المواقعة باللمس و المسّ، و ذلك في آية الطلاق «مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ» و بالمباشرة في الصوم و الاعتكاف كما في سورة البقرة [2] 187 و 237، و ليس المدار معني اللمس مطلقا قطعا مع التصريح به (في الرواية/ الحديث 4/ الباب 9/ أبواب نواقض الوضوء) بالرفث و هو كلام متضمن لما يستقبح ذكره من دواعي الجماع كناية عن الجماع في ليلة الصيام/ البقرة [2] 187.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 40

بمعني الواو «1». و مع بقائه علي ظاهره كما هو الاقرب كون المريض و المسافر محدثا مفروغ عنه، و قيل انهما للغلبة.

و مسح اليدين يتحقق عادة بمسح كل يد علي ظهر الاخري، و ان كان يصدق مسح البعض الآخر علي اي جزء و طرف لغة، الّا انه غير طبيعي يحتاج الي معونة زائدة لا سيما بعد الاطلاق، فالانصراف و كفاية الوجه الطبيعي منه يعيّن ذلك في التيمم، و هو قصد الشي ء لغة. و ليس قصد الصعيد- أي وجه الارض- المسح بالوجه و اليدين علي الاطلاق، بل ضربهما عليها و مسحهما علي الوجه ثم مسح كل يد علي ظهر الاخري، يبدأ باليمين طبعا كما هو الظاهر، و لا

يلزم الاستيعاب فيهما لمكان الباء «2»، و الترتيب يستفاد من الترتيب.

و من المعلوم ان عدم الوجدان غير الفقدان، فيجب التفحّص كما جري عليه الفقهاء العظام (رضوان الله عليهم) و قد حددت السنّة حدوده بالغلوتين «3» او غلوة.

و كذلك لا بد من صدق الصعيد بأنه وجه الارض فلا يصح التيمم علي معادن لا يطلق عليها اسم الارض لدي العرف كما لا يخفي، و الارض المطبوخة أو السحيقة أو الخليطة ما لم يمنع صدق الارض عليها. فيجوز التيمم علي الخزف و الجص و الاسمنت «4» الّا مع الشك في الصدق العرفي بعد الطبخ كما في الاخيرين، و المستفاد من رواية السكوني معه جواز التيمم علي الجص و النورة حيث ان الملاك هو الارضية و لو بأصله و لا يضرّ لغيره ما في ظاهره الّا ما كان مخرجا؛ و لذا لا يجوز في

______________________________

(1)- و يبعده عدم بيان حكم السالم الحاضر الفاقد للماء.

(2)- فلا يتمّ ما عن ابن بابويه (رحمه اللّه) من وجوب الاستيعاب، و في روايات الباب صراحة بحمد الله فراجع (الوسائل) الباب 11 من ابواب التيمم، و (الجامع) للاستاذ المغفور/ ص 222 ج 1.

(3)- الباب 1 من ابواب التيمم من كتاب الوسائل. و الاقرب ان الغرض حصول الاطمئنان بعدمه ليصدق عدم الوجدان، و لذلك اختلف حدي التفحّص حسب اختلاف المحل و الحال.

(4)- كما تقتضيه رواية السكوني أيضا و السنّة معتمدة عندنا كما حققناه فراجع الوسائل/ الباب 8 من ابواب التيمم رواية رقم 1 فانه لا تعبّد فيها بل بما ان اصل الجص و النورة هو الارض دون الرماد الذي اصله الشجر فيتمّ الامر في الاسمنت و ما يصنع منه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 41

الرماد فإنّ اصله- الشجر-

و السنّة هي المعتمد كما حققناه. كما انه لا بد من الطهارة لصدق كلمة الطيّب كما هو الظاهر «1».

الثانية- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَوْ عَليٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

(المائدة [5] الآية 6)

يستفاد من الآية أمور:

الاول- وجوب غسل الوجه و اليدين و مسح الرأس و الرجلين عند إرادة الصلاة بالأمر بها، و حيث لا معني لزمن القيام فلا بدّ و أن يكون قبلها و عند ارادتها، و غسل الوجه لا يصدق الّا علي غسل ما اشتملت عليه الابهام و السبّابة و هو ما يغسل لدي عامة الناس من غير التفات الي ذلك الاشتمال، فالواجب غسل المقدار و يزيد عليه شيئا للعلم بحصوله «2»، و تحققه عرفي، فلا فرق بين اجراء الماء علي الوجه أو غمسه فيه فلا يجب التخليل في الشعر الكثيف.

ثم يجب غسل اليدين و هي مجموع الكتف و العضد و المرفق و الساعد و الزند و الكف و الأنامل حسب معناها اللغوي و قد حددت بقوله تعالي: إِلَي الْمَرٰافِقِ

______________________________

(1)- و عن الاستاذ (قدّس سرّه) في الميزان ان الطيّب من الشي ء الباقي علي حاله الطبيعي فيخرج الخارج بالطبخ و غيره كالخزف و المعادن فراجع، و الحق ان الأمر ليس كذلك كما تراه في موارد استعمال القرآن الكريم كثيرا و لم نجد فيها- مع كثرتها-

ما يساعد علي ذلك المعني و انما يساعد ذلك الصحة قبال الفساد دون الطيّب الطاهر الذي يستلذّ به الحس كما لا يخفي.

(2)- و قد حدد به في السنّة كما في صحيحة زرارة الباب 17/ أبواب الوضوء.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 42

لاخراج الكتف و العضد و المرفق و أنّ الواجب غسل باقيها «1» و المرفق يغسل من باب المقدمة العلمية. و الانسان بطبعه يغسل يده الي جهة الأنامل، فلا دلالة في الآية علي جهة الغسل كما توهّمه بعض فقهاء العامة من كلمة: «الي» و لم يذكر مبدأها و قد فصّل ذلك في السنّة المباركة.

و مسح الرأس يجب بمقدار الصدق، و يتحقق في البعض منه بمقدمة الرأس و ان تحقق بغيره مع معونة زائدة لغة، فالواجب الأول و لا دليل علي الزائد، و الأرجل الي الكعبين في ملتقي القدم.

الظاهر أن المراد من الكعب هو العظم الرابط بين قصبة الساق و عظم القدم المنتهي ذيله الي المشط و عظم العقب و له زائدتان في أعلاه داخلتان في حفرتي قصبة الساق و زائدتان في أسفله داخلتان في عظم العقب و ناتئ في مقدمه يرتبط به عظم القدم. و إرادة ذلك هو الطريق الوحيد للجمع بين ظهور الكعبين في التثنية لكل قدم [بلحاظ الزائدتين في اسفله: ملتقي القدم و الساق بعد مقارنته مع المرافق- و لكل يد مرفق- بل و سائر المجموع في الآية و روايات الباب (3 و 9/ الباب 15 من ابواب الوضوء) في إرادة العظمين الناشزين في طرفي القدم المضمومين و التصريح بأنّهما من عظم الساق] و بين اطلاق اهل اللغة و كلمات الفقهاء (رضوان الله عليهم) من انه أصل الساق او المفصل. و اما إرادة قبة

القدم فلا تساعد ظهور التثنية و مساواته الجمع في المرفق بعد أن جمع الوجوه و الايدي و كذا الرءوس و الأرجل بلحاظ المكلّفين.

______________________________

(1)- و من ذلك اختلف فقهاء العامة بمحضر الخليفة في تطبيق آية السرقة: «السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا …» (المائدة [5] 38) و ان القطع من الزند او الساعد او فوقه و استدل الامام (عليه السّلام) بعد طلب الخليفة و اصراره علي انه من الأنامل بقوله تعالي: «وَ أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ» (الجن [72] 19) و الكف منها فلا يجوز قطعه و حل الأمر. و لو لم تكن اليد شاملة للجميع لم يتم البحث و الاستدلال عليه.

فهو بيان لغاية المغسول دون الغسل كما في قوله تعالي: «إِلَي الْكَعْبَيْنِ» لبيان غاية الممسوح قطعا و السياق واحد.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 43

و المسح بمقدار الصدق دون مجموع الرأس و الرّجل لمكان الباء، و يعبّر عن ذلك بقولهم: «غسلتان و مسحتان» بلسان السنّة في الوضوء، و الترتيب مستفاد من الترتيب كالموالاة.

الثاني- وجوب التطهّر من الجنابة عند إرادة الصلاة بمقتضي العطف و الاستئناف بقرينة ذيل الآية فهو غيريّ لا نفسي.

و التطهّر (متعديا و مزيدا) ظاهر في رفع الحدث و القذارة النفسية كما ترشد إليه موارد استعماله في الكتاب الكريم حيث قال تعالي: إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ (آل عمران [3] الآية 42) و: أُولٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّٰهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ (المائدة [5] الآية 41) و: أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (الاعراف [7] الآية 82) و: خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا (التوبة [9] الآية 103) و: فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (التوبة [5] الآية 108) و: إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (الاحزاب [33] الآية 33) و غير ذلك في موارد كثيرة موجودة في سورة النمل [27] الآية 56 و سورة الانفال [8] الآية 11 و …

(و اللازم المجرد فيه) ظاهر في رفع الخبث و النجاسة كما هو معناه اللغوي في قولهم طهر ضد نجس، و قال تعالي: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً.

و الأمر في الآية المبحوث عنها تعلّق بالتطهّر متعديا فيعطي زائدا علي الغسل و التنظيف لزوم تطهير النفس، و الظاهر أن خبثها الذي لا بد من ازالته في المقام هو البعد عن الانسانية، و التوغل في الحيوانية المتحقق حال الإجناب و المباشرة، و ذلك معني الجنابة دون البعد عن أحكام الطاهرين كما قيل. و لا يرتفع ذلك الّا بالتقرّب الي الله تعالي حين امتثال امره فيعود الي الانسانية، فيعتدل. و الانسان ينجذب و ينتهي الي قطب بالتكرار و الاصرار، كما يرتفع خبثه الظاهري الحاصل تحت كل شعرة من جسمه بتنظيفه و اغتساله، فان الغسل ظاهر فيه بل صريح قوله تعالي في قصّة أيوب:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 44

ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هٰذٰا مُغْتَسَلٌ بٰارِدٌ وَ شَرٰابٌ (ص [38] الآية 42) و: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ … و حَتَّيٰ تَغْتَسِلُوا (النساء [4] الآية 43)، فتزيد الآية علي سابقتها بذلك.

و عليه يترتب اختلاف الفقهاء في جواز مباشرة النساء بعد انقطاع الدم و قبل الغسل لاحتمال كل من اللازم و المتعدي في القراءة.

الثالث- وجوب التيمم علي من لم يجد الماء بظاهر ما استفيد من الآية السابقة باضافة الضمير الراجع الي الصعيد المؤكد للأمر «1» الدال علي الضرب علي الارض.

الرابع- ان التيمم تطهير بدلي من الماء اراده الله تعالي تتميما للاحسان و ما يريد ليجعل علي الناس

من حرج، و عليه فلا يجوز المبادرة مع احتمال زوال العذر لعدم صدق: فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً علي الاطلاق- عرفا- بعد الأمر بأصل العبادة و الالتفات الي سعة الوقت كما فيما اذا علم بزوال العذر آخر الوقت، و ان كان يصدق فيهما في الجملة.

الخامس- ان الماء المطهّر لا بد و ان يصدق عليه اسم الماء علي الاطلاق من غير فرق بين أقسامه: المطر و النهر و البئر فلا يصح الوضوء أو الغسل بالمضاف مما لا يصدق عليه الماء الّا مع الاضافة كماء الورد و ماء الفواكه، و ليس في الآيات الكريمة غير السنّة ما يدل علي عبادية الطهارات حتي تحتاج الي النيّة، و ليس في الآيات لو لا السنّة المباركة ما يدل علي عبادية الطهارات الثلاث، و غاية ما يمكن تقريبه في المقام ان المخترعات الشرعية- حيث انها غير معهودة لدي العقلاء لا سيما اذا كانت مربوطة بالعبادات- لا يأتي بها المكلّف إلّا لأمر الشارع، و الاتيان

______________________________

(1)- و قد يستفاد منه لزوم تعلّق شي ء من التراب باليد، و فيه كلام بعد جواز النفض بل استحبابه كما أثبت في محله و اشارت إليه روايات الباب زائدا علي تضاربه مع الصدر فان الصعيد نص في مطلق وجه الارض لا يقيد بخصوص التراب لظهور منه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 45

بالشي ء للأمر به يرجع الي رجاء الثواب او خوف العقاب او أهلية الآمر لامتثال أمره، و لا معني للقربة الّا هذا، و الطهارات من تلك المخترعات بعد ما عرفت من افادة التطهّر متعديا في الغسل و قوله تعالي: وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ في الثلاثة من ازالة الحدث المتوقف علي التقرب «1».

ثم اعلم ان ذلك كله كان دليلا علي لزوم الطهارة

من الحدث بالماء و اذا لم يجد فبالتراب للصلاة، و اما من الخبث و هو كل ما يستقذره الانسان بطبعه من البول و الغائط و المني و الدم و الميتة و ما ألحق بها الشرع المقدّس لوجود القذارة فيها مثل الكلب و الخمر و الخنزير و الكافر، فيجب التطهّر منها بالأولوية أولا، و بقوله تعالي:

وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ بعد قوله تعالي: وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ثانيا «2»، لو قلنا بأن المقصود من التكبير هو التكبيرة الافتتاحية للصلاة ليقوي ظهور تطهير الثياب فيما هو المبحوث عنه بالطهارة عن الخبث كما ذكره الأكثرون.

و عندنا ليس الأمر كذلك و المسألة تعود الي ترغيب النبي الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) عند شروعه بالتبليغ بتكبير الله تعالي و التوجّه الي عظمته وسعة قدرته و ان الامور بيده تعالي؛ فعليه يبدو القيام له و خلع الدثار للقيام و تكبير الملك العلّام و تنظيف الثياب ذكرا في مقابل الدثار و التدثّر و التدثّر و كل ما لا يساعد علي القيام، أو ترك ما ينافي الدعوة و الانذار مما يعدّ مانعا من الاقبال من الاقبال علي الله، و يؤيد ذلك قوله تعالي بعده:

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ فانه الخبائث و النجاسات الظاهرية، و لو كان الامر كما ذكروه للزم التكرار، فالأمر راجع الي تطهير القلب بوجه تتحصل فيه سكينة ينزلها الله علي قلوب المؤمنين ترغيبا لهم و مقدمة لقيام امره مع حفظ مقامه (عليه و علي آله الصلاة و السلام).

______________________________

(1)- فالحكم ببطلانها لو لا القربة مستفاد من السنّة في أبواب مختلفة لا سيما روايات باب 8 الي 12 من أبواب مقدمة العبادات من الوسائل.

(2)- سورة المدثر [74] 3 و 4.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص:

46

و يتطهّر من الخبث بالماء أيضا بعد عرفية الامر و عقلائيته لقوله تعالي:

وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ (الانفال [8] الآية 11) و قوله تعالي: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (الفرقان [25] الآية 49) «1».

و المطهّر هنا ما صدق عليه الاسم من غير فرق بين المطر و ماء البحر و النهر و البئر لاطلاق الآية، و الاخيران أيضا منزلان من السماء، و ماء البحر لا يصدق معه:

فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فلا يطهّر غير الماء من المضاف لمقام الامتنان.

و الحاصل انه لا يجب التطهير من الخبث إلّا لما يشترط فيه الطهارة من الحدث- كالصلاة كما عرفت- و الطواف- كما سيأتي الحديث عنه في الحج ان شاء الله-، و مسّ كتابة القرآن لو قلنا بدلالة قوله تعالي: لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «2» عليه كما لا يبعد «3»، اخذا بالإطلاق و ان كان الطاهر غير المطهّر «4».

و اما وجوب التطهّر في المأكول و المشروب و الاناء المتناول فيها فلحرمة أكل الخبائث تكليفا كما سيأتي البحث عنه في باب الاطعمة و الاشربة ان شاء الله، قال تعالي: إِنَّمٰا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوٰاحِشَ (الاعراف [7] الآية 33) و لتقييد الحلال في كثير من الآيات بالطيّب …: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ (المائدة [5] الآية 5) و حرمة الأكل غير وجوب التطهير في اعتبار التكليف. و في الحقيقة ان أكل النجس و شربه حرام لا أن تطهيره واجب فانه مقدّم يحكم به العقل كما هو ظاهر.

______________________________

(1)- الظاهر ان الاولي ناظرة الي أمر آخر من منّ اللّه تعالي عليهم بانزال الماء عليهم في ظرف الحاجة بعد الفراغ عن كونه مطهرا عن الحدث و الخبث كما في توصيف الثانية

فلا تأسيس في الاصل، و الخصوصيات راجعة الي السنّة فلا يتم الاستدلال بهما لاثبات المطهرية؛ و الأمر سهل.

(2)- الواقعة [56] الآية 79.

(3)- فان هذا القرآن نزل تبيانا لكل شي ء و هو ظاهر غير مكنون، و الذي لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ هو القرآن الكريم فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ لا يدركه و لا يمسّه إلّا الطاهرون المطهّرون بالمعنوية من الطهارة.

(4)- فان الاول يطلق علي مغسول الظاهر دون الثاني المستعمل في طاهر الباطن كثيرا في الكتاب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 47

و اما قوله تعالي: فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ بعد قوله: لٰا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَي التَّقْويٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ (التوبة [9] الآية 108). فهي- لا سيما مع ملاحظة السياق- تنهي عن القيام في مسجد ضرار المبني من قبل الذين اتخذوه إرصادا لمن حارب الله و رسوله و كفرا و تفريقا بين المؤمنين و يحلفون أنهم محسنون و الله يشهد أنهم لكاذبون.

و مركز ثقل الكلام تقدّم مسجد النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الذي أسس علي التقوي و انه الأحق أن يقوم فيه رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و هو الذي قد هداهم الي الحق و الايمان و أنقذهم من الكفر و الضلال و العصيان.

ثم تذكر الآية تأييدا لأحقية ذلك المسجد غير الذي بناه الكفار ضرارا، حيث انه قد أسس علي التقوي و ان في مسجدك- يا رسول اللّه- رجالا مسلمين واقعا يحبّون أن يتطهّروا و يريدون أن يهتدوا، في حين ان رجال مسجد ضرار مبيّتون للكفر و هدفهم التفريق و هدم الاسلام، و الله يحب المطهّرين.

فلا يرتبط ذلك بالطهارة عن الأخباث و

الأرجاس الظاهرية، فان الآية تريد التقوي التي بني عليها ذلك المسجد و هي الطهارة التي هي غاية البناء و انها لله تعالي و انها طهارة من كل شرك و ظلمة و خبث و شيطنة و ان كانت الطهارة الظاهرية في طريقتها الثابتة بأدلتها العقلائية أو الشرعية كما لا يخفي، و ان كان قد يحتمل شمولها لها بالإطلاق و السياق فانه يوجب الانصراف فراجع السنّة.

و كيف كان فانه يستفاد من المقام لزوم اجتناب زعماء الدين و العلماء العاملين المؤسسات و المنظمات التي تدعو بظاهرها الي الاسلام و نشره، و باطنها وساوس و دسائس شيطانية يراد بها هدم الاسلام و محوه.

فعليهم اذن الاجتناب و التحرز من هذه المؤسسات و المنظمات علي وجه يوجب ضعفها حتي الانحلال و الانعدام لا علي وجه ينتهي الي التفرّق و التشعّب بأن يتصدي كلّ جمع لآخر حول مسائل جزئية، عند ذلك تنهدم كرامتهم و تذهب

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 48

ريحهم.

و عليهم تقوية المدارس و المعاهد و الجوامع و المساجد التي أسست علي الحق و التقوي و التي فيها رجال و نساء طلّاب و طالبات و علماء و قضاة و أمراء و حكام لا يريدون إلّا حكم الله تعالي و شريعته الحقة، يريدون ان يتطهّروا و الله يحب المطهّرين، اللهم طهّرنا من كل رجس و رجز و دنس و اجعلنا من المتطهّرين.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ بَعْدَ عٰامِهِمْ هٰذٰا … (التوبة [9] الآية 28)

تفيد الآية أمورا:

الاول- ان المشركين نجس، و المشرك من أشرك بالله تعالي غيره من مطلق الطبيعة، أو مخلوق سماوي أو أرضي أو غير ذلك «1»، و المنكر له تعالي اما بالأولوية فهو

ملحق به في الحكم، أو لرجوعه إليه حقيقة في الموضوع فانه قد جعل ما انتهي إليه في البدء شريكا له واقعا من غير التفات.

و المنكر لأصل من الأصول كالنبوة أو الامامة أو لفرع من الفروع كالصلاة و الصوم يرجع الي اللّه مشركا و ان كان متوجّها إليه.

و النجس هو المستقذر المجتنب عنه طبعا، كالخبث يجب الاجتناب عنه «2».

الثاني- حرمة قربهم من المسجد الحرام لوجود النهي، فيحرم الدخول قطعا و لعله كناية عنه فلا يحرم نفس التقرّب بما هو، كما لا يخفي.

الثالث- يستفاد من التفريع انه يحرم دخول كل نجس او ادخاله في المسجد

______________________________

(1)- في الالوهية و المبدأ كالثنويين، أو الربوبية النفسية لا به تعالي فإنه باذنه و هو توحيد أيضا.

(2)- فيعمّ الأقذار الروحية كما صرّح به أهل اللغة و لا يختصّ في الآية بها كما توهّمه الراغب، صاحب «المفردات» فراجع. و الظاهر أن حمله لذلك كان لفتوي علماء العامة به كذلك.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 49

مطلقا «1»، و لا خصوصية للكفر في ذلك، و ذلك مع السراية أو هتك الحرمة ظاهر، و اما بدونهما فمشكل و ان كان الاحتياط يقتضي الترك.

و هنا فروع:

الاول- ان أهل الكتاب بعد انكارهم نبوة نبينا محمد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و ان كانوا يعترفون بوجود الله فهم من المشركين حكما، و الكلام عنهم في زماننا هذا انهم محرّفون لكتبهم و معتقدين بما هو أنكر من الشرك «2» مع ان انكارهم راجع الي انكار نبيهم أيضا بل الي انكار الله تعالي كما تعلم.

و لا يضر الحكم عدم تنبّه أكثرهم بذلك الارتباط، فان معه لا الحاق، بل هم منهم كما هو ظاهر من قولهم: عزير ابن اللّه و المسيح

ابن اللّه.

و اما ضرورة المعاشرة و الارتباط بهم في الحياة الاجتماعية اليوم، لكون العالم كالبيت الواحد، و البشر كالعائلة الواحدة التي يؤثر بعض أفرادها في بعض و يتأثر به، فلا يغيّر الحكم بل يقدّر بقدرها، و ستأتي زيادة في التوضيح بهذا الصدد في طعام أهل الكتاب ان شاء الله، و يؤيد ذلك ذيل الآية بغية حفظ الاستقلال و نفسية الامة الاسلامية.

الثاني- هل ان نجاسة المشركين ذاتية أو عرضية أو سياسية؟ و قد ذهب الي كل واحد من ذلك ذاهب، و الأقوي عندنا الاول كما يؤيد ذلك معني النجاسة لغة، فانه القذارة الأعم من الظاهر و ما يدرك بالبصيرة كما عن القاموس و غيره، و اما ما اختاره صاحب المفردات المتفرّد في لغات القرآن من الاختصاص بالثاني، فلما افتي به فقهاء العامة من ان نجاسة الشرك راجعة الي الباطن، فان الشرك انحراف عن

______________________________

(1)- المسجد الحرام و غيره بإلغاء الخصوصية المتفاهم عرفا من طرفي المشرك و المسجد الحرام، و تنقيح المناط فيهما نفي الأول بما انه نجس فيشمل كل نجس، و في الثاني بما انه مسجد فيحيط كل مسجد و قيد الحرام بما هو أجلي المصاديق أو لإفهام ما ذكر في المتن.

(2)- و قد جمع ذلك في كتب و مؤلفات منهم و من غيرهم، فلا يتمّ ما يقال من انهم الموحدون كما كانوا في زمن نبيّهم، و من ان عدم اعترافهم بنبوة نبينا محمد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لعدم الثبوت لديهم ظاهرا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 50

الفطرة التوحيدية الانسانية التي فطر الله الناس عليها «1»، و هو ملاك الاستقذار لدي من كان له قلب أو ألقي السمع و هو شهيد، و لذلك فان مطهّره

الاسلام فقط، و اما العرضية الناشئة عن عدم اجتنابهم عن شرب الخمر و أكل لحم الخنزير فلا يختص بهم، بل المسلم غير المبالي مع العلم بعدم اجتنابه أيضا كذلك، و مطهّره الماء. و يلزم ذلك التخصيص في المشرك مع انه غير مخصص به.

و اما النجاسة السياسية فهي أمر آخر أعظم من ذلك و أشدّ نهيا و انكارا في الكتاب و السنّة كما سيأتي البحث عنها ان شاء الله في حرمة اتخاذ الكفار أولياء في باب المحرّمات، و لا علاقة لها بباب الطهارة و النجاسة، كما انها أصعب نكالا في الدنيا و الآخرة و لزوم الاجتناب عنها أوسع نطاقا من الطعام و الشراب، كما سيأتي البحث عن ذلك مفصّلا في كتاب المجتمع ان شاء اللّه.

و لا يخفي أنّ نجاستهم لا تنافي حلّيّة طعامهم، كما سيأتي البحث عنها ان شاء الله في باب الاطعمة و الاشربة.

الثالث- ان النهي عن قربهم المسجد الحرام «2» بما هو مسجد كما هو مقتضي الملاك، او يختص به بعظمة الكعبة، و ظاهر القيد دخالته في موضوع الحكم، فالحكم بعدم قربهم من كل مسجد من دون رطوبة أو هتك مشكل، لا سيما اذا كان في البين مصلحة اقوي كمصلحة التآلف، أو بيان شئون الاسلام و ظرائفه و مزايا معابده لدي المقارنة مع غيره كما هو المتعارف في زماننا هذا، إلّا أن يمنعه مانع آخر مما قد اشرنا إليه من النجاسة السياسية.

و اما في المسجد الحرام حتي مع ذلك فلا، لأن في المنع و حفظ الحرمة

______________________________

(1)- قال تعالي: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ النّٰاسِ لٰا يَعْلَمُونَ» (الروم [30] 30)

فهم بما هم نجس لا شي ء آخر كما هو ظاهر الآية.

(2)- الخطاب متوجّه الي المؤمنين كما هو مصرّح به في صدر الآية و المنهي تقرّب المشركين، فعليهم منعهم ان أرادوا التقرّب و الدخول.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 51

مصلحة لا يقابلها شي ء في علم الله تعالي للنص «1».

و لا تهافت بين ما ذكرنا و حرمة دخول كل نجس أو ادخاله في كل مسجد مع السراية او الهتك كما عرفت «2».

الرابعة- قوله تعالي:

قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَليٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ …

(الانعام [6] الآية 145).

الآية تدل علي نجاسة الميتة و الدم و لحم الخنزير، اما المذبوح بغير اسم الله تعالي فسقا و عمدا لا سهوا و نسيانا بيد مسلم فهو حرام و ملحق بالميتة شرعا فيكون نجسا أيضا، و وجه الدلالة ظاهر فان الرجس في اللغة هو القذر الخبيث، و استعماله في العصيان و الخبث الباطني بالعناية كما لا يخفي.

و الضمير راجع الي المستثني، إلّا أن يقال برجوعه الي أكل لحم الخنزير فقط لتدل الآية علي نجاسته بعد حرمته و حرمتهما، و اما نجاسة الميتة و الدم فلا، و لا تلازم بينهما لكنه خلاف الظاهر فانه تعليل للاستثناء، و تمام الكلام سنتعرّض له في باب الأطعمة و الأشربة ان شاء الله.

و عليه فلا يبعد دلالة قوله تعالي: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ (المائدة [5] الآية 90) علي نجاسة الخمر

______________________________

(1)- ان لم نقل هذا تفقّها لا فقها فعندنا لحرمة مؤتمر الامة و تستر قطب رحي حياة كل شعب لئلا يتقرب

إليه اجنبي؛ فكيف يدخله من اعلي المسالك السياسية في تحفّظ مصالح الامة و تنمية عروقها الحيوية، فروعي ذلك في الاسلام بأعلي وجه و جعل من الواجبات الاجتماعية، و المسجد لا سيما المسجد الحرام منه هو مركز ثقل المجتمع الاسلامي، و مجمع المؤتمرات النافذة المنتجة، فلا بدّ من تحصنه عن الاعداء. فالحرمة تعود الي أمر آكد من الظاهرية المقدمية.

(2)- فلا يتمّ إلغاء الخصوصية في طرفي المشرك و المسجد الحرام ثم الحكم بحرمة دخول كل نجس أو ادخاله في كل مسجد مطلقا فان ملاك الحكم ظاهر في الجملة مع القيد في الظاهر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 52

أيضا بعد حرمته، و سيأتي الكلام عنه في محله ان شاء الله.

ثم ان قيد المسفوح يعطي تقييد الدم بالسائل «1» لا مطلقا بعد افادته لطهارة الباقي في المذبوح أو عدم نجاسته فانه غير مسفوح أيضا، و لا أقل من ان السائل هو المتيقن و الحكم بنجاسة غيره غير معلوم، و السنّة بحمد الله قد أوضحت الأمر «2»، و تفصيل الكلام هو في ملاك الحرمة أو انه نجس أو هناك تلازم، فراجع باب الاطعمة من هذا الكتاب.

______________________________

(1)- فان السفح هو السفك و الصب و الاراقة لغة، و المسفوح المراق السائل.

(2)- كما تري في الأبواب (13 و 23 و 35) من أبواب النجاسات في الوسائل/ ج 2.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 53

خلاصة الباب

الفروع المستفادة من الآيات:

(الاول) يجب في الصلاة حضور القلب و الخشوع ما امكن.

(الثاني) يجب التطهّر من الجنابة و من الحدث عند إرادة الصلاة، و في الجنابة يجب غسل جميع البدن.

(الثالث) يحرم دخول الجنب و وقوفه في المسجد و يجوز عبوره منه.

(الرابع) علي المحدث سواء كان متغوّطا أو لامس النساء- عند عدم

وجدان الماء- التيمم، و كيفيته: ضرب اليدين علي الأرض ثم مسحهما علي الجبهة و الجبينين و ظاهر الأنف ثم مسح اليمين علي ظاهر اليسري و مسح اليسري علي ظاهر اليمني من غير فرق بين الحدثين.

(الخامس) يجب علي المحدث الفحص عن الماء، فإن لم يجد فعليه التيمم.

(السادس) لا يصحّ التيمم علي المعادن و لا علي الارض النجسة.

(السابع) يصحّ التيمم علي الجص و الخزف و أمثالهما.

(الثامن) يجب الوضوء للصلاة و هو: (غسلتان و مسحتان)، فالغسلتان هما:

غسل الوجه بما اشتملت عليه الابهام و السبابة، و غسل اليدين الي المرافق، و المسحتان هما مسح مقدم الرأس و مسح ظاهر القدمين من أطراف الأصابع الي الكعبين.

(التاسع) ان التيمم تطهير بدلي فلا يجوز المبادرة مع احتمال زوال العذر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 54

عقلا، و يجوز مع الاطمئنان ببقائه كذلك.

(العاشر) يجب تطهير البدن و اللباس و المسجد للصلاة من كل خبث، و هو ما يستقذره الانسان من البول و الغائط و المني أو ما ألحق بها الشرع من الدم و الخمر و الميتة و لحم الخنزير و الكلب و غيره كما وضّح في السنّة الشريفة.

(الحادي عشر) المشركون نجس و يلحق بهم أهل الكتاب، لا بد من الاجتناب عنهم فيما يشترط فيه الطهارة، و نجاستهم ذاتية لا عرضية و لا سياسية، و التحرّز عنهم في الامور الاجتماعية أمر آخر.

(الثاني عشر) يحرم دخول المشرك و من ألحق به، المسجد الحرام مطلقا، و يجوز دخولهم غيره عند وجود مصلحة أقوي مع عدم السراية و الهتك.

(الثالث عشر) يحرم ادخال النجس في المسجد مع السراية او الهتك عرفا.

(تنبيه) ما تراه من الاحكام المعدودة الموجودة في القرآن الكريم في باب الطهارة من دون ذكر الخصوصيات و الحدود في

النجاسات و المطهرات حتي ماء الكر و حدّه و الماء القليل و عدّه المبحوث عنها في المفصّلات لهو مما يرشد جليّا الي الافتقار الي عدل الكتاب و هي السنّة المباركة حيث انّهما لن يفترقا الي يوم القيامة و قد أخطأ و ضلّ و أضلّ من قال: حسبنا كتاب الله.

اللهم اجعلنا من المتمسّكين بهما بحقهما يا الله، و اهدنا بهما الي سبيل الحق و الرشاد آمين يا ربّ العالمين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 55

كتاب الصلاة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 57

الصلاة

تعريفها:

الصلاة لغة: هي الدعاء و الثناء كما نراه في موارد عديدة من القرآن الكريم حيث قال أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (البقرة [2] الآية 157). فان البشارة للصابرين الَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ بأن عليهم صلاة من ربهم، لا يناسب إلّا الدعاء و الثناء بغفران ذنوبهم و ترفيع درجاتهم.

و قال تعالي: خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلٰاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (التوبة [9] الآية 103) و إرادة الدعاء ظاهر فان دعاءه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) هو الذي يورث السكون و الرضا عند المنفق.

و كذلك الأمر في قوله تعالي: إِنَّ اللّٰهَ وَ مَلٰائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (الاحزاب [33] الآية 56) ففي مثل تلك الموارد سياق واحد يعطي المراد من المعني.

و أما اصطلاحا: فهي عبادة خاصة تشتمل علي الدعاء كما يفيد ذلك آيات بيّنات في باب الصلاة و فيه فصول:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 58

الفصل الاول: وجوبها

نبحث في هذا الفصل فيما يدل علي وجوب اقامة الصلاة بطبيعتها اجمالا، و عندنا ان اقامتها أوسع نطاقا و مفهوما من قراءتها و الاتيان بها، و أثبت أثرا في الامة الاسلامية، فإقامتها تعني اتيانها، و تهيئة مقدماتها، و اعداد الغير لها فردا و جماعة، و لذلك فإن الأمر بها أتي بلفظ الاقامة، و لم نجد حثّا عليها بغيره، مع وجود الآيات الكثيرة في هذا الباب، و ذلك لتكون الطبيعة قائمة علي صلابتها في حياة المسلم شعبا و فردا و جماعة بنفسها و آثارها.

نعم قد

استعمل غيره في مواضع خاصة مشيرا الي أن ذلك ليس بصلاة كما في قوله تعالي: مٰا كٰانَ صَلٰاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلّٰا مُكٰاءً وَ تَصْدِيَةً.

(الانفال [8] الآية 35)

و قال تعالي: وَ مٰا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقٰاتُهُمْ إِلّٰا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لٰا يَأْتُونَ الصَّلٰاةَ إِلّٰا وَ هُمْ كُسٰاليٰ وَ لٰا يُنْفِقُونَ إِلّٰا وَ هُمْ كٰارِهُونَ. (التوبة [9] الآية 54).

و كذلك قوله تعالي: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلٰاتِهِمْ سٰاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرٰاؤُنَ وَ يَمْنَعُونَ الْمٰاعُونَ (الماعون [107] الآية 4- 7)، فان الاتيان و الصلاة في المقامات لبيان نفي الصلاة، فما يكون في الكتاب الكريم أمر و حثّ إلّا باقامة الصلاة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 59

و كيف كان، فهي من ضروريات الاسلام بل من كل شريعة إلهية «1»، و في المقام آيات مباركات.

الاولي- قوله تعالي: وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. (البقرة [2] الآية 110)

الثانية- قوله تعالي: قُلْ إِنَّ هُدَي اللّٰهِ هُوَ الْهُديٰ وَ أُمِرْنٰا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعٰالَمِينَ وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ اتَّقُوهُ وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. (الانعام [6] الآية 71 و 72)

تصرح الآيتان بوجوب اقامة الصلاة في الجملة، و الظاهر انها مورد الأمر.

الثالثة- قوله تعالي: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذٰا ذُكِرَ اللّٰهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذٰا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيٰاتُهُ زٰادَتْهُمْ إِيمٰاناً وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجٰاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ. (الانفال [8] الآية 2- 4)

و وجه الدلالة ان ارتباط اقامة الصلاة- و المعطوف عليه- بالايمان- مع الحصر- يفيد الوجوب للمؤمن، و لا يتوهم

ان قوله تعالي أُولٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا يوجب دخالة الامور في كمال الايمان لا في اصله فتستحب و لا تجب، فان ملاحظتها مع سائر الآيات يعطي الاطمئنان بأن ما له دخل في الكمال هو وجل القلب بذكر الله تعالي و تزايد الايمان حين تلاوة آياته دون اقامة الصلاة و ايتاء الزكاة اللذين هما من أعظم أركان الايمان، و المؤمن بحق فيه الكمال بعد تحقق الاصول و الاركان أيضا.

الرابعة- قوله تعالي: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ يُطِيعُونَ اللّٰهَ

______________________________

(1)- كما تري في قصة عيسي بن مريم (عليه السّلام) في القرآن الكريم حيث قال «وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلٰاةِ وَ الزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا» (مريم [19] 31). و في قصة أمّه «يٰا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّٰاكِعِينَ» (آل عمران [3] 43).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 60

وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. (التوبة [9] الآية 71)

و توصيف المؤمنين بما ذكر في الآية الكريمة يدل علي الوجوب و ان لا ايمان مع عدم تلك الأوصاف، فإن الوصف مشعر بالعلّيّة و لا سيّما بعد ثبوت وجوب سائر الأوصاف المذكورة، كلّ في محلّه من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الي اطاعة الله و رسوله، فالسياق يؤكد الامر.

الخامسة- قوله تعالي: وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّٰهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ). (الحج

[22] الآية 40- 41)

تصرّح الآية الكريمة بأن الله تعالي يدفع الناس بعضهم المنكرين المفسدين في الارض ببعضهم المؤمنين المصلحين لتعمر مساجد الله و ليذكر فيها اسمه و لتقام الصلاة فيها، و لو لا ذلك لهدّمت المعابد و لنسي ذكر الله تعالي، و لينصرنّ الله من ينصره و هم الذين اذا مكّنوا في الارض و صاروا مقتدرين و أولي الأمر، أقاموا الصلاة في مجتمعهم و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف ليعرف و نهوا عن المنكر لينكر.

و فعل الله تعالي واقع واجب بمعني و لا ينصرنّ الله إلّا ناصريه و هم المقيمون للصلاة، و الوجوب المستفاد من ذلك التعبير عندنا اكثر صراحة من الامر.

السادسة- قوله تعالي: وَ جٰاهِدُوا فِي اللّٰهِ حَقَّ جِهٰادِهِ هُوَ اجْتَبٰاكُمْ وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ هُوَ سَمّٰاكُمُ الْمُسْلِمِينَ … فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللّٰهِ هُوَ مَوْلٰاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْليٰ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ.

(الحج [22] الآية 78)

تدل الآية الكريمة علي أصل مطلوبية الصلاة، و وجوبها ظاهر حيث هي ملّة ابراهيم (عليه السّلام) فانه تعالي بعد أمره بالجهاد قال: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ، و اقامة الصلاة و ايتاء الزكاة اساس ذلك الدين و مقوماته،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 61

فهي مطلوبة في الاسلام حقا كما كانت في كل شريعة إلهية، و سيأتي الكلام عن سائر فقرات الآية في محالّها ان شاء الله.

السابعة- قوله تعالي: وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. (النور [24] الآية 56)

دلالة الآية علي المطلوب، ظاهر بالامر الصريح في الوجوب.

الثامنة- قوله تعالي: هُديً وَ بُشْريٰ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ

يُوقِنُونَ. (النمل [27] الآية 2 و 3)

دلالة الآية علي المطلوب بتقريب التوصيف و إشعار الوصف بالعلّيّة و أنّه لا ايمان بدون تلك الأوصاف من اقامة الصلاة و ايتاء الزكاة و اليقين بالآخرة، و لا يتم ذلك في قوله تعالي: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ (البقرة [2] الآية 3) بعد قوله تعالي: ذٰلِكَ الْكِتٰابُ لٰا رَيْبَ فِيهِ هُديً لِلْمُتَّقِينَ فان التقوي كمال الايمان و مرتبته العالية، و الظاهر دخلها فيه لا في اصله الا ان يقال إنّ قياسها مع سائر الآيات يعطي الاطمئنان بإفادة وجوبها و أنّ لها الدخل في حقيقة الايمان، و الكمال متصور بعد الأصل- كما عرفت في الآية الثالثة- و مقارنة الانفاق لو كان المراد منه الزكاة يؤكّد الأمر، و يؤيّد ذلك تقارنهما في الآيات الكثيرة حسب تعبير الاسلام «شهادتان و قرينتان».

التاسعة- قوله تعالي: وَ الَّذِينَ اسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُوريٰ بَيْنَهُمْ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ. (الشوري [42] الآية 38)

و التقريب كالسابق فانها وردت خلال أوصاف الذين آمنوا الواردة في الآيات السابقة فراجع.

العاشرة- قوله تعالي: إِنَّ الْإِنْسٰانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذٰا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذٰا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَليٰ صَلٰاتِهِمْ دٰائِمُونَ* وَ الَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. (المعارج [70] الآية 19- 24)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 62

فان توصيف الانسان بنوعه و تذميمه ثم استثناء المصلّين الدائمين عليها منه يدل علي اصل مطلوبيتها بطبيعتها. و مع اضافة هذه الآيات الي سائر الآيات الاخري بهذا الصدد يستنبط منها مرتبة الصلاة و انها علي حد الوجوب.

الحادية عشرة- قوله تعالي: فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً

وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّٰهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (المزمل [72] الآية 20)

التقريب بدلالة الأمر علي الوجوب مع تأييد سائر الأوامر في الآيات، حتي لا يقال ان السياق يفيد الاستحباب لذكر قراء القرآن و اقراض الله سبحانه المستحبّين المذكورين قبل الصلاة و الزكاة و بعدهما.

الثانية عشرة- قوله تعالي: يَتَسٰاءَلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمِينَ* مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَ كُنّٰا نَخُوضُ مَعَ الْخٰائِضِينَ* وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتّٰي أَتٰانَا الْيَقِينُ. (المدثر [74] الآية 40- 47)

أفادت هذه الآيات ان ترك الصلاة و ترك اطعام المسكين و الخوض مع الخائضين و التكذيب بيوم الدين هي من أسباب السلوك في سقر، فلا بد من فعل الاوليين و ترك الأخيرين للتخلص منه. و ما يوجب تركه النار و فعله النجاة عنها فهو في أعلي مراتب الوجوب؛ و من ذلك يعلم ان المراد من اطعام المسكين هو الزكاة مع تقارنه لها كما في الآيات السالفة.

و لا يقال ان الواجب هو المذكورات بأجمعها، و المهم فيها التكذيب بيوم الدين اعتقادا و الخوض مع الخائضين عملا، و جزء الواجب لا يجب مستقلا إلّا عقلا من باب وجوب المقدمة الداخلية.

و قد يقال: نعم، و ان كان انكار يوم القيامة أشدّ و أكثر للمكذب في تصلية الجحيم، و هو الموجب للخوض مع الخائضين المنتهي الي ترك الصلاة و اطعام الزكاة إلّا ان الاستفادة من حيث المجموع غير ظاهر و لو سلّم فذكر أن ترك الصلاة و ترك

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 63

الاطعام مستقلا مع انهما مقتضي الخوض اللازم من التكذيب يفيد اهميتهما و استقلالهما

في استحقاق النار.

و في المقام آيات اخري أيضا اقتصرنا علي عدد منها و قد أمر الله تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أن يأمر أهله بالصلاة و يصطبر عليها (طه (20)- 132) في قوله تعالي:

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلٰاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْهٰا … الآية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 64

الفصل الثاني: أجزاؤها

أي فيما يدل علي ان تلك الصلاة الواجبة بطبيعتها تشتمل علي أفعال و أقوال من قيام و ركوع و سجود و ذكر الله تعالي و تسبيحه اجمالا، و فيها آيات بيّنات تدل عليها، و قبل ذكرها و البحث عنها لا بدّ من تقديم مقدمة لها.

من المعلوم أنّ كلّ عمل إرادي في الصلاة لا يصدر الّا عن قصد و نيّة، فلا موضع للبحث عن أجزائها أو تقدم جزء علي جزء أو مقارنة جزء لها، فان اللازم اتيان الصلاة عن قصد و إرادة، لا عن هزل أو نسيان، فلا يلزم التلفّظ أو الخطور بالبال، نعم، لا بد من الخلوص فيها و قصد التقرب و الامتثال كما تفيده آيات، منها:

الاولي- قوله تعالي: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلٰاتِهِمْ خٰاشِعُونَ).

(المؤمنون [23] الآية 1 و 2)

الظاهر أن المستفاد من الآية هو أن الخشوع في الصلاة واجب لتعلق الفلاح به، بل توقفه عليه و هو توجيه القلب نحو المعبود تعالي مقرونا بالخضوع، و ترتيب البدن، و تنظيم الجوارح حال الصلاة، و توجيهها نحو القبلة، من غير انحراف يمينا أو شمالا، أو تحرك أو قلق «1» فعن رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) انه قال: «لو خشع قلب هذا

______________________________

(1)- كما يعطي ذلك مقتضي الجمع بين كلمات أهل اللغة و مقالة المفردات فراجع، و عن كنز العرفان: الخشوع

خشية القلب و علامتها التزام كل جارحة بما أمر به في الصلاة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 65

لخشعت جوارحه» «1».

من المعلوم ان وجوب توجيه القلب نحو الله تعالي في شراشر الصلاة [قولا و فعلا … شرطا او شطرا بحيث يوجب الخلل فيه خللا في الصلاة] مشكل لصعوبته و عدم امكانه الّا علي الاوحدي من الناس، فيرجع الامر الي المقدار الممكن، لذا يجب الخشوع في الصلاة مهما أمكن، كما استفدناه من قوله تعالي: لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ في موضوع الطهارة، فالآية تفيد لزوم أصل القصد و التوجّه.

الثانية- قوله تعالي: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ الي قوله: - يٰا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ). (الاعراف [7] الآية 29- 31)

الآيتان تفيدان- كما تري- بعد تحذير الناس و نهيهم عن افتتان الشيطان حتي يكونوا عنه علي حذر، حيث هو الذي يأتيهم عن أيمانهم و عن شمائلهم بحيله و تدليساته، و هو الذي أخرج آدم و زوجه من الجنة، و بعد تبيين المقياس و المعيار للانسان لئلا يقع في فتنة- أن الله تعالي هو الذي يأمر بالقسط و العدل و ينهي عن الفحشاء و المنكر و البغي، و ان الشيطان يأمر بما ينهي الله تعالي، و ينهي عمّا يأمر به «2» و عندئذ فأمر اللّه تعالي بالخلوص حال اقامة الصلاة لئلا يوسوس الشيطان للمصلّي، فيرائي الناس، و يشرك باللّه تعالي، و يصلّي لأغراض و دواع غير إلهية، اعاذنا اللّه من شرور أنفسنا و من شر الشيطان.

و اللّه تعالي هو الذي خلق الانسان و بدأ خلقه، و هو الذي يعيده و ينشره يوم

______________________________

(1)- حديث مروي

عن رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) قاله في رجل كان يصلّي و يعبث بلحيته.

(2)- قال تعالي «الشَّيْطٰانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشٰاءِ وَ اللّٰهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلًا وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ» (البقرة [2] الآية 268).

و أما العدل فما ذا؟ و الفحشاء و المنكر ما ذا؟ فقال تعالي «وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا» (الشمس [91] 7 و 8).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 66

القيامة ليجزيه بما قدم من عمل، فاذا كانت الامور كلها بيده تعالي مبدأ و معادا، أولا و آخرا، فلا ينبغي اذن توجيه الوجه الّا نحوه، و الإصغاء إلّا الي ما يدعو إليه، فلا بد في الصلاة الإخلاص لله و الدعاء فيها مع الخشوع و الانابة بتوجيه القلب إليه، رزقنا الله تعالي هذه النعمة، فان المؤمنين هم المفلحون لكونهم في صلاتهم خاشعون، و المنافقون هم الذين يُخٰادِعُونَ اللّٰهَ، وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ، وَ إِذٰا قٰامُوا إِلَي الصَّلٰاةِ قٰامُوا كُسٰاليٰ، يُرٰاؤُنَ النّٰاسَ وَ لٰا يَذْكُرُونَ اللّٰهَ إِلّٰا قَلِيلًا (النساء [4] الآية 142) يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ (النساء [4] الآية 43)، بل أقيموها خاشعين منيبين آخذين زينتكم عند كل مسجد متطهّرين، فانها لكبيرة الّا علي الخاشعين.

ثم جاء الامر مستقلا بأخذ الزينة عند كل مسجد، فان العبد اذا اتي مسجدا فكأنما أتي الي بيت الله تعالي ليزوره، و يناجيه فيه، و يدعوه، فلا بد من لبس أطهر لباس و أطيبه و أحسنه زينة تتناسب و شأن المزور بلا تلوين، فيجب التزيين في الجملة، و يستحب التعطّر لأنه من مصاديقه، فهو واجب بعنوان الاول، مستحب بعنوان نفسه انتخابا لينطبق عليه.

و بالجملة فان دلالة الآيتين علي وجوب

الخلوص في النية و حرمة الشرك و الرياء فيها، فتبطل الصلاة بهما ظاهرة، كدلالتهما علي وجوب طهارة اللباس، فانه أول مراحل التزيين و العناية، و ان الخشوع في الصلاة فضيلة و زيادة، و قد قلنا بوجوبه كلما أمكن.

نعم؛ هنا كلام في ان الحرمة في الصلاة ظاهرها الوضعية، اي فسادها، و اما التكليفية فيشكل استفادتها من الآيات و ان كان لا يبعد «1»، فتأمل.

______________________________

(1)- فان الرياء و الشرك في العبادات غير الشرك بالله العظيم في الخلق، و انتساب العالم إليه وجودا و بقاء، فانه لا كلام في كون الثاني ذنبا عظيما لا يغفر، فان الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء،-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 67

الثالثة- قوله تعالي: وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفٰاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكٰاةَ وَ ذٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). (البيّنة [98] الآية 5)

الآية- كما تري- تنادي- بوضوح- بضرورة الاخلاص في امتثال الأوامر العبادية، و ان يكون المحرّك و الدافع هو أمر الله تعالي و اطاعته، و لو أشرك (الاخلاص) بغيره كالرياء، فسدت العبادة، و لا يكون مسقطا للأمر، فانه لم يأت بمتعلقه بما أمر به، كما هو ظاهر.

و يؤيد المطلوب بل يدل عليه قوله تعالي: … فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صٰالِحاً وَ لٰا يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً). (الكهف [18] الآية 110)

فانها تنهي عن الشرك في العبادة، و ادخال غرض آخر غير الله تعالي و اطاعة امره لمن كان يرجو و يؤمن بلقاء ربه و يوم القيامة، و من أشرك فيها فلا ينال الّا لقاء شريكه الموهوم. فانه تعالي أغني و أعزّ، فلا بد من الخلوص في العبادة و

اتيانها له وحده، و لا ينال ذلك الّا عباد الله المخلصون، اللهم وفقنا للإنابة أليك و اجعلنا من المخلصين.

و كيف كان ففي الفصل آيات بينات:

الاولي- قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ … - الي قوله: - فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللّٰهِ هُوَ مَوْلٰاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْليٰ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ). (الحج [22] الآية 77- 78)

الامر بالركوع يدل علي وجوب القيام ثم الركوع عنه، فانه يتحقق عنه عادة،

______________________________

و تفصيل الكلام فيه تجده في كتاب المحرّمات ان شاء الله.

و أما الرياء في العبادة فهو ينشأ من غلبة الهوي و حب الشهرة و الجاه الموهوم، فهو الذنب المهلك النفسي دون الفقهي، فان أساسه الوهن و الضعف في معرفة الله تعالي، و ان بيده ملكوت كل شي ء، و ان له الخلق و الامر، الّا أن الانسان مع كل ذلك الايمان و الاعتقاد قد يغفل فيهوي، و يرائي الناس، و يتظاهر لهم.

و حينئذ لا اشكال في بطلان عبادته و فسادها شرعا، لانتفاء القربة التي هي الاساس فيها، و اما انه ارتكب ذنبا آخر يعاقب عليه أيضا بعد جبران عبادته بالاعادة و القضاء فمشكل جدا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 68

و ان كان المفهوم يصدق عليه لو انتهي إليه عن قعود، الّا انه لا يستعمل في اللغة. و اما السجود فالأمر به مستقلا، و الظاهر اعتبار تعاقبهما بأن يركع عن قيام ثم يسجد، و ذلك في الصلاة بقرينة قوله تعالي بعده: وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ)، و الصلاة من أعلي مصاديق العبادة و فعل الخير، التي ينادي إليها في أوقاتها ب «حي علي خير العمل» و يعيّن الأمر تفريع

قوله تعالي: فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ عليه آخر البحث، فتدل الآية علي وجوب قيام و ركوع و سجود في الصلاة في الجملة، و يدل علي جزئية القيام أيضا قوله تعالي: قُومُوا لِلّٰهِ قٰانِتِينَ بعد الأمر بالمحافظة علي الصلاة و الصلاة الوسطي «1» (البقرة [2] الآية 238) و قوله: فَلْتَقُمْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ … (النساء [4] الآية 104) كما سيأتي الكلام عنهما فيهما ان شاء الله.

الثانية- قوله تعالي: وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ* وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبٰارَ النُّجُومِ). (الطور [52] الآية 48 و 49)

الآية بظاهرها لا تفيد الّا مطلوبية أصل التسبيح مطلقا حين القيام من كل قعود، و في كل حال، أو حال القيام الي الصلاة، أو كل قيام فيها، أو القيام بالأمر من تبليغ الرسالة و هداية الناس.

و كذلك في الليل حين انتهاء الشمس من الصباح، و حال اقبال الشمس و ادبار النجوم.

الّا انها اذا لوحظت مع قوله تعالي: فَاصْبِرْ عَليٰ مٰا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ* وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبٰارَ السُّجُودِ (ق [50] الآية 39 و 40)، و قوله تعالي: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نٰافِلَةً لَكَ عَسيٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً (الاسراء [17] الآية 79) تفيد الاطمئنان بأن التسبيح في تلك

______________________________

(1)- و في المفصلات بيان احتمالات المراد منها تبلغ سبعة عشر، و لعل خفاءها كان للاهتمام بجميع الصلوات.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 69

الأوقات من الليل و النهار و ادبار السجود يشمل الذي في الصلاة، فريضة كانت أو نافلة، لو لم يكن هو المراد فقط، و التسبيح بحمده هو الذي فيها حال الركوع و عقيب السجود بعد وضع الجبهة علي الأرض،

و ان كانا بطبيعتهما مطلوبين أيضا، و لا سيما بعد ما علمنا من السنّة المباركة من ان الذكر في الركوع و السجود من قبيل «سبحان ربي العظيم- أو الاعلي- و بحمده» هو التسبيح بحمد الله في الأوقات المذكورة.

فان قلت ان الآية الكريمة: فَاصْبِرْ عَليٰ مٰا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ …). و أخواتها تخاطب رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و مثلها قوله: وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنٰا)، و انّ تهجّد الليل كان واجبا علي نفسه الشريفة (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فكيف تعطي الوجوب في كل صلاة لكل أحد؟.

قلت: نعم، و ان كان الأمر كذلك، الّا ان دلالتها علي جزئية ذكر التسبيح للصلاة و لزوم اشتمالها عليها في الجملة مما لا اشكال فيه.

و اما قوله تعالي: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (الانسان [76] الآية 26) فراجع الي محبوبية طول السجود في الصلاة و التسبيح في الليل، و هو الأكثر الأغلب كما لا يخفي.

هذا، و ان تلك الآيات بأجمعها- حتي مع التعاضد- لو لا السنّة المباركة- لم تكن تدل علي وجوب شي ء من ذلك في الصلاة، فكيف بدلالتها علي الجزئية، و توقّفها عليها؟ و سيأتي تمام الكلام عن ذلك في مسألة التسبيح ان شاء الله.

و لا يتمّ الاستدلال بأن الأمر يفيد الوجوب، و حيث لا وجوب في غير الصلاة، فيكون الأمر فيها، كما ذكروه في المقام، و في القراءة بقوله تعالي: فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ و لوجوب الصلاة علي محمّد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في التشهد بقوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً و كذا السلام عليه و غيرها- و

سيأتي الكلام عنها ان شاء الله.

و وجه الضعف امكان انكار الصغري أو الكبري في كل منها لو لا السنّة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 70

الشريفة.

الثالثة- قوله تعالي: وَ لٰا تَجْهَرْ بِصَلٰاتِكَ وَ لٰا تُخٰافِتْ بِهٰا وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلًا). (الاسراء [17] الآية 110)

هذه الآية، و إن كانت مصوغة لوجوب ابتغاء سواء السبيل و توسطه في الجهر و الاخفات و تركهما- كما سيأتي البحث عنه ان شاء الله- الّا انها تدل علي اشتمال الصلاة علي أقوال و أذكار ليصحّ ابتغاء الوسط منها حال قراءتها أيضا؛ لامتناع الحكم بلا موضوع- كما هو ظاهر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 71

الفصل الثالث: في الوقت

اشارة

أي فيما يدل علي انها موقوتة اجمالا، و لا بد من ملاحظة اوقاتها و الاتيان بها فيها، لئلا تفوت بانقضائها و فيه آيات بينات:

(الاولي) قوله تعالي: … فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ إِنَّ الصَّلٰاةَ كٰانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً). (النساء [4] الآية 103)

تدل الآية بل تصرّح بأن طبيعة الصلاة لا تكون محبوبة مطلقا، و في ايّ وقت، بل هي مكتوبة و فريضة في وقت معين، فهي موقوتة اجمالا، و اما تحديد ذلك الوقت و في أية قطعة من الزمان ليلا أو نهارا، اسبوعا او شهرا، فقد أشير إليه في آيات أخري- كما تري.

(الثانية) قوله تعالي: أَقِمِ الصَّلٰاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِليٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كٰانَ مَشْهُوداً* وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نٰافِلَةً لَكَ عَسيٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً). (الاسراء [17] الآية 78- 79)

تفيد الآية انه لا بد من اقامة الصلاة في وقتين:

الاول- مبدأه زوال الشمس و دلوكها بميلها عن نصف النهار و منتهي ظهورها يقال له الظهر، و منتهاه مبدأ الليل و غسق الشمس باختفائها و غروبها

«1».

______________________________

(1)- قال في المجمع: «غسق الليل ظهور ظلامه» فيساعد علي ما استظهرناه، و في المفردات و المنجد: «شدة ظلمته» فيساعد علي تفسيره بانتصاب الليل كما في رواية عبيد اللّه بن زرارة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 72

و في الكشاف: و الغسق «الظلمة و هو وقت صلاة العشاء» (ص 242/ ج 3).

و حيث لم تكن الصلاة مطلوبة في جميع ذلك الوقت بحيث تستغرفه كما نعلم ففي أوله يصلّي الظهر و في آخره العصر تسمية باسم الوقت و ان كانت الآية بنفسها لا تفيد شيئا من التعدد و عدد ركعات كل منها الّا ان السنّة الشريفة و الضرورة العملية أوضحتا الأمر كما تعلم.

و الثاني- منتهاه قرآن الفجر بانشقاق الظلمة من ناحية الشرق مبدأ ظهور البياض، مقدم طلوع الشمس، و مبدأه منتهي الأول، فالليل اذا غسق يبدأ ثاني الوقتين كما ينتهي اولهما، و الفجر اذا كان مشهودا مقروءا ينتهي قضية امكان عطف (قرآن الفجر) علي (محل الليل)، و ان كان معطوفا علي الصلاة و منصوبا ب «اقم»، فالمراد صلاة الصبح مبدأ وقتها ذلك، و منتهاه ادبار النجوم، و انها مشهودة لملائكة الليل و النهار كما في روايات الباب، و لكن يختلف فيه السياق فلا يبعد أن تكون الروايات تطبيقا لا تفسيرا، فتأمل.

و في المقام أيضا حيث لم تكن الصلاة المستغرقة للوقت مأمورة يصلّي المغرب في اوله، و بعده العشاء الي انتهائه تسميه باسم الوقت أيضا، كما يشير إليه قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ … مِنْ قَبْلِ صَلٰاةِ الْفَجْرِ … وَ مِنْ بَعْدِ صَلٰاةِ الْعِشٰاءِ (النور [24] الآية 58) و سيأتي الكلام عنه في آداب الصلاة ان شاء الله تعالي.

و اما وجود وقت آخر غيرهما و عدمه فلم

يذكر في الآية شي ء و لم ينف حتي ينافي ما تثبته الاخري من ادبار النجوم- كما سيأتي- فإن قرآن الفجر و ظهوره اذا جعل منتهي وقت فهو مبدأ لوقت منتهاه ادبار النجوم بطلوع الشمس كما سيأتي البحث عنه ان شاء الله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 73

و أخيرا أفادت الآية ان تهجّد الليل نافلة أي ان التيقظ «1» فيه للصلاة المستحبة مطلوب و مرغوب فيه و قد أمر الله تعالي نبيّه به عسي ان يبعثه مقاما محمودا، فالليل أيضا وقت لنافلته و سيأتي الكلام عنهما ان شاء الله.

في المجمع: غسق الليل ظهور ظلامه، يقال غسقت اذا انفجرت فظهر ما فيها، و في المفردات و غيره غسق الليل: شدّة ظلامه.

و حينئذ فإن قلنا بالأول فالأمر كما ذكرنا يرجع الي بيان وقت صلاة الظهر و العصر و يكون قرآن الفجر منتهي وقت أوّله غسق الليل و ظهور ظلامه، فيرجع الي بيان وقت صلاتي المغرب و العشاء أيضا، و ادبار النجوم المذكور في الآية الاخري منتهي وقت مبدأه- قرآن الفجر وقت صلاة الصبح.

و اما لو قلنا بالثاني فيكون معناه منتصف الليل و أوّله دلوك الشمس فيشمل وقت صلوات اربع، و تحديد وقت الظهرين في المنتهي و العشاءين في البدء بذكر المغرب عند ظهور الظلام في روايات الباب و يكون آخر وقت العشاء منتصف الليل دون قرآن الفجر كما في الاول.

و كيف كان فالآية تشتمل علي أوقات خمس صلوات دون ذكر منتهي وقت صلا الصبح.

هذا اذا كان معني قرآن الفجر ظهوره بحيث يمكن ان يقرأ و يكون ظاهرا مشهودا كما هو ظاهره البدوي، و اما اذا كان بمعني صلاة الصبح لاشتمالها علي القرآن زائد علي سائر الصلوات و كونها مشهودة

لملائكة الليل و النهار كما في روايات الباب فيختلف السياق و تصير الجملة آمرة بصلاة الصبح بين الأوامر قبلها المبينة لأوقات الصلوات الأربع و بعدها المبينة لوقت نافلة الليل و انها فريضة علي رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و لا يبعد أن تكون روايات الباب تطبيقا لا تفسيرا فراجع و تأمل/ ج 2/

______________________________

(1)- في المفردات الهجود النوم، الهاجد النائم، و هجّدته فتهجد ازالت هجوده و معناه ايقظته فتيقظ، و الضمير في قوله «فَتَهَجَّدْ بِهِ» راجع الي القرآن لو كان بمعني القراءة أو الي بعض الليل المستفاد من الليل كما قلنا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 74

باب/ 2/ ابواب مقدمة العبادات/ رواية/ 2.

فان قلت ان الأمر بإقامة الصلاة لدلوك الشمس الي غسق الليل مع الأمر بالتهجّد فيها علي سياق واحد و لا تختص بالنبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و ان كانت الثانية مستحبة لمقام التصريح بقوله «نافلة» و هي الزيادة، و ان التعليل بقوله: عَسيٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً أيضا لا يوجب الاختصاص.

قلت نعم، سياق الآيات يقتضي اختصاص الأمر بالصلاة (لدلوك الشمس) أيضا بالنبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أيضا، الّا إنّنا نعلم بعدم الاختصاص بآيات اخري تبقي النافلة في الليل و التيقّظ لها مختصة بنفسه الشريفة واجبة عليه حسب ظهور الآية مع ارتباط ما بين قوله تعالي: عَسيٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً مع الآيات السابقة من قوله تعالي: وَ إِنْ كٰادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ … الي قوله تعالي:

وَ لَوْ لٰا أَنْ ثَبَّتْنٰاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (الاسراء [17] الآية 73- 74)، و تمام الكلام في رسالتنا (القرآن في محمد (صلّي اللّه

عليه و آله و سلّم) و محمد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في القرآن) بتوفيق من الله تعالي.

الثالثة- قوله تعالي: وَ أَقِمِ الصَّلٰاةَ طَرَفَيِ النَّهٰارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئٰاتِ ذٰلِكَ ذِكْريٰ لِلذّٰاكِرِينَ. (هود [11] الآية 114)

فهذه الآية توجب اقامة الصلاة في طرفي النهار قبله و بعده لا أوله و آخره فان الطرف هو الزمان الواقع فيه النهار لا نفسه ليكون طرفاه قطعتيه الاولي و الاخيرة قبال الوسط «1».

و النهار هو المقدار من الزمان الذي أوله طلوع الشمس و آخره غروبها لدي العرف و اللغة. و من المعلوم ان قبل النهار قبل طلوع الشمس و هو آخر وقت صلاة

______________________________

(1)- و اتصال آخر الوقت الاول بأول النهار و اوّل الثاني بآخره يحقق معني الطرف و منتهي الشي ء، و لا صلاة في اوّل قطعة من النهار، و مبدؤه طلوع الشمس و ان كان العصر آخره و جعل مبدئه الفجر لا يساعده العرف و اللغة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 75

الفجر التي كان اوّل وقتها قرآن الفجر المشهود، و بعد النهار طرفه الآخر بعد غروب الشمس و بسط الظلمة الذي كان آخر وقت صلاة اوّل وقتها دلوك الشمس فهو اوّل وقت صلاة آخر وقتها قرآن الفجر و هي صلاة العشاءين.

و الحاصل تصريح الآية بأن قبل النهار و بعده أي طرفيه وقتان للصلاة اي قبل طلوع الشمس و حين غسق الليل بعد غروبها «1».

ثم ان الزلف جمع زلفة اي المنزلة و الخطوة و في المقام القطعة، فالآية تفيد ان قطعات الليل في طرف آخر النهار وقت للصلاة و اوّل تلك الزلف و القطعات، فاذا غربت الشمس و تحقق الغسق بانبساط الظلمة المعبّر عنه عندنا بالمغرب

بعد الغروب تحقق اوّل وقت صلاة تسمي باسمه المغرب و بعده زلف الليل و قطعاتها الي قرآن الفجر وقت صلاة تسمي باسمه العتمة او العشاء «2».

و ان ابيت ذلك لظهور العطف في ان تلك الزلف و القطعات من الليل غير ما يكون في طرف آخر النهار وقتا للمغرب و العشاء، فتكون وقتا لنافلة الليل و يعضده قوله تعالي: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ). و الله اعلم.

و الحاصل ان في المقام اقوالا أربعة:

الاول- و هو الحق و المصرّح به في أقوال الائمة (عليهم السّلام) كما ذكرنا.

الثاني- ان يكون المراد من طرفي النهار الغداة، و الظهر و العصر، و من زلف الليل المغرب و العشاء، و لا يساعد ذلك العرف و اللغة في معني النهار من طرف الغداة فان قبل طلوع الشمس ليس بطرف علي هذا المعني من أخذ طرف الشي ء

______________________________

(1)- و لا يتمّ التكليف حتي تشمل الآية جميع اوقات الصلوات الخمس كما عن البعض من اراد طرفي نصف النهار، ففي الاول صلاة الفجر و باقي الصلاة في طرفه الآخر لعدم مساعدة العرف و اللغة و تصريح الامام (عليه السّلام) بخلافه، و من المعلوم ان طرفي الشي ء غير نصفيه.

(2)- و يصرح بذلك صحيحة زرارة، قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عمّا فرض الله من الصلوات، فقال: خمس صلوات في الليل و النهار الي قوله: و قال تبارك و تعالي: «أَقِمِ الصَّلٰاةَ طَرَفَيِ النَّهٰارِ» و طرفاه المغرب و الغداة و زلفا من الليل و هي صلاة العشاء الآخرة. الحديث/ الوسائل/ ج 2 باب 2 من أبواب اعداد الفرائض.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 76

منه الّا ان يكون المبدأ طلوع الفجر و المنتهي غروب الشمس كما عن البعض.

الثالث- إرادة طرفي

نصف النهار من الليل و النهار، فصلاة الفجر في طرفه الاول و باقي الصلوات في طرفه الثاني، و زلف الليل قرباتها نافلة الليل، و يبعده الظهور فان النهار غير نصفه و طرفيه غير نصفه و ان قلنا بأن طرف الشي ء منه دون الخارج المماس.

الرابع- ما عن ابي حنيفة بعد إرادة طلوع الشمس و غروبها من النهار و حيث لا صلاة فيهما باجماع الامة، فيراد اقرب المجازات صلاة الفجر قريبا من الطلوع و صلاة العصر قريبا من الغروب و في ذلك حكم باستحباب تنوير الفجر و تأخير العصر، و فيه ما لا يخفي فان إرادة اوّل اجزاء النهار بعد طلوع الشمس اقرب المجازات في معني الطرف من آخر اجزاء الليل قبل طلوع الشمس أولا، و لو كان الطرف الخارج المماس فإرادة صلاة المغرب بعد الغروب اولي من إرادة العصر قبله بعد إرادة الفجر في طرفه الاول ثانيا كما لا يخفي، و الحق هو الاول كما عرفت.

ثم ان الصلاة من اعظم الحسنات التي يذهبن بطبعهنّ السيئات، فانها تنهي عن الفحشاء و المنكر و البغي فلا تنحصر بها، كما لا تنحصر بالواجب منها اليومية المستفادة من تلك الأوقات في الليل و النهار، بل الزائدة عليها و نافلتها الثابتة بالسنّة المباركة، كغيرها من النوافل الثابتة بها، أو أشير إليها في الآيات كما عرفت.

الرابعة- قوله تعالي: وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبٰارَ النُّجُومِ). (الطور [52] الآية 48- 49)

قد عرفت ان الآية تدل أولا: علي مطلوبيّة طبيعة تسبيحه تعالي بحمده حين القيام في الليل و غيره، او في الليل حين القيام عن النوم و حال إدبار النجوم من الصباح، و ثانيا: تدل علي ان التسبيح

بحمده تعالي في الليل و حين إدبار النجوم باقبال الشمس و هما وقتان للصلاة في الجملة كما عرفت، فلعلّه مطلوب في الصلاة، و سيأتي تمام الكلام في اصل التسبيح ان شاء الله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 77

و حينئذ اذا جعل ادبار النجوم غير الليل، و قبالها وقت آخر غيرها، فلا بدّ له من مبدأ، اما من قطعات الليل و زلفها، او انتهائها قبل إدبار النجوم. و اذا علمنا ان قرآن الفجر المشهود آخر الليل في التوقيت للصلاة، و ان لم يكن كذلك في العرف و اللغة، فهو مبدأ لوقت ثالث اوله قرآن الفجر، و آخره ادبار النجوم للتسبيح مطلقا، او في الصلاة. و بالمآل يستأنس انه وقت للصلاة المسماة باسم الوقت «صلاة الفجر» كما اشار إليه قوله تعالي: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ … مِنْ قَبْلِ صَلٰاةِ الْفَجْرِ (النور [24] الآية 58) كما سيأتي الكلام عنه في باب الآداب ان شاء الله.

الخامسة- قوله تعالي في توصيف المصلّين: … وَ الَّذِينَ هُمْ عَليٰ صَلٰاتِهِمْ يُحٰافِظُونَ* أُولٰئِكَ فِي جَنّٰاتٍ مُكْرَمُونَ (المعارج [70] الآية 34 و 35) او وَ الَّذِينَ هُمْ عَليٰ صَلَوٰاتِهِمْ يُحٰافِظُونَ أُولٰئِكَ هُمُ الْوٰارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (المؤمنون [22] الآية 8- 10)، و قوله تعالي: حٰافِظُوا عَلَي الصَّلَوٰاتِ وَ الصَّلٰاةِ الْوُسْطيٰ (البقرة [2] الآية 238).

من المعلوم ان في المحافظة علي الصلاة في كل يوم و ليلة اشعارا بأنّ لها اوقاتا يراعيها المحافظون عليها، و ان كان الاطلاق يشمل محافظتها من جميع الجهات الثابتة لها في الآية الكريمة من الاعداد و الركعات و الاجزاء و غيرها من الشروط المتقدمة او المقارنة أيضا.

و امّا الصلاة الوسطي ففيها احتمالات ذكروها في المفصّلات، و لعل سبب اخفائها

يعود الي ان يكون الاهتمام بتمام الصلوات و عمومها.

السادسة- قوله تعالي: إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَليٰ صَلٰاتِهِمْ دٰائِمُونَ (المعارج [70] الآية 22- 23) فان الاستثناء عن الانسان الهلوع الجزوع المنوع في مقام المدح يشعر بالوقت للعلم بانه لا يكون المراد الدوام علي الصلاة في تمام الأوقات بل في اوقاتها كما هو الظاهر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 78

خاتمة الفصل

وقت نافلة الليل حدود نصف الليل زائدا عليه او ناقصا عنه قليلا علي ما استفاده الاصحاب (رضوان الله تعالي عليهم) من آيات سورة المزّمل، و فيها كلام.

قال تعالي: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلّٰا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، إِنّٰا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، إِنَّ نٰاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا، إِنَّ لَكَ فِي النَّهٰارِ سَبْحاً طَوِيلًا، وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا).

(المزمّل [73] الآية 1- 9)

لو خلّينا و الآيات عن كل ما قيل و استمعنا الي مقالتها بنفسها لرأينا انها تخاطب المتزمّل اي اللاف علي جسمه رداء و ملحفة و هو علي صورة نائم مستلقيا ليستريح، فتأمره الآية الكريمة بالقيام في الليل دواما اي في الليالي كلها الّا قليلا منها مما يتعذّر لمرض او سفر او غيرهما، كما يؤيد ذلك آخر الآيات «1»، و القيام هذا في الليالي الّا قليلا منها لا بد و أن يكون في حدود انتصافها فيزيد علي النصف او ينقص منه قليلا.

ثم ان القيام ذلك لا يكون مطلوبا بنفسه بل لقراءة القرآن مترتلا متأنيا مقرعا للقلب معانيه العالية الداعية الي الحياة المتعالية.

______________________________

(1)- احتمال إرادة القيام في ليل

ما الّا قليل ذلك الليل، بأن ينام أوله ثم يقوم في أكثره من حدود نصفه الي آخره حتي يتحقق الامتثال بقيام ليلة واحدة كذلك فبعيد عن سياق الآيات جدا.

كما ان جعل قوله تعالي «نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا» بيانا للقليل المستثني لا يساعد عليه ما في آخر السورة بل لا يساعد السياق فانه بيان للمستثني منه الليل- و القيام فيها- كما لا يخفي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 79

ثم ان تلك القراءة في ذلك الوقت كأنّها لا تكون مطلوبة نفسيا بل تهيؤا و استعدادا لقبول قول ثقيل «1».

الظاهر أن المراد بالقول الثقيل الدعوة الي الله تعالي و قبول اعباء الرسالة و اقامة الحدود و الشرائع فردا و جماعة تحقيقا لقوله خَيْرَ أُمَّةٍ، و ثقله معلوم من مواجهة الكفار و المشركين و لزوم تحمّل المعارك و الحروب.

و اما إرادة القرآن كما ذكره المفسّرون و ان كان يناسب معناه الظاهر من بعد ارادتهم من القيام القيام للعبادة و من ترتيل القرآن الصلاة و يصحّ اطلاق الثقل عليه، كما فعله الاستاذ (قدّس سرّه) في الميزان، فيبعده ظاهر القيام لترتيل القرآن تهيؤا لتلقي الثقل، الّا ان يراد قراءة بعضه تهيؤا لقبول بعضه الآخر. و حمل ترتيل القرآن علي الصلاة أو فيها، لا وجه له، مع ان كلّ ذلك كان لعلمهم بنافلة الليل و وقتها قبلا لا انها هي ظاهر الآية بدوا كما لا يخفي.

فمصداق العنوان و مرجع الضمير هو المخاطب في قوله تعالي: إِنّٰا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا فعليه يبدو التمرّن و التهيؤ بالقيام في الليالي، و ترك المضجع و لذائذه، و لا سيّما قرب انتصاف الليل، ثم التوجه الي الله تعالي بقراءة القرآن ما يتيسّر منه مرتلا متوجها الي

اعماق المفاهيم و عروق المعاني، فان ناشئة الليل الي الله تعالي أثبت قدما و أشدّ وطأ، لمساعدة السكوت و الظلمة، و عدم الصوارف و المشاغل، و يصير بذلك اقوم قولا و أنفذ كلاما في الآخرين، لما فيه من الخلوص، و ان لك في النهار وقتا واسعا و فرصة طويلة سبحا بالذهاب و الاياب لسائر الامور، و التسريع في العبادة، فقد جعل الله الليل لباسا و النهار معاشا، فاغتنم الليل و الزلف منه. و اذكر اسم ربك رب المشرق و المغرب، و انقطع عن الدنيا و ما فيها متوجها إليه

______________________________

(1)- فان تأثير قراءة القرآن بأوامره و نواهيه و بقصصه و حكمه، و ببيانه الخلقة و مقام الخالق، و سنن اللّه التي لا تبديل لها أنفذ و أشدّ في تهيئة الانسان لقبول القول الثقيل و القيام لله تعالي من الاتيان بالصلاة و الاكتفاء بالابتهال كما تعلم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 80

تعالي تبتيلا و تضرعا و اخلاصا، و اهجر الآخرين هجرا جميلا، لا يبعدك عنهم في المجتمع، و لا يبعدهم عنك في هدايتهم، فاتخذ الله تعالي وكيلا تعتمد عليه في المشاكل، و تستمد منه في المهام، و ذر الآخرين المكذّبين المترفين، و اصبر علي ما يقولون طعنا بك و تكذيبا عليك، فان لدينا عليهم انكالا و جحيما. و علي هذا السياق ينتهي الكلام الي قوله تعالي: إِنَّ هٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شٰاءَ اتَّخَذَ إِليٰ رَبِّهِ سَبِيلًا).

(المزمل [73] الآية 19)

و من المعلوم ان المصداق مع تلك الخصوصيات لا يكون الّا شخص الرسول الاكرم و النبي الاعظم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و ان القول الثقيل ليس الّا أمر الرسالة و التصدّي للهداية و هو هذه التذكرة كما أنّ

الأمر كذلك في آيات سورة المدّثر الآمرة بالقيام و الانذار «1».

و لا نعلم الي هنا من تلك الآيات بنفسها بحثا عن صلاة الليل او الاشارة إليها، و قراءة القرآن و التضرع الي الله تعالي يعمّها، و اذا كانت السنّة الشريفة تكفلت الامر ببيانها بحدودها و ركعاتها فلا افتقار الي ما تكلّفه المفسّرون و مؤلف و آيات الاحكام (رضوان الله عليهم) لتطبيق الآيات علي صلاة الليل، و قد أشير إليها اجمالا في الآية السابقة- آية التهجّد- كما عرفت.

ثم ان آخر تلك الآيات يشير الي توسعة ذلك التمرّن و الاستعداد منه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ليشمل الاصحاب «2» و انّ مركز العمل لا بد و أن يتّحد مع طائفة من الذين معه في الصلابة و الاستقامة حتي يتمكنوا بعون من الله تعالي فيما عليهم، فيقول: ان ربك يعلم انك و طائفة من الذين معك تقومون في اواخر الليل قريبا من ثلثه الثالث او

______________________________

(1)- و لا ينافي ما ذكرناه مع اختصاص ذلك بنفسه الشريفة و ان السورة مكية و من عتائق السور، لإمكان قراءة النازل قبله أو ما ذكر من النزول عليه أولا ثم التفصيل حسب المواقع كما يشير إليه قوله تعالي: «وَ لٰا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ».

(2)- لا سيما علي ما ورد من ان المراد هو علي (عليه السّلام) و أبو ذر (رضي اللّه عنه).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 81

نصفه او قبل الانتصاف في اواخر الثلث الاول، و ذلك عبارة اخري عمّا كان في اوّل الآيات من نصف الليل او زائدا عليه او ناقصا عنه قليلا، فان قبل الانتصاب يكون من اواخر الثلث الاول، و بعده زائدا عليه يكون من اواخر الثلث الثاني، او اوائل الثلث

الثالث ادني من ثلثي الليل، و الله تعالي المدبّر للأمر المقدّر للّيل و النهار طولا و قصرا يعلم انك و طائفة من الذين معك تقومون من تلك الأوقات من الليل، و لن تحصوه، حيث يعسر عليكم ذلك، مع وجود المرض و السفر في الجهاد و سائر الاعذار، فتاب عليكم، و عفا عنكم، فاقرءوا ما تيسّر من القرآن.

و الانصاف انه بعد ما عرفنا ان نافلة الليل بخصوصياتها و قراءة القرآن فيها، و الدعاء و الابتهال حالها من السنّة المبيّنة تفصيلا مضافا الي آية التهجد، و عطف طائفة من الذين مع الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في المقام، نطبق الآيات عليها و نستدل بها علي وجوبها علي نفسه الشريفة و الاستحباب لغيره، و الّا فالآيات بنفسها عامة كما عرفت.

و ممّا ذكرنا يعلم انه لا يتم الاستدلال بتلك الآيات علي كفاية ما يتيسر من القرآن في الصلاة بعد الفاتحة و عدم وجوب سورة كاملة كما عن بعض العامة «1»، و السنّة الشريفة بحمد الله اوضحت الأمر من غير اجمال.

و محصل الكلام انك لا تجد في السنّة المباركة ما يتم الاعتماد عليه في الحكم بوجوب سورة كاملة بعد الفاتحة، و لذلك ذهب الي عدم الوجوب جمع من الاصحاب، مثال الاسكافي، و ابن ابي عقيل، و المحقق، و العلّامة و غيرهم، الّا ان الشهرة العظيمة بين المتقدمين الذين كانت الروايات علي منظرهم بالوجوب، يورث

______________________________

(1)- و في الكنز عن ابي حنيفة كفاية ثلاث آيات من آي القرآن و يدفعه قوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) «لا صلاة الّا بفاتحة الكتاب»، السراج المنير/ ج 3 ص 471. و الظاهر ان ما فهمه الفاضل صاحب كنز العرفان (رحمه

اللّه) في غير محله، و ان مراد ابي حنيفة كفاية ثلاث آيات بعد فاتحة الكتاب كما هو مصرّح به في كتبهم، الفقه علي المذاهب/ ج 1 ص 254.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 82

الوهن في جواز الترك، مع سيرة النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) علي الفعل و قوله «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» «1»، و سائر المستحبات في صلاته قد علم بدليل خارج، و لم يعلم ذلك فيها، و تفصيل الكلام في المفصلات و نقل البحث صاحب المستمسك (رحمه اللّه)/ ج 6 ص 148- 154.

و حاصل الآيات بلسان آخر انها تنهض الرجل المسئول، و تثيره، و توجه تفكيراته نحو الاهداف العالية من انقاذ الغرقي في أمواج الشهوات، و ارشاد الضالّين في مسالك الترهات الي الحق و الفضيلة، الي الدين و الشريعة، الي الله و السعادة، و علي الهادي البشير النذير القيام بالهدف و التعاون مع الذين معه، و التنبّه الي ان الامور بيد الله تعالي، و انه يهدي من يشاء، و يضل من يشاء، و ليس علي الرسول الّا البلاغ، و ليس التوفيق الّا من عنده تعالي، و ليس للانسان الّا ما سعي، فمن اصابته حسنة فمن الله، و من اصابته سيئة فمن نفسه، فانه هو الذي ضلّ بنفسه و أضل غيره حسنة فمن الله، و من اصابته سيئة فمن نفسه، فانه هو الذي ضلّ بنفسه و أضل غيره عن الطريق السوي قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ من تسلسل العوامل و تسبب الاسباب و الوسائل، وفقنا الله تعالي و اياكم للقيام في الليالي، و قراءة القرآن، و الابتهال و التضرع الي الله تعالي تهيؤا و استعداد للقيام في سبيل الحق و طريق الخير، القول

الثقيل من اعلاء كلمة التوحيد، و تدمير اساطين الشرك ان شاء الله.

______________________________

(1)- البحار: ج 85 ص 279.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 83

الفصل الرابع: في القبلة

آيات هذا الفصل في القبلة و انه لا بدّ من استقبالها حال الصلاة و التوجه إليها، و في المقام آيات بيّنات:

سَيَقُولُ السُّفَهٰاءُ مِنَ النّٰاسِ مٰا وَلّٰاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كٰانُوا عَلَيْهٰا قُلْ لِلّٰهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِليٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ … وَ مٰا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهٰا إِلّٰا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَليٰ عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كٰانَتْ لَكَبِيرَةً إِلّٰا عَلَي الَّذِينَ هَدَي اللّٰهُ … قَدْ نَريٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمٰاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضٰاهٰا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا يَعْمَلُونَ، وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ بِكُلِّ آيَةٍ مٰا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ مٰا أَنْتَ بِتٰابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ مٰا بَعْضُهُمْ بِتٰابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوٰاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّٰالِمِينَ).

(البقرة [2] الآية 142- 145)

الآيات بصراحتها تدل علي ان الذين أوتوا الكتاب و أكثرهم اليهود «1» تفوّهوا في أمر القبلة التي كان المسلمون يتّجهون إليها، و هي البيت المقدس، بأقاويل سخيفة اورثت الحزن في قلب رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فأخذ يقلّب وجهه في السماء

______________________________

(1)- فان أكثر أهل الكتاب حال ظهور الاسلام في جزيرة العرب كانوا هم اليهود و هم أشدّ عداوة للاسلام و فتنة للمسلمين، و حتي زماننا هذا خذلهم اللّه بحزبهم الصهيوني.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 84

و يشكو الي الله بثّه و حزنه، فأنزل الله تعالي

قوله قَدْ نَريٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمٰاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضٰاهٰا، فأمر الله تعالي بالانصراف عن القبلة الاولي الي الاخري، بقوله تعالي: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ … و لو في داخل بيت المقدس فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «1» و كان ذلك في المدينة في أوائل الهجرة المباركة، و بين الصلاة، فهال ذلك علي البطّالين و السفهاء من اليهود، الذين اوتوا الكتاب مع انهم يعلمون انه الحق من ربهم فقالوا: مٰا وَلّٰاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كٰانُوا عَلَيْهٰا)، و تأوّلوا ان هذا الأمر المهم موكول بشخص، أو انه يتم علي رأيه، و فسّروا تحويله بالأوهام و الأخيلة، فقال تعالي لرسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في حقهم ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فانهم لئن أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك و لئن اتبعتهم ما تبعوا قبلتك، كما انهم لا يتبع بعضهم قبلة بعض، فانهم المعاندون المجادلون الضالّون، و بعد ذلك ليس عليك رعايتهم او مماشاتهم، و ان أمر التشريع بيد الله تعالي و ان له المشرق و المغرب، و انه يهدي من يشاء الي صراط مستقيم.

فالواجب بعد ذلك تولّي الوجه شطر المسجد الحرام و جعله قبلة، و المستفاد من قوله تعالي: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ان كل جزء منه قبلة، و هو خلاف الظاهر، و لا سيما بعد ظهور قوله تعالي وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فيمن كان خارجا عن المسجد، و ان عليه التولّي و التوجّه إليه، و اما من كان فيه فيستشعر حكمه و هو استقبال الكعبة الصادق عليه التولّي نحو المسجد الحرام بنحو مطلق.

فالقبلة لمن كان في المسجد هي الكعبة، و لمن كان خارجا عنه هي

المسجد الحرام سواء كان في مكّة او في بلد آخر، الّا انه باستقباله بلدة مكة يصدق عليه

______________________________

(1)- و قد كان رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و المسلمون يتجهون في صلاتهم الي بيت المقدس و يجعلونه قبلة لهم، و كذا الكعبة المقدّسة قبل التحويل و بعده، فالقبلة الكعبة، و في الافراد و الجمع تصريح بعد اختصاص ذلك بنفسه الشريفة كما هو ظاهر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 85

استقباله المسجد و الكعبة، كما يصدق استقبال الكعبة علي مستقبل المسجد في مكة في الجملة، فان كل جرم تتسع جهته و شطره كلما بعد عنه، فالقبلة هي المسجد بل الكعبة مطلقا، لا أن مكة قبلة كما عن البعض.

ثم ان من تبيّن له ذلك بالعلامات و معرفة الجهات و الاجهزة فهي، و الّا فمن كان في محل غائم و شبهه وَ لِلّٰهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ (البقرة [2] الآية 115)، و يكفيه التوجه الي جهة واحدة بعد التحرّي و عدم الدليل، و لكن مقتضي اشتراط القبلة التوجه الي جهات اربع مع سعة الوقت طلبا للفراغ بعد اشتغال الذمّة، و الحكم بكفاية جهة واحدة مستندا الي الآية المباركة لو كانت راجعة الي القبلة مشكل و لا يساعده السياق.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 86

الفصل الخامس: في مكان المصلّي و لباسه

قال تعالي: إِنَّمٰا يَعْمُرُ مَسٰاجِدَ اللّٰهِ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقٰامَ الصَّلٰاةَ وَ آتَي الزَّكٰاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللّٰهَ فَعَسيٰ أُولٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.

(التوبة [9] الآية 18)

قد يستظهر من الآية الكريمة ان تعمير مساجد الله هو العبادة فيها، و أفضل العبادة الصلاة، فتدلّ علي استحبابها فيها، بعد العلم بعدم الوجوب و الاختصاص، لقوله (صلّي اللّه عليه

و آله و سلّم): «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا «1».

و عندنا الأمر غير ذلك، و تهدف الآية لرفع ما ذكر، فانها نازلة بعد قوله تعالي:

مٰا كٰانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسٰاجِدَ اللّٰهِ شٰاهِدِينَ عَليٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ وَ فِي النّٰارِ هُمْ خٰالِدُونَ ([90] 17)، و ناظرة الي ان الشرك لا يساعد علي عمران المسجد بل الايمان، و ان المؤمنين هم الذين آمنوا بالله تعالي و اليوم الآخر أي المبدأ و المعاد، و هما أساسان من أهم اسس التفكير و الاعتقاد عندهم، و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و هما عمادان من اهم اعمدة العمل «2»، و بالجملة هم الذين لا يخشون الّا الله تعالي في شراشر حياتهم، و في مختلف المجالات.

و بتلك الخواص، فهم الذين يعمرون مساجد الله ليذكر فيها اسمه و تعلو كلمته،

______________________________

(1)- البحار: ج 38 رواية 17.

(2)- و الاسلام شهادتان و قرينتان.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 87

و يظهر الحق ليغلب علي الباطل.

ففي السياق ان تعمير المساجد يشمل بناءها و اسراجها و فرشها و غير ذلك مما يؤدي الي الاجتماع فيها، و الي استماع الخطب و الوصايا في التواصي بالحق و التواصي بالصبر في الله و غيره من العبادات من غير اختصاص بالصلاة.

و الحاصل ان الآية تعني المسجد الذي هو مركز للمسلمين و معراج لهم، حيث يعبد الله فيه و يذكر، و هو محل لتنظيم المعسكرات، و محل للقضاء و الحكم و المشاورة و حل الاختلافات الطارئة، بل هو مركز لكل شئون المسلمين الدنيوية و الاخروية.

فعمران المسجد و احياؤه عمران مجتمع المسلمين و احياؤهم، فلا يعمره الّا الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و لم يخشوا

الّا الله، كما هو الظاهر، و أما المشركون الذين يتبعون الشهوات، و يفسدون في الأرض، فكيف يعمرون المساجد، و هم شاهدون علي انفسهم بالكفر، و كذلك الذين يبتغون في دين الله عوجا من المنافقين، الذين يتلبّسون بلباس المسلمين، و يتظاهرون بشعاراتهم، فيبنون المساجد ضرارا و تفريقا، و يعمرونها اغراء و تحميقا، يبتغون في ذلك هدم الاسلام و تحطيم المسلمين، كما تري ذلك في بني اميّة و من حذا حذوهم الي زماننا هذا، خذلهم الله تعالي ان شاء الله.

فهم أظلم بأنفسهم و مجتمعهم من كل ظالم، فعلي المسلمين و المؤمنين الكفاح ضدّهم، و تدمير مراكزهم و تخويفهم بالتهيؤ و الإعداد حتي لا يدخلوا مساجد الله و مجتمع المسلمين الّا خائفين علي أنفسهم، حيث قال الله تعالي: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسٰاجِدَ اللّٰهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعيٰ فِي خَرٰابِهٰا أُولٰئِكَ مٰا كٰانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهٰا إِلّٰا خٰائِفِينَ* لَهُمْ فِي الدُّنْيٰا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ.

(البقرة [2] الآية 114)

فان خزيهم في الدنيا لا بدّ و أن يكون بأيدي المؤمنين كما يشير إليه قوله

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 88

تعالي: مٰا كٰانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهٰا إِلّٰا خٰائِفِينَ فانه لا خوف من دخول المسجد و المسلمون أحرار أحياء الّا لمثل هؤلاء الكفرة الفجرة المتظاهرين الخونة «1».

فالحاصل ان الآيات راجعة الي امر أهم من مكان المصلّي، و لا كلام في جوازها في كل مكان مباح، و فضلها في المسجد، كما فصّلته السنّة المباركة و أرشدت إليه، بل الأهم من بيان حرمة المنع عن ذكر الله و تخريب المسجد كما قيل.

نعم لا يبعد ظهور قوله تعالي: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ في لزوم اتيان الصلاة في المسجد في الجملة قضية عطف الأمر بدعاء الله تعالي مخلصا له الدين باقامة الوجوه عند كل مسجد، الموجب غلبة ظهوره في الصلاة جماعة، أو أعمّ مع ان المتعلق اقامة الوجه عنده اذا كان، و لعله غير اقامته فيه، حتي يكون عليه ذلك، و كيف كان فهو استظهار لا استدلال، و أصل الأمر ظاهر بالسنّة المباركة.

______________________________

(1)- و الجملة اسمية مفادها الاستمرار، دون الاختصاص بالماضي، حتي يقال انه وعد المسلمين بالنصر و تخليص المساجد منهم، و قد أنجز ما وعد، و انت تري مكانة اكثر مساجد المسلمين و لا سيما في بلدنا.

(من المعلوم ان ذلك كان قبل نجاح الثورة الاسلامية في تلك المدن).

فان قلت ان الآية تشعر بجواز دخول المشركين المساجد الّا انه لا بد و ان يكونوا خائفين من الله تعالي ان يعذبهم بشركهم، او من المسلمين بان يخزيهم بأيديهم الفائقة القاهرة لظلمهم و تجبّرهم في ذات الله و بيوته، و كيف كان لا يساعد ذلك قوله تعالي: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ» علي القول بإلقاء الخصوصية من الشرك و المسجد و الحكم بحرمة دخول او ادخال كل نجس في كل مسجد، و لا اقل من التهافت البدوي الظاهر في خصوص المسجد الحرام.

قلت عنوان المانع عن ذكر الله تعالي في مساجده، و الساعي في خرابها يعمّ المشرك عموما من وجه، لاجتماعهما في المشرك المانع الساعي، و افتراقهما في المشرك غير المانع و غير الساعي، و المسلم المانع الساعي، و المشرك لا يدخل المسجد الحرام، او كل مسجد- علي ما عرفت في كتاب الطهارة- سواء كان ساعيا مانعا، او لم يكن، و المانع الساعي

اذا لم يكن مشركا يجوز له الدخول في كل مسجد فقها مطلقا لضرورة المحاكمة لدي القاضي او غيرها، او لا لضرورة الّا ان المسلمين لا بد و ان يكونوا علي مستوي لم يدخلوا هؤلاء المانعين عن ذكر الله المتظاهرين الّا خائفين عن تجبرهم في حدود الله تعالي و شرائعه، و لا يتم الجمع بالتفريق بين المسجد الحرام و غيره.

و في المجمع المشرك الساعي المانع يقدم اقوي الملاكين شركه كما عرفت و يحكم بحكمه كائنا من كان.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 89

و لعلك تعرف ما ذكرنا في مسألة المكان و ما استدل به الأمر في لباس المصلّي و ما استدل به أيضا نشير إليه اجمالا.

قال تعالي: يٰا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنٰا عَلَيْكُمْ لِبٰاساً يُوٰارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِبٰاسُ التَّقْويٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيٰاتِ اللّٰهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. (الاعراف [7] الآية 26)

سياق الآية لا يفهم لزوم التستر علي المصلّي حال الصلاة، أو اشتراطها به، او بطلانها بدونه، فيكف بحدوده بعد أن كان أصل مواراة السوأة في الجملة امرا يدركه الانسان بطبعه من غير تشريع، و ما انزل الله تعالي مما يتمكن منه تواري سوءاته و لو بصنعة فيه، فهو من آيات الله تعالي كغيره من النعم التي لا تحصي، يتذكر فيه الانسان منزله و خالقه و ربه.

اما تشريع الاشتراط بحيث تفسد الصلاة بدونه، فيحتاج الي مئونة اخري، كما ان الحكم باشتراط الطهارة و التذكية في الستر مستندا بإطلاق قوله تعالي: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (المائدة [5] الآية 3) بعد انصرافه الي الاكل ممّا لا يخفي و المرجع السنّة المباركة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 90

الفصل السادس: قراءة القرآن

اشارة

ان قراءة القرآن الكريم- في الصلاة- واجبة في الجملة، و هو كتاب الله

الذي فصّلت آياته من لدن حكيم خبير، الكتاب المبين الذي نزل عربيّا من الله العزيز الحكيم، و لا رطب و لا يابس إلّا فيه، و فيه تبيان لكلّ شي ء و هو شفاء و هدي للمؤمنين، و هو كتاب العلم و العمل، كتاب الدعوة و الرسالة، و كتاب الحياة الأبدية، و بالتالي فهو كتاب الخلقة و الوجود بصورته الكتابيّة المظهرة للعين و الواقع المطلق بشراشره. و كيف يمكن لمن هو في الوجود و من الوجود ان يطّلع علي الوجود كما هو حقّه و لو بمرحلته الكتابية من مراتب الوجود.

و كيف كان لا اشكال في فضيلة قراءة ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه هدي للمتقين بل لزوم تلاوته علي كل مسلم- في الجملة- فانه كتاب الدين و الدنيا، كتاب الحياة و النور، كتاب الخير و السعادة؛ و المسلمون سادة أعزّاء لن يضلّوا عن سبيل الحق و طريق الهداية ما داموا متمسكين به، و هو قائدهم «1» و بين يديهم، عاملين بأوامره منتهين عن نواهيه، و يعدله العترة الطاهرة (عليهم الصلاة و السلام) المفسّرون الشارحون له و لكلياته بحق و المفصّلون لمجمله بعلم، فهم الذين في بيتهم نزل الكتاب و أهل البيت أدري بما فيه.

______________________________

(1)- و في الحديث: «من جعله امامه قاده الي الجنة و من جعله خلفه ساقه الي النار».

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 91

و ذلك بحكم الكتاب نفسه، و هو قول العزيز العليم: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و قوله: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ في موارد كثيرة، و مما أتي به الرسول و أمر به التمسّك بالعترة الطاهرة (عليهم السّلام) في قوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): «إنّي تارك

فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا …» كما عرفت من قبل.

و للبحث في قراءة القرآن آيات:

الاولي- قوله تعالي: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنيٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طٰائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللّٰهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضيٰ وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ وَ آخَرُونَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنْهُ … (المزمّل [73] الآية 20)

الآية المباركة- كما تري- تأمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) و طائفة من المؤمنين الذين معه بقراءة ما يتيسّر من القرآن حينما يستيقظون في ثلثي الليل و نصفه و ثلثه الاول قبل منتصفه. و حيث أن الله تعالي يعلم أن منهم من يكون مريضا او علي تأهّب سفر يبتغي تجارة او رزقا من فضل الله او جهادا في سبيله فلا يتمكّن من القيام بالليل و القراءة فيه، امر ثانية بقراءة ما يتيسّر من القرآن في أي وقت كان، رديف الامر بالصلاة و الزكاة و إقراض الله قرضا حسنا، التي هي من الواجبات.

فهي بسياقها تفيد لزوم قراءة القرآن ما يتيسّر «1» منه علي كل مسلم و مؤمن في الجملة، في أي وقت كان، و ان كان حوالي منتصف الليل فهو أفضل، و لا يختص بظهورها الابتدائي بالقراءة في الصلاة فريضة، أو في نافلة الليل حتي يستدل بها

______________________________

(1)- هذا راجع الي المرء كما ان الترتيل راجع الي القراءة، و الاستعاذة من الشيطان راجع الي القارئ، و الانصات للسامع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 92

علي كفاية ما يتيسّر من القرآن في

الصلاة مطلقا، حتي بدل فاتحة الكتاب كما عن بعض العامة «1» بعد تصريح السنّة المباركة القاطعة بأنه: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» و قد مضي تمام الكلام في الآية.

الثانية- قوله تعالي: … وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا … (المزمل [73] الآية 4)

المخاطب بالأمر و إن كان الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) كما مرّ تفصيله في بحث الأوقات إلا انه يدل علي وجوب الترتيل حال قراءة القرآن، أي التأمل و التأني و إقراع القلب بمفاهيم الكلمات و الآيات علي موازاة اسماع السمع اصوات الألفاظ و اللغات، فيري نفسه مخاطبا مأمورا مبشّرا و منذرا مرجوما معذّبا او مرحوما مغفورا و هكذا.

و ظاهر الأمر وجوب مراعاته علي كل قارئ مهما امكن، لا سيما لمن يتمكن من درك المفاهيم علي اختلاف المراتب.

الثالثة- قوله تعالي: فَإِذٰا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ مِنَ الشَّيْطٰانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطٰانٌ عَلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. (النحل [16] الآية 98 و 99)

صراحة الآية توجب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند إرادة قراءة القرآن، فلا بد من تبعيد النفس عنه و التحرّز منه و الاستمداد في ذلك من الله تعالي و اظهار ذلك بالقول، و هو: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، و لا يضرّ الفصل القليل بين كل جلسة قرآنية، فان المبعد المرجوم ليس له سلطان عَلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمٰا سُلْطٰانُهُ عَلَي الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ (بالله) مُشْرِكُونَ، فمن ابعد نفسه عن الشيطان و اتجه الي الرحمن ثم رتّل القرآن سينال ما هو المطلوب من القراءة دون غيره كالذي يعانق الشيطان و يصوّت بالقرآن فانّه خصمه و يحاكمه

______________________________

(1)- عن ابي حنيفة كفاية ثلاث آيات من آي القرآن،

و يدفعه قوله (صلّي اللّه عليه و آله): «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» (السراج المنير/ ج 3 ص 471)، و قوله (صلّي اللّه عليه و آله): «كل صلاة لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خراج» (سنن ابي داود/ ج 1 ص 188). و لا يرتبط ذلك بتعيين المصداق و بيان المراد من الآية المبحوث عنها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 93

لدي الرحمن.

ثم ان الاطلاق يقتضي لزوم ذلك حتي في القراءة الواجبة في الصلاة، و لم يؤيده العمل من الخلف و السلف، و لعلّه اكتفي بمعناه.

الرابعة- قوله تعالي: وَ إِذٰا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصٰالِ وَ لٰا تَكُنْ مِنَ الْغٰافِلِينَ. (الاعراف [7] الآية 204 و 205)

صريح الأمر بالاستماع و الانصات عند قراءة القرآن دال علي وجوبهما حاله، فلا يجوز التكلّم او الاشتغال بأمر لا يساعد الاستماع حينما يقرأ القرآن، سواء كان من قبل الامام في صلاة الجماعة حين قراءته الواجبة او من غيره في غيرها، و لا يختص بالأول حتي لو قلنا باتحاد السياق مع الآية الثانية، فان ذكر الله تعالي في النفس علي حالة التضرّع و الخيفة لا يختصّ بصلاة الجماعة في الفجر و العشاء عند استماع قراءة الامام، و التخصيص يعود الي اطلاق العام الكثير الافراد و إرادة الخاص القليل، كما عن المحقق الأردبيلي (رضوان الله عليه) في زبدته/ ص 130، نعم ان الاستماع و الانصات حال قراءة الامام في الجماعة و كذلك ذكر الله في النفس تضرّعا و خيفة هما من المصاديق الظاهرة.

و يظهر مما ذكر حال الاستدلال بالآية علي لزوم ترك المأموم فاتحة الكتاب

و سقوطها عنه، و ان لم يسمع من الامام، فانها في اطلاقه لا تكون بصدد بيان مثل ذلك، و ان لم يتم ما احتمله المحقق الاردبيلي من الجمع بين القراءة بنفسه و استماع قراءة الامام و الانصات له.

ثم ان وجوب السجدة عند قراءة آيات العزائم او الاستماع إليها «1» فنفس

______________________________

(1)- و لو من الاذاعات و المكبّرات مباشرة دون المسجّلات لعدم صدق القراءة و إن صدق الاستماع. بل و حتي من المسجّلات.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 94

آياتها تدل عليه في مواضعها الأربعة، و هي:

1- عند قوله تعالي: إِنَّمٰا يُؤْمِنُ بِآيٰاتِنَا الَّذِينَ إِذٰا ذُكِّرُوا بِهٰا خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لٰا يَسْتَكْبِرُونَ. (السجدة [32] الآية 15)

2- و قوله تعالي: وَ مِنْ آيٰاتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهٰارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لٰا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لٰا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلّٰهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ.

(فصلّت [41] الآية 37)

3- و قوله تعالي: فَاسْجُدُوا لِلّٰهِ وَ اعْبُدُوا. (النجم [52] الآية 62)

4- و قوله تعالي: كَلّٰا لٰا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ. (العلق [96] الآية 19)

فان الأمر بالسجدة صريح، و تبين آيات السجدة انحصار المؤمن فيمن يخرّ له ساجدا عند ذكرها او من يذكّره بها دليل علي الوجوب لتحقق توجيه الخطاب بالقراءة او الاستماع و لا يلزم التصريح به عند قراءة الآية نفسها او الاستماع إليها.

و الظاهر وجوب السجدة عند استماع تلك الآيات من مثل الراديو أيضا اذا أذيعت بصورة مباشرة، او من المسجلات لصدق التذكّر و الاستماع، بخلاف وجوب الانصات و الاستماع لعدم صدق القراءة اذا اذيعت من المسجّل إلّا ان يقال بعدم انفكاك التذكّر عن التذكير «1» و هو مثل القراءة لا يصدق عليه، و الاحتياط

يقتضي عدم الترك.

و اما في غير تلك الآيات الأربع، فسياقها يرشد الي الاستحباب، فانها تخبر عن سجدة الملائكة، و الذين عند ربهم، و من في السماوات و الأرض بل و ما في السماوات و ما في الأرض او الذين أوتوا العلم من قبل ممن أنعم الله عليهم و أنهم

______________________________

(1)- إلا ان ذكر الفعل مجهولا يقتضي العموم، حتي التذكّر من مثل الخسوف و الكسوف و الزلزلة، بل كل شي ء أمعن فيه النظر، فكيف بالمسجلات (آلات تسجيل الصوت) و استماع الآيات اللفظية منها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 95

لا يستكبرون «1»، أو يخبر عن تنفّر الذين اذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن قالوا:

و ما الرحمن، و عن قوم كانوا يسجدون للشمس من دون اللّه «2»، و ذمّ الآخرين بأنه:

فَمٰا لَهُمْ لٰا يُؤْمِنُونَ* وَ إِذٰا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لٰا يَسْجُدُونَ (الانشقاق [84] الآية 20 و 21). و اما آية آخر سورة الحج فقد عرفت أنها راجعة الي الصلاة و لا ترتبط بالمقام كما لا ترتبط آية (سورة ص [38]- 24).

و من المعلوم أنه لا يجوز قراءة سور العزائم (المشتملة علي آيات السجدة الواجبة عند قراءتها و استماعها) في الصلاة لتنافيها صورتها، و قد أوضحت السنّة المباركة الأمر بحمد اللّه تعالي.

الفروع المستفادة من الآيات:

الأول: يجب علي كل مسلم قراءة ما تيسّر له من القرآن، و حيث ان ذلك يمتثل بقراءة الفاتحة و سورة تامة بعدها في ركعات الصلاة فالزائد عنه مسنون مؤكد لا ينبغي التساهل فيه.

الثاني: لا بد من الترتيل و إقراع القلب مضامين الآيات، و التأمّل و التأني حال قراءة القرآن.

______________________________

(1)- قال تعالي:

«إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لٰا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ» (الاعراف [7] الآية 206).

«وَ لِلّٰهِ يَسْجُدُ مَنْ

فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلٰالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصٰالِ» (الرعد [13] الآية 15).

«أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّٰهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ …» (الحج [22] الآية 18).

«وَ لِلّٰهِ يَسْجُدُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ مِنْ دٰابَّةٍ وَ الْمَلٰائِكَةُ وَ هُمْ لٰا يَسْتَكْبِرُونَ» (النحل [16] الآية 49).

«إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذٰا يُتْليٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ سُجَّداً» (الاسراء [17] الآية 107).

«أُولٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ … إِذٰا تُتْليٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُ الرَّحْمٰنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا» (مريم [19] الآية 58).

(2)- «وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمٰنِ قٰالُوا: وَ مَا الرَّحْمٰنُ أَ نَسْجُدُ لِمٰا تَأْمُرُنٰا وَ زٰادَهُمْ نُفُوراً» (الفرقان [25] الآية 60).

وَجَدْتُهٰا وَ قَوْمَهٰا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّٰهِ … أَلّٰا يَسْجُدُوا لِلّٰهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ …» (النمل [27] الآية 24 و 25).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 96

الثالث: لا بد من الاستعاذة باللّه من الشيطان الرجيم عند إرادة قراءة القرآن.

الرابع: لا بد من السكوت و الاستماع الي القرآن و التنبه الي مفاهيمه حين قراءة الغير.

الخامس: يجب السجدة عند قراءة الآيات الآمرة به بأيّ لسان، أو عند استماعها و هي في مواضع أربعة: الم سورة السجدة، فصلت، النجم، و العلق، و يستحب في سائر المواضع العشرة التي ذكرناها؛ و لذلك لا يجوز قراءة سور العزائم في الصلاة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 97

الفصل السابع: في الجهر و الإخفات

قال تعالي: قُلِ ادْعُوا اللّٰهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمٰنَ أَيًّا مٰا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنيٰ وَ لٰا تَجْهَرْ بِصَلٰاتِكَ وَ لٰا تُخٰافِتْ بِهٰا وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلًا. (الاسراء [17] الآية 110]

سياق الآية يوضح وجوب رعاية الاعتدال في

الصوت حال الصلاة، بان لا يرتفع الصوت كمن ينادي بعيدا جهارا، و لا يخفت كمن يناجي نفسه و يحاكيها «1»، بل عليه ان يبتغي بين ذلك سبيلا واحدا معتدلا.

و هذا يحتمل معنيين:

الاول- انه لا بد للمصلّي في تمام صلواته من اذكار أو قراءة ان لا يجهر فيها و لا يخافت اي يكون صوته متوسطا معتدلا ممنوعا عن الافراط و التفريط.

الثاني- بعد الفراغ من اثبات وجوب الجهر في بعض الصلوات كالصبح و العشاءين مثلا «2»، و الاخفات في البعض الآخر كالظهرين في تمام اذكارها و قراءاتها،

______________________________

(1)- عن المفردات: الخفت و المخافتة اسرار المنطق، و السنّة المباركة فسّرت الجهر باسماع البعيد و الاخفات بأن لا يسمع أدناه أو من معه (كما في روايات الباب/ 33 من أبواب الصلاة/ الوسائل).

(2)- الظاهر انه لا خلاف بين الاصحاب في عدم وجوب شي ء من الجهر أو الاخفات في غير القراءة من الأذكار، كما يدل عليه أيضا صراحة الروايات المنقولة كصحيحة ابن يقطين عن أبي الحسن موسي (عليه السّلام)، انه قال سألته عن التشهد و القول في الركوع و السجود و القنوت للرجل ان يجهر به؟ قال (عليه السّلام) «ان شاء جهر به و ان شاء لم يجهر»، و مثله صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السّلام) الباب/ 20 من أبواب القنوت/ الرواية 1 و 2.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 98

او في بعض منها كالقراءة مثلا في السنّة المباركة، كما ثبت أصل القراءة فيها به، فانها تحكم بابتغاء سبيل الوسط في الجهر فيما يكون حكمه جهرا، و في الاخفات كذلك منعا عن الافراط و التفريط فيهما و لا تدل علي شي ء في وجوبهما «1».

و أساس الاستدلال في المقام

صحاح ثلاث:

الاولي: ما تدل علي عدم الوجوب، و هي صحيحة علي بن جعفر عن اخيه موسي بن جعفر (عليه السّلام)، قال: سألته عن الرجل يصلّي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة، هل عليه ان لا يجهر؟ قال: «ان شاء جهر و ان شاء لم يفعل» (الباب 25/ الحديث 6/ الوسائل/ القراءة في الصلاة). و ظهوره في التخيير و عدم الوجوب مما لا ينكر.

الثانية و الثالثة: صحيحتا زرارة الدالتان علي الوجوب منطوقا و مفهوما، ففي الاولي عن زرارة عن ابي جعفر (عليه السّلام) في من جهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه، و أخفي فيما لا ينبغي الاخفاء فيه، فقال: أيّ ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته، و عليه الاعادة، فان فعل ذلك ناسيا أو ساهيا او لا يدري فلا شي ء عليه، و قد تمت صلاته، و في الثانية قريب منه … الي قوله: فقال: أيّ ذلك فعل ناسيا أو ساهيا فلا شي ء عليه.

(الباب 26/ الرواية 1 و 2 من الابواب، الوسائل). و ظهورهما في الوجوب أيضا مما لا كلام فيه.

فعن الشيخ (رحمه اللّه)- و من حذا حذوه- حمل الاولي علي التقية، و عن غيره طرحه بعنوان عدم عمل الأصحاب به، و وجود الاجماع، او ادعائه علي خلافه، و الأخذ بالأخيرتين و الحكم بالوجوب، و عن الآخرين حمل الأخيرتين علي الاستحباب، و رفع اليد عن ظهورهما بصراحته كما عن المجلسي (رحمه اللّه) في البحار، علي ما حكي عنه، بعد عدم الاجماع، و لا طرح، و قد أفتي به الاسكافي و المرتضي

______________________________

(1)- راجع روايات الباب/ 25 القراءة في الصلاة من الرسائل/ ج 4/ الباب 26.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 99

و ابن جنيد، و من المتأخرين الفاضل الجواد في

مسالكه و المحقق الاردبيلي في زبدة البيان.

و من المعلوم ان حمل الاخيرتين علي الاستحباب لا يكون اسهل من حمل الاولي علي التقية، أو قبول طرحها لدي الأصحاب، و علي منظرنا الافتاء و التمسك به عن جمع من الأصحاب حتي من المحقق المقدس، كما نري فتوي المشهور بالوجوب و العمل بالاخيرتين.

و اما مداومة النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) علي مفاد الاخيرتين مضافا الي قوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم):

«صلّوا كما رأيتموني أصلّي» فلا يصلح بيانا للآية- كما عن الفاضل المقداد (رحمه اللّه)- او ترجيحا للرواية أو للاستدلال- كما عن غيره- لاشتمال صلاته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) علي المندوب أيضا.

و المسألة مشكلة لا تصل النوبة الي الأصل بعد وجود الدليل في الطرفين بحيث لا يتم طرح احدهما بالكل، و لا سبيل للجمع المقبول العرفي، و لا وجه للحمل علي التقية او الاستحباب، و الاحتياط في العمل طريق النجاة، كما في الافتاء، و لذلك تري من قول المقدس (رحمه اللّه) ما نقلنا.

و كيف كان، لا اشكال في ان موضوع ذلك البحث القراءة لا مطلق الأذكار كما هو صريح الصحيحة الاولي و سائر روايات الباب.

و حيث ان السنّة المباركة خصّصتهما بالقراءة دون سائر الاذكار، فالآية تنطبق عليها مع الاستفادة من المعني الاول أيضا بابتغاء سبيل الوسط في كل صوت صلاتي، و في كل صلاة مع الجهر في الجهرية و الاخفاف في الاخفاتية، و في مثل المقامات يظهر الافتقار الشديد الي السنّة بوضوح.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 100

الفصل الثامن: في القصر و التمام

قال تعالي: وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكٰافِرِينَ كٰانُوا لَكُمْ

عَدُوًّا مُبِيناً.

(النساء [4] الآية 101)

الضرب في الارض السير عليها «1» و قد جعل شرطا لتقصير الصلاة رخصة لظهور «لا جناح» فالمعني جواز تقصير الصلاة في السفر اجمالا، الّا أن استعمال هيئة «لا جناح» و أراد العزيمة بعضا لا سيما في السنّة المباركة، و لا سيما بعد عمل الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من التقصير في السفر دائما فانه يوجب الاطمئنان بإرادة الوجوب و العزيمة، و ان لم يستعمل في كتاب الله تعالي بهذا المعني أصلا، و إرادة الوجوب في آية الحج مثل للقيام بدليل خارج «2».

فانك تري موارد استعمال لٰا جُنٰاحَ او لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ في الكتاب الكريم استعمل بكثرتها المتجاوز عن عشرين في الجواز، و نفي البأس الظاهر في انه

______________________________

(1)- و الظاهر انه لا يصدق علي من يعيش في البلاد الكبيرة اذا خرج من بيته الي نقطة نائية من البلد تستغرق المسافة فانه لا يقال عنه عرفا انه سافر.

(2)- كما يشعر بل يدل عليه تعبير الفقيهين زرارة و محمد بن مسلم في قولهما للامام (عليه السّلام): (انما قال الله «فليس عليكم جناح» و لم يقل: افعلوا. فكيف اوجب ذلك)، الحديث- الي استدلال الامام (عليه السّلام) للمتأملين بصنع رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله)، راجع تمام الحديث في مجمع البيان/ ج 3 ص 101 و شطرا منه في الوسائل/ الرواية 4/ الباب 17/ صلاة المسافر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 101

معناه، نعم في قوله تعالي: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا (البقرة [2] الآية 158) اريد منه الوجوب، اما انه معناه الحقيقي، ففيه كلام، ألا تري لحن الفقيهين العظيمين زرارة و محمد بن مسلم مع الامام (عليه

السّلام) في إرادة الوجوب و العزيمة من المقام و تمسّكه (عليه السّلام) بآية الحج و العمرة، ثم تثبت المراد بعمل النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) دون معني اللفظ و مع ذلك سؤالهما عن التخلف، و انه هل عليه الاعادة؟ و كذلك لحن الجواب الأخير من قراءة الآية عليه و تفسيره له، دون الاكتفاء بها، فان ذلك كله بيان للمراد لا معني اللفظ حتي يراد في كل مقام، فانظر الحديث بلفظه، تعرف ما ذكرنا. (مجمع البيان/ ج 3/ ص 101/ ذيل الآية و شطرا منه في الوسائل/ الرواية/ 2/ الباب/ 22 و الرواية/ 4 الباب/ 17، من أبواب صلاة المسافر).

الّا أن ذيل الآية و لا سيّما مع ملاحظة الآية اللاحقة النازلة في صلاة الخوف حال الحرب يقلب اطلاق ظهورها الي التعليق و التقييد بخوف الفتنة من الكفار و هم عدو مبين.

فاذا كان في السفر الخوف من العدو- علي الأكثر بتنقيح المناط و تناسب الحكم و الموضوع- فالخوف من كل شي ء كالسبع و ترك الرفقة و ما شابهها، مما يتفق في السفر طبيعيا يوجب التقصير، و اما مع الأمن كما في كثير من اسفار اليوم و لا سيما مع السيارات الخصوصية، او ان المسافر تام الاختيار مأمون الطريق فلا.

و لكن الظاهر ان ذلك حكمة في التشريع، لا علّة، و ضيق الحكمة لا ينافي سعة المشروع، كما في وجوب تحفّظ ذات العدة من النساء تحفظا حكمة، فلا يكون خوف الفتنة شرطا و تعليقا و الّا كان الحق تقديمه بأن يقال: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا حال الضرب في الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ، لا بيان الحكم علي الاطلاق أولا، ثم ذكر

ذلك مشيرا الي الوجه في التشريع، و ان كان قد تتأخر اداة الشرط أيضا، الّا ان المقام استظهار لا استدلال مع امكان ورود القيد مورد

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 102

الغالب هذا. و لكن مع ذلك كلّه، عندنا وجه آخر، و هو أن السفر بطبعه- الي اي مكان كان و مع أيّة وسيلة- فيه اضطراب و قلق، و بتعبير آخر ان السفر ماهيّة تلازم فقد الاطمئنان و السكينة التي يحسّهما الانسان في وطنه و مسكنه و بين اسرته، كما هو كذلك عند ما يكون في بلد آخر و هو لا يعلم زمان اقامته، أ هي يوم أو أيام، و لذلك قيل في السفر: انه قطعة من سقر.

و يجد الانسان تلك السكينة و الاطمئنان و هو في وطنه و بمرتبة منه و هو في بلد آخر عند ما ينوي الاقامة فيه مدة أقلها عشرة أيام، و بهذا فقد منّ الله تعالي علي عباده في تقصير الصلاة حال السفر، حيث ان المسافر يفقد الاطمئنان المؤثر في صلاته بوجه أقرب، و التمام حينما يجده بشهوده الوطن أو قصده الاقامة مدة في بلد آخر، و لعل ذلك هو ملاك خوف الفتنة فيعمّ.

و اما تأييد البحث أو الاشكال بالآية اللاحقة، فهو ذو كلام طويل في مسألة السياق، و قد أشبعنا البحث فيها لدي الكلام في آية التطهير و الولاية و أمثالهما في بعض مباحثنا التفسيرية، و قلنا بعدم الاتكال علي السياق الّا بمقدار تقتضيه طبيعة البحث و وحدة الكلام من ارتباط بعضه ببعض كما بيّنا.

هذا و اما استفادة باقي الخصوصيات من حدود السفر و شرائطه و موارد التخيير و غيرها من زوايا الآية فهو علي ضوء السنّة أو بصراحتها، و من

هنا يتّضح مدي الافتقار الي السنّة المباركة و عدم صحة القول بكفاية الكتاب بوضوح.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 103

الفصل التاسع: صلاة الخوف

اشارة

قال تعالي:

وَ إِذٰا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلٰاةَ فَلْتَقُمْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَإِذٰا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرٰائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طٰائِفَةٌ أُخْريٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وٰاحِدَةً وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كٰانَ بِكُمْ أَذيً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ أَعَدَّ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰاباً مُهِيناً* فَإِذٰا قَضَيْتُمُ الصَّلٰاةَ فَاذْكُرُوا اللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَليٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ إِنَّ الصَّلٰاةَ كٰانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً.

(النساء [4] 102 الآية 103)

الآيتان تفيدان أولا: ان الصلاة كانت تقام جماعة كما كانت تقام فرادي، و كان يؤمّهم رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) كما كان يؤمّهم غيره في الحضر و السفر في حال الحرب و غيره، فلم تكن تترك بحال.

فاذا كان رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) مع المجاهدين في سبيل الله و أقام لهم الصلاة، و الصلاة معه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أفضل؛ فان اقتدوا بأجمعهم، سوف يتركون حذرهم و أسلحتهم، عند ذلك سيهجم عليهم العدو من الذين كفروا، و يشنّون عليهم الغارة، و ان اقتدي بعض دون بعض فالتبعيض لا يخلو من شي ء، فأنزل الله تعالي خطابه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 104

علي رسوله (صلّي اللّه عليه و آله): اذا كنت فيهم في ساحة الحرب و الجهاد، و حضرتكم الصلاة فقسّمهم الي طائفتين، فالطائفة الاولي يصلّون معك و الطائفة الثانية تكون محافظة

و مراقبة لحركات العدو، و يجب علي الطائفتين حمل السلاح و أخذ الحذر، فلتصلّ الطائفة الاولي معك الركعة الاولي و لينفردوا و يتمّوا صلاتهم فرادي و يحلّوا محل الطائفة الثانية للمحافظة و مراقبة العدو، و لتأت الطائفة الثانية الذين لم يصلّوا فليصلّوا معك الركعة الثانية و يتموا صلاتهم فرادي كما عملت الطائفة الأولي.

هكذا يصلّي المجاهدون حال الحرب جميعا، حتي لا يميل عليهم الذين كفروا ميلة واحدة و لكي يدركوا بأجمعهم في نفس الوقت فضل الصلاة مع النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم).

و في المقام فروع:

الأول: انه لا اشكال في جواز وضع الاسلحة مع أخذ الحذر، إن كان في بدن المسلم المجاهد أذي، أو أن الجوّ لا يساعد علي ذلك كوجود المطر أو الرياح و أمثالها، كما صرّح به قوله تعالي: وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كٰانَ بِكُمْ أَذيً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ.

و من المعلوم أن هذا و أمثاله أمر عقلائيّ، تتغيّر أشكاله بتغيّر شرائط الجوّ و المجال زمانا و مكانا، مع اختلاف أشكال الاسلحة و أنواعها بريا و بحريا أرضيا و جويا، كما ان أساس البحث هو التحفّظ و المراقبة الشديدة في الحرب من أخذ الحذر و الاسلحة، و هو أمر عقلائي ينتج معه عدم ترك الصلاة بحال تشريع صلاة الخوف.

الثاني: إن الخطاب و إن كان متوجها الي رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، الّا أن التكليف لا يختص به، بل كان لإمارته و إمامته، فهو متحقق مع كل أمير و امام يتصدي لشئون الحرب، و يؤمّهم في صلواتهم علي مقتضي بقاء التكليف بالصلاة، و انها لا تترك

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 105

بحال، و وجوب

الحرب لدي شرائطه.

الثالث: لا فرق في ذلك بين أن تكون الحرب جهادا مع تحقق شروطه أو دفاعا، فهو الواجب علي المسلمين دون بلادهم و معارفهم و حضارتهم و جميع شئون حياتهم في كل زمان و مكان كما أثبتناه في كتاب الجهاد من مباحثنا الفقهية، و سيأتي في باب الجهاد في هذا الكتاب ان شاء الله.

الرابع: ان صلاة الخوف بكيفيتها لا تكون الّا حال اشتعال نائرة الحرب و تقابل الصفّين لا قبلها و لا بعدها، كما صرّح بذلك قوله تعالي: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ.

الخامس: ان ذلك يجب مع امكان انقسام المجاهدين الي طائفتين حسب تعداد العسكر و المعسكر، و اما مع قلّتهم بحيث لم تكن الطائفة التي من ورائهم كافية، أو لم يساعد المكان للانقسام مع الحفاظ علي مصالح الاسلام و المسلمين في الحرب فلا، و حينئذ ينقلب التكليف الي صلاة المضطر، حسب مراتب العذر بعد عدم التمكّن من الصلاة فرادي كاملة الي تبديل كل ركعة بذكر و تسبيح، بل بالتوجه إليه تعالي دون تكلّم كما في الغرقي.

السادس: انه لا فرق في الحكم بين أشكال الحرب و المواضع المأخوذة، و الاسلحة التي يحارب بها قديما و حديثا مشاة أو جويا أو بحريا، فانه لا تكلّف نفس الّا وسعها، و الضرورات تقدر بقدرها، فكلما أمكن أتي بها، و الّا يتبدل حسب مراتب الامكان كما عرفت.

السابع: ان القصر الجائز في مطلق الخوف و لو للخوف من سبع أو لص يعمّ الكمّ أيضا، و قد تتبدل الصلاة الي ذكر، كما يصرّح بذلك قوله تعالي: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجٰالًا أَوْ رُكْبٰاناً فَإِذٰا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّٰهَ كَمٰا عَلَّمَكُمْ مٰا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ بعد قوله تعالي: حٰافِظُوا عَلَي الصَّلَوٰاتِ وَ الصَّلٰاةِ الْوُسْطيٰ وَ

قُومُوا لِلّٰهِ قٰانِتِينَ.

(البقرة [2] الآية 238- 239)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 106

تدل الآية الكريمة علي أن الخوف مطلق، و لو من لص أو سبع، فهو من عوامل التقصير حتي في كيفيات الصلاة من ترك القيام مثلا ركبانا، بمعني أن الصلاة لا تترك بحال، و الحالات توجب التخفيف الي أن تتبدل الركعة الي ذكر (ذكر الله) كما فصّل في السنّة المباركة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 107

الفصل العاشر: صلاة الجمعة

قال تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِليٰ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* فَإِذٰا قُضِيَتِ الصَّلٰاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً قُلْ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجٰارَةِ وَ اللّٰهُ خَيْرُ الرّٰازِقِينَ.

(الجمعة [62] الآية 9- 11)

الآيات تكشف عن وجود شعار أسبوعي اسلامي في كل جمعة، و أن علي المسلمين تعظيمه وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ كما أنها تكشف عن واقع كان في زمن النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و هو ان بعض المؤمنين كانوا لا يراعون حق هذا الشعار، حيث انهم إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهٰا و تركوا النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) قائما في الصلاة ليوم الجمعة رغبة الي المعاملة و التجارة، و اجابة للنداء عليها باللهو، كما كان متعارفا بينهم مع أن ما عند الله خير و هو خير الرازقين.

فخاطبهم الله تعالي بقوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِليٰ ذِكْرِ اللّٰهِ من الصلاة و ذروا البيع و

الشراء، فان ذلك خير لكم ممّا تعملون من ترك الصلاة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 108

و الانفضاض الي اللهو و التجارة، إن كنتم تعلمون، فاسعوا الي الصلاة، و اصبروا حتي تتم الصلاة و تنقضي، فاذا قضيت فانتشروا في الأرض، و ابتغوا الوسيلة من فضل الله و السعي الجميل في الاكتساب و التجارة بذكر الله، و انه تعالي هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ و هو خير الرازقين.

و لعلّكم تفلحون بالجمع بين الصلاة و الاكتساب، و الاهتمام بأمور الدنيا و الآخرة، كل في محله مع ذكر الله تعالي كثيرا.

كل ذلك يفيد أن أصل وجود ذلك الشعار الاسبوعي- و هو صلاة الجمعة- بشروطها في زمن النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) قد وجبت بدليل لا نعرفه، من غير دلالة علي الوجوب و التشريع، فلا بدّ من التماس دليل آخر للوجوب و وجود الشروط إماما و مأموما، وقتا و عددا من السنّة المباركة العملية و القولية، المستفاد منها أنها من شئون الامام (عليه السّلام) و المنصوب من قبله، و كأنها من شئون الحاكم الاسلامي و مراتب الحكومة الاسلامية، و اطلاق أدلة النيابة أو تقييدها علي ما هو المبسوط في محله دخيل في الحكم، و تمام الكلام في رسالتنا «صلاة الجمعة» من الجواز تخييرا، و الترديد في كفايتها عن الظهر، فالأحوط الإتيان به مع الاتيان بها.

و أما دلالة الآية علي حرمة البيع وضعا بمعني بطلانه، أو تكليفا بمعني اقتراف الذنب مع صحة النقل أو كلاهما وقت النداء اذا نودي للصلاة، ففيه كلام، فان الامر بترك البيع و وضعه تأكيد للأمر بالسعي الي الصلاة من غير اختصاص، و المعني ترك كل اشتغال دنيوي و السعي الي الصلاة حال النداء، و

أما من ترك الصلاة حتي مع وجوبها و وجود شروطها، فانه قد ارتطم في الحرام، و تخلّف عن الأمر، و ترك الواجب، فلا وجه لفساد ما أتي به من بيع و تجارة، بل لا وجه لحرمته، و ان قلنا باقتضاء الامر بالشي ء النهي عن تركه، فان الامر بالترك في المقام هو عين النهي الحاصل من الأمر بالسعي الي الصلاة و التأكيد الشرعي للتأكيد العقلي، و لا ينافي صحة أمر وضعي آخر، بل تكليفي غير أهم، فكيف المباح؟ كما فصّل في مسألة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 109

الترتّب، و تمام الكلام في الأصول.

ثم انك تعلم أن صلاة الجمعة تختلف عن غيرها بأمور كثيرة من ناحية الشروط و الكيفية و وجوب الخطبتين فيها، و لم يذكر في الكتاب عن شي ء منها، و قد فصّلتها السنّة المباركة، من هذا و غيره يتضح تلازمهما، و ان الهداية و النجاة لا يمكن الحصول عليهما الّا بالتمسّك بهما، كما ان التمسّك بقوله تعالي: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّٰي وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّٰي (الاعلي [87] الآية 14 و 15). و قوله تعالي: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (الكوثر [108] الآية 2)- علي صلاة العيدين- لو لا السنّة المباركة غير تام، و لا بد من التطبيق لا التفسير فحسب، و الدليل روايات الباب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 110

الفصل الحادي عشر: صلاة الجماعة

قد عرفت من صراحة آيات الجمعة أنها كانت تقام جماعة بامامة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في زمن حياته، و كان المصلّون اذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها، و تركوا امامهم قائما في الصلاة أو حال الخطبة، فنهوا عن ذلك و أمروا بالبقاء مع الجماعة، كما كان ذلك صريحا في آيات صلاة الخوف،

و انها أيضا كانت تقام جماعة، و لا بد أن يكون كذلك مع امام هو أمير الجيش.

و من المعلوم أنها لم تكن مختصة بهما، بل الصلاة اليومية أيضا كانت تقام جماعة من أول يوم، يوم لم يكن مع الرسول الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الّا علي (عليه السّلام) و خديجة (عليها السّلام) و المسلمون كانوا يتعلّمون الصلاة بعمل الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) جماعة، كما يشير إليه قوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» «1».

و كيف كان، فما يمكن أن يستدلّ به لذلك آيات:

الأولي- قوله تعالي: وَ إِذٰا نٰادَيْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ اتَّخَذُوهٰا هُزُواً وَ لَعِباً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لٰا يَعْقِلُونَ. (المائدة [5] الآية 58)

فهذه الآية و ان كانت في سياق النهي عن اتخاذ الكفار و المنافقين أولياء- كما سيأتي الحديث عنه في كتاب المحرّمات، ان شاء الله- الّا أنها تدلّ علي أن من الموارد التي كان يتّخذها الذين أوتوا الكتاب من اليهود و النصاري و كذلك الكفار هزوا، و كانوا يسخرون من المسلمين، عند النداء الي الصلاة. فكانوا يضحكون

______________________________

(1)- البحار: ج 85 ص 279.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 111

و يقولون هزلا حينما يسمعون المنادي ينادي المسلمين ليجتمعوا الي الصلاة.

و ظاهر الاطلاق ان النداء هذا لم يكن في يوم خاص و لصلاة خاصة، كما في يوم الجمعة، بل في كل يوم و لكل صلاة، و حيث ان صلاة الفرادي في المسجد أو غيره لا معني لها في نداء الآخرين إليها، و انما كان ذلك نداء للجماعة، و لمّا لم يكن بعد ذلك النداء أمر بالسعي إليها، كما فيما اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فتكون

بذاتها مستحبة.

و أما لفظ ذلك النداء الي الصلاة في كل يوم، و كذا في يوم الجمعة فهو «حيّ علي الصلاة، و حيّ علي الفلاح، و حيّ علي خير العمل» صراحة و كناية، فانها أبلغ، مسبوقا بالتكبير و الشهادة للتهيؤ و التناسب و ملحوقا بالتهليل كذلك، و الإخبار بأنه قد قامت الصلاة كلها مكررا ليتمّ النداء و يسمع كل أحد، أو بغير ذلك، فلا يعلم من الآية شي ء.

نعم بعد ما علمنا ذلك كله من طريق السنّة المباركة، ينطبق علي الأذان بفصوله المفصولة و تقسيمه الي اعلاميّ: و هو الأذان، و تهيئي: و هو الاقامة فيها: «قد قامت الصلاة»، و كل منهما عباديّ يحتاج الي القربة، و ان كان يتحصل الغرض بدونها، و غير ذلك من الجهات مما هو خارج عن وضع الرسالة يلتمس من السنّة.

الثانية- قوله تعالي: أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّٰاكِعِينَ.

(البقرة [2] الآية 43)

و التقريب ان الركوع مع الراكعين بعد الأمر بالصلاة لا يناسب الّا الجماعة، فان المعيّة في الخضوع مع الخاضعين حفظا لظهور معني الركوع فيه مما لا يخفي «1»، و ذكر الركوع- بعد- أنه أول ركن عمليّ اشارة الي أن ادراك الجماعة و الالتحاق بها لا يكون الّا بعد صدق الركوع مع الراكعين.

______________________________

(1)- فان معناه الانحناء لغة و استعماله في الخضوع يحتاج الي عناية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 112

هذا و لكن الانصاف انه لو كنا و الآية من غير ما نعلم من السنّة و الضرورة في صلاة الجماعة فانه لا يتمّ الاستدلال بها علي المطلوب، و لا سيما بعد ملاحظة السياق و توجيه الخطاب نحو بني اسرائيل الذين لم يكن في صلاتهم ركوع، فيرجع المعني- و الله أعلم- الي

الأمر بمعيتهم المسلمين «1».

الثالثة- قوله تعالي: وَ إِذٰا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. (الأعراف [7] الآية 204)

و التقريب انه لا يجب السكوت و الاستماع عند قراءة القرآن الّا في الجماعة حال استماع المأموم في الجهرية من الصلاة، و بتقريب آخر لا اشكال في ظهور الأمر بالسكوت و الاستماع حال قراءة القرآن في الوجوب و مورده صلاة الجماعة مؤيدا بقيد الغدوّ و الآصال في الآية التالية المساعدة لصلاة الفجر و العشاءين.

و الظاهر أن كلا التقريبين واحد، و لا يثمر و لا يغني من شي ء لو لا السنّة المباركة، فانّ الاول: مصادرة «2» بفرض ثبوت الجماعة في صغري الاستدلال دون اثبات تشريعها، و الأكثر الوجوب بعد الفراغ عن المشروعية من غير وجه لاختصاصه بها.

و الثاني: استدلال بشأن النزول، المورد المنقول عن العامة، لا بالآية، و هو لا يخصّص، و اطلاق الأمر يقتضي الوجوب مطلقا «3».

فلا يساعد القراءة في صلاة الجماعة للمأموم و لا يجوز له مع صدق الموضوع في الجهرية و ان أجاز المحقق (قدّس سرّه) في زبدته لتعدد العنوان و امكان الجمع، و أنت تعلم ما في الثاني.

______________________________

(1)- و ذلك بأن تقول ان المأمور به معيّتهم حتي في الركوع مع الراكعين و الصلاة جماعة فتدلّ علي المطلوب أيضا فتوجّه.

(2)- و ذلك بأن تقول: لم يقع في شي ء من كلمات الأصحاب الاستدلال بالآية علي أصل الجماعة ليكون مصادرة بل علي وجوب الاستماع فيها.

(3)- قال الامام الصادق (عليه السّلام) المراد استحباب الاستماع في الصلاة و غيرها. (تفسير العياشي ج 2 ص 144/ رقم 131).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 113

الفصل الثاني عشر: صلاة الميّت

اشارة

قال تعالي:

وَ لٰا تُصَلِّ عَليٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَ لٰا تَقُمْ عَليٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا

بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ مٰاتُوا وَ هُمْ فٰاسِقُونَ وَ لٰا تُعْجِبْكَ أَمْوٰالُهُمْ وَ أَوْلٰادُهُمْ إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهٰا فِي الدُّنْيٰا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كٰافِرُونَ. (التوبة [9] الآية 84 و 85)

اذا مات الانسان صار مطروحا بين يدي الناس، لا يقدر علي شي ء كأنه يسترحم من كل أحد و من نظام الخلقة، و بالنهاية من الخالق الذي بيده الموت و الحياة و النشور و هو علي كل شي ء قدير، و عندئذ يترحم عليه الآخرون و لا سيما الأقربين من الأصدقاء و المعاشرين، و لا سيما الأرحام و الأولاد، فانهم يشفقون عليه و هم متأثرون يتكلّمون عنه استرحاما عليه، و حيث لا يقدرون علي ارجاعه و إعادته و هم ينظرون إليه و قد قضي نحبه و غادرت نفسه الحلقوم، فيدعون له بالخير بالنسبة الي أجله في القبر و القيامة، اذا كان مؤمنا بالله و اليوم الآخر الذي يجمع فيه الأولون و الآخرون.

و ذلك في الجملة أمر طبيعي لا يحتاج الي مشروع، لكنه جعل في الاسلام واجبا كفائيا محدودا بحدود و كلمات كان يدعو و يصلّي بها رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و من معه علي جنائز المؤمنين.

و حيث ان نفسه الشريفة كانت رحمة للعالمين مشفقة علي الناس أجمعين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 114

و بذلك نالتهم من غير فضاضة و غلظة، عند ذلك نهاه الله تعالي عن الاستغفار و الترحّم للمنافقين، الذين يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم، الذين بخلوا بما آتاهم الله من فضله و تولّوا، و لقد عاهدوا الله من قبل لَئِنْ آتٰانٰا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصّٰالِحِينَ، المنافقين الذين

يلمزون المطوّعين من المؤمنين فيسخرون منهم، و في النهاية يفرحون بمقعدهم خلاف رسول الله، و كرهوا أن يجاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيله، فانهم بكفرهم و نفاقهم هذا لا يغفر لهم الله و إن استغفر الرسول لهم سبعين مرّة.

ثم شدّد النهي و أكّد الأمر بقوله تعالي: لٰا تُصَلِّ عَليٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً و لا تدعو حتي لميّتهم بالخير أصلا قبل دفنه، و حال مشاهدة جنازته أو بعده عند قبره، فانهم كفروا بالله و رسوله و ما زالوا علي كفرهم، و أصرّوا علي الحنث العظيم حتي ماتوا و هم فاسقون، فليس لك أن تترحّم عليهم و تدعو لهم و تصلّي علي ميّتهم، و لو كانوا من المترفين ذوي الثروة و القبيلة، ممن تعجبك أموالهم و أولادهم، فانه ليس ذلك بخير لهم، و انما يريد الله أن يعذّبهم بها في الدنيا حيث هم يهيمون فيها، و يتلهّون بها حتي تزهق أنفسهم و هم كافرون بالله تعالي و يوم القيامة، و لا بد و أن يكون ترحّمك و رأفتك و دعاؤك علي الميّت للمؤمنين بالله و برسالتك و بيوم القيامة، و كذا ترحمك لمجتمعهم أيضا، و لا بد من التبري و الانفصال عن الكفار و المنافقين و مجتمعهم، و تمام الكلام سيأتي في تولّي الكفار ان شاء الله.

ثم ان النهي عن الصلاة علي ميّتهم نهي عمّا كان (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يصلّي علي ميّت المؤمنين و كان بهم رحيما، و من المعلوم أن الّذي كان يصلّي به علي ميت المؤمنين غير سائر الصلوات ماهيّة، فان أصل ذلك دعاء للميت و استغفار له من الله الغفور الرحيم، و سائر الصلوات، مشروعة و مقربة، و معارج

يعلو بها العباد الي أسمي المقامات.

ثم ان الدعاء و الصلاة للميت يناسب ذكر الشهادة بالله تعالي و بوحدانيته، فانه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 115

الذي يغفر لمن يشاء و يعذّب من يشاء، و كذلك ذكر الشهادة بالرسالة، فانه بواسطتها اهتدي مجتمع المسلمين، و منهم المتوفي المدعو له، فيناسب الصلاة علي النبيّ و آله (عليهم الصلاة و السلام) كما يناسب الدعاء للمؤمنين و المؤمنات تحفّظا علي مسألة الاجتماع و التوجّه الي الجمع قبل الفرد، ثم الدعاء له، كل ذلك ليكون أقرب الي الاستجابة، و يمتاز كل فصل عن الآخر بشي ء أنسبه التكبير.

و عليه فيدعي للميت و يصلّي عليه بالشهادتين بعد التكبير، ثم الصلاة علي النبيّ و آله بعد التكبيرة الثانية، ثم الدعاء للمؤمنين و المؤمنات بعد الثالثة، ثم للمسجّي المطروح بين يدي الداعي المحتاج الي رحمة ربّه الغنيّ عن عذابه، فيطلب له الغفران و الرحمة بعد الرابعة ثم يكبّر و ينصرف.

و من المعلوم أن كيفية الصلاة علي الميت مستفادة من السنّة المباركة، كما انه لا دلالة في الآية الكريمة علي وجوب الصلاة و الدعاء و لو كفاية لو لا السنّة، الّا أنها تشعر الي أن النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) كما كان يدعو للميت و يصلّي عليه، كان يقوم علي القبور أيضا، و يدعو لهم، فتدلّ علي جواز مطلق الدعاء و الاستغفار للميت و جواز زيارة أهل القبور و الدعاء لهم، و المسألة أيضا مما تشير الي حدود الافتقار الي السنّة في بيان الأحكام.

فرع:

اذا فسق مسلم- بما ذكر في الآيات- مما يوجب الكفر أو الفسق فقهيا علي حدّه «1» فلا يجوز الصلاة علي جنازته و القيام علي قبره بالدعاء له، و اذا لم

يجز الدعاء للميت فعدم جواز الدعاء للحيّ- كائنا من كان- ظاهر.

______________________________

(1)- كما في الخوارج و الغلاة و المجسّمة لا كلّ فسق بعد الايمان باللّه و رسوله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 116

الفصل الثالث عشر: وجوب التسبيح

ان التسبيح «1» بحمد الله رب العالمين في آناء الليل و أطراف النهار قبل طلوع الشمس و ادبار النجوم و قبل غروبها حين المساء و حين الصباح مأمور به مرغوب فيه يقرّب الي الله تعالي، و يبعّد عن كل شرّ؛ و في المسألة آيات تتفرّق الي قسمين:

1- ما يأمر به مطلقا من غير تقييد بوقت و زمان.

2- و ما يطلبه في وقت دون وقت آخر.

و لا وجه للحمل و ارجاع الأول الي الثاني في المثبتين كما تعلم.

فللأول آيات تدلّ عليه:

الأولي- قوله تعالي: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَي* الَّذِي خَلَقَ فَسَوّٰي* وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَديٰ* … (الأعلي [87] الآية 1- 3)

الآيات كما تري توجب تسبيح الله الاعلي الذي خلق كل شي ء سويّا علي حدّه و قدره، و هو الذي هدي كل مقدور طريقه و مسلكه، فجعل كل موجود يسلك

______________________________

(1)- التسبيح هو التسريع في العبادة و السباحة فيها بذكر الله تعالي بأيّ وجه أقلّه ذكر: «سبحان الله و الحمد للّه و لا إله الّا الله و الله أكبر» ثم استعمل في عبادة خاصة تشتمل التنزيه، و نفي كل نقص عنه تعالي، أعظمه الشريك و الولد، قال تعالي: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلَّا اللّٰهُ لَفَسَدَتٰا فَسُبْحٰانَ اللّٰهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ» (الأنبياء [21] الآية 22)، وَ قٰالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمٰنُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ (السورة [21] الآية 26)، و لقد جمعنا آيات نفي الشرك و نفي الولد في رسالتنا: «أسس الايمان في القرآن» و

هي كثيرة فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 117

السبيل الي طريق الحق و ينتهي الي كماله، الذي خلق له من دون خيار له في ذلك، حتي لا يهوي و يضل عن السبيل.

فسبّح ذلك الرب … رب العالمين الذي لا يعزب عن ربوبيّته شي ء في الأرض و لا في السماء في الدنيا و لا في الآخرة، و كل شي ء مربوب دال علي الحكيم القدير، هاد الي الخبير البصير، و هو رب العالمين، و لعل ذلك معني قوله تعالي: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰاوٰاتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّٰا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لٰا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ و لا تدركون لسان حياتهم و وجودهم، فسبّح ذلك الرب الأعلي مطلقا و كلما أمكن لا سيما حال تذكر خلقه و نعمه.

الثانية- قوله تعالي: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ في مقامين من سورة الواقعة [56].

الأول- بعد ذكر نبذ من نعم الله تعالي، و بيان شمول قدرته و نفوذ ارادته فيما يحرث، و الماء الذي يشرب، و النار التي توري، و ان مقاليد ذلك كله بيده تعالي، و قد جعلها تذكرة و متاعا للمقوين، و حال التنبّه لذلك، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، و اذكره فيها و اعبده حتي يأتيك اليقين، فان بيده ملكوت كل شي ء، و له جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ.

الثاني- بعد ذكر الجنة و النار و ما معهما من النعيم و الجحيم، فقد أمر بالتسبيح باسم ربك العظيم، الذي جعل هذا هو الحق اليقين، و الذي أعطي من لطفه المؤمنين الروح و الريحان و جنة النعيم.

و الأمر في المقامين يعطي اللزوم حال التوجه الي الخلقة و عظمة الخالق و التذكر لنعمه و ألطافه تعالي، فسبحان الله رب العالمين.

الثالثة- قوله

تعالي: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. (الحاقّة [69] الآية 52)

الآية الكريمة تأمر أيضا بتسبيح الرب العظيم بعد ذكر الجنة و النار و توصيف

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 118

نبذ من نعيمها لمن أوتي كتابه بيمينه، و بيان نزولها لمن أوتي كتابه بشماله جعلنا الله و إياكم من أصحاب اليمين، بل بلطفه من السابقين ان شاء الله، و الأمر ذلك ظاهر في الوجوب حال تنبّه عظم خلقه و نفوذ قدرته و تذكّر نعمه و ألطافه.

الرابعة- قوله تعالي: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ وَ الْفَتْحُ وَ رَأَيْتَ النّٰاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّٰهِ أَفْوٰاجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كٰانَ تَوّٰاباً. النصر [110]

الأمر بالتسبيح مع حمد الرب تعالي واقع بعد ملاحظة نعم الله تعالي و أعظمها الفتح و النصر للمسلمين، و دخول الناس في الدين، و لا يختص الخطاب بالرسول الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) كما لا يختصّ بفتح مكة، فان المورد لا يخصص و الملاك تسبيحه تعالي حال التوجه الي نعمه.

الخامسة- قوله تعالي: إِنَّمٰا يُؤْمِنُ بِآيٰاتِنَا الَّذِينَ إِذٰا ذُكِّرُوا بِهٰا خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لٰا يَسْتَكْبِرُونَ. (السجدة [32] الآية 15)

ذكر التسبيح مع حمد الرب بعد السجدة عند تذكّر آيات الله تعالي بتذكير الآخرين، أو تذكّر نفسه من علائم الايمان، و لا سيما بعد أداة الحصر. و التأكيد بعدم الاستكبار يفيد درجة مطلوبيّة ذلك، و لعلة آكد من الأمر، و الحاصل: ان تلك الآيات الخمس تدل علي وجوب التسبيح كلما تذكر الانسان عظمة الخالق تعالي، و سريان ارادته و قدرته، و ان بيده مبدأ كل شي ء و منتهاه، و عنده خزائنه، و لا سيما الاعتراف عند نعمه و ألطافه

و عناياته بأن له الخلق و الأمر، و له جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ، و بيده مقاليدها، فسبحان الله العظيم ربنا و رب السماء و الأرض و ما بينهما رب العالمين. و الوجوب هذا غير مقيّد بزمان أو مكان، و الانسان بل كل موجود لا يغيب عن عناياته تعالي.

و للقسم الثاني المقيّد بوقت و زمان آيات تدل عليه أيضا:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 119

الأولي- قوله تعالي: فَاصْبِرْ عَليٰ مٰا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِهٰا وَ مِنْ آنٰاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرٰافَ النَّهٰارِ لَعَلَّكَ تَرْضيٰ.

(طه [20] الآية 130)

الآية في سياق مسألة النبوي و خطاب الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): بأنا مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقيٰ و تتعب نفسك حرصا علي هداية الناس، و ليس عليك إلّا البلاغ، و الله يهدي من يشاء، و يضلّ من يشاء، ثم بعد ذكر نبذ مما تحدّث بنو اسرائيل مع نبيّهم و انتهاء الكلام الي أن ذكر الله تعالي مأمن، و الأعراض عنه عمي، و من كان في هذه أعمي فهو في الآخرة أعمي، و يجاب عمّا يعترض بذلك بانك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسي.

فسياق الآية: أنها تأمر رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بالصبر علي مقالات السفهاء و الجهّال في طريق ارشادهم و هدايتهم، ثم التسبيح بحمد الرب في أوقات أربعة:

قبل طلوع الشمس: حين الصبح، و قبل غروبها: حين المساء، و من قطعات الليل و آنائه و أطراف النهار أوله و آخره، و وسطه الصبح و الظهر و العصر بحكم الجمع.

و أنت تعلم ان قبل طلوع الشمس من آناء الليل، و قبل غروبها من أطراف النهار، فالأمر

بمقتضي الجمع في الآناء و الأطراف يرجع الي أوقات ستة في كل من الليل و النهار ثلاثة، فالآية توجب التسبيح بحمد الرب في تلك الأوقات و لو بأقل مصاديقه و هو «سبحان ربي الأعلي أو العظيم و بحمده» كما هو ظاهر.

الثانية- قوله تعالي: فَسُبْحٰانَ اللّٰهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ، وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ.

(الروم [30] الآية 17 و 18)

الآية في سياق ذكر نبذ من تفكير الكفار و المنافقين و قطع من حالات العباد المؤمنين و ما يعملون و جزاء كل منهما في روضة يحبرون أو في عذاب يسجرون،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 120

تأمر بلسان الإخبار بتسبيح الله تعالي، و له الحمد حين تصبحون و حين تمسون و عشيا و حين تظهرون، و هي الأوقات الأربعة، و العشاء من أوائل آناء الليل، و حين تظهرون من أطراف النهار طرفاه حين تمسون و حين تصبحون. فقد ذكر في الآية أطراف النهار جميعا: الصبح و الظهر و المساء و من آناء الليل عشاءها فقط، و لا ينافي لزوم التسبيح في آنائها الأخري قبل طلوع الشمس كما دلّت عليه الآية السابقة، فان النهار ما بين طلوع الشمس و غروبها، كما هو ظاهر، و إطلاقه علي ما بين طلوع الفجر و غروب الشمس في مثل الصوم بدليل آخر من قوله تعالي: وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّٰي يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيٰامَ إِلَي اللَّيْلِ.

(البقرة (2)- 187) كما سيأتي بيانه ان شاء الله.

الثالثة- قوله تعالي: اصْبِرْ عَليٰ مٰا يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّٰابٌ* إِنّٰا سَخَّرْنَا الْجِبٰالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْرٰاقِ.

(ص [38] الآية

17 و 18)

الآية المباركة في سياق قريب من سابقتها أيضا، و هي تشير الي تفكير الذين كفروا و أنّهم في نخوة و شقاق قبال دعوة النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و انهم يتعجّبون ان جاءهم منذر منهم، ثم بيان هذه المشكلة، أنها كانت لسائر الأنبياء السالفين أيضا بأشكالها المتفاوتة. ففي المقام تأمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بالصبر علي ما يقوله الكفار من الانكار و التهمة بأنه ساحر كذّاب، و تحمّل ذلك و تسهيله علي النفس بتذكّر وضع داود النبيّ ذي القوة و الأيدي المشدد ملكه من قبل الله تعالي، و قد سخّر له الجبال يسبّحن معه في الوقتين: العشي و الإشراق، فكأنها تأمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بذلك فيهما صبرا علي المشاكل، كما كان داود (عليه السّلام) يفعل تحكيما لمسئوليته و تسهيلا لتحمّل المشاق في طريقها، فان الأمور بيد الله تعالي كلها، و سبحان الله العظيم و له الحمد في كل توفيق، و منه المدد علي كل عمل صالح و تخلّص عن المسئولية بتحقيق

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 121

الواجب كما هو.

و من المعلوم ان العشيّ قطعة من أوائل آناء الليل، و الاشراق أول قطعة من بكرة النهار، فقد ذكر أن أطراف النهار و آناء الليل أول كل منهما من غير انحصار كما هو ظاهر.

الرابعة- قوله تعالي: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّٰهِ حَقٌّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكٰارِ. «1» (المؤمن [40] الآية 55)

هذه الآية أيضا في سياق عرض مجادلة الكفّار في آيات الله تعالي و انكارهم الرسالة من قوم نوح و الاحزاب من بعدهم قوم موسي و عاد و ثمود و

محاججاتهم، و أنهم كانوا يريدون أن يدحضوا- بذلك- الحق، و الله تعالي يبطل الباطل و يحقّ الحق بكلماته و أنبيائه و كتبه، ثم توضيح وضع المؤمنين و الكفار في الجنة و النار بالتفصيل، و أن في ذلك اليوم لا ينفع الظالمين معذرتهم و لهم سوء الدار.

ففي المقام تأمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بالصبر و التحمّل قبال أقوالهم و أعمالهم مكافحة له و الغضّ عنه، و بالتسبيح بحمد الله تعالي في الوقتين أيضا في العشيّ من أوائل آناء الليل، و في الإبكار أي بكر النهار و أوله من أطرافه، فان أزمّة الامور بيد الله تعالي، و له جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ، و بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ و مَقٰالِيدُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ. فان تسبيح الله تعالي و تنزيهه عن كل ضعف و نقص، و التوجّه الي أن له الحمد و منه كل خير تذكرة توجب القوام و سهولة تحمّل المشاكل و المشاقّ في طريق دعوة الله و سبيل إنارة السبيل علي الذين عموا و صموا و ضلّوا عن الطريق، و المجادلون في آيات الله إن في صدورهم إلّا كبر ما هم ببالغيه، و لخلق السماوات و الارض أكبر.

______________________________

(1)- و مثل ذلك قوله تعالي خطابا لنبيّه زكريا: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكٰارِ (آل عمران [3] الآية 41).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 122

الخامسة- قوله تعالي: إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً. لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا. (الفتح [48] الآية 8 و 9)

وردت الآية بعد ذكر الفتح و التوفيق و نزول السكينة علي قلوب المؤمنين ليزدادوا ايمانا و يدخلوا الجنة و ينالوا الفوز

العظيم، و ليعذّب المنافقين و المشركين و يحل عليهم غضب الله، فان لِلّٰهِ جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، بعد ذكر ذلك كلّه تشير الي غرض الرسالة و هدف البعثة، و هو الايمان بالله تعالي و رسوله و نصر دين الله و نواميسه و حدوده و تعزيره «1» و توقيره و تسبيحه و تنزيهه بكرة و أصيلا، أي أول النهار و بكرته و أول آناء الليل عشيّته «2»، و هي الاصيل.

و من المعلوم أن ذكر التسبيح في الوقتين من أهداف الرسالة من دون اختصاص بالرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و خطاب إليه، كما كان في الآيات السابقة يعطي وجوبه فيهما علي كل مسلم في الجملة، و إن كان علي نفسه الشريفة آكد.

السادسة- قوله تعالي: فَاصْبِرْ عَليٰ مٰا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ* وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبٰارَ السُّجُودِ. (ق [50] الآية 39 و 40)

و هذه الآية في سياق قريب من الآية الثالثة، حيث أنها تبيّن إنكار الكفار مسألة الرسالة، و تعجّبهم أن جاءهم منذر منهم، و بعد ذكر الجنة و النار و نعيم المتقين و عذاب الكفار تأمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أولا بالصبر علي ما يقوله المنكرون المعاندون، و لتسهيل ذلك ترشد الي التسبيح بحمد الله تعالي، و تأمر به في الاوقات الأربعة أيضا: قبل طلوع الشمس، و قبل الغروب، و من الليل، و دبر كل سجود.

و من المعلوم أن قبل طلوع الشمس حين تصبحون من آناء الليل، و قبل الغروب من أطراف النهار كما ذكرنا، و الليل عند ما ينصرف الي آنائه الأولي فهو

______________________________

(1)- قال الراغب: التعزير:

النصرة مع التعظيم.

(2)- و قال: بالغدوّ و الآصال: أي العشايا، يقال للعشية أصيل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 123

العشيّ، نعم انّ الموقع الرابع لا يختص بزمان بل هو في دبر كل سجود و يمكن أن يقع في ايّ زمان، و الساجد بعد ما يضع جبهته علي الارض و يسجد فانه يسبّح بحمد الله و يقول مثلا: «سبحان ربي الأعلي و بحمده»، الّا ان الآية اذا قيست مع الاولي (طه (20)- 130) نري انه قد ذكر مقام أطراف النهار ادبار السجود «1» فينصرف الي التسبيح ادبار السجود في أطراف النهار، و ان كان اطلاقه يشمل السجود في غيرها أيضا، فلعل الظاهر هو مطلوبية التسبيح دبر السجود في آناء الليل و أطراف النهار.

و حيث ان المسلم يعلم أن السجود في تلك الظروف و الأوقات هو سجدة الصلاة، فهو يعلم أن المطلوب ذلك التسبيح في سجدات الصلاة مع بقاء أصل مطلوبيته في تلك الأوقات، و لو لم يكن ادبار السجود بل في كل وقت، فانه ذكر الله تعالي و تعظيمه المطلوب مطلقا، و أقلّه تلك الأوقات الستة من اطراف النهار و آناء الليل حتي يستغرق ذكر الله تعالي ليل العبد و نهاره؛ فيحيا قلبه به و يعيش معه في كل زمان و حال، فيطمئن و هو أصل العيش و الحياة، ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب.

السابعة- قوله تعالي: وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنٰا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبٰارَ النُّجُومِ. (الطور [52] الآية 48 و 49)

الآية الشريفة كسابقتها علي سياق واحد في تبيين وضع المكذّبين للرسالة، و ما يواجههم من العذاب في يوم القيامة، و ان مواجهة الرسول الداعي الي الله تعالي و

الذين آمنوا معه و مكافحتهم للذين كفروا الذين اطمأنوا بالحياة الدنيا أمر طبيعي، و لا بد من تحمّل المشاق و الصبر علي المشاكل في سبيل الله و إعلاء كلمة الحق.

فتأمر [الآية] الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)- أوّلا- بالصبر لحكم الله تعالي من لزوم الدعوة و الارشاد و الاستقامة كما أمر، ثم تؤيده و تقوّيه قائلة: بأنك بأعيننا و منظرنا و غير

______________________________

(1)- أي أنّه عطف أدبار السجود علي الليل، و معني ذلك جعله مقابلا له، أو علي أقل تقدير هو غير ابعاض الليل التي دلّت عليها (من) التبعيضية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 124

مغيّب عنّا، و نحن معك أينما كنت، فننصرك و نؤيدك في سبيل دعوتنا و رسالتنا، و لأجل ذلك و لتسهيل الأمر و تخفيف ثقل المسئولية بل و الشعور بالاطمئنان و الراحة حين حمل الخلافة و تبليغ الرسالة، سبّح بحمد ربك حين تقوم اي من الجلوس و القعود، أو من النيام و من الركوع في العبادة و الصلاة، و من السكوت، و من عالم الظلمة المحيط بالناس الأموات السكاري حتي تحييهم حياة طيّبة و تحركهم، و تسوقهم نحو العدل و الحق و الدين و إزالة الفتنة عن وجه الأرض.

و أخيرا؛ سبّح بحمد ربك حين تقوم بالأمر و هو أمر ربك الذي أمرت بالاستقامة فيه و الصبر عليه، و هو أمر الرسالة و الامامة، ذلك حكم ربك، و من الليل فسبّحه أيضا، و حين ادبار النجوم باقبال الشمس قبل طلوعها، من آناء الليل آخر آنائها، أو من أطراف النهار أول طرفيه، ان كان المراد الخارج المتصل بأول أجزائه، و هو خلاف الظاهر كما عرفت من قول الراغب في أن طرف الشي ء جانبه، و

يستعمل في الاجسام و الاوقات و غيرهما، مع انه يلزم عليه أن لا يكون له الّا طرفان و الجمع منطقي.

الثامنة- قوله تعالي: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لٰا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً* وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا.

(الدهر [76] الآية 24- 26)

هذه الآية أيضا في سياق قريب من سابقتها، فانها بعد بيان خلق الانسان و نظام حياته و انه باختياره و ارادته علي هدي أو في ضلال مبين، و قد هداه الله السبيل، فبنفسه إما يمشي سويا علي صراط مستقيم شاكرا لأنعمه، أو يهوي عنه و يضل كفورا لها فيتمتع عنها قليلا.

ثم أشير في هذه السورة الي قصة أهل بيت العصمة و الطهارة (عليهم السّلام) و ان وفاءهم بالنذر و الإطعام كان خالصا لوجه الله تعالي لا يريدون به جزاء أو شكورا،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 125

و كان خوفا من يوم القيامة، و هو اليوم العبوس القمطرير، و قد وقاهم الله شرّ ذلك اليوم و جزاهم بما صبروا جنّة و حريرا.

ثم توصيف الجنّة التي وعد المتقون بتفصيل في قصورها و أنهارها و سررها و ولدانها و خدمها و غيرها من النعم و الألطاف «1».

ثم بعد بيان ما ذكر تعود الآيات الي أصل الامر، و تخاطب الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بقوله: إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا و حيث ان في ابلاغ القرآن (المنزّل) مواجهة مع المكذّبين و الكفار و مشاكل و مشاق لا بد من تحمّلها حتي التوفيق و النصر، فتأمر بالصبر لحكم الله تعالي من غير اتباع و ملاحظة لمراضي الطغاة الكفار، و لتسهيل الأمر و تخفيف الثقل لا بد

من ذكر اسم الله تعالي ليلا و نهارا، فهو الذي فطر السماوات و الأرض و هو الذي بيده ملكوت كل شي ء و أصله، و له الخلق و الأمر، فاذكره في آناء الليل و أطراف النهار، و تبتّل إليه أي ولّ وجهك نحوه، و هو القدرة المحيطة الفعّالة لما يشاء، و تذكّره بأن علي كل عبد اطاعته فيما أمره، و علي الرسول الصبر لحكم الله تعالي، و البلاغ و بذلك يسهل المشكل و يخفّف الثقيل، فيحصل النصر و التوفيق باذن الله تعالي.

و لذلك أمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بذكر اسم الله تعالي آناء الليل و أطراف النهار، و لا أقل من بكرة النهار و أوله و أصيل الليل و عشيّها، و لتهنئة ذلك الثقل و لذة الصعوبة أمر بالسجود له تعالي في الليل و تسبيحه طويلا في السجود أو مطلقا، سواء كان الطول و صفا للسجدة كما هو الظاهر، فيرجع الأمر الي السجدة الطويلة و التسبيح فيها و لو في الجملة، أو لنفس التسبيح بأن يكون مطلوبا مستقلا أتي به في السجدة جمعا بين المطلوبين أو مستقلا، فان ذكر الله تعالي و تسبيحه غير السجدة له بوضع

______________________________

(1)- و لم يرد ذكر الحور و قاصرات الطرف احتراما لسيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله (عليها و علي أبيها و بعلها و بنيها الصلاة و السلام) و الملك لا يمكن ان ينال مقام الانسان الذي فاز و نال علّيين، و لا سيما سيدة نساء العالمين الحوراء الانسية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 126

المساجد علي الأرض كما تعلم.

و في المقام توصيف التسبيح بالطول في قوله تعالي: إِنّٰا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا* … * إِنَّ لَكَ فِي

النَّهٰارِ سَبْحاً طَوِيلًا* وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا* رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا* وَ اصْبِرْ عَليٰ مٰا يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا. (المزمل [73] الآية 5- 10)

و كما مرّ الكلام عنه كان المراد من السبح السرعة في العبادة في النهار لوجود المشاغل و مقابلة الليل، ففيه السباحة في الاعمال منها العبادات، و كيف كان قد ينطبق علي التسبيح القصير تنزيه الله تعالي في الجملة.

ثم ان حاصل مجموع آيات الباب بصنفيها الدالّة علي لزوم التسبيح و وجوبه مطلقا أو الآمرة به في زمان و وقت أو حال و عمل بتعابيرها المختلفة، حيث لا يحمل المطلق علي المقيد في المثبتات كما أثبت في محله، ان تسبيح الله الاعلي مع حمده و تنزيهه مع ذكر اسمه (جلّ و علا) مطلوب مرغوب فيه، واجب في الجملة علي العبد الاتيان به حيث يشاء من أوقاته ليلا و نهارا و في حالاته و أعماله قياما و قعودا و سجودا، و لا سيما عند التوجه الي عظمته تعالي و تذكّر نعمائه التي لا تحصي.

إلّا أن تلك الطبيعة المرغوب فيها اللازمة الاتيان، مأمور بها أيضا بنحو أكثر و ألزم في أوقات ستة: آناء الليل و أطراف النهار، و قد عرّفتها الآيات بتعابير مختلفة فيجب في كل منها ثلاث في مواقع: ففي الأول العشيّ الأصيل أوائل آنائها، و من الليل- كما في سورة الدهر- أواسطها و حال أدبار النجوم قبل طلوع الشمس أواخرها حين تصبحون، و في الثاني بكرته أول قطعة منه طرفه الأول و حين تظهرون وسطه من أطراف النهار الظهر و حين تمسون آخر أطرافه قبل غروب الشمس؛ سواء كان التسبيح في تلك الأوقات

من النهار حين القيام و من الليل حين السجود طويلا، أو

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 127

أدبار السجود ليلا و نهارا، أو حين القيام كذلك، فيكون ألزم و أكثر في تلك الحالات و في تلك الأوقات.

و أما القول بأن المراد من التسبيح في جميع الآيات معناه اللغوي أي السباحة و التسريع في العبادة، فيكون المطلوب هو العبادة السريعة في تلك الأوقات و الحالات، و التي تتمثل بالصلاة اليومية و نوافلها، لتطابق أوقاتها أو بغيرها من العبادات، أقلّها ذكر اللّه تعالي في الجملة لمن لا صلاة له، ففيه ما لا يخفي صغري و كبري.

كما ان استفادة لزوم التسبيح بحمد الله الأعلي أو العظيم في الركوع أو السجود من الصلاة، أو في القنوت بقولنا: «سبحان الله ربّ السماوات السبع و ربّ الأرضين السبع …» أو ذكر: «سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر» في الأخيرتين من الرباعيّات أو الأخيرة من الثلاثية في الصلوات من طريق السنّة المباركة أيضا، و تلك الآيات كذلك بوجود العناية الخاصة بشأن الصلاة في القرآن الكريم، و عدم الاشارة الي ذلك في آيات التسبيح، و بعد ذكر الوقت فيها لا ينطبق علي أوقات الصلاة، و ان كان كثير منها ينطبق عليها «1» و كذلك بعد عدم الاشارة في أدلة أذكار الصلاة الي تلك الآيات مع تطابق الأوقات و الحالات، ففيه أيضا ما لا يخفي. نعم في بعض روايات العامة أشير إليها بقوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) حيث نزلت:

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، قال: «اجعلوها في ركوعكم» و حيث نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَي قال: «اجعلوها في سجودكم» «2»، و الظاهر هو بيان الفرق بين ذكر الركوع

و ذكر السجود دون اختصاص المأمور به بهما.

و من المعلوم انّه يتحصّل امتثال أوامر آيات التسبيح بإتيان ما عرفت في

______________________________

(1)- مثل بكرة النهار أوله علي معناه اللغوي، و حال القيام أيضا، فان تسبيح الركوع في حال قبل القيام، إلا أن يقال: ان المراد من البكرة أوله الشرعي قبل طلوع الشمس، و حال القيام ارادته، فينطبقان علي صلاة الصبح و ذكر الركوع كما مرّ فتأمل مع اطلاقات في الباب.

(2)- التهذيب: ج 2 ص 313 رواية 129.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 128

الصلاة بعنوان المصداق مع بقاء مطلوبيته الطبيعية مطلقا في تلك الأوقات و الحالات، و لو لم يكن في الصلاة و فيها آكد.

و الحاصل أن الأمر دائر بين حمل تلك الأوامر علي الاستحباب، مع أن السياق لا يقبله، أو تأويل التسبيح الي الصلاة، و لو لم يكن فيها ذكر من التسبيح «1»، أو الغضّ عن فتوي المشهور بكفاية مطلق الذكر في الركوع و السجود و كفاية القراءة في الأخيرتين موضع التسبيح.

و الحق عندنا إبقاء الاطلاقات علي حالها، و الفتاوي كذلك، لمن امتثل الآيات في غير الصلاة، و امتثالها لمن اتاها فيها ظاهر بعد حفظ ظهورها في الوجوب كما هو مقتضاه.

فان قلت ان الآيات بسياقها المتقارب و خطابها الموجّه الي النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الأمر فيها بالصبر لحكم الله، و لما يقوله الجهّال، و تحمّل المشكلات الحاصلة من المقابلة مع المعاندين و الكفار، ثم الأمر بذكر اسم الله تعالي و تسبيحه مع حمده استمدادا منه النصر و التوفيق في العمل و تخفيفا لثقل الدعوة و تسهيلا لطريق الارشاد و الهداية، تدل علي لزوم ذلك و وجوبه علي النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله

و سلّم) و لا يرتبط بسائر العباد، و الأكثر ملاكا وجوبه علي الأئمة (عليهم السّلام) و علي نوّابهم العلماء العظام، و علي كل من له شغل في ذلك السبيل الصعب الثقيل السهل السمح، لمن ذكر اسم ربه و سبّحه و اطمأن به.

قلت: نعم الأمر و إن كان كذلك إلا أن اطلاقات الصنف الأول كما عرفت و قوله تعالي: وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا رديف قوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ أي بجعله غرضا من أغراض الرسالة، و الصنف الثاني ينادي علي

______________________________

(1)- لفظا مما عرفت و معني من نفي الكفو و الولد ممّا في سورة التوحيد بأن يقرأ سورة اخري إلا أن يقال بصدقه علي نفي الشريك في التشهد و كفايته.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 129

الانصاف بأن التسبيح و لا سيما في الأوقات مطلوب واجب علي كل مسلم، إلا أنّه من الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) و نوّابهم العظام، و من تعزز بعزتهم و تشرّف بمقامهم للهداية و الارشاد في الآية درجة و مرتبة أكثر وجوبا و مطلوبية بمناسبة الحكم و الموضوع.

و ختام الكلام في المسألة: ان التسبيح كما عرفت تنزيهه تعالي عن كل عيب و نقص و كل نقد و ضعف، و أما الحمد فهو توصيفه تعالي بالخير، و ان كل موجود و قوة و خير و كمال له و به و منه و عنه، و التسبيح بحمده، أي الجمع بين طرفي النفي و الاثبات بأنه لا ضعف فيه بوجه، و له القوة المطلقة بوجه آخر «1»، لا فقدان له بوجه، و هو الوجود الحقيقي المطلق بوجه آخر أيضا، و هكذا، و أنت تعلم

أن كثيرا من آيات الباب تأمر بالتسبيح بمعية الحمد ليكون ذكر الله أكمل بعد العناية الخاصة بهما، و في المعارف و القرآن الحكيم فسبحان الله و الحمد لله ربّ العالمين.

______________________________

(1)- من المعلوم أن المراد منها الطول و الشدة و الفعلية المطلقة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 130

ملخّص الفروع المستفادة من آيات الكتاب العزيز في كتاب الصلاة هي:

1- يجب علي كل مكلّف الإتيان بالصلاة علي طبيعتها.

2- يجب إقامة الصلاة زائدا علي الاتيان بها، بأن يأمر الغير بها، و ينهي التارك لها، و يراقب تجلّيها و مظاهرها في مختلف شئون حياة الأمة الاسلامية لتكون قائمة علي أصولها جماعة و فرادي جمعة و غيرها، و ذلك غير وجوب مطلق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ان كان هذا من مصاديقه أيضا.

3- يجب تعلّم الصلاة بخصوصياتها، كما يجب تهيئة مقدماتها لاطلاق أدلة الوجوب و حكم العقل به، كما أثبتناه في وجوب المقدمة.

4- تجب النيّة في الصلاة شروعا و استدامة في الافعال و الاقوال، فانها من العناوين القصدية التي لا تقع جزء للماهيّة المخترعة شرعا إلا بالارادة و القصد، كما فصلّ في محلّه.

5- لا بد في الصلاة من قصد الاطاعة و التقرّب و الخلوص، فتبطل بالشرك و الرياء و لو في بعض أجزائها.

6- يجب في الصلاة القيام، ثم الركوع، و بعده السجود من الافعال، و التسبيح بحمد الله تعالي فيها من الأقوال.

7- الصلاة موقوتة لا بد من الإتيان بها في أوقاتها، بحيث لا يكفي التقدّم أو التأخّر إلا بدليل آخر كما في القضاء.

8- أوقات الصلاة ثلاثة:

الأول: من دلوك الشمس الي غسق الليل، و المؤتي بها بعد الدلوك تسمي صلاة الظهر، و في أواخر الوقت تسمي صلاة العصر.

الثاني: من غسق الليل الي قرآن الفجر و طلوعه، و المؤتي بها في

أوله تسمي صلاة المغرب، و بعده تسمي صلاة العتمة لوقوعها في الظلمة الشديدة و تسمي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 131

صلاة العشاء.

الثالث: من قرآن الفجر الي أدبار النجوم بطلوع الشمس، و المؤتي بها فيه تسمي صلاة الصبح.

و اتخاذ أسمائها من الاوقات و تسميتها باليومية الشامل الليلية تغليبا في نهاية الوضوح، و تفصيل الخصوصيات في السنّة.

9- يجوز اتيان صلاة العتمة و العشاء الي قرآن الفجر أداء، لاشتراك نافلة الليل في وقتها، و اشتمال غسقها الي قرآنه، و ان كان الأحوط عدم نيّة الاداء و القضاء بعد انتصاف الليل، و لا سيما في النسيان، فان وقت النفل الليل بمقتضي اطلاق الكلمة، و تناسب العتمة مع شدة الظلمة، و هي في منتصفها علما لتقابل مكان المصلّي في الوقت (منتصف الليل) مع نصف النهار في الطرف الآخر من الأرض لهذه الكرة الترابية «1»، فكأن التهجّد في الليل نفلا اختص بما بعد المنتصف، فيختص العشاء بما قبله تقريبا، و لا تهافت في الاشتراك كما في الظهرين و العشاءين.

10- وجوب المحافظة علي الصلاة مطلقا، يقتضي وجوب معرفة خصوصياتها بأجزائها و أحكامها و أوقاتها و العلوم التي تتوقف عليها معرفة القبلة و الوقت و الأدوات التي تعرف بواسطتها.

11- ان الكعبة قبلة لمن كان في المسجد الحرام، فيجب تولّي الوجه نحوها حال الصلاة، و هي لمن كان في مكة المكرّمة، و هي لمن كان خارجا عنها، و الحق ان الكعبة هي القبلة فقط إلا أن كل جسم كلما بعد عنه تتسع جهته فيصدق استقباله.

12- لا اشكال في جواز الصلاة في كل مكان و في المسجد أفضل.

13- يجب الاعتدال في مطلق أذكار الصلاة و قراءاتها بأن لا يجهر و لا يخافت،

______________________________

(1)- اذا فرض موازاة الشمس

خط نصف النهار المنصف الأرض الي الشرقية و الغربية فبدورته حولها يكون مقابل النقطة نصف الليل دقيقا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 132

و أما أصل الجهر في خصوص قراءة الحمد و السورة في الصبح و العشاءين، و الاخفات في الظهرين مثل أصل قراءتهما فمستفاد من السنّة المباركة.

14- يجب تقصير الصلاة في السفر، أما انه لا علي وجه الرخصة، و ان حدود السفر و شروطه و مواضع الاختيار و غيره فمستفاد من السنّة المباركة أيضا.

15- تجب صلاة الخوف في ساحة الحرب و المعركة بانقسام المجاهدين المؤمنين الي طائفتين تقتدي احداهما بالامام حتي النصف و تتم فرادي، و تراقب الاخري التي لم تصلّ الأعداء، مع أخذ الحذر و الأسلحة ثم تقتدي الثانية بالامام عند انتهاء الاولي بالنصف الآخر و تراقب الأولي حتي التمام.

و من المعلوم ان ذلك الوجوب مشروط بمساعدة ظروف العسكر و المعسكر و المراصد و الأسلحة، و مع العدم تتبدل الي صلاة الاضطرار، و جواز ترك الاسلحة مع أخذ الحذر عند الأذي كوجود المطر أو المرض عقلائي يرتبط بشروط الحرب و المحارب.

16- لا فرق في الامام و الأمير المقتدي به بين المعصوم (عليه السّلام) و غيره، كما لا فرق في الحكم بين الحرب جهادا أو دفاعا و بين أشكال الحرب و أنواع الأسلحة و بين فصول السنة صيفا أو شتاء، و بين الساحة برّا و بحرا أرضا و سماء.

17- تجب صلاة الجمعة بعد حصول شروطها زمن الغيبة تخييرا و الأحوط الاتيان بالظهر أيضا، و اما حرمة البيع أو عمل آخر وقت النداء يوم الجمعة وضعا أو تكليفا زائدا علي حرمة ترك الصلاة فمشكل.

18- الصلاة مع الجماعة راجحة إجمالا.

19- لا تجوز الصلاة علي أموات الكفّار و المنافقين

و لا القيام علي قبورهم و الدعاء لهم، كما لا يجوز علي احيائهم.

20- تجب الصلاة و الدعاء علي موتي المسلمين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 133

21- يجوز زيارة قبور المؤمنين و الدعاء لهم، فكيف بزيارة المراقد المقدّسة و المشاهد المشرّفة. و سيأتي الكلام عنها في مسألة الشفاعة ان شاء الله.

22- يجب علي كل مسلم تسبيح الله تعالي مع حمده آناء الليل و أطراف النهار في الجملة، و في الأوقات الستّ أكثر: في بكرة النهار أوله، و حين تظهرون وسطه، و حين تمسون آخره، و عشيّ الليل أوائل آنائه، و من الليل أواسطه، و حين ادبار النجوم قبل طلوع الشمس حين تصبحون آخر آنائه، سواء كان ذلك حال القيام و دبر السجود أو لم يكن، و يمتثل ذلك بتسبيحات الصلاة قهرا، و هو علي المسئولين العاملين لدعوة الحق تعالي و سبيل الرشاد و الموظّفين المتعهّدين لحفظ حقوق الله و حدوده بين الناس ألزم و آكد.

23- يجب علي كل مسلم قراءة ما يتيسّر له من القرآن، و يمتثل بما يقرأه في الصلاة و الزائد منه مسنون لا ينبغي التكاهل فيه، و لا بد من الترتيل في القراءة أي اسماع القلب مفاهيم الكلمات و التأمل فيها حالها.

24- لا بد من الاستعاذة بالله تعالي من الشيطان الرجيم عند إرادة قراءة القرآن، و علي المستمع السكوت و الإنصات و الاستماع متأمّلا حتي تقع القراءة مؤثرة.

25- تجب السجدة عند ذكر آيات السجدة الواجبة أو قراءتها الآمرة بها أو الاستماع إليها، و لو من المسجلات الصوتية و هي في مواضع أربعة من سور القرآن:

(فصلت، السجدة، النجم، العلق).

و تستحب السجدة في سائر المواضع؛ و لذلك لا يجوز قراءة سور العزائم الأربع في الصلاة.

فقه القرآن

(لليزدي)، ج 1، ص: 134

خاتمة المطاف

ختاما لكتاب الصلاة و تأييدا لمقدمته نقول:

الصلاة أفضل الموضوعات الشرعية و أعلي مجعولاتها فانها الطريق الوحيد الي حفظ ارتباط العبد بمولاه، و تقريبه منه تدريجيا حتي يصل الي لقائه و هو أعلي مراتب العبودية، فهي خير موضوع من شاء استقلّ و من شاء استكثر، و مع ذلك كلّه لم يذكر منها في القرآن الكريم إلا كليّات كاشتمالها علي قيام و ركوع و سجود و ذكر اللّه تعالي و تسبيحه و حمده اجمالا بعد أصل وجوبها، بحيث لا يتمكن من لم يكن مأنوسا بها عن طريق السنّة العملية أن يتصور صورتها، و لم يذكر فيه من تعداد الركعات بل صورة الركعة المشتملة علي الركوع، و لم يعلم منها ان صلاة الصبح مثلا ركعة أو ركعتان، و المغرب ركعتان أو ركعات، فكيف باشتمال الركعة علي قراءة فاتحة الكتاب و لزوم السورة و ما هو الذكر و التسبيح اللازم؟ كما أشار الي ذلك الحديث السابق.

و ذلك لتقارن الآيات التعليم العملي و التفسير القولي من رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و قد أتي بها جماعة حيث لم يكن معه مسلم إلا عليّ و خديجة (عليهما الصلاة و السلام).

و في مثل المقام يظهر جليا لكل أحد خطأ من قال: حسبنا كتاب الله، و من قلّده علي عماء، فاذا كان الأمر في مثل العبادة اليومية المبتلي بها العموم- كما عرفت- فكيف في غيرها، و قد صرّح الرسول الاكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بما تواتر عن الفريقين:

«إني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، و عترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» «1».

اللّهم اجعلنا من المتمسّكين بهما و اجنبنا أن نقول فيهما بالأهواء

حتي نهتدي بهما إلي سبيل الحق و الرشاد … آمين يا ربّ العالمين.

______________________________

(1)- البحار: ج 23 ص 140 رواية 91.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 135

كتاب الصوم

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 137

الصوم

الصوم في الأصل: الامساك مطلقا، و في الشرع: إمساك مخصوص عن اعمال ممنوعة في زمان محدود لأشخاص معيّنين بشروط معيّنة، و في الكتاب آيات:

الأولي و الثانية و الثالثة- قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيّٰاماً مَعْدُودٰاتٍ فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَليٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ وَ عَلَي الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعٰامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُديً لِلنّٰاسِ وَ بَيِّنٰاتٍ مِنَ الْهُديٰ وَ الْفُرْقٰانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَليٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللّٰهَ عَليٰ مٰا هَدٰاكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. (البقرة [2] الآية 183- 185)

الآيات تدل علي أمور:

الأول- ان الصيام و الإمساك في الجملة واجب مكتوب علي المؤمنين كما كان مكتوبا علي السابقين في الشرائع الالهية للأمم السالفة.

الثاني- ان الإمساك الواجب لا يكون إلا في أيام معدودة معيّنة فهو لا في الليل و لا في أي يوم يراد بل هو في أيام مضبوطة عددا أو معيّنة في السنة شهرا واحدا، و الظاهر أن كل يوم منه واجب الإمساك ينقطع عن الآخر بفصل الليل، و جواز ارتكاب الإفطار الجائز فيه، لا أن مجموع تلك الأيام هو واجب واحد، كما ان الظاهر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 138

من

اطلاق الإمساك الأكل و الشرب بل و مواقعة النساء، فيجب الامساك عنها، و لا يدخل فيها مثل التكلّم و الحركة، و كذا يجب الاجتناب عن البقاء علي الجنابة الي طلوع الفجر، و سيأتي إمكان استفادته من الآية المباركة الآتية، و أما مثل الكذب علي الله و رسوله فلا طريق الي وجوب الامساك عنه إلا بالسنّة المباركة- كما تعلم.

الثالث- ان الصوم الواجب في تلك الأيام ساقط عمّن كان فيها مريضا أو كان علي سفر «1»، و عليه عندئذ قضاؤه في أيام أخر إن أمكنه، و إلا يفتدي عن كل يوم بإطعام مسكين إن أمكنه، و ظاهر الإطعام إشباع انسان متوسط الخلقة بغذاء متعارف، و قد حدد الإطعام في السنّة المباركة بمدّ و التطوّع بالزائد خير.

الرابع- ان التطوّع بالصوم خير كما انه بكل خير خير، فيستحب في كل يوم إلا ما خرج بدليل مثل يوم أول شوال أي يوم عيد الفطر كما ثبت في محله.

الخامس- ان تلك الأيام المعيّنة المعدودة الواجب فيها الصيام هي شهر رمضان ثلاثين يوما كان أو تسعة و عشرين، فيجب برؤية هلاله، و يتم برؤية هلال شوال كما في الحديث الشريف: «صم للرؤية و افطر للرؤية» «2». و انتخابه من بين شهور السنة كان بفضل نزول القرآن فيه «3»، و هو الهادي للناس و الفارق بين الحق و الباطل، فمن شهد الشهر فليصمه، و من لم يشهده بأن كان علي سفر كمن كان مريضا «4» فعليه قضاء ما فاته بعدّته في أيام أخر، فمن لم يشهده بعضه أو لم يطقه كالشيخ و الشيخة و الحامل المقرب و غيرهم ممن يشابههم، فعليه إكمال العدّة و تتميم الشهر، و من لم

______________________________

(1)- و قد يستفاد من

كلمة: «علي سفر» أنه لا بدّ و أن يكون أكثر اليوم في سفر فلا يجوز الافطار اذا كان السفر بعد منتصف النهار و يجوز قبله و لا يبعد.

(2)- التهذيب: ج 4 ص 164 الرواية 36.

(3)- من المعلوم ان مسألة نزول القرآن الكريم في شهر رمضان كنزوله في ليلة القدر مع العلم بنزوله نجوما مدي ثلاث و عشرين سنة مدة رسالة النبي الأعظم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بحث طويل ينتهي الي نزوله مرتين من مرتبة الي اخري ثم الي هذه المرتبة، و تفصيله خارج عن وضع الرسالة، و لكن لا اشكال في دلالة الآيتين علي أن ليلة القدر واقعة في شهر رمضان.

(4)- الذي يضرّه الصيام لتناسب الحكم و الموضوع دون مطلق المرض بل يدل عليه قوله تعالي: «يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» فلا بدّ و أن يكون المراد مرضا كان معه الصوم عسرا و رفعه يسرا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 139

يعلم عدّته فعليه التكميل بثلاثين يوما تحصيلا لليقين مع إمكان التشكيك في أصل الاشتغال و الله تعالي يريد بكم (المسلمين) اليسر و لا يريد بكم العسر، و لتكبّروا الله علي ما هداكم، و لعلكم تشكرون نعمه، و من يطيقها و هي لا تحصي.

و لا سيما نعمة الهداية بتشريع الأحكام و ايجاب الفرائض التي تتضمن خير الدنيا و الآخرة و النجاة من شرّ الدنيا و عذاب الآخرة و الحمد لله الذي هدانا لهذا.

الرابعة- قوله تعالي: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيٰامِ الرَّفَثُ إِليٰ نِسٰائِكُمْ هُنَّ لِبٰاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبٰاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّٰهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتٰانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفٰا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا مٰا كَتَبَ اللّٰهُ لَكُمْ وَ كُلُوا

وَ اشْرَبُوا حَتّٰي يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيٰامَ إِلَي اللَّيْلِ وَ لٰا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عٰاكِفُونَ فِي الْمَسٰاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ فَلٰا تَقْرَبُوهٰا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللّٰهُ آيٰاتِهِ لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. (البقرة [2] الآية 187)

ظاهر الآية حلّية الرفث الي النساء ليلة الصيام بعد ما كان حراما فيها، فان الله تعالي علم أنّ الناس يختانون أنفسهم و يباشرونهنّ، فتاب عليهم و عفا عنهم ما مضي و حلّل لهم فيما بعد، فيجوز لهم مثل سائر المفطرات الأكل و الشرب، فليس لأحد تحريمه علي نفسه، و لا بد من ابتغاء ما كتب الله علي المؤمنين فهو الذي بيده الأمر يحلّل ما يشاء و يحرّم ما يشاء رحمة لعباده.

ثم تدل علي أن منتهي الليل الجائز فيه الرفث، و كلّ مفطر، هو تشخيص الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر و هو مبدأ النهار الذي يجب الامساك فيه، و منتهاه مبدأ الليل، و لا يصدق إلا بعد تحقق أول جزء منه و هو زوال الحمرة المشرقية الي جهة المغرب حتي تنبسط الظلمة في طرف المشرق، فليست الأيام المعدودات بمعناها العرفي لتبدأ بطلوع الشمس و تنتهي باستتار القرص، أو تبدأ بانبساط النور في طرف الشرق الي أن يتميّز الأسود من الأبيض خيطا كان أو غيره، فان قيد الفجر يعيّن انه الخيط الأبيض الحاصل الي جانب الخيط الاسود المتحصّل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 140

من انفجار الأفق و ظهور نور في الشرق.

و قد يقال بإمكان استفادة حرمة البقاء علي الجنابة الي الفجر، و أنه مفطر من الآية بتقريب ان جواز الرفث فيها محدود بطلوع الفجر لانتفاء الموضوع بعده، فلا بد من الامساك بجميع آثاره في مبدأ النهار

و منها الجنابة مع وجوب ازالتها بالغسل للصلاة أيضا.

و أنت تعلم ما فيه من التكلّف فان أصل النكاح و الرفث و الوقاع الجائز في الليل يحل الي آخر قطعة منه، و أما الجنابة الحاصلة، فلو لا السنّة فلا دليل علي وجوب ازالتها قبل الطلوع و حرمة البقاء عليها، و أما الواجب للصلاة مع سعة وقتها فلا يرتبط بالصوم.

و أخيرا تفيد الآية حرمة مباشرة النساء حال الاعتكاف في المساجد صيانة لحرمتها التي كانت في شهر رمضان، ثم أحلّت في ليلة الصيام، و ذلك لتحقق الجنابة بشروع المباشرة فيبطل صوم المعتكف ان كان نهارا، أو يحرم الوقوف في المسجد- و المعتكف واقف نهارا- كانت أو ليلا- فيتحد مع ما أنارته الآية الكريمة في كتاب الطهارة: إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ أو لبطلان الصوم و حرمة الوقوف معا، فانها تحرم علي المعتكف غير الصائم، و لا تجوز حتي و لو كان عابرا في المسجد أيضا.

و من المعلوم ان تعليق الحكم علي الوصف مشعر بالعلّية، فهي حرام علي المعتكف بما هو كذلك، و ان كانت حراما عليه بما هو صائم أو واقف في المسجد، و قد تجتمع العناوين في شي ء واحد.

و لنتكلّم عن الاعتكاف بشي ء يسير:

العكوف كما في المفردات هو الاقبال علي الشي ء و ملازمته علي سبيل التعظيم. و الاعتكاف في الشرع هو الاحتباس في المسجد علي سبيل القربة؛ و في الباب آية:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 141

قال تعالي:

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثٰابَةً لِلنّٰاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقٰامِ إِبْرٰاهِيمَ مُصَلًّي وَ عَهِدْنٰا إِليٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْعٰاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ. (البقرة [2] الآية 125)

آخر الآية المباركة يخبر عن عهد الله تعالي و أمره الي شيخ الأنبياء ابراهيم (عليه

السّلام) و ابنه اسماعيل أن يطهّرا بيته (الكعبة) للطائفين حوله و العاكفين عنده، و الراكعين الساجدين للّه تعالي، و يفيد ذلك مطلوبية العكوف علي بيت الله مثل عدليه الطواف و الصلاة من غير اختصاص بالكعبة و المسجد الحرام، فان كل مسجد بيت الله تعالي بمرتبته مع صراحة قوله تعالي: وَ أَنْتُمْ عٰاكِفُونَ فِي الْمَسٰاجِدِ فان الجمع المحلّي باللام يعطي العموم.

و أما كيفية الاعتكاف بحسب الزمان و المقدار و الشروط فمستفاد من السنّة المباركة، و قد عرفت حرمة المباشرة في الاعتكاف، و المقام يعطي لزوم قصد القربة فيه فانه عبادة و يتوقف عليها و لا بد فيها من الاخلاص.

و في مثل هذه المقامات يظهر شدة الافتقار في تفسير الكتاب الي السنّة المباركة كما تعلم.

تذييل في فروع الكتاب:

1- يجب علي كل مكلّف حاضر سالم الصوم في شهر رمضان، أي الامساك عن الاكل و الشرب و الجماع من طلوع الفجر الي الليل، فيجوز بعد المغرب الي طلوع الفجر كل ما كان جائزا في غيره ليلا و نهارا.

و أما مفطريّة البقاء علي الجنابة الي طلوع الفجر و الكذب علي الله و رسوله و الارتماس في الماء بعد عدم صدق الشرب كلّها مستفادة من السنّة المباركة، و الإجناب بغير الجماع متّحد الملاك معه.

2- يجب علي المسافر اذا حضر و المريض اذا شفي قضاء الصوم الفائت منه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 142

في أيام أخر فان علم ما فاته من شهر أو بعض شهر فهو، و إلا فيقضي ما علم، و الأحوط في الشهر إكماله ثلاثين يوما تحصيلا لليقين و إن كان أصل الاشتغال مشكوكا بعد وجوب كل يوم مستقلا.

3- يجب علي غير القادر علي الصوم أداء و قضاء الفدية عن كل يوم بإطعام

مدّ من الحنطة أو الشعير أو غيرهما مما يصدق عليه الإطعام فلا يكفي أداء ثمنه إلا مع العلم بتصرف الفقير فيه.

4- يجوز علي السالم الحاضر في شهر رمضان السفر و لو فرارا من الصوم، فان متعلق الأحكام العناوين، و ان حفظ الانطباق أو تغييره لينطبق عليه عنوان آخر لفي اختيار المكلّف.

5- الاعتكاف في بيت الله (المسجد الحرام، أو غيره) بحبس النفس فيه مدة قربة الي الله تعالي مرغوب فيه راجح في الجملة، و بنفسه هو عبادة غير ما يعبد به الله تعالي في المدة من صوم و صلاة و دعاء …

6- يحرم علي المعتكف مباشرة النساء بما هو، و تلك حدود الله فلا تقربوها و لا تعتدوها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 143

كتاب الزكاة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 145

الزكاة

الزكاة و التزكية: الطهارة و التطهير في الأموال و النفوس؛ و تطهير المال باخراج سهم الغير و حقه منه، كما ان تطهير النفس باخراج الرذائل و إزالتها عنها؛ فلا حقيقة شرعية في أصلها. و كيفما كان، فانّ آيات الباب علي أنواع تذكر في فصول:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 146

الفصل الأول: وجوب الزكاة

فيما يدل علي أصل وجوب الزكاة اجمالا من غير نظر الي المتعلّق و المقدار و المصرف و سائر الخصوصيات؛ و فيه آيات:

الأولي و الثانية- قوله تعالي:

خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلٰاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقٰاتِ وَ أَنَّ اللّٰهَ هُوَ التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ. (التوبة [9] الآية 103 و 104)

ان صراحة الآيتين المباركتين تأمران رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بأخذ الصدقة من المؤمنين و ذلك تطهيرا و تزكية لهم و لأموالهم، فيجب عليهم الأداء، و الله تعالي هو الذي يأخذ الصدقات و يقبل عن عباده التوبات، لا سيما من الذين لم يعطوا من قبل تلك النفقات.

و حيث ان إعطاء المال في الله ثقيل علي أكثر الناس فانهم يحبّون المال حبّا جمّا، أمر الله تعالي رسوله أيضا بالصلاة و الدعاء لهم و الرحمة عليهم بعد الأخذ، فان الدعاء و الصلاة سكن لهم و تلطيف لقلوبهم و ترغيب لهم الي اطاعة الله و أداء الحقوق، فيجب ذلك أيضا في الجملة.

و من المعلوم أن وجوب الأول لا يكون لإجابة أمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بالأداء و أخذه ولاية الواجب كما في مطلق أوامره و طلباته الولائية، بل

الواجب صدقة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 147

معيّنة قبل طلب الرسول أو عامله و هو (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يأخذ ذلك الواجب.

ثم تدل علي وجوب مطالبة الزكاة علي وليّ المسلمين معصوما كان أو نائبه من غير خصوصية لشخص الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فان ذلك كان بولايته و إمامته العامة لا برسالته الخاصة، و كيفما كان فلا إشكال في دلالة الآية علي وجوب أداء صدقة علي الناس من أموالهم زكاة بالاجمال، و ان كان الاطلاق يشمل الاستحباب من الصدقات أيضا، إلا أن السياق لا سيما مسألة قبول التوبة يوجب الظهور في الواجب منها، مع ان الأخذ غير القبول اذا أعطي برغبته، و لم يقيّد بما اذا احتيج إليها لتأمين حاجات الأمة حتي يكون من الأول.

الثالثة- قوله تعالي:

… فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللّٰهِ هُوَ مَوْلٰاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْليٰ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ. (الحج [22] الآية 78)

دلالة الآية الكريمة علي وجوب الزكاة و تطهير المال باعطاء الصدقة إجمالا مما لا إشكال فيه، فان تفريع الأمر بها علي اجتباء الله تعالي الامة المرحومة و نفي الحرج عنهم في الدين- و لا سيما أنهم مسلمون بعد الامر بالجهاد و كونه رديف الصلاة- يؤكد الوجوب.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. (البقرة [2] الآية 110)

افادة الآية وجوب اداء الزكاة في الجملة ظاهر بالأمر مع تأكيده بأن ما تنفقون في سبيل الله من الأموال إطاعة لأمره تعالي تجدونه باقيا عند الله تعالي يوم القيامة يردّه إليكم متكاملا أضعافا و ليس الأمر كما تظنون من ان ذلك خسارة و إضاعة للمال.

الخامسة-

قوله تعالي:

وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 148

الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ. (الحج [22] الآية 41)

تقريب الدلالة علي المطلوب- كما عرفت في كتاب الصلاة- بأن الله تعالي يدفع الناس بعضهم ببعض لتبقي مساجد الله، و ليذكر فيها اسمه، و لينصرنّ ناصريه و هم الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة إذا تمكّنوا في الأرض و اقتدروا علي الأمر و النهي و إعلاء كلمة الله و إبطال الباطل، فيستخدمون ما آتاهم الله من المكنة في سبيل الله و طريق الحق، و إفادة المطلوب بذلك التعبير أصرح و آكد، و يفعل الله ما يريد و لله عاقبة الأمور.

السادسة- قوله تعالي:

وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.

(النور [24] الآية 56)

السابعة- قوله تعالي:

وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّٰهِ … (المزمل [73] الآية 20)

و التقريب فيهما واحد، فان ظهور الأمر في الوجوب لا سيما في سياق واجبات أخري و تأكيد الأمر باطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في أوامره الولائية التي منها أخذ الماليات المقررة شرعا، و ان ما تعطونه و تقدّمونه لأنفسكم لا يبطل و لا يضيع فتجدونه عند الله تعالي باقيا مردودا إليكم ظاهر لا يخفي.

الثامنة- قوله تعالي:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلٰاتِهِمْ خٰاشِعُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكٰاةِ فٰاعِلُونَ … (المؤمنون [23] الآية 1- 4)

التاسعة- قوله تعالي:

هُديً وَ بُشْريٰ لِلْمُؤْمِنِينَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ

فقه

القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 149

بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. (النمل [27] الآية 2 و 3)

و التقريب في الآيتين الكريمتين واحد بأن التوصيف لا سيما مع ملاحظة السياق يشعر بالعلّية و ينفي الفلاح و الهداية بنفي الصلاة و الزكاة؛ و ما هو كذلك يجب الاتيان به علي المؤمن.

العاشرة- قوله تعالي:

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ يُطِيعُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. (التوبة [9] الآية 71)

و التقريب- كما عرفت آنفا- من إشعار الوصف بالعلّية لا سيما بعد وجوب سائر الاوصاف المذكورة و تأكيد وجوبها بأن إطاعة الله و الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) توجب شمول رحمة الله تعالي، و إطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لا تكون إلا في أوامره الولائية، كما سيأتي إن شاء الله في كتاب الولاية، و يناسب ذلك أخذ الماليات (الضرائب) و الصدقات، كما أشير إليه في الآية المباركة الأولي، أضف الي ذلك ما ذكرنا من سائر الآيات التي قرن فيها بين الصلاة و الزكاة، مما عرفتها في كتاب الصلاة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 150

الفصل الثاني فيما ينطبق علي وجوب الزكاة

و يؤيد المطلوب و يؤكد علي نفس الكلية و الاطلاق و فيه آيات أيضا:

الأولي- قوله تعالي:

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلٰائِكَةِ وَ الْكِتٰابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَي الْمٰالَ عَليٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبيٰ وَ الْيَتٰاميٰ وَ الْمَسٰاكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السّٰائِلِينَ وَ فِي الرِّقٰابِ وَ أَقٰامَ الصَّلٰاةَ وَ آتَي الزَّكٰاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذٰا عٰاهَدُوا وَ الصّٰابِرِينَ فِي الْبَأْسٰاءِ وَ الضَّرّٰاءِ

وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. (البقرة [2] الآية 177)

الآية الكريمة- كما تري في سياقها- ردّ علي الذين كانوا يكتمون ما أنزل الله سبحانه من الكتاب في شأن الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من اليهود و النصاري الذين كانوا يشترون بكتمانهم ذلك الحق ثمنا قليلا يأخذونه من أمرائهم، و هم الذين اشتروا الضلالة بالهدي و العذاب بالمغفرة فما يأكلون مما يأخذونه إلا النار و ما أصبرهم علي ذلك؟ و لا يكلّمهم الله يوم القيامة و لا يزكّيهم و لهم عذاب أليم.

و الله سبحانه نزّل الكتاب بالحق لإثبات الحق و إعلان الحقيقة بوضوح، و الذين اختلفوا فيه لفي شقاق بعيد، فانهم يكتمون الحق و يلبسونه بالباطل و يحرّفون كلام الله، ثم هم في مرأي العامة و منظرهم يولّون وجوههم قبل المشرق و المغرب ليعدّهم العامة من الأبرار و الأخيار فيطمئنوا بما يقولون كتمانا للحق

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 151

و تلبيسا للأمر.

ففي مثل هذا السياق تردّ عليهم الآية المباركة بشدة، بعد الوعيد بالعذاب بأن البرّ لا ينحصر بتولية الوجه قبل المشرق و المغرب تظاهرا بالعبادة رياء للناس، فاعلموا أيّها العامة التابعون لهم أن ليس البرّ ذلك فقط، بل انه مع التظاهر و الرياء شرّ و كذب و شرك، و لكن البرّ حقه و صدقه أن يكون في أساس كل عمل، و هو الايمان بالله تعالي و اليوم الآخر، أي المبدأ و المعاد، حتي لا يلتبس الحق بالباطل و لا يكتم، ثم الاعتقاد بالنبوّة و الرسالة و الإقرار بالشهادة في شأن الرسول الاكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و العمل بذلك الاعتقاد، فيترك ما يعطونه من المال لتلبيس الحق

بالباطل.

هذه أصول الاعتقادات اللازمة في صدق البرّ أولا.

و ثانيا: لا بدّ و أن يعطي من المال ما يتمكّن علي حبّ الله تعالي و رضاه دون حب الشهرة و الجاه و من غير المنّ و الأذي إلي القرابة و الايتام و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في سبيل وضع الأغلال عن العبيد و تحرير الفرد و المجتمع، و بالجملة بذل المال في طريق الحق و الخير و الفضيلة و تحرير الناس.

و ثالثا: أن يكون عمليا لا قوليا، مجدّا ساعيا لا متهاونا في إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الوفاء بالعهد و تحمّل المتاعب و المشاقّ في الجهاد في سبيل الله و الصبر علي نوائبه و مثاقله.

و عند اجتماع ذلك كلّه في مرحلتي التفكير و العمل يتحقق البرّ و يصدق الحق في إطاعة الله تعالي و تقواه فيصحّ الإتباع له فيما يقول: أُولٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.

و حينئذ فإن إيتاء المال الذي يكون من عوامل صدق البرّ بحق علي تلك الموارد (المتطابقة أكثرها مع ما سيأتي تفصيله ان شاء الله من مصارف الزكاة) ينطبق عليها، و لا ينافي التصريح بها بعده، و الاطلاق يشمل كل صدقة و هبة و كل بذل مالي في تلك السبيل و منه الزكاة، فيكون ذكرها بعده من باب ذكر الخاص بعد العام.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 152

كما ان القرابة إن كانت لصاحب المال تنطبق علي صلة الرحم، و إن كانت قرابة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فلا ترتبط بالزكاة لحرمتها عليهم، و لا يشترط فيها الفقر، و ذلك كلّه يؤيد الاطلاق.

و الحاصل ان الآية الكريمة بعد تصريحها بدخالة إيتاء الزكاة في صدق البرّ حقا، تصرّح

بلزوم إيتاء المال بتلك الموارد التي تكون أكثرها من مصارف الزكاة، فتدلّ علي وجوب المذكورات فيها بأعم من العقلي- كما في الاعتقادات- و الشرعي- كما في باقيها- و لا سيّما مع ملاحظة السياق من التوعد بالنار علي تركها و لا سيما بعد ثبوت وجوب أكثرها بل جميعها، كل في محله «1».

عن المحقق المقدّس (قدّس سرّه) أنها لا تفيد إلا الترغيب إليها دون الوجوب.

الثانية- قوله تعالي:

ذٰلِكَ الْكِتٰابُ لٰا رَيْبَ فِيهِ هُديً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ. (البقرة [2] الآية 2 و 3)

الثالثة- قوله تعالي في توصيف المؤمنين حقا حيث يقول:

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجٰاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ. (الانفال [8] 3 و 4)

الرابعة- قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ اسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُوريٰ بَيْنَهُمْ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ. (الشوري [42] 38)

و التقريب في الآيات واحد، فان الرزق و إن كان لا ينحصر بالمال و يشمل كل نعمة و كذلك الانفاق منه، إلا أن مقارنته للصلاة بعد ما نري من تقارنها مع الزكاة في

______________________________

(1)- فالآية مما يمكن الاستدلال بها علي وجوب انفاق مالي غير الزكاة و سائر الواجبات المالية لا سيما بعد ذكر ما لا يكون مصروفا للزكاة علي احتمال من إرادة قول الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من ذوي القربي و فيه ما لا يخفي من تعبير.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 153

كثير من الآيات تعطي الاطمئنان بإرادتها و لا أقل من شموله لها، و تدل علي استحباب مطلق الإنفاق من المال و غيره أيضا، و سياق الثاني من كونه في مقام بيان كمال الايمان و

درجاته لا ينافي ما ذكرنا بعد ترادفها الصلاة الدخيلة في أصله، المعراج الي كمالاته.

و بعين التقريب مضافا الي أداة الحصر يدلّ علي المطلوب قوله تعالي:

وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ بعد قوله تعالي: إِنَّمٰا يُؤْمِنُ بِآيٰاتِنَا الَّذِينَ إِذٰا ذُكِّرُوا بِهٰا خَرُّوا سُجَّداً (السجدة [32] الآية 15 و 16)، و قريب منه قوله تعالي: وَ أَنْفِقُوا مِمّٰا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ الشامل للأموال، و الأمر ظاهر في الوجوب (الحديد [57] 7)، و غيرها من الآيات «1».

______________________________

(1)- مثل قوله تعالي: «وَ لٰا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمٰا آتٰاهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ …» (آل عمران [3] الآية 180)، فان ترك غير الواجب لا يوجب التطوّق و العذاب قطعا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 154

الفصل الثالث: في المتعلق

و فيه آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبٰارِ وَ الرُّهْبٰانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لٰا يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْميٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْويٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ.

(التوبة [9] الآية 34 و 35)

الآية الكريمة تخاطب المؤمنين و تنادي بصراحتها علي أن كَثِيراً مِنَ الْأَحْبٰارِ وَ الرُّهْبٰانِ من زعماء أهل الكتاب و علمائهم يأكلون أموال الناس بالباطل و يأخذون منهم ما شاءوا ظلما و زورا فلا يتركونهم و ما جعل الله عليهم في أموالهم من حق معلوم، و يفرضون عليهم رغباتهم و يأخذون أكثر من الواجب؛ و بذلك يصدّون عن سبيل الله فان الناس يمتنعون عن أداء الواجب عليهم أيضا و يضلّون عن سبيل الله

بانكار أصل الشرع و الدين لما يرون منهم.

و من المعلوم أن الجملة الاسمية في سياقها تفيد ثبات المفاد و دوامه حتي بعد الاسلام لا أنهم كانوا كذلك قبله فقط.

هذا في طرف الآخذين، و أما في طرف ذوي الثروة المعطين المنفقين،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 155

فاللّحن أشدّ و أغلظ: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لٰا يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ، في يوم يحمي علي ما كنزوا من الدراهم و الدنانير فتكوي بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم فتشوي لحومهم و كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا أخري.

و الوعيد الشديد بالعذاب الأليم لا يعقل أن يكون لترك إنفاق جميع أمواله بحيث لا يبقي له شي ء أو لتركه رأسا بحيث يتخلص بانفاق شي ء ما في الجملة فان شيئا منهما لا يوجب العذاب، كما ان حفظ المال و كنز الذهب و الفضّة عن يد السارق و انصراف الغاصب حق طبيعي أيضا لا يورث عقابا لو لم يورث تركه و للمالك التصرّف في ملكه كيف يشاء.

و لا تقوم حياة المجتمع بضرورياته التي لا يتمكّن من تحمّلها الفرد، إلا أن يكون علي كل متمكّن ذي ثروة اعطاء شي ء من ماله علي ضابطة عادلة في مقدار الانفاق و طاقة المنفق، بل علي حد من المال المأخوذ منه حتي يصرف في تلك الضرورات و كل خير و صلاح للامة الاسلامية المعبّر عنه بسبيل الله، و منها تأمين معايش الفقراء و المساكين علي أحسن وجه و أصلح ترتيب.

و أهمية ذلك الانفاق و ضرورته لدرجة يختلّ بتركه كثير من شئون الامة، فتختل حياة المجتمع و الفرد. و تارك الانفاق الموجب لهذا الاختلال مذنب بشّر بعذاب أليم و ذنبه كبير، كما ان الآخذ

منهم أكثر مما عليهم هو آكل للمال بالباطل، و ثالث المذنبين هو الصارف في غير مصرفه، بعد أخذه بحق. و علي المقدار يستنبط ذنبه من اطلاق الباطل، حفظنا الله و إياكم من شرور أنفسنا ان شاء الله.

و الحاصل ان الآية بوجه آكد تدل علي وجوب انفاق مقدار معيّن من الذهب و الفضّة بما هما، و المطلق منهما منصرف الي الرائج المسكوك المعدود من الأموال المتداولة المتبادل بهما كل مال دون غيره و دون ما جعل زينة من السكوك أيضا،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 156

و قيد التكنيز يشير الي اشتراط الحول فلا يشمل المتداول المتعامل به غير المكنوز.

الثانية- قوله تعالي:

إِنَّ الْإِنْسٰانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذٰا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذٰا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَليٰ صَلٰاتِهِمْ دٰائِمُونَ* وَ الَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسّٰائِلِ وَ الْمَحْرُومِ. (المعارج [70] الآية 19- 25)

استثناء هؤلاء الَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّٰائِلِ وَ الْمَحْرُومِ عن الانسان الذي خُلِقَ هَلُوعاً و إِذٰا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذٰا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً مدح لهم و تعريف بعد أن كانوا من الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَليٰ صَلٰاتِهِمْ دٰائِمُونَ.

و الظاهر أن ذلك الحق المعلوم هو الزكاة لمقارنته مع الصلاة كما في كثير من الآيات حتي قيل: «الاسلام شهادتان و قرينتان» مع ان الانفاق المستحب ليس بمعلوم مضبوط «1» و الأكثر ارادته مطلقا حتي يشمل ما يفرضه الرجل علي نفسه و يكون معلوما من قبله مقدارا و زمانا، فالآية بلسانها بعد الفراغ عن أصل وجوب الزكاة ناظرة الي أن ذلك الواجب تصدّقه محدود معلوم المقدار و المتعلّق، لا شي ء مجهول، بل فيه نصاب واحد معلوم للأجناس المعلومة التي لا بدّ من إنفاق شي ء معلوم منها،

كل ذلك الاطلاق المعلوم، قد فصّلته السنّة المباركة في محله.

و يمكن استيناس المتعلّق من اطلاق الأموال في المقام و في قوله تعالي: خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً … و العمدة منها التي تبتني عليها حياة مجتمع الانسان في مختلف المناطق و شتي الظروف و الأزمنة هي الغلات الأربع و الأنعام الثلاثة و النقدان اللذان بهما يتبادل كل مال، كما لا يخفي.

______________________________

(1)- و لا ينافي ذلك ما في السنّة المباركة من بيان ان ذلك ما يفرضه الانسان علي نفسه من الانفاق علي قدر طاقته وسعة ماله أداء لشكر ما أنعم الله تعالي عليه، و ذلك لعدم الاختصاص فان لسانها جميعا ان ذلك هو الحق المعلوم زائدا علي الزكاة و الخمس، و ان من يفعل كذا فهو مستثني من الذي اذا مسّه الخير منوعا و من الذين يمنعون الماعون … فراجع باب/ 7 أبواب ما تجب فيه الزكاة/ الروايات/ 2 و 3 و 5 و 6.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 157

لا يقال كيف يمكن أن ينحصر وجوب أداء الزكاة بتلك الأموال التي كانت مهمة في الأرمنة السالفة، في حين ان اساس الثروات في زماننا الحاضر هي المعامل الصناعية العظيمة و انتاجاتها المتنوعة المستخدمة في شتي شئون الحياة من المأكولات و المشروبات و المنسوجات، و كذا وجود الآلات و الأدوات و السيارات و الطيارات و غيرها، و الأهم من ذلك وجود المخازن التي تدور عليها تلك المعامل و الانتاجات فتدور عليها رحي حياتهم الاقتصادية و هي أساس حياتهم المادية؟

فانه يقال: نعم، الأمر و إن كان كذلك، إلا أن الشارع المقدّس ما جعله في الأموال بعنوان الزكاة جعله فيما لا تخلو عنه حياة مجتمع انساني، أي لا يمكن أن يعيش

بدونها في اي زمان او مكان و علي اي شرط، و اما سائر الأموال فيؤخذ منها بفروض اخري غيرها ستعرفها فيما بعد، لا أنها تترك متضاعفة متراكمة تنتهي الي نكبات لا تصيبنّ الذين ظلموا خاصة كما سيأتي البحث عنها في الجملة ان شاء الله تعالي.

ثم ان الآية تدل علي ان الوجوب في المقام لا يكون بصورة الحكم حتي يكون تركه عصيانا تكليفيا فقط، بل هو حق معلوم يشترك بنسبته المصرف في أموال المالك فيحرم عليه التصرف فيها بدون اذن الشريك تكليفا و وضعا، فيبطل ما يشترط إباحته كالوضوء بماء اشتراه من هذه الاموال او الصلاة في لباس كذلك، و لا بدّ من الاداء عن أصل تركته كسائر ديونه.

و لعله من ذلك ما ذهب إليه الاستاذ الكبير جامع المعقول و المنقول المجاهد في سبيل الله و الحامي عن شريعته آية الله العظمي الامام الحاج السيد روح الله الموسوي الخميني (مدّ ظلّه الشريف علي رءوس المسلمين) في أن مثل ذلك تقرّبي لا بدّ من قصد اطاعة الامر به مع التوجّه الي الفعل خارجا، لا توصّليّ لم يكن لقصد الأمر دخل فيه أصلا، و لا تعبديّ صرفا يعاقب علي تركه، أو يتوقع غفران الله

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 158

تعالي فيه بل دين عليه.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّٰاتٍ مَعْرُوشٰاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشٰاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّٰانَ مُتَشٰابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشٰابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذٰا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. (الانعام [6] الآية 141)

الآية المباركة بعد بيان حقيقة تكوينية- و هي أحق الحقائق و أظهرها لمن كان له قلب أو ألقي السمع هو شهيد-

تبيّن انه (تعالي) هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّٰاتٍ مَعْرُوشٰاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشٰاتٍ و أنه أوجدها من أسبابها و طرقها الطبيعية و سبلها العامة، و لِلّٰهِ جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ، فأرسل الرياح لواقح بشري بين يدي رحمته، فأنشأ السحاب الثقال، فأنزل منها ماءها، فأحيا به الأرض بعد موتها و الشجر و الدوابّ و أخرج منها مرعاها و أنبت فيها نباتا و أنشأ جنات ألفافا من النخل و الزيتون و الرمان متشابها و غير متشابه، فأعطي كلا منها حياته و أنه أوجدها بألوانها و أنواعها بغصونها و أوراقها و ثمارها مختلفا أكلها، و الأمر كله بيده، و هو علي كل شي ء قدير.

ثم بعد بيان ذلك و ليتّجه النظر إليه أمر بالانتفاع من نعمه تعالي فقال: كلوا من تلك الثمار و كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذٰا أَثْمَرَ، و الطَّيِّبٰاتُ لِلطَّيِّبِينَ، ف هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ف كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.

ثم بعد التوجّه و العناية الي ذلك كله تعرف ان هناك أمرا آخر خطيرا علي ضوء حياة المجتمع و هو حق الله تعالي الخالق البارئ المصوّر لكم الفالق الحبّ و النوي من كل الثمرات في تلك الزروع و النخيل و الرمان، و سهمه فيها عليكم اعطاء حقّه و ردّه إليه تعالي يوم حصاده، و أمواله تعالي لا تردّ إليه إلا بصرفها في مرضاته و سبله باشراف وليّه و بيد خليفته و وصيه، و هو أجمع مصارف الزكاة و أشملها، كما سيأتي بحثه ان شاء الله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 159

فالآية الكريمة تدل علي وجوب أداء شي ء من مطلق الزرع و النخل و الثمار علي وجه الحق للّه تعالي و في سبيله،

إلا أن تقييد الإيتاء بيوم الحصاد، مع أن ظرف تحقق التكليف و الوجوب في الزكاة زمن صدق وجود المتعلق يؤتي أمرا آخر من أن ذلك الحق هو الذي لا بدّ و أن يؤتي بمن حضر الحصاد و المزرعة من شي ء غير مضبوط عرفا، ليس علي المالك شي ء لو لم يحضره فقير، و الزكاة مضبوطة بالعشر و نصف العشر علي المالك إيصاله بعد الحصاد و النصاب.

و الحاصل: ان التقييد بالزمان يحافظ علي الاطلاق في المتعلّق، و يرشد الي أن ما يجب إيتاؤه يوم الحصاد لا يختص بالغلات بل في كل محصول زراعي و هو غير الزكاة، و لذلك يحمل علي الاستحباب كما صرّحت به روايات الباب في تفسير الآية الشريفة. (الوسائل/ كتاب الزكاة) فراجع.

أضف الي ذلك قوله تعالي: وَ لٰا تُسْرِفُوا … «1».

______________________________

(1)- روي المرتضي (رحمه اللّه) في الانتصار عن أبي جعفر (عليه السّلام) في قوله تعالي: «وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ» قال:

ليس ذلك الزكاة، ألا تري أنه قال: «وَ لٰا تُسْرِفُوا»، قال المرتضي: و هذه نكتة مليحة لأن النهي عن السرف لا يكون إلا فيما لم يكن بمقدر و الزكاة مقدر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 160

الفصل الرابع: في مصرف الزكاة

و فيه آية: إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ الْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقٰابِ وَ الْغٰارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. (التوبة [9] الآية 60)

الآية المباركة تدل علي أن الصدقات لا بدّ و أن تصرف في تلك العناوين الثمانية المذكورة فقط، و انها لهم، و هم لها مالكون، فمنها ركوبهم و منها يأكلون، لا أنها مصرف حتي يجوز صرفها في غيرها، كما يجوز فيها، و يجوز صرف

جميعها في بعضها، و ذلك فريضة من الله العليم الحكيم، و ذلك قضية كلمة «إنما» و حرف اللام الزائد علي السياق بعد قوله تعالي: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقٰاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهٰا رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهٰا إِذٰا هُمْ يَسْخَطُونَ مع ان رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) كان يعطيها لمستحقيها الواقعيّين قطعا، و لو أنهم رضوا ما آتاهم الله و رسوله لكان خيرا لهم، ففي المقام قال تعالي: إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ أي لم يكن ذلك بميل من نفسه، و ارادته وراء إرادة الله تعالي و حكمه، و ذلك كلّه يؤيد أن المراد من الصدقات الواجبة منها، و ان كان الاطلاق يشمل المستحبات، إلا أنها لا تنحصر بتلك العناوين، و يجوز صرفها في غيرها، كما يجوز فيها، فهي لها مصرف من غير لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معني، فان المصرف أو الملكية يعينهما تناسب الحكم و الموضوع بعد الظهور في اختصاص «ما» مع كلمة «في» بالنسبة الي «الرقاب و الغارمين و سبيل اللّه».

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 161

فان قلت: الذي يسهل الخطب ان عنوان سبيل الله من أوسع العناوين و يستوعب كل خير بل كل ضرورة في حياة المجتمع الاسلامي بما هو كذلك من غير فرق بين أن تكون العناوين مصارف أو ملّاك و لا أثر عملي لهذا البحث.

قلت: إن مقتضي الملكية لزوم تقسيم الزكاة علي العناوين، و صرف كل سهم في مصاديقه، إلا أن لا يكون له مصداق في الخارج، فيصرف في غيره، و مقتضي كونها مصرفا جواز صرفها في غيرها، و صرف جميعها في بعضها كجواز صرف جميع سهم كلّ عنوان في بعض مصاديقه علي

الاول، و عدم وجوب بسطه علي جميع الافراد أو أقل الجمع، و سبيل الله الواقع رديف الفقراء و المساكين و ابن السبيل غيرها من الخيرات، و إلا لم يكن لذكر غيره معني، و إن كان الاطلاق يشملها فالأقرب كما عرفت ان العناوين مصارف بحكم الاطلاق، لا ملّاك لظهور اللام.

و احتمال الملكية في الأربعة الأولي لمكان «اللام» و المصرف في الاربعة الثانية لمكان «في» لو لا أنه خلاف ما عليه الاصحاب لكان له وجه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 162

الفصل الخامس: كيفية إيتاء الزكاة

يبحث هذا الفصل في الكيفية التي ينبغي أن يكون الانفاق بالمعني الأعم و إيتاء الزكاة عليها بالأخص من ناحية المنفق و المنفق عليه، و ما ينفق، و لكل منها آيات:

أما القسم الأول فآياته:

الأولي- قوله تعالي:

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ ثُمَّ لٰا يُتْبِعُونَ مٰا أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لٰا أَذيً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لٰا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لٰا هُمْ يَحْزَنُونَ. (البقرة [2] الآية 262)

بعد بيان الانفاق بطبيعته، واجبا كان أو مستحبا، و انّه لا يكون تضييعا للمال أو تركا له، و انما هو عملية بذر لينتج منها بدل كل حبة سبعمائة حبة حيث يقول تعالي:

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنٰابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّٰهُ يُضٰاعِفُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 261)

بعد ذلك تصرّح الآية الكريمة بأن الانفاق المرغوب فيه، المأجور عليه بأضعاف مضاعفة، هو الذي لا يتبع فيه المنفق المنّ و الأذي، و إلا لم يكن له وجه، فلا يتوهّم من أن إثبات الشي ء لا ينفي غيره.

فعلي المنفق الانفاق بوجه لا يتأذي المنفق عليه أو يشعر بالحقارة أو الافتقار

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص:

163

الي الناس لاستعلاء المعطي و إظهاره الاستغناء، فيؤدي إليه و يعطيه بما أنه أمر الله تعالي، أو أنه ندب إليه، و يعتذر منه لقلّته، و يشكره علي قبوله لتفريغ ذمّته لاستحقاقه الثواب بواسطته، و كذلك القابل يأخذه علي اعتقاد أخذه من يد الله تعالي الآمر به، فانه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر، و المعطون هم أيدي الله تعالي و جنوده، و كما في السنّة المباركة: لا بدّ و أن يجعل المعطي يده تحت يد القابل ليقبض منها معتقدا أن الله تعالي هو الذي يأخذ الصدقات و يقبل التوبات، فلا يشعر كل منهما علوّا علي الآخر، ليتأذي غير العالي منهما، و الله تعالي جلّ و علا بينهما و لا علوّ إلا للّه.

الثانية- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُبْطِلُوا صَدَقٰاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذيٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مٰالَهُ رِئٰاءَ النّٰاسِ وَ لٰا يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوٰانٍ عَلَيْهِ تُرٰابٌ فَأَصٰابَهُ وٰابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لٰا يَقْدِرُونَ عَليٰ شَيْ ءٍ مِمّٰا كَسَبُوا وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكٰافِرِينَ.

(البقرة [2] الآية 264)

تخاطب الآية المباركة المؤمنين و تنهاهم عن إبطال الصدقات بالمنّ و الأذي و انهما يفسدانها و يجعلانها كأن لم تكن شيئا، و بالتمثيل يجعل الأمر في غاية الوضوح من أنه لا فرق بين المنفق المؤمن بالله تعالي و اليوم الآخر اذا اتبع إنفاقه منّا أو أذي، و بين الذي لا يؤمن بالله و اليوم الآخر و ينفق ماله رئاء الناس و تظاهرا لديهم بالخير لأغراض دنيوية، فان سعي كليهما هباء، و كل منهما كمن ينثر بذره علي صلد علي تراب بل غبار فأصابه المطر الشديد الوابل و أزال التراب و البذور و جعله خاليا فتركه

صلدا، فلا يحصدان ممّا حرثا شيئا و لا يقدران علي شي ء ممّا عملا.

و أما الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله فقط من دون منّ و أذي و من غير توقع شكر و أجر، فالله تعالي هو الذي يقبل منهم الصدقات، و يوفيهم أجورهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 164

مضاعفة، حيث قال: وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمُ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اللّٰهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصٰابَهٰا وٰابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهٰا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهٰا وٰابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. (البقرة [2] الآية 265)

الثالثة- قوله تعالي:

… وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ مٰا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغٰاءَ وَجْهِ اللّٰهِ وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لٰا تُظْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 272)

بعد افادة الآية الكريمة انّ الانفاق من الخير لا يعود إلا علي المنفق نفسه جزاء لعمله، و إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، توضح ان المعطي لا بدّ و أن يكون مبتغيا بذلك وجه الله، و لا يريد به الشهرة او رضا الناس، فانه اذا كان خيرا و لوجه الله سيوفيّ إليه اجره تاما من غير تخسير و غير ظلم، وَ اللّٰهُ يُضٰاعِفُ لِمَنْ يَشٰاءُ، و اما اذا لم يكن كذلك، فهو هباء ضائع باطل، و الشيطان يعدكم الفقر و الله تعالي يعدكم مغفرة منه و رحمة.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ مٰا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوٰالِ النّٰاسِ فَلٰا يَرْبُوا عِنْدَ اللّٰهِ وَ مٰا آتَيْتُمْ مِنْ زَكٰاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ. (الروم [30] الآية 39)

صراحة الآية المباركة: ان الزكاة اذا أوتيت لله تعالي و ابتغاء وجهه و رضاه، فيرتجي منه تعالي المضاعفة في الأجر و الإكثار في الثمر، كما صرّح به التمثيل السابق

مؤكّدا ذلك بأن ما ترونه تزايدا و تضاعفا عند الناس فهو عند الله تناقص، فانه تعالي يمحق الربا و يربي الصدقات اذا كانت له سبحانه دون غيره او دون رئاء الناس.

فالمنفق لا بدّ و أن يبتغي بصدقاته الواجبة او المستحبة وجه الله تعالي و رضاه من غير تظاهر و رئاء للناس، سواء كان ذلك جهارا و علي رءوس الأشهاد ترغيبا للغير و تشويقا للآخرين، أو علي خفاء و تستّر تحفّظا علي قصد القربة تأكيدا للإخلاص،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 165

و بالليل كان او بالنهار، فقد قال تعالي: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقٰاتِ فَنِعِمّٰا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوهٰا وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَرٰاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* … الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ سِرًّا وَ عَلٰانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لٰا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لٰا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة [2] الآية 271 و 274). و لا يبعد دلالة ذيل الاولي علي رجحان التستّر و الإخفاء بعد حفظ قصد القربة فيهما كما لا يخفي «1».

كل ذلك يدل علي أن الصدقات و منها الزكاة تقرّبيّات يتوقّف الامتثال عليها و الثواب علي قصد القربة و الاخلاص، لا توصّليّات حتي يحصل الغرض بمجرّد إعطاء المال و لو رئاء للناس، و لا تعبّديات حتي يتوقع في تركها الغفران، و لكن مع ذلك كله لو لم يقصد الخلاف من الرئاء و طلب الشهرة و لم يتبعه المنّ و الأذي المبطل فالظاهر انه تعالي يوفّي إليه أجره من غير تخسير «2».

نعم اذا أشرك غيره، فالله خير شريك حيث يترك سهمه لشريكه، فكيف اذا أراد غيره. و أما في القسم الثاني اي كيفية المنفق عليه ففيه آية:

و هي

قوله تعالي:

لِلْفُقَرٰاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ لٰا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجٰاهِلُ أَغْنِيٰاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمٰاهُمْ لٰا يَسْئَلُونَ النّٰاسَ إِلْحٰافاً وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّٰهَ بِهِ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 273)

قد عرفت من قبل ان موارد الزكاة و مستحقيها ثمانية أوسعها وجها سبيل الله

______________________________

(1)- ظاهر اطلاق الخير في الإبداء و تقييده ب «لكم» و ما بعده في الاخفاء يؤيد ما ذكرنا من نشر الحق في الاول، فانه خير مطلق، و حفظ قصد القربة في الثاني فانه خير للمنفق، و ذلك إن كان يجري في كل من الواجب و المندوب إلا انه لسهولة تحقق الرياء في الثاني لا يبعد الجمع بأن الاول خير في الواجب و الثاني في المندوب.

(2)- فان مفاد الآية في أنّ إرادة وجه الله و قصد القربة يوجب التضاعف المشار إليه في آية أخري: «مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا» و أما بدونها فلم يحكم بالبطلان و الآية السابقة في مقام الترغيب علي أصل الانفاق، و ان اللّه تعالي يوفيه إليكم، و لا مفهوم للقيد حتي يكون بدون القربة كالعدم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 166

تعالي، و لا بدّ من تقديم الأهم فالمهم من مصالح الامة الاسلامية حسب رأي حاكمهم الشرعي، و في الباب رعاية ذلك في مصاديق سائر العناوين و منها الفقراء، فان الذين أحصروا منهم في سبيل الله، بأن كانوا متمكّنين من الضرب في الأرض و ابتغاء فضل الله بالتكسّب المشروع ثم صاروا في طريقهم ذلك بعد مراعاة الحدود و الأحكام محصورين محدودين لا يستطيعون التكسب فهم مفلسون، و مع ذلك لا يسألون الناس إلحافا و إلحاحا تستّرا علي فقرهم و تعززا لشرفهم و كرامتهم، بحيث يحسبهم

الجاهل أغنياء لتعففهم و لحفظهم علي الفضيلة الانسانية، إلا أنّ من كان له معرفة دقيقة يعرفهم بسيماهم و المؤمن بشره في وجهه و حزنه في قلبه، و لكن أخاه المؤمن كيّس فطن يدرك البشر أنه عن حزن، فالمؤمنون مقدمون علي سائر الفقراء، و لا سيما السائلين المصرّين الذين يعرفون من ظاهر حالهم، فيعطون الكفاف، فكيف الذين صار ذلك مكسبا لهم مع تمكّنهم من الضرب في الأرض و إن كانوا صادقين.

و حاصل مفاد الآية المباركة- و الله سبحانه أعلم- انه لا بدّ من تقديم الأهم الألزم في كل من موارد الصدقات و مصارفها من الفقراء و المساكين و ابن السبيل الي سبيل الله الواسع.

و حيث لم يكن ذلك مشخّصا و لا يعرفه كل أحد، لا سيما علي مستوي مصالح الامة و المجتمع الاسلامي، و ان الحاكم الاسلامي و وليّ أمر المسلمين- الذي بيده مجاري الأمور- أعرف بذلك، لاطلاعه عليها و تمكّنه منها و من مقارنة بعضها مع بعض في الزمان و المكان و المناخ الحاكم، و ان كان غيره- أحيانا- يري موردا أهم مما في نظره، و لعله مهم بالنسبة الي ما رآه الحاكم أهم، فانه العارف بزمانه، فلا بدّ و ان ينتظم المصرف و يتعيّن المنفق عليه أو المنفق فيه بنظر الحاكم كلما أمكن، فانه المسئول- أولا- عن حفظ مصالح الاسلام و المسلمين، لا سيما التي وضعت لها تلك الصدقات و الأموال، و بعد عدم الإمكان فلا بد من نظارة العدول العارفين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 167

و هكذا، فانها مما لا يرضي الشارع بتركها من غير دخل لخصوص المباشر.

و أما القسم الثالث فهو مال الإنفاق الذي ينفقه في سبيل الله بوجه قد عرفته و لا

بدّ و أن يكون من أطيبه و أحسنه و ما يحبّه المنفق، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا كَسَبْتُمْ وَ مِمّٰا أَخْرَجْنٰا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لٰا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلّٰا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ. (البقرة [2] الآية 267)

مركز ثقل الآية المباركة و اعتمادها- كما تري- بيان خصوصية مال الإنفاق بعد الفراغ عن أصل مطلوبيته وجوبا أو استحبابا، فانه تعالي أمر المؤمنين بالإنفاق من طيبات أموالهم سواء كان من مكتسباتهم المصنوعة من الذهب و الفضّة أو محصولاتهم المحصودة التي أخرجها الله تعالي لهم من الأرض كالغلات الأربع التي هي العمدة، و علي الاطلاق مطلقا «1» كما هو ظاهر الآية ثم ينهاهم عن إنفاق الخبائث و الأدني من الأموال التي لم يكونوا يأخذونها إن أعطوها إلا بعد الإغماض و التغافل عن رداءته «2»، أو انهم لم يكونوا ليأخذوا أجر الانفاق و جزاءه إلا بعد التساهل و التغافل عن الخبائث و أدني الأموال، و التوجّه الي الطيبات منها، فتكون تأكيدا للجملة الأولي، و الظاهر الأول.

و الحاصل: انه لا فرق بينكم و بين الذين تنفقون عليهم، فاجعلوا أنفسكم ميزانا في الانتخاب لو كنتم أنتم آخذين، و اعلموا أن الله تعالي هو الذي يقبل الصدقات و يأخذها، فاستأثروا الطيّب منها و الحسن فهو الغنيّ عما تنفقون و هو حميد، إليه ترجع الامور و حمدها، و ما أنفقتم فلأنفسكم و الله يعلم ما تختارونه من

______________________________

(1)- فان اطلاق الانفاق يشمل الواجب و النفل و يساعده اطلاق ما أخرجنا لكم من الأرض.

(2)- قال في المفردات: الغمض: النوم العارض، و غمض عينه و أغمضها وضع إحدي جفنيه علي

الاخري ثم يستعار للتغافل و التساهل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 168

أموالكم و تنفقونه من صدقة أو نذر:

وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُهُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ (البقرة [2] الآية 270)، فمن أنفق من غير الطيّب من ماله إيفاء لواجبه أو مستحبه من حكم إلهي أو نذر أوجبه علي نفسه فقد ظلم نفسه و ما له من ناصر يعينه ليجبر خسرانه.

الثانية- قوله تعالي:

لَنْ تَنٰالُوا الْبِرَّ حَتّٰي تُنْفِقُوا مِمّٰا تُحِبُّونَ وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللّٰهَ بِهِ عَلِيمٌ. (آل عمران [3] الآية 92)

صراحة الآية الكريمة: نفي نيل البرّ من ناحية الانفاق حتي يكون ما ينفق مما يحبّه المنفق من أمواله، فلا برّ في انفاق غير المحبوب من المال الذي لم تكونوا بآخذيه إن أوتيتموه، و الله تعالي يعلم ما تنفقون من شي ء و انه محبوب لديكم أو لا، فأنتم و أنفسكم، فهل ستنفقون ممّا تحبون أو لا؟ ذلك بينكم و بين الله، سواء كان في منظر الناس و مرأي منهم أو لم يكن، فان كثيرا ما يكون الشي ء محبوبا عندكم من ناحية الظروف و المناخ الذي تعيشونه، و لا يكون عند الناس كذلك لجهلهم بما أنتم فيه.

فالآية الكريمة تدل علي أن الانفاق لا بدّ و أن يكون من المال المحبوب الطيّب.

الثالثة- ثالثة القسم الأول:

فانها تدل علي لزوم قصد القربة و تدل أيضا علي أن الانفاق اذا كان من خير و من المحبوب و الطيّب فسوف يوفي الي منفقه الأجر و الخير.

و الّذي ينبغي أن نذكره في ختام هذا البحث ان لزوم قصد القربة و ترك المنّ و الإيذاء، و النفاق من طيّب المال و محبوبه، ظاهر في قربيّة الأمر

و عباديّته، بحيث لا ينال المنفق الأجر العبادي القربي لدي ترك كل منهما، و أما توقف براءة ذمته في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 169

الواجب منه عليها وضعا بحيث لو لم يقصد القربة أو اتبع انفاقه المنّ و الأذي «1» أو أنفق من غير طيّب المال بعد أصل الصدق، كان عليه الأداء ثانيا، فمشكل، سواء قصد الرئاء أو لا، و الغرض الأصلي هو الايصال و تأمين احتياجات الأمة بواسطة الحاكم الشرعي و علي يده في الماليات، و ان كان حلاله أمرا آخر روحيا كما في كل الأحكام المالية.

نتيجة البحث

1- يجب علي المسلمين التصدّق بشي ء من أموالهم في الجملة و يسمي بالزكاة، و يجب علي وليّهم- معصوما كان أو نائبه- المطالبة بها و أخذها من الواجدين لشروطها، و علي الآخذ الصلاة و الدعاء للمعطي في الجملة، فإن الدعاء سكن له.

2- يستحب الانفاق و التصدّق من كل متمكن علي كل مستحق مطلقا.

3- الزكاة الواجبة تشمل ما يصدق عليه أموال الناس في مختلف المناطق و شتي الشروط من الغلات الاربع كالحنطة و الشعير و التمر «2» و الزبيب، و كذا الأنعام الثلاثة: الغنم و البقر و الابل، و النقدين اللذين يتبادل بهما كل مال «3» و أما في غيرها من الأموال المختلفة فيؤخذ منها بعنوان آخر ينطبق علي اختلافها وجودا و عدما و اعتبارا من ربح الكسب كما سيأتي البحث عنه ان شاء الله.

4- ما يجب انفاقه زكاة حق معلوم بحسب ما فيه من النصاب، و ما ينفق من المقدار فيحرم تركه تكليفا، و لا يجوز التصرف فيه قبل الاداء وضعا، فتبطل الصلاة فيه أو الوضوء به، كما يحرم علي العامل طلب الزائد من المقدار أو من غير الجنس،

______________________________

(1)-

و ابطالهما الصدقات راجع الي حيثيته التكليفية دون الوضعية.

(2)- ان قلت: كما ان التمر في حد الحنطة لدي سكنة المناطق الحارة كذلك الأرز لدي المناطق الرطبة، قلت:

نعم بعد خصوصية في التمر أثبتها علماء معرفة الغذاء من جامعيته و حيث لم يصرّح به في السنة المباركة فيؤخذ منه بنحو آخر من أرباح المكاسب بعد الاستحباب في كل حب.

(3)- أي المسكوك المتداول دون غيره و دون المتخذ منه زينة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 170

نعم يجوز الأخذ لو أدي المالك بنفسه استحبابا.

5- الزكاة لِلْفُقَرٰاءِ، وَ الْمَسٰاكِينِ، وَ الْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا، وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَ فِي الرِّقٰابِ، وَ الْغٰارِمِينَ، وَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ، وَ ابْنِ السَّبِيلِ، و هم لها مالكون و سبيل الله يشمل كل خير يلزم للأمة الاسلامية بما هي أمة مسلمة، لا كلّ ما يطلبه المجتمع و يراه خيرا بما هو، فيحرم صرفها في غير المصرف، و يجب تقسيمها علي مالكيها، إلا أن لا يوجد لعنوان مصداق، و أما سهم كل عنوان فلا يجب تقسيمه علي جميع المصاديق، بل يجوز الانفاق علي فرد واحد، حتي يخرج عن العنوان.

6- الانفاق- واجبا كان أو مستحبا- لا بدّ و أن يكون لابتغاء وجه الله تعالي خالصا له، و لذلك يستحب أن يكون مستورا و لا سيما في المستحب منه تأكيدا للقربة، أو جهارا أحيانا ترويجا للخير، و أن يكون من طيّب المال و محبوبه، و أن لا يتبع انفاقه المنّ أو الأذي، و ان كان الظاهر براء ذمّته بدون ذلك من دون أجر و ثواب.

7- علي وليّ المسلمين و متصدي الامور مراعاة الأهم فالأهم في مصرف الزكاة، مع القول بمالكية المذكورات، و أعظم مراتب سبيل الله الجهاد في طريق اعلاء كلمة

الحق و الدفاع عن الاسلام و مختلف شئون المسلمين بأي طريق اقتضاه الظرف الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي علي رأي الحاكم.

ثم انك بالتأمل في فروع الكتاب علي اجمالها من دون بيان حدود المتعلق من النصاب و الحول و السوم و بيان المقدار من العشر و نصفه او العدد في كل نصاب و غيرها مما تراه علي التفصيل في المفصلات تعرف أيضا درجة التلازم بين الكتاب العزيز و السنّة المباركة و انهما لن يفترقا الي يوم القيامة، اللّهم اجعلنا من المتمسّكين بهما اطاعة لأمر الله تعالي في كتابه و لأمر رسوله في سنّته، آمين رب العالمين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 171

كتاب الخمس و الأنفال

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 173

الفصل الأول: موارد الخمس

و فيه آيات: الأولي- قوله تعالي:

وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبيٰ وَ الْيَتٰاميٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَليٰ عَبْدِنٰا يَوْمَ الْفُرْقٰانِ يَوْمَ الْتَقَي الْجَمْعٰانِ وَ اللّٰهُ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ. (الانفال [8] الآية 41)

الآية المباركة بصراحتها تحكم بالقطع بأن كل ما اغتنمه المسلمون من أي شي ء لا يملكونه بأجمعه، بل لهم أربعة أخماسه و خمسه الآخر هو للّه و للرسول و لذي القربي، و اليتامي و المساكين و ابن السبيل.

و الغنيمة كل ما استفاده الانسان من اي طريق مشروع كما في اللغة «1»، و جاء في السنّة المباركة: «… هي و اللّه الافادة يوما بيوم» «2» و ما يغتنم في الحرب هو أجلي المصاديق لها، و الانصراف بعد الاطلاق حتي ينحصر به كما توهمه البعض فيه ما لا يخفي.

و السياق من قوله تعالي: قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰي لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّٰهِ ينبئ عن أنها آيات نازلة في الجهاد بعد كلام فيه مورد للحكم لا موضوع، و هو غير مخصّص للوارد، فكل ما يبقي من الفوائد الخاصّة للمسلم عن اكتساباته و استنتاجاته مطلقا كاستخراج المعدن أو ما يستخرج بالغوص أو مطلق التجارة الشاملة للزراعة

______________________________

(1)- للصديق الحاج الشيخ رضا استاذي رسالة وجيزة عدّ فيها مائة مورد من أهل اللغة و الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) يدل علي المطلوب عملها، شكر اللّه سعيه.

(2)- التهذيب: ج 4 ص 121 رواية 1.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 174

و الصناعة و الطبابة و … الخ، أو الكنز- بعد إخراج المؤن- غنيمة أيضا يجب اداء خمسها.

فمتعلق الخمس الاشياء الأربعة مع

غنائم الحرب «1»، و التقييد بإخراج المؤن لعدم الصدق قبله كتقييد غنائم الحرب باخراج صفوة الملوك بالملاك.

و من ذلك يتضح أن لا خمس في الهدايا و المهور و الارث المحتسب لعدم الصدق دون غير المحتسب منه، فانه فيه الخمس للصدق عرفا، و لذلك يعتبر في المعادن و ما يستخرج بالغوص، و كذا الكنز وجود نصاب و حدّ لا يعدّ دونه غنيمة عرفا و ان صح لغة.

ثم ان ظاهر التقسيم أن يقسم الخمس الي نصفين: نصف للّه و لرسوله و لذي القربي، و نصفه الآخر لليتامي و المساكين و ابن السبيل، و التنصيف دون التسديس و اختصاص كل عنوان بسدس لاختلاف التعبير في الثلاثة الأخير بترك اللام، و من ذلك يستظهر التعلّق بذي القربي فيفيد الاختصاص بهم اذا كانوا منهم، و أما اذا كانوا من غيرهم فسهمهم من الزكاة كما عرفت من الاطلاق قبال محروميّتهم من الزكاة بالسنّة المباركة «2» كمحروميّتهم من الخمس.

و عليه فسهم الله تعالي سدس الخمس، يصرف في مراضيه تعالي بيد وليّ امره و مبلّغ رسالاته، و هو رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو وصيه، أو من ينوب عنه، و اما سهم الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فهو له في حياته، يصرفه فيما يشاء في شئون حياته و ما يتعلق بشئون ولايته علي المسلمين، و من بعده (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يرثه وصيّه و خليفته، دون من يرثه بما هو مورث أولاده و أزواجه أمواله الشخصية، اي فيما تصرف فيه

______________________________

(1)- و أما المال المختلط، و الأرض اذا اشتراها ذمّي عن مسلم فحكمها مستفاد من الروايات.

(2)- و ان كان اطلاق ولاية الحاكم يقتضي لزوم

تأمين افتقارات كل من سهم الآخر اذا لم يف سهمه مما في بيت المال، و لا ينافي ذلك أصل التسهيم و التفكيك كما تراه في الحكومات الاخري، و تفصيل الكلام في محله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 175

زمن حياته و صار ملكا له بذلك العنوان.

و اما سهم ذي القربي فهو لقرابات رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يصرفه فيهم هو بنفسه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو وصيه أو من ينوب عنه، و كان (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يصرفه فيها زمن حياته باتفاق الفريقين، و بعده فالامام (عليه السّلام) أجلي مصاديقه زائدا علي ولايته عليهم فيرجع إليه ذلك السهم بما أنه من ذي القربي و ولايته عليهم كولايته علي غيرهم، و له صرفه فيما شاء من شئونه الحياتية و المعاشية و اعطائه قرابات الرسول لولايته عليهم؛ و لعل هذا معني ما تكرر علي لسان أئمتنا (عليهم السّلام) من قولهم: «نحن و الله ذو القربي» «1».

اذا اتّضح ذلك من ظاهر الآية يتم القول بأن نصف الخمس و هو ثلاثة أسداس يكون للامام (عليه السّلام) و هو ملكه، لكونه وليّ الله و وصيّ رسوله، و هو أجلي مصاديق ذي القربي، و يقال له: سهم الامام، و نصفه الآخر ثلاثة أسداس أيضا يكون للسادة- أعزهم الله- لما عرفت من الاختصاص، و يقال له: سهم السادة.

ثم ان تقسيم الخمس الي نصفين و اعطاء سهم الامام (عليه السّلام) و الرجوع إليه، و اعطاء سهم السادات إليهم بولايته واجب ظاهر، و اما تقسيم سهم السادات بين يتاماهم و مساكينهم و ابن السبيل منهم فلا يجب، كما لا يجب تقسيم سهم منهم بين جميع مصاديقه

و لا حتي يقاس بالمالكين للزكاة كما عرفت، و في الثلاثة الأولي يرجع سهم ذي القربي الي الامام (عليه السّلام) كما عرفت «2».

و من المعلوم ان اطلاق المتوهّم من قوله تعالي: فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلٰالًا طَيِّباً … (الأنفال [8] الآية 69). مخصّص بآية الغنيمة، مع ان التفريع في المقام

______________________________

(1)- و أما ذو القربي في قوله تعالي: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبيٰ حَقَّهُ» (الاسراء [17] 26) و كذا قوله تعالي: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي الْقُرْبيٰ …» (النحل [16] 90) فهم أقرباء الانسان و مطلق الرحم كما هو ظاهر سياق الآيات و لا ينافي التطبيق مع أقرباء الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بعنوان المصداق كما في السنّة المباركة.

(2)- و قد أشبعنا الكلام في شتات شئون بحث الخمس و فروعه في رسالتنا فيه خلال أبحاث فقهية تشتمل علي رسائل أعددناها علي مسلك الأصحاب (رضوان اللّه عليهم).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 176

يخصص الحكم بما غنمه المسلمون وقتئذ و تصرّفوا فيه، يريدون بذلك عرض الدنيا، و الله يريد الآخرة، و لَوْ لٰا كِتٰابٌ مِنَ اللّٰهِ سَبَقَ لمسّهم فيما أخذوا عذاب أليم، كما صرّحت به الآيات المباركات.

الثانية- قوله تعالي:

فَآتِ ذَا الْقُرْبيٰ حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ذٰلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. (الروم [30] الآية 38)

لا يبعد دلالة الآية علي لزوم قصد القربة عند أداء حق ذي القربي بعد وجوبه، و المعطوف عليه بحكم التقييد بأن ذلك خير للذين يريدون وجه الله تعالي و قربته دون غيرهم، فكذلك الأمر في المعطوف به في آية الخمس بحيث يتوقف الفلاح عليه «1»، فالخمس عمل قربي أيضا لا بدّ فيه من قصد

القربة، و ان كان الظاهر براءة ذمّة المؤدّي بدونها، و لا ثواب له، و لا يعاقب علي تركها كما ذكرنا في الزكاة، ما لم يقصد خلاف القربة من رئاء الناس.

______________________________

(1)- و ذلك باستظهار وحدة الملاك دون القياس.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 177

الفصل الثاني: الأنفال

قال تعالي:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّٰهَ وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

(الانفال [8] الآية 1 و 2) «1»

الأنفال: هو كل مال لم يملكه مالك شخصي معيّن باحدي الأسباب المملّكة الأولية كالحيازة و التحجير و الاصطياد علي شروطها المعيّنة، أو الثانويّة كالإرث و البيع و الاجارة، أو من ناحية المعاملات بالمعني الأعم علي أحكامها المقدرة، فهو لمالك الملوك اعتبارا أيضا و يتصرف فيه وليّه بصرفه في مراضيه تعالي، فان النفل الزيادة.

و بعبارة أخري: الأنفال كل ما خلقه الله تعالي لانتفاع الناس و تمتّعهم به علي المجاري الطبيعية و الأحكام الشرعية المعبّر عنه بأموال الشعب و الأمة و لم يملكه مالك محدد فلا ينحصر بالبحار و الجبال و الأودية و الآجام بما فيها من لحوم و زينة و اجراء الفلك أو معادن و مراتع و منافع اخري، كما لا ينحصر بأصول البلاد و المدن

______________________________

(1)- الجواب المذكور في الآية الكريمة يدل علي ان المسئول عنه هو الحكم دون الموضوع، فلا بد من مراجعة روايات الباب في معني الانفال و مقتضي المذكورات فيها بملاكاتها علي ما ذكرنا، فراجع الوسائل/ ج 2/ باب الأنفال.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 178

من طرقها و ميادينها و أبنيتها العامة، بل يشمل الهواء و الفضاء المستفاد منها بواسطة أدوات مجهّزة متنوعة أو بأجهزة منصوبة أو دائرة أو سائرة،

المتداولة في زماننا هذا من طائرات و أقمار صناعية و اذاعات و اتصالات و سفن فضائية و كل ما ينتفع بها في مصالح الشعب العامة «1»، هذا بحسب الموضوع و لا يشمل صفوة الملوك «2».

و الآية الكريمة تحكم بأن ذلك كلّه أنفال، و انه للّه تعالي، لا بد ان يصرف في مرضاته بيد أمينه و وليه من إعلاء كلمته، و إنفاذ نوره في قلوب عباده، و ترفيه معاش الناس بمختلف شئونه لتأمين معادهم كبناء المساجد و المعاهد و المدارس و المستشفيات و المصانع و المعامل العامة و غيرها و ادارة ذلك كلّه من شئونه.

و الرسول الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بما أنّه رسول الله و أمينه، فانه يأخذ الكل و يتصرف فيه بعد تأمين معاشه الشخصي في مصالح الامة الاسلامية، و هو (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) زعيم الأمة و قائد المسلمين في شئونهم الاقتصادية و المالية و في جميع شئونهم العامة، و له التصرّف فيها، و علي الامة اطاعة الله تعالي في تشريعاته و اطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في أوامره و نواهيه، و العمل بأمر الله و الرسول، و ترك التشاجر و التناحر، و الأخذ باصلاح ذات البين إن كانوا مؤمنين.

و من المعلوم ان تلك التصرّفات بيد الله تعالي و رسوله تكون بواسطة الوكلاء و النوّاب و العمّال الذين انتخبوا علي نظام مشروع في المباحث الحكومية و الولاية الاسلامية، كما سيأتي البحث عنه ان شاء الله، و قد فصلنا البحث فيه في ولاية الفقيه خلال (أبحاث فقهية) أيضا.

______________________________

(1)- و ذلك مستفاد من مناط المذكورات في روايات الباب و ملاكها فانه لا فرق بين رءوس

الجبال و بطون الأودية مع ما ذكرنا.

(2)- و لعلّها من مختصات نفسه، بما هو يصرفه فيما يشاء كصفوة الغنائم و ليس كرءوس الجبال و بطون الأودية و الأرض الموات و الأرض الخربة و ما لم يوجف عليه بخيل و ركاب و المسلم عليها أهلها، المذكورات في روايات الباب الظاهرة في أنها للامام يصرفها في مصالح الأنام، و هذا هو الملاك و المناط المستفاد من متون الأنفال كما ذكرنا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 179

و من ذلك لا يجوز لأحد أن يتصرف في تلك الأموال إلا بإذن من الله و رسوله بوجه، فان فيها حقوق جميع أفراد الأمة، كما انه ليس للمتصرف أن يتصرّف فيها علي خلاف مصالح الامة في منافع شخصه، إلا في سهم نفسه، فليصرفه في معيشته كيفما شاء، ما لم يعارض صلاح الامة كما هو ظاهر، فاتقوا الله تعالي فيها، و اصلحوا ما اختلفتم فيه علي أساس اطاعة الله و رسوله في الحكم بأنها للّه و للرسول، لا بدّ و أن تصرف في مرضاة الله و مصالح الرسالة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 180

الفصل الثالث: الفي ء

قال تعالي:

مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَليٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُريٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبيٰ وَ الْيَتٰاميٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لٰا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيٰاءِ مِنْكُمْ وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ.

(الحشر [59] الآية 7)

الفي ء: الرجوع لغة «1»، أطلق علي ما أفاءه الله تعالي علي رسوله، و أعاده إليه و سلّطه عليه، بعد ما خرج، فان الارض و ما فيها و من عليها بل و السماء و ما بينها للّه و لرسوله علي ما حقّق في محله

لدي البحث عن غرض الخلقة و هدف الحياة، و انّ كلّ ما خلقه الله و فطره لم يكن إلّا لظهور الحق و توحيد المطلق، و لئلا يضل عن السبيل إلا الانسان الظلوم الجهول بكفره.

فكل دار أو قرية لم يكن أهلها مسلمين، أو لم يكونوا علي حق، فقد ضلّوا عن السبيل و خرجوا عمّا خلق لهم، فاذا أفاءها الله تعالي علي رسوله من دون خيل و ركاب و بلا مقاتلة و حرب، فقد عادت تلك الدور أو القري الي طريق الحق، و فاءت الي سبيل الخير، فهي في ء لا يصدق عليها عنوان الغنيمة، حيث انها اعيدت بالخيل

______________________________

(1)- عن شاعرة البادية جوابا من سألها أين أبوك؟ قالت:

فاء الي الفيفاء ليفي ء الفيئا فاذا فاء الفيفاء فاء أبي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 181

و القتال و أخذت غنما و ما عادت، قال تعالي: وَ مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَليٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لٰا رِكٰابٍ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَليٰ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (الحشر [59] الآية 6)، و في الغنيمة قال: وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ …، و اغتنام المسلمين غير افاءة الله تعالي، و الأول بعد اخراج خمسه فهو لمخرج الخمس، و الثاني: للّه تعالي و للرسول، و ما أفاء الله تعالي ليس لكم لأنكم ما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب بل سلّط الله رسوله عليه و اللّه يسلّط رسله علي من يشاء. هذا بحسب الموضوع، و الحكم انه للّه و لرسوله و لذي القربي و اليتامي و المساكين و ابن السبيل، و قد عرفت في آية الغنيمة معني ذي القربي و لو بعنوان

أجلي المصاديق غير الخارج قطعا، و ولايته (عليه السّلام) علي الأصناف الثلاثة الأخيرة، فيعود الأمر الي انه للّه و لرسوله و لذي القربي، و يتصرف فيه وليّهم الأكرم رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في حياته و خليفته بالحق الامام المعصوم (عليه السّلام)، و نائبه و وكيله بعد وفاته في مرضاة الله و مصالح الرسالة بعد تأمين مصارف الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و سائر المذكورات.

فيوافق الفي ء الخمس في الحكم جوازا و حرمة، لا يجوز لأحد أن يتصرّف فيه بلا إذن من الله و وليّه، كما لا يجوز للمأذون التصرّف فيه علي خلاف مصالح المسلمين، و قد عدّه البعض من الأنفال موضوعا و حكما، و الأقوي ما عرفت حسب ظهور الآية، فلا يجوز بيع أراضيه و أشجاره بل اجارتها لمسلم، كمدينة مكة في الحجاز و بعض بلاد ايران مثل الاهواز. و التصرف فيها راجع الي حقوق اخري كالتقدم او العمل كالبناء بل نفس الأبنية، كل ذلك لئلا يكون دولة بين الأغنياء منكم يتصرفون فيه كما شاءوا.

و حيث ان الحكم كان خلاف توقّع المسلمين الحاضرين في فتح القري المنتظرين لتقسيم الفي ء بينهم، و ذلك مثل توقّع المحاربين لتقسيم جميع الغنيمة بين الفاتحين دون اخراج الخمس، لذا قال تعالي: مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 182

وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ كقوله تعالي آخر آية الغنيمة: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ … كما عرفت «1».

______________________________

(1)- و لا بأس أن نشير هنا الي أمر؛ و هو أنك قد عرفت ان المعادن مما فيها الخمس سواء كانت في أراضي الانفال أو الفي ء او المملوكة الشخصية لصدق

الغنيمة و اما في غير الشخصية فيصرف جميعها في المصارف علي نظارة وليّ المسلمين كأصل استخراجها إذ لا بدّ و أن يكون بولايته و اجازته فيها و في خمسها، و لا فرق بين سهامها الستّة ثلاثتها الأولي المعبّر عنها بسهم الامام (عليه السّلام) و الاخيرة بسهم السادات.

و مما يرشد الي ضرورة ذلك- بعد أدلتها- النظر الي حجم معدن واحد اذا كان بيد المسلمين، و هو أساس اقتصادهم، و قطب رحي صنايعهم، بل انه أنفذ عامل في ادارة دوائر المعامل العظيمة و الصنائع العصرية العالمية، فهو اقوي سلاح بيد المسلمين كما أثبته دور النفط و مشتقاته. و أنت تعلم ان ثلثي مجموع المعادن الكثيرة المختلفة اليوم هي تحت تصرف المسلمين و في أقطارهم، صانهم الله تعالي و عواصمهم عن الحدثان و قوّاهم حتي يرهبوا عدوهم و عدو الله و أعلي الله كلمته الحقة.

و أليك فهرسا اجماليا ننقله عن جريدة كيهان/ 19 دي/ 52 رقم 9155 عن البترول:

البلد/ تعداد النفوس/ كمية الانتاج في السنة

الكويت/ 000/ 760/ 152 مليون طن

العراق/ 000/ 9750/ 70 مليون طن

سوريا/ 000/ 795/ 6/ 5 ملايين طن

البحرين/ 000/ 225/ 5/ 3 مليون طن

دبي/ 000/ 70/ 5/ 7 مليون طن

أبو ظبي/ 235/ 64/ 50 مليون طن

قطر/ 000/ 130/ 24 مليون طن

الحجاز/ 000/ 750/ 2/ 70 مليون طن

مصر/ 000/ 130/ 17/ 61 مليون طن

ليبيا/ 000/ 010/ 2/ 52 مليون طن

الجزائر/ 000/ 270/ 14/ 52 مليون طن

انتهي ما عن الجريدة.

أضف إليها ايران، باكستان، تركيا و … و غيرها من البلاد الاسلامية الآسيوية و الإفريقية و أضف البترول الي غيره من المعادن الاخري لا سيما أغلاها و أندرها هو (الأورانيوم).

أ فيمكن إباحة تلك الاموال او خمسها و سائر

الأنفال للناس، فيتصرف فيها من شاء و بأي وجه حتي ينتهي الي التغالب و التكالب و يكون دولة بين الأغنياء، او عدم الاهتمام بتلك المسائل زمن الغيبة ليساوي سقوط الاسلام عملا، أعاذنا الله منه، و حاشاك أن تحتمل ذلك فكيف الحكم فيها إلا أن تجب فيها نظارة وليّ المسلمين قطعا.

و مقتضي الجمع بين روايات التحليل نفيا و اثباتا مطلقا او في الجملة تحليل السبايا طيبا لمولدهم لا مطلقا في زمن الحضور لا مطلقا، كما فصّلنا البحث في رسالتنا في باب الخمس.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 183

نتيجة البحث

1- يجب الخمس في خمسة أشياء:

1- غنائم دار الحرب.

2- ما يستخرج بالغوص.

3- المعادن.

4- الكنز.

5- ربح التجارة و ما يلحق به من الإرث غير المحتسب و غيره «1».

2- الخمس في المذكورات بعد اخراج المئونة لعدم صدق الغنيمة قبله، كما في اليسير من المعدن و الغوص و فيهما نصاب كما في السنّة الشريفة و العناوين العرفية كلما صدق يجب فيه الخمس.

3- لا خمس في المهور و الهدايا و الارث المحتسب، لعدم صدق الغنيمة دون غيره المحتسب للصدق.

4- نصف الخمس سهم الامام (عليه السّلام) يرجع الي رسول الله فانه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) امام أيضا بمعني «2»، و بعده الي وصيه الامام المعصوم (عليه السّلام) أو الي وكيله أو نائبه، و في زمن الغيبة الي من ينوب عنه من العلماء الربانيين الجامعين للشرائط المبحوث عنها في محله أو وكلائهم، و نصفه الآخر سهم السادات يرجع إليهم بيد وليهم و باشرافه، و هو الامام ذو القربي بعد اختياره في سهم نفسه سدس الخمس بمقتضي العطف كما أفتي به استاذنا الأعظم آية الله العظمي الامام الخميني (دام ظلّه).

______________________________

(1)- و أما وجوبه

في الحلال المختلط بالحرام غير المعلوم مقداره و مالكه، و كذا في الأرض اذا اشتراها ذميّ من مسلم فمستفاد من روايات الباب.

(2)- قال تعالي: «وَ إِذِ ابْتَليٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً..» (البقرة [2] 124).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 184

5- الأنفال مما عرفت هي الأموال العامة التي لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها بغير اذن من الله و رسوله بوجه، فانها لهما، لا بدّ و أن تصرف بيد وليه في مرضاتهما، من اعلاء كلمة الله و تثبيت الدين و انه كلّه للّه.

6- الفي ء و هو كلّ ما سلّط الله رسوله عليه لمصارف الخمس يصرف فيها باذن الولي و نظارته، فلا يجوز نقل عين الأنفال و الفي ء بالبيع و غيره الي مسلم، فانها للعموم، و التصرّفات راجعة الي حقوق اخري.

الختام في البحث: انك بالتأمل في الفروع و حدودها تعرف سعة الافتقار الي السنّة المباركة لتفصيل الخصوصيات من اختصاص الوجوب بما عرفت، و بيان الاستحباب في بعض الأموال، و حد النصاب في الواجب و غيرها، تتذكر أيضا مقالة الرسول الأعظم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من ملازمة الثقلين، و ان الفلاح في ظلّهما كما ذكر مرارا:

«ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا …». اللّهم اجعلنا من المتمسّكين بهما بحقهما لديك و شأنهما عندك …

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 185

كتاب الحج و العمرة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 187

الفصل الأول: الحج و العمرة شعيرتان

اشارة

الآيات النازلة في هذا الباب علي أنواع، يشتمل كلّ منها علي كلّيات يستفاد من اجتماعها صورتا الحج و العمرة، و تشير الي أن خصوصياتهما و أحكام اجزائهما كانت معلومة من السنّة العملية و القولية، فنذكر تلك الأنواع علي المراحل الطبيعية ان شاء الله.

النوع الأول؛ ما يدل علي أن الحج كان من شعائر الله تعالي من قبل، اي منذ زمن ابراهيم (عليه السّلام) حيث كان ملّة حنيفا حين وضع البيت، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبٰارَكاً وَ هُديً لِلْعٰالَمِينَ* فِيهِ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ مَقٰامُ إِبْرٰاهِيمَ. (آل عمران [3] الآية 96 و 97)

تفيد الآية الكريمة: ان البيوت التي وضعت للناس كثيرة و هي بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه إلا أن أوّلها «1» هو الذي وضع ببكة اي ببطن مكة بركة للناس و هداية للعالمين، فيه آيات بينات تلفت نظر الزائر، و تذكّر الطائف به بالله تعالي و آياته و حكمه، و من تلك الآيات مقام ابراهيم (عليه السّلام)، و ابراهيم هو المجدّد لبناء البيت، بل هو الباني باعتبار، فان الزائر اذا قام في ذلك المقام يتذكّر ابراهيم و ملّته و زمن بناء البيت و اسكانه ذريته بواد غير ذي زرع و دعاءه (عليه السّلام) من الله تعالي أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، و يتوجه الزائر أيضا الي كيفية بيت الله تعالي

______________________________

(1)- أول البيوت زمانا أو شرفا كما تشير إليه كل الروايات، و لكن الظاهر مع قيده و هو كونه للناس …

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 188

و المسجد الحرام و سائر الشعائر من الصفا و المروة و أخيرا الي عظمة حكم

الله تعالي و حكمه في الحج و مناسكه و مأمونية من دخله تشريعا- كما سيأتي البحث عنه ان شاء الله «1»، كل ذلك اجابة لدعاء ابراهيم (عليه السّلام).

الثانية- قوله تعالي:

وَ إِذْ بَوَّأْنٰا لِإِبْرٰاهِيمَ مَكٰانَ الْبَيْتِ أَنْ لٰا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْقٰائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ. (الحج [22] الآية 26)

إن الله تعالي بوّأ و هيّأ لخليله ابراهيم (علي نبينا و آله و عليه السلام) مكان بيته، و أنزله فيه، فأمره بالتطهير بازالة الشرك و الكفر و كل رجس بآثاره و عوامله عن البيت، ليطوف حوله العباد و يصلّون للّه تعالي لديه بالقيام و الركوع و السجود، فان أصل الطواف- في الجملة- و الصلاة- بأيّ شكل و هيئة كانا من شعائر الله في كل شريعة، و اشتهرا بملّة ابراهيم الحنيفيّة، فحج البيت و قصد زيارته بالطواف و الصلاة لديه كان منذ زمن ابراهيم (عليه السّلام) الي ظهور الاسلام، و هو الدين الأبدي الخالد القيّم.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثٰابَةً لِلنّٰاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقٰامِ إِبْرٰاهِيمَ مُصَلًّي وَ عَهِدْنٰا إِليٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْعٰاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ. (البقرة [2] الآية 125)

تذكّر الآية الكريمة وقت جعل الله تعالي الكعبة البيت الحرام و انها مثابة و مرجعا للناس يلجئون إليها للعبادة و القربة، كما جعلها مأمنا يتحصّن فيه كل ذي نفس، و ذلك كلّه جعلا تشريعيا «2»، فلكل متشرّع حج الكعبة و قصدها للعبادة، و يحرم عليه إيذاء الغير فيها، و قطرها الحرم، و كل ما ينافي شأنها التشريعي حرام، كما فصّل في المفصّلات.

______________________________

(1)- في النوع الرابع من آيات الباب.

(2)- و إن كان الجعل الثاني أي جعل البيت

مثابة و مختلفا للناس لا يخلو عن تكوين أيضا في نظام الكل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 189

كما تذكّر الآية اتخاذ مقام ابراهيم مصلّي من الذين كانوا يردون الي البيت بعد جعل ذلك تشريعا من الله تعالي، أو باتخاذهم ذلك عملا لرجحان فيه؛ قرئ بصيغة الماضي مؤيدا بسابقة و لا حقة في عهدنا أو بصيغة الأمر.

كما تذكر وقت ما عهد الله تعالي الي خليله ابراهيم (عليه السّلام) و أمره أن يطهّر بيته للطائفين العابدين الركّع السجود المصلّين المتقرّبين إليه بالعكوف عليها و فيها.

و الانصاف أنّ ملاحظة الآية مع لاحقتها ترشد الي أن ذلك كلّه اجابة لدعوة خليل الرحمن ابراهيم (عليه السّلام) حيث يقول: رَبِّ اجْعَلْ هٰذٰا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرٰاتِ …، و إن خصص الخليل دعاءه الثاني- مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و قد أجابه الله تعالي مطلقا فقال: قٰالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِليٰ عَذٰابِ النّٰارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (البقرة [2] الآية 126) و كذلك اجابة لدعائه (عليه السّلام) عند إسكانه ذريّته بواد غير ذي زرع عند بيت الله الحرام ليقيموا الصلاة بطلبه فقال:

فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّٰاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرٰاتِ.

(ابراهيم [14] الآية 37)

فقد جعل الله تعالي البيت الحرام ملجأ و مثابة للناس يهوون إليه، و جعل مكة بلدا آمنا يأمن فيه كل ذي نفس و رزق أهله من الثمرات.

إلا انه تعالي أمر خليله (عليه السّلام) بتطهير البيت من كل لوث ينافي عباد الله تعالي فيه و من الأوثان و الأرجاس للطائفين و العاكفين و الركّع السجود تقدمة للاجابة، لئلا يضلّ الناس عند هويهم إليها و عكوفهم لديها بمشاهدة الأصنام و مزاولة الأرجاس.

و الحاصل ان

الآية تشير الي أن البيت كان معبدا و مثابة يحج الناس إليه للعبادة بالطواف و الصلاة و العكوف بعد دعائه (عليه السّلام) و كان عليه تطهيرها لهم، فهي الآن كذلك، لا بد و أن يكون مثابه، و علي عباد الرحمن تطهيرها من كل لوث و تهيئتها للعباد.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 190

الرابعة- قوله تعالي:

وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنٰامَ …

رَبَّنٰا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوٰادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنٰا لِيُقِيمُوا الصَّلٰاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّٰاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. (ابراهيم [14] الآية 36 و 38)

صراحة الآية المباركة: أن خليل الرحمن (عليه السّلام) دعا ربه- ضمن أدعيته- أن يجعل الله تعالي البلد آمنا، و أن يجعل أفئدة من الناس تهوي الي ذريته التي أسكنهم بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرّم لإقامة الصلاة، و دعا أن يرزقهم من الثمرات.

و البلد هو الذي فيه بيت الله مكة، و قد أتي ابراهيم (عليه السّلام) بذريته لديه، و دعا ربّه فاستجاب الله تعالي دعاءه في تهوية قلوب الناس إليهم و رزقهم من الثمرات، فإقامة الصلاة و حج البيت و زيارته كان من ملّة ابراهيم من قبل و من قبل دعائه (عليه السّلام).

الحج و العمرة قيام للناس

الخامسة- قوله تعالي:

جَعَلَ اللّٰهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرٰامَ قِيٰاماً لِلنّٰاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرٰامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلٰائِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ. (المائدة [5] الآية 97)

الآية تنادي بأن الله تعالي جعل الكعبة البيت الحرام، فيجب احترامه و حفظ حرمته، كذكر الله تعالي فيه و دعائه و الصلاة

له، و هو أول بيت وضع للناس، و جعله أيضا قياما لهم «1» ببطن مكة، فلا بدّ لهم من القيام بشأنه و اقامته، و ذلك بزيارته

______________________________

(1)- كان البيت الحرام بيانا و القيام مفعول ثان أو القيام بيانا و البيت مفعول ثان من غير فرق. بل القيام مفعول ثان و البيت بدل أو بيان.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 191

بأطرافه أي طوافه و استقباله في الصلاة و الذبح بدليله حتي يكون قياما لهم، أي مما يقوم به أمرهم.

و عندنا أن معني كون البيت قياما للناس هو أنه نقطة عطف لمجتمعهم، و مركز توجيه جامعتهم، و إنّ الهدف الواحد بروحه و معناه، الذي يهدف له كل مسلم في شتات أعماله الفردية و الجماعية، أي في عباداته و مناسكه هو الله تعالي و هذا هو بيته المبارك، و المجتمع حيّ و سعيد ما دام افراده متحدين و قواهم متحدة، و كالميت المتعفن تنهشه الكلاب بتفرقهم و تشتتهم اعاذنا الله من ذلك.

فهذا هو البيت بما عرفت له من المزايا؛ منها انه يجتذب الناس و يجمعهم بمعناه و روحه، و صاحبه هو الله تعالي، فهو قيام لهم يمسكهم و يحفظهم كما هو ظاهر.

و كيف كان، فانه ينبغي الاهتمام بالبيت و حفظه ليحفظ ما يجب فيه، و يجب ذلك علي الناس كفاية، و في كل ملّة، و في كل زمن الي أن يسلم الناس، لئلا ينهدم مظهر الوحدة و الصفاء، و مسلخ التنكر و مسلب التكثّر و الخلاف «1»، فيجب علي كل من استطاع ذلك حتي انه لو لم يكن ثمة مستطيع قادر، وجب علي الحاكم الالهي القيام به و لو بارسال جمع لذلك من بيت المال.

كما جعل الله حرمة للشهر الحرام

و جعل الهدي من إبل أو غنم، و القلائد أيضا بتقليد الهدي ليعلم انه للقربي، و الله يعلم ما في تلك المناسك من مصالح و حكم، فانه يعلم ما في السماوات و الأرض و هو بكل شي ء عليم.

الصدّ عن الحجّ و العمرة

السادسة- قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ الَّذِي جَعَلْنٰاهُ

______________________________

(1)- «وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ».

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 192

لِلنّٰاسِ سَوٰاءً الْعٰاكِفُ فِيهِ وَ الْبٰادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحٰادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ.

(الحج [22] الآية 25)

الآية، و إن كانت بصدد بيان حكم الذين يصدّون عن سبيل الله و عن المسجد الحرام و العبادة فيه و لا سيما الذين يريدون الصدّ عن سبيله في نفس المسجد بشرك و إلحاد، اي بعبادة الأصنام، و النهي عن الصلاة فيها فلهم عذاب أليم، إلا أنها تفيد ان المسجد الحرام جعل للناس، و هم فيه سواء، و ان القيام به- اي حفظ شئونه علي الاطلاق- من اعظم السبل الي الله من غير فرق بين العاكف فيه من أهل البلد الطيّب أو البادي عنه من اهالي سائر البلاد، فيجب علي عباد الله القيام به و حفظ حرمته بما يناسبه من ذكر الله تعالي و الطواف فيه، و اقامة الصلاة فيه من غير اختصاص بشريعة دون أخري أو قوم دون قوم أو جمع أو فرد دون غيرهم.

و اما استفادة ملكية الناس علي السواء من بلدة مكة، و عدم جواز بيع اراضيه و دوره من اطلاق مسجد الحرام عليه، و الحكم بأن ذلك مستفاد من الآية الكريمة، فبعيد جدا، و ان كان الأمر كذلك في كل مفتوح

عنوة بدليله في محله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 193

الفصل الثاني: وجوب الحج

النوع الثاني؛ ما يدل علي أصل وجوب الحج و محبوبيّته بطبعه في الاسلام، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهٰا وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقيٰ وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰابِهٰا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (البقرة [2] الآية 189)

الآية المباركة تدلّ علي أن في الاسلام حجّا له وقت معين في شهر معلوم، أو انه شهر معيّن بين أشهر السنة، فانّها مواقيت للناس في معاشراتهم و معاملاتهم، بل في مجاهداتهم، كما يشير إليه قوله تعالي: الشَّهْرُ الْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ الْحَرٰامِ و في عباداتهم كما يصرّح به قوله تعالي: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الي قوله تعالي: شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ … فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، و وقت الحج في شهر هو آخر الشهور، و هو شهر ذي الحجة، و شهر محرّم شهر تبدأ به السنة الهجرية، فالآية الكريمة تشير الي إنّ الأهلّة تعيّن ميقات الحج و ميقات الصيام و غير ذلك من الأزمنة للعبادات، و تلك حدود اللّه للناس.

الثانية- قوله تعالي:

… وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ. (آل عمران [3] الآية 97)

توجب الآية بصراحة قصد بيت الله تعالي و زيارته علي المسلمين لا بصورة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 194

مطلقه، بل من استطاع منهم إليه سبيلا سواء العاكف فيه و الباد، فاذا صدق علي مسلم عرفا انه مستطيع و قادر علي أن يقصد البيت و يذهب إليه زائرا من ناحية المال و البدن و الطريق، وجب

عليه ذلك. و من المعلوم دخل التحفّظ علي ما يمون به نفسه و عائلته في صدق الاستطاعة، حتي لا يكون بعد الحج محتاجا الي الناس.

ثم إنّ حجّ البيت و زيارته لا يصدق إلا بعد طوافه و زيارته بأطرافه، و إلّا فقد قصد طرفا منه دون البيت علي الاطلاق، و ذلك فرض علي المؤمنين، و من كفر فلن يضرّ الله في شي ء و ان الله غنيّ عن العالمين.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ أَذِّنْ فِي النّٰاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجٰالًا وَ عَليٰ كُلِّ ضٰامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. (الحج [22] الآية 27)

إن الله تعالي قد أمر رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أن ينادي في الناس بالحج، و أن يأمرهم حتي يأتونه رجالا و ركبانا و لو علي ضامر الناقة المهزولة من قريب أو بعيد و من كل ناحية غريبة و فجّ عميق.

و قد امتثل رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أمر ربه في حجة الوداع فأتمّ مناسك الحج بإعلان خصوصياته قولا و عملا، و ختم ذلك بما يتعلق بمسألة الولاية، و قد بلّغها المسلمين بعد ما أنزلت عليه آيتها، و من قبل كان يستأثر أنسب المجالات و أحسن الحالات حفاظا علي دين الله، فعصمه الله تعالي من الناس- علي ما فصّل في محله في تفسير آية الإكمال (أي إكمال الدين و إتمام النعمة) المبحوث عنها في آخر الآية «1».

و عندنا أن اطلاق الأمر في الآية يعطي وجوب الايذان و اعلان الحج في كل سنة لتهيّؤ الناس و تقديمهم مقدمات الأمر، كل من استطاع، و ذلك علي ولاة الأمر و موظفي الشرع.

______________________________

(1)- و قد أشبعنا الكلام حولها في رسالتنا: «بحث جمعي حول مسألة الولاية».

فقه

القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 195

الفصل الثالث: مناسك الحج

النوع الثالث؛ ما يدل علي مناسك الحج و ما يجب عند حج البيت و زيارته، و كيف يؤدّي ذلك الشعار العظيم في الاسلام، و علي اي وجه و بأيّة كيفية تكون، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

… لِيَشْهَدُوا مَنٰافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّٰهِ فِي أَيّٰامٍ مَعْلُومٰاتٍ عَليٰ مٰا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعٰامِ فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا الْبٰائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. (الحج [22] الآية 28 و 29)

سياق الآية المباركة و الآية التي قبلها- الآمرة باعلان الحج حتي يأتوا من كل فج عميق- هو أن الحاجّ و القاصد لبيت الله عليه الهدي و البدن و أن يذكر الله تعالي في ايام معدودات معلومات علي ما رزقه الله من بهيمة الأنعام، فلا يذبح النعم إلا في تلك الأيام اي في يوم النحر، و هو عيد الأضحي، العاشر من ذي الحجة و ثلاثة أيام بعده مع ذكر اسم الله عليه، كما فسرتها السنّة المباركة، و له أن يأكل منه و يطعم البائس الفقير، و بعد ذلك عليه التفث «1» اي حلق الرأس أو تقليم الأظافر ليخرج عن احرامه، و عليه الوفاء بنذره الذي عقده خلال الأيام التي قضاها و الأعمال التي أداها، كما عليه طواف البيت العتيق و هو الكعبة. فالذبح مع ذكر اسم الله تعالي عليه، و الأكل و الإطعام منه، ثم قضاء التفث، و طواف الكعبة واجب علي الترتيب في

______________________________

(1)- أصل التفث: وسخ الظفر و غير ذلك مما يزال عن البدن- مفردات الراغب-.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 196

الجملة. و من المعلوم أن الطواف هذا للزيارة لأنه واقع بعد التحليل.

و ليشهد المسلمون منافع لهم كثيرة

ظاهرة و باطنة، و لعل منها الوصول الي الوحدة الاسلامية و روح الأخوة و ترابط الأمم و المجتمعات الاسلامية، و ذلك لتقوية الأسس و إعلاء القوي و جعلها صفا واحدا لتدمير الشرك و الكفر بعد معرفة روح الأمر و عظمة الاسلام و نفوذه المعنوي و الاتكاء علي مركز الخلقة و مبدأ الحياة، و هو الخالق تعالي، و ذلك هو الحجر الاساس لكل توفيق فردي و جمعي، و الانتفاع من كل منفعة دنيوية أو أخروية، و لعلّ ذلك هو معني كون البيت الحرام قياما للناس و حقيقة كونه مثابة، و قد جعله الله تعالي كذلك.

الثانية- قوله تعالي:

وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّٰهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لٰا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّٰي يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذيً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيٰامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذٰا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَي الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ ثَلٰاثَةِ أَيّٰامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذٰا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كٰامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حٰاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ* الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومٰاتٌ … (البقرة [2] الآية 196)

الآية الكريمة تدل علي وجوب قصد القربة في شراشر مناسك الحج و العمرة، و انه لا بد منها، و يؤتي بهما مع الاتمام للّه تعالي «1»، كما تشير الآية المباركة الي وجوب العمرة مفردة في العمر مرة واحدة لمن يستطيعها دون الحج قضية عطفها

______________________________

(1)- و عندنا أن مستند البحث و ثقل الكلام في الآية هو لزوم الاخلاص و القربة، دون اتمام الواجب و اتيان باقي أجزائه، فانه مستفاد من نفس دليل ايجاب المركب الاعتباري

من أفعال و أقوال، و اما وجوب التجديد بعد الفساد فمستفاد من الأمر الأول، كما ان لزوم الاتيان بباقي الأجزاء حتي بعد فساد بعضها المأتي بها يحتاج الي دليل بعد تركها، فانه لا رغبة في اتيان جزء لم يتصل بالسابق و لم يؤمر به مستقلا.

و في مثل الحج- و كل مركب علمنا بوجوب الاتيان بالباقي بعد الفساد- نستكشف عدم التركيب الارتباطي و عدم الارتباط في المركب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 197

عليه بعد الأمر، ثم بيان حكم المتمتع بها لا سيما بعد ملاحظة آيات أصل الوجوب.

ثم تدل الآية المباركة علي أن الذي أحصر، و لم يتمكن من الحضور بالمكان لمرض في بدنه أو مانع آخر، عليه ارسال الهدي من إبل أو غنم مع المحافظة علي احرامه و عدم الخروج عنه بقضاء التفث و حلق الرأس قبل أن يبلغ الهدي محله، كما ان من كان مريضا أو كان برأسه أذي يمنعه من الحلق فعليه بعد برئه و رفع الأذي عنه الفدية بصيام أو صدقة أو ذبح ما شاء من النعم تخييرا.

ثم علي المعتمر المتمتع بها مع حجه ما تمكن من الهدي و ذبح ما تيسر له من الأنعام بعد ما أمن و استيسر له ذلك، و ان لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج و سبعة اذا رجع الي بلده؛ و تلك عشرة كاملة، فان حج التمتع علي من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام البادي عنه دون العاكف فيه، و في النهاية تؤكد الآية الكريمة أوامرها بوجوب تقوي الله تعالي و رعاية حدوده و مناسكه و العلم بأن متجاوزها معاقب و أن الله شديد العقاب.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ الْبُدْنَ جَعَلْنٰاهٰا لَكُمْ مِنْ شَعٰائِرِ اللّٰهِ لَكُمْ فِيهٰا

خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّٰهِ عَلَيْهٰا صَوٰافَّ فَإِذٰا وَجَبَتْ جُنُوبُهٰا فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا الْقٰانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنٰاهٰا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَنْ يَنٰالَ اللّٰهَ لُحُومُهٰا وَ لٰا دِمٰاؤُهٰا وَ لٰكِنْ يَنٰالُهُ التَّقْويٰ مِنْكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهٰا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللّٰهَ عَليٰ مٰا هَدٰاكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ.

(الحج [22] الآية 36 و 37)

تصرح الآية المباركة بأن الله تعالي جعل البدن أي نحر البادن الجسيم من الأنعام- كالابل- من الشعائر الاسلامية و المعالم التي فيها الخير للناس، ثم تأمر بالأكل منها و باطعام القانع و المعتر البائس الفقير السائل و غيره بعد ما وجبت و سقطت جنوبها فذبحت، و كذلك سخّر الله تعالي لكم الأنعام البادنة لتركبوها و تحملوا عليها أثقالكم و تتمتعوا بها في نحرها و ذبحها لغذائكم و أضاحيكم و هديكم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 198

عند امتثال أوامر الله تعالي في مناسككم لعلكم تشكرون.

فالآية الكريمة تفيد أن البدن من شعائر الله، و هو نحر الابل مع ذكر الله حال نحره، و لا بد من الأكل منه و اطعام القانع و المعتر، و المعلوم أن الله تعالي لن ينال لحوم الهدي و البدن و لا دماءها و انما ينال التقوي في ذلك، أي ان التقوي هو الأساس في ذلك، فهو الذي يوجب التقرب الي الله سبحانه، و ليس كل قربان و ذبح أو نحر مقرّبا و لا يتقرّب بلا قربان مقرّب «1» و سخّر هذه الانعام للانسان ليكبّر الله تعالي علي هدايته.

الرابعة- قوله تعالي:

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذٰا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفٰاتٍ فَاذْكُرُوا اللّٰهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرٰامِ وَ اذْكُرُوهُ كَمٰا هَدٰاكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّٰالِّينَ* ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفٰاضَ النّٰاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا

اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* فَإِذٰا قَضَيْتُمْ مَنٰاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّٰهَ كَذِكْرِكُمْ آبٰاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً …

(البقرة [2] الآية 198 و 199 و 200)

مفاد الآية المباركة أن الحاج المبتغي فضل الله، عليه الوقوف بعرفات، ثم الإفاضة منها الي المشعر الحرام ذاكرا للّه تعالي، ثم الإفاضة من المشعر من حيث أفاض الناس الي مني مستغفرا للّه تعالي ذاكرا له أشد من ذكر الآباء أو كذكرهم، بعد قضاء المناسك في مني من البدن و الهدي، و الرمي المستفاد من السنّة المباركة العملية و القولية.

الخامسة- قوله تعالي:

وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ فِي أَيّٰامٍ مَعْدُودٰاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ

______________________________

(1)- و لنا رسالة بعنوان: «الذبح و القربان في الاسلام» و هي تلخيص لخطابات ألقيناها في حفلات البحث عن القربان و نقد لما أجاب عنها بعض أساتذة معاهد الحجاز عن اشكالات يوردونها علي الذبح و القربان بمني في يوم العيد من اسراف حرام و تدفين اللحوم و الجلود في عصر صناعي يمكن أن ينتفع من أيّة مادة غذائية، و كثير من سكّان الأرض جياع، فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 199

تَأَخَّرَ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقيٰ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. (البقرة [2] 203)

الآية الكريمة بعد ما فصّلت مسألة الإفاضة من عرفات مع ذكر الله تعالي عند المشعر و الإفاضة منه الي مني ذاكرا للّه تعالي، و بعد الاشارة الي نوع الذكر حتي لا ينحصر في طلب الدنيا و نعيمها، و لا يغفل عنها أيضا، بل يدعو لخير الدنيا و الآخرة و حسنتيهما، بعد ذلك كلّه تأمر بذكر الله تعالي في أيام معدودات مستقلا، و المصداق بمقتضي الجمع لا يقل عن ثلاثة أيام بعد الورود بمني حسب

ترتيب المناسك المذكورة في الآيات، فالأيام في أيام التشريق من شهر ذي الحجة الحرام، و هي اليوم الحادي عشر و الثاني عشر و الثالث عشر منه، و لا إثم في العجلة بالتقديم في يومين كما لا إثم في التأخير لمن اتقي.

و ينطبق ذلك علي جواز العود من مني الي مكة في اليومين الأولين من الايام الثلاثة و تتميم المناسك بالطواف و الصلاة و السعي ثم الإحلال حتي تحل عليه النساء و سائر المحرمات التي حرّمت بالإحرام، و لذلك سمي الطواف هذا بطواف النساء في لغة الفقهاء (رضوان الله عليهم)، و اما الرجوع في اليوم الثالث من غير عود الي مني فلا كلام في جوازه، فيرجع ذلك كلّه الي لزوم المبيت بمني و ذكر الله تعالي في تلك الايام. و مقتضي العجلة و جواز التقديم و التأخير … ذلك ما تشرحه السنّة المباركة كما تعلم.

السادسة- قوله تعالي:

إِنَّ الصَّفٰا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعٰائِرِ اللّٰهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّٰهَ شٰاكِرٌ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 158)

الآية المباركة تدل علي جزئية الطواف بجبلين هما الصفا و المروة، و انه من شعائر الله، فعلي الحاج و المعتمر أن يأتي بهما، و من المعلوم أن من أراد طوافهما مبتدئا بالصفا يسعي منه الي المروة و منه الي الصفا فالسعي بينهما طائفا لهما أيضا من المناسك التي يجب الاتيان بها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 200

الفصل الرابع: الحرمات

النوع الرابع؛ ما يدلّ علي حرمة أمور و جواز أخري علي الحاج و المعتمر، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُحِلُّوا شَعٰائِرَ اللّٰهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرٰامَ وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا

الْقَلٰائِدَ وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرٰامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْوٰاناً وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا. (المائدة [5] الآية 2)

الآية- بشكل عام- تفيد لزوم رعاية الشعائر و تعظيمها وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ (الحج [24] الآية 34)، و تنهي عن إحلال الشعائر و انفصال أجزاء بعضها عن بعض- و قد عقدها من قبل- بترك ما يجب اتيانه أو ارتكاب ما يجب تركه مطلقا، ثم ذكرت الآية الفرد و المصداق من الشهر الحرام، فيجب رعاية شأنه و حفظ حرمته و يحرم هتكه، و الهدي و القلائد فيجب ارسالها و تقليدها، و ذكر اسم الله تعالي حال ذبحها، و يحرم تركها، أو ترك ذكر اسم الله تعالي عليها، و كذا لا بدّ من حفظ حرمة آمين البيت و يحرم التعدي علي من ائتمن به ابتغاء فضل الله تعالي و رضوانه، سواء كان الحاج و المعتمر أو غيرهما، و البيت آمن بدعاء ابراهيم (عليه السّلام) بقوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً …، ثم تأمر الآية الكريمة بالاصطياد بعد الخروج عن الاحرام، و هذا يعطي حرمته حاله، و جوازه بعده، دون الوجوب، فانه بعد المنع و الحذر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 201

الثانية- قوله تعالي:

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومٰاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلٰا رَفَثَ وَ لٰا فُسُوقَ وَ لٰا جِدٰالَ فِي الْحَجِّ. (البقرة [2] الآية 197)

الآية بصراحتها تحكم بحرمة أمور علي الحاج؛ غير أن الحج في أشهر معلومات، و تلك الأمور هي: الرفث الي النساء، و الفسوق بالكذب و التهمة و الايذاء و كل فسق، و الجدال بقول: «لا و الله» و: «بلي و الله» و أمثالهما و ذلك بعد الاحرام.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا

تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزٰاءٌ مِثْلُ مٰا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بٰالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّٰارَةٌ طَعٰامُ مَسٰاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذٰلِكَ صِيٰاماً لِيَذُوقَ وَبٰالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّٰهُ عَمّٰا سَلَفَ وَ مَنْ عٰادَ فَيَنْتَقِمُ اللّٰهُ مِنْهُ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقٰامٍ* أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعٰامُهُ مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّٰارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مٰا دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.

(المائدة [5] الآية 95 و 96)

تنهي الآية عن الصيد و قتله حال الاحرام من غير فرق بين احرام الحج و العمرة علي الاطلاق ثم تقييد بالبرّ، و ان الحرام هو صيد البر، و أما صيد البحر و طعامه فقد أحلّ متاعا للمحرم و للسيارة.

و المتخلّف عمدا بعد أن ارتكب حراما بصيده تكليفيا عليه الكفارة بأن يرسل مثل ما قتل حسب العدد من النعم بحكم شخصين عادلين هديا بالغ الكعبة، أو اطعام مساكين، أو صيام عدل ذلك ليذوق وبال أمره، و الله تعالي يعفو عمّا سلف مرّة، و لكن من عاد فينتقم الله منه، و الله عزيز ذو انتقام، و اتقوا الله- أيّها المؤمنون- الذي إليه تحشرون، في رعاية حدود الله تعالي في حلاله و حرامه، و هو الذي يبتليكم بشي ء من الصيد تناله أيديكم و رماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب، فمن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 202

اعتدي بعد ذلك فله عذاب أليم.

و يدلّ علي حرمة الصيد حال الاحرام أيضا استثناء محلّي الصيد في قوله تعالي: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ إِلّٰا مٰا يُتْليٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ. (المائدة [5] الآية 2)

الرابعة- قوله تعالي:

… وَ مَنْ دَخَلَهُ كٰانَ آمِناً … (آل

عمران [3] الآية 97)

الآية المباركة تدل علي أن بيت الله الحرام حصن و أمن لكل عبد من عباد الله، بل لكل مخلوق، فيحرم إيذاء الغير كائنا من كان، بل كل ذي نفس فانه حرم، لذا يجب احترامه الي أقصي حدّ، و يحرم كل ما ينافي حرمته زائدا علي ما يحرم لكل مسجد، و لعل المكاء و التصدية ممّا ينافي حرمته، فيحرمان، كما يشير إليه قوله تعالي: وَ مٰا كٰانَ صَلٰاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلّٰا مُكٰاءً وَ تَصْدِيَةً (الأنفال [8] الآية 35) و حاصل الآيتين حرمة الاصطياد حال الاحرام في الحرم، و البيت مركزه و شعاعه علي اختلاف السنّة.

ثم ان حرمة إحلال تلك الشعائر، و وجوب حفظها ما دام محرما صريح في وجود إحرام يبدأ به التحريم، و احلال ينتهي به من قضاء التفث و حلق الرأس، فالاحرام أيضا من الشعائر كالإحلال المصرّح به في الآيات.

الخامسة- قوله تعالي:

لَقَدْ صَدَقَ اللّٰهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيٰا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ إِنْ شٰاءَ اللّٰهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لٰا تَخٰافُونَ فَعَلِمَ مٰا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذٰلِكَ فَتْحاً قَرِيباً. (الفتح [48] الآية 27)

الآية المباركة في سياق وعد المؤمنين بالنصر و الفتح، و هي تخبر أن لِلّٰهِ جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و انه الذي أنزل سكينته علي قلوب المؤمنين و أيّدهم بنصره تصديقا لرؤيا النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في دخوله و المؤمنين المسجد الحرام فاتحين آمنين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 203

و هم يأتون بمناسكهم بحرية و صفاء من غير خوف و قلق محلّقين رءوسهم و مقصّرين، و بعد ذلك محلّين.

و سيوفّق الله تعالي رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لذلك، و الله يعلم موقعه، و

لقد وفّي له بذلك و وفقه بعد صلح الحديبية بالفتح القريب، و ذلك من أنباء الغيب الذي أوحاه الله الي نبيّه.

الآية الكريمة، و إن كانت في ذلك السياق، إلا أنها تفيد أن الحلق و التقصير آخر الأعمال التي يأتي بها الناسك، الأول و هو مختص بالرجال و الثاني مختص بالنساء و ان كان للرجال أيضا التحليل بالتقصير اختيارا، و لا ينافي ذلك معني واو الجمع، فانه بعنوان المحلل آخر الأعمال كما هو ظاهر.

نتيجة البحث

اشارة

هذا كلّه تمام الآيات في المقام بأنواعها.

و الصورة المستفادة من جميعها أن كلا من الحج و العمرة يبدأ بالاحرام فيحرم علي الحاج و المعتمر أمور:

1- الرفث الي النساء، و يحرم علي النساء أيضا.

2- الفسوق أي الكذب و الفحش و غيرهما.

3- الجدال.

4- صيد البرّ.

5- إيذاء الغير.

و للعمرة أعمال:

1- الاحرام.

2- الطواف بالبيت العتيق و هو الكعبة في المسجد الحرام بزيارة أطرافه.

3- الصلاة و ذكر الله تعالي لديه في مقام ابراهيم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 204

4- الطواف بالصفا و المروة المستلزم للسعي بينهما من الصفا الي المروة و منه إليه.

5- الاحلال بقضاء التفث من حلق الرأس أو تقليم الأظافر فيحل عليه ما حرم.

و للعمرة المفردة منها طواف النساء و ركعتان بالسنة.

و في الحج علي الحاج أمور:

1- الاحرام.

2- الوقوف بعرفات مع ذكر الله تعالي.

3- الافاضة من عرفات الي المشعر الحرام حامدا له تعالي.

4- الافاضة من حيث أفاض الناس الي مني ذاكرا للّه تعالي أشدّ ذكرا.

5- الهدي و البدن.

6- الطواف بالبيت.

7- صلاة الطواف.

8- طواف الصفا و المروة- السعي بينهما.

9- الاحلال بشي ء مما ذكر ليخرج عن الاحرام و يحل له ما حرم.

فالحج مقبول ان شاء الله و السعي مشكور علي الصفاء و النور.

هذا، و اما سائر الخصوصيات من تعيين ميقات للاحرام، و عدد الأشواط للطواف و السعي و ما هي شروطها، و كذا الهدي و البدن، و الرمي بمني في الأيام الثلاثة، و المبيت بها المسماة (ليالي التشريق)، و طواف النساء و ركعتيه، بل و ترتيب كل من تلك المناسك تقدّما و تأخرا، كل ذلك مستفاد من السنّة المباركة العملية و القولية.

و الانصاف أن ملاحظة آيات الحج بأنواعها من غير سبق ذهني به و بأقسامه مفردا أو مقارنا بالهدي أو متمتعا بالعمرة أو بالعمرة المفردة عن طريق السنّة المباركة الشارحة أو العمل المعلّم، فانه يجلب النظر الي شدة الافتقار الي السنّة المباركة،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 205

و ان الكتاب و العترة عدلان لا يفترقان الي يوم القيامة، و ان الهداية للمتمسّك بهما قطعا.

فان جميع آيات الحج لا تفيد إلا أصل الوجوب

و لزوم الاتيان بأعمال و ترك ما ينافي الاحرام أو الخروج عنه بقضاء التفث علي الاجمال من غير تعيين زمان أو تحديد مكان من مطاف و مسعي و تعداد الأشواط و الشروط التي يجب أن تتبع و الترتيب بينها و غير ذلك مما لا يوضح، و الحج من الضروريات و الأركان الاسلامية، فكيف يتفوّه بالاستغناء عن السنّة المباركة و الاكتفاء بالكتاب الكريم، و أول من تفوّه بذلك غرضه معلوم.

خاتمة المطاف تذييل في الفروع المستنبطة من آيات الباب:

الحج من شعائر الله تعالي في كل شريعة و ملّة، و كذا في الاسلام فيجب تعظيمه، و فيه فروع:

1) يجب علي عباد الله الحج الي بيت الله- و هو الكعبة- و حفظه و رعاية شئونه و احترامه؛ و منه زيارته بأطرافه و طوافه حتي يكون قياما لهم اي ما يقوم به أمرهم و تنمو شوكتهم.

2) إنّ البيت الحرام مثابة و مرجع للناس يختلفون إليه للعبادة و غيرها، كما انه قيام لهم، ينتظم به تمركز أمورهم و توجيههم نحو شتات شئونهم المختلفة كل بحسبها فيجتمع به شملهم و يتّحد به جمعهم حتي يعيشوا بالعزّة و الهناء في الدنيا و الآخرة.

3) يجب تطهير بيت الله تعالي عن كل لوث ينافي شأنه لما جعل للعبادة و العكوف فيه و غيرها و ليكون مثابة و ملجأ حقا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 206

4) للحج وقت معيّن و شهر محدّد و هو شهر ذي الحجة.

5) يجب علي كل من استطاع الحج قصد بيت الله الكعبة ببطن مكة و زيارته و لو مرّة في طول حياته.

6) يجب علي ولاة الأمر و موظفي الشرع الاعلان و الايذان للحج في كل سنة.

7) تحديد الاستطاعة عرفيّ، لا بدّ و أن يصدق علي الاطلاق من أيّة جهة

جسما و مالا و طريقا ليجد إليه سبيلا.

8) يجب قصد القربة في جميع أعمال الحج و العمرة فانهما عبادة لا تتحقق إلا بالقربة.

9) يجب علي الذي أحصر و لم يتمكّن من الحضور أن يرسل الهدي الي المذبح بمني و لا يخرج عن الاحرام حتي يبلغ الهدي محلّه.

10) من كان برأسه أذي يمنعه عن الحلق للاحلال فعليه الفدية بعد السلامة بصيام أو صدقة أو ذبح نعيمة تخييرا.

11) علي المعتمر المتمتع بها مع حجه الهدي و البدن علي حدّ تمكّنه و استطاعته، و من لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج و سبعة بعده … تلك عشرة كاملة.

12) لا بدّ من ذكر اسم الله تعالي علي ما يذبح أو ينحر، و لصاحبه أن يأكل منه، و عليه إطعام القانع و المعتر البائس الفقير.

13) علي الحاجّ المبتغي لفضل الله تعالي- بعد الاحرام- الوقوف بعرفات ثمّ الافاضة الي المشعر الحرام ثم الافاضة منه الي مني مستغفرا اللّه تعالي و ذاكرا له في أيام معدودات، و هي أيام التشريق، و له أن يعجّل في يومين فيأتي مكة و يقضي مناسكه بعد قربان الهدي و البدن من طواف البيت و الصلاة و السعي ثم الاحلال.

14) علي الحاجّ و المعتمر أن يطوف جبلي الصفا و المروة فيسعي بينهما.

15) يجب علي الحاجّ و المعتمر الاحرام فيحرم عليهما الرفث الي النساء و الفسوق و الجدال و صيد البرّ دون البحر و إيذاء الغير بل كل ذي نفس.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 207

16) من قتل صيدا عمدا و هو محرم فكفارته مثل ما قتل من النعم يحكم بمثليّته جنسا أو قيمة ذوا عدل، أو إطعام مساكين أو صيام، أقلّه ثلاثة أيام بمقتضي الجمع تخييرا، كل

ذلك اذا كان عن عمد مرّة دون الخطأ أو التكرار عمدا و من عاد فينتقم الله منه.

17) يجب علي المعتمر بعد الاحرام طواف البيت بأن يزور أطرافه و يمشي حوله ذاكرا للّه تعالي ثم الصلاة فيه في مقام ابراهيم ثم السعي بين الصفا و المروة طائفا لهما ذاكرا للّه تعالي حامدا له ثم الاحلال بقضاء التفث.

18) للحج أشهر معلومات و هي شوال و ذو القعدة و العشرة الأولي من ذي الحجة، لا بد و أن تقع المناسك من الحج في أوقاتها دون العمرة المفردة فلا وقت معيّن لها.

19) الطواف في الحج و العمرة لا بدّ و أن يكون علي وجه يصدق عليه ذلك عرفا فلا فرق بين أن يكون راجلا أو راكبا.

20) يعتبر في صدق الطواف أن لا ينفصل في مطافه عن جدار البيت كثيرا إلا في ازدحام بأن يكون الطائفون شاغلين مطافا، و لا يكون الفصل بين الواقع في طرف الجمع و حاشيته و بين الجدار بمقدار لو كان منفردا طائفا علي المدار لم يصدق عنوان الطائف عليه، و المطاف علي مداره، و الطواف علي فعله.

فالطائف حتي مدار جدار المسجد الحرام يمكن أن يصدق عليه الطائف اذا امتلأ المسجد من الطائفين، و علي قرب من جدار البيت يمكن أن لا يصدق كما اذا طاف في مدار بعد مقام ابراهيم، و بينه و بين جدار الكعبة خال من الطائفين.

و لعلّ التحديد في المطاف كما في السنّة المباركة و الفتوي كان من ذلك ليجوز التعدّي عنه مع الصدق كما في مقام ابراهيم (عليه السّلام) المتغيّر مقامه.

21) الصلاة الواجبة لدي البيت أقلها ركعتان في مقام ابراهيم (عليه السّلام)- و هو من آيات الله تعالي- في المسجد الحرام،

و الزائد عليهما مستحب حتي في حجر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 1، ص: 208

اسماعيل أو موضع آخر من المسجد.

22) الاحلال أيضا يصدق بتحقيق طبع قضاء التفث في الجملة من تقليم ظفر أو حلق شعر.

23) الواجب في كل من الوقوف بعرفات و المشعر و ذكر الله تعالي ما يكون طبيعيا فيصدق بفرد ما.

24) الحلق و التقصير آخر الأعمال التي يأتي بها الحاجّ، و المعتمر المحرم الأول، فهو مخصوص بالرجال و الثاني بالنساء و للرجال التقصير أيضا تخييرا.

انتهي الجزء الأول من هذا الكتاب (فقه القرآن) بانتهاء كتاب الحج و العمرة، و يليه الجزء الثاني مبتدئا بكتاب الولاية و الحكومة و منتهيا بكتاب القضاء و الشهادات.

الجزء الثاني من فقه القرآن «الحكوميات»

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 211

محتويات الجزء الثاني

كتاب الولاية و الحكومة 215

ولاية اللّه و رسوله 217

ولاية أولي الأمر 222

ولاية الفقيه 224

الولاية علي اليتيم و السفيه 226

الولاية علي العبد المملوك 227

خلاصة البحث في الولاية و الحكومة 229

كتاب الجهاد في سبيل اللّه 231

وجوب الجهاد 233

استثناء في الجهاد 239

السقاية و العمارة أم الجهاد؟ 241

الأمر بالقتال 242

النفير للجهاد 243

الفرق بين المتربّصين 244

التشديد في الجهاد 245

التقوي و الوسيلة في الجهاد 246

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 212

ما يشير الي وجوب الجهاد 246

تفضيل المجاهدين 250

كيفيّة القتال 254

الصبر و المثابرة 255

بأس الحديد 257

الترابط في القتال 258

العنف في القتال مع التقوي 258

كيفية الحرب و الأسر 259

حرمة الفرار من الحرب 260

الثبات و عدم التنازع 261

الإجابة الي السلم الحق 262

الفحص قبل ردّ السلم 263

شرعية معاهدة الكفار 264

الاستجارة 266

الجهاد كما يريده اللّه 267

ظروف القتال 269

الأمر بالقتال عند نقض العهد 271

الدفاع 272

الهجرة 276

امتحان المهاجرين و المهاجرات 282

خلاصة البحث 283

كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر 289

الدعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة 294

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 213

خلاصة البحث 298

كتاب الحدود 299

معني الحدّ 301

حدّ قتل المؤمن خطأ 302

حدّ من حارب اللّه و رسوله 303

كفائية الحدود 305

حدّ السارق 306

حدّ الزنا 308

حدّ السحق 310

حدّ اللواط 311

حدّ الرمي 312

خلاصة البحث 315

كتاب القصاص 317

كيفية القصاص 319

المقابلة بالقتل أو العفو 322

الكيفية و الزمان في القصاص 323

القتل بلا قصاص 324

خلاصة البحث 325

كتاب القضاء و الشهادة 327

المقدمة 329

الحكم بالعدل 330

من هو الحاكم؟ 334

الشهادات 340

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 214

الشهادة في التجارة و الامانة 341

الشهادة في الطلاق 342

الشهادة لإقامة العدل 344

أهمية الشهادة 346

الشهادة عند ردّ الأموال 347

الشهادة عند الوصية 348

مراجعة الظالمين لاستنقاذ الحق 349

حرمة الرشوة 351

الدعوة الي الصلح 352

خاتمة المطاف 356

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 215

كتاب الولاية و الحكومة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 217

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد

للّه رب العالمين و الصلاة و السلام علي محمّد و آله أجمعين

ولاية اللّه و رسوله

الولاية بالمعني المبحوث عنه هنا هي أصل شجرة الولاية العامة التي تكون ركنا لأساس الحكومة علي الأمة، اي الأحقيّة للتصرّف في شئون الغير علي أساس المصالح العامة، كالتصرّف في أموال الغيّب و القصّر و الأوقاف و الأموال العامة كالأنفال- كما عرفت- و كذا التصدي للقضاء و فصل الخصومات و حفظ النظم الاسلامية في شتي الشئون التي تتعلّق بشئون المعابد و المدارس و الكليات و كذا المستشفيات و ما يرتبط بها، و حتي التصرّف في شئون الطرق و الشوارع، و مطلق العلاقات الإذاعية و الهاتفية و البريدية و البرقية و غيرها من الأمور الداخلية، و كذا التصدي للجهاد و الدفاع و المصالحة و المعاهدات و القرارات التجارية و الصناعية و الثقافية و المبادلات مع الكفار و غيرهم من أهل الكتاب، و غير ذلك من الأمور الداخلية و الخارجية لبلاد الاسلام صانها الله تعالي عن الحدثان.

و لا اشكال في ضرورة وجودها في كل مجتمع كالمحاكم القضائية و الأمر كذلك في الاسلام مع مزايا خاصة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 218

و في الكتاب آيات:

الأولي- قوله تعالي: النَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ … (الأحزاب [33] 6)

من المعلوم ان الأصل الأوّلي في الولاية هو ان لا ولاية لأحد علي أحد و أنّ الناس مسلّطون علي أموالهم و أنفسهم، الّا ما أثبته الدليل مثل الضرورة العقلائية علي لزومها في الجملة، و المتيقّن أن الحاكم الأحق بالولاية و الوليّ الأوّلي في مختلف شئون الاسلام و خير الأمة هو الله تعالي بأحكامه و قوانينه في حلاله و حرامه، و كما هو كذلك في مختلف الموجودات و المخلوقات بملائكته و جنوده:

ألا له الخلق

و الأمر، و هو القاهر فوق عباده، و هو وليّ المؤمنين، الذي يخرجهم من الظلمات الي النور، فلا يتقدّم عليه شي ء، و هو النافذ الساري حكمه و أمره، لا في التكوين فحسب، بل في التشريع أيضا. قال تعالي في مقام بيان الولايتين: … فَاللّٰهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتيٰ وَ هُوَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ* وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَي اللّٰهِ ذٰلِكُمُ اللّٰهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (الشوري [42] الآية 9 و 10)، و يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ … (الحجرات [49] الآية 1).

ثم علي امتداد ولايته تعالي و حكومته يكون الأمر علي يد نبيه و رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فان الآية- كما تري- تحكم بلسان الإخبار عن حقيقة تشريعية جعلها الله تعالي لوليّه و نبيّه خاتم الأنبياء (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بأحقيّته علي المؤمنين من أنفسهم بهم، فله أن يتصرّف فيهم علي أساس مصالحهم و خيراتهم بل في تمام شئونهم التي ترتبط بهم في اي وجه من الوجوه في نفوسهم و أموالهم و أعراضهم، فعليهم أن يطيعوه فيما أمرهم به في مختلف شئونهم، و مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اللّٰهَ «1»، وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ، و كذا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ «2».

______________________________

(1)- النساء [4] الآية 80.

(2)- و قد أمر باطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في الكتاب الكريم في أكثر من عشرة مواضع:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 219

و ذلك غير ولايته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) علي أعلي الأنحاء، و فوق كل ولاية تكوينا، دون ولاية الله تعالي

من كونه بحقيقته مجري كلّ خير، و مسير كل بركة تتنزّل من البارئ العظيم علي كل موجود بصورة الوجود، و قد قال (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): «كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين» «1»، و قال الامام الصادق (عليه السّلام) حينما سئل: هل كان رسول اللّه سيد ولد آدم؟ فقال (عليه السّلام): «كان و الله سيد من خلق الله. و ما برأ الله برية خيرا من محمد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فهو رحمة للعالمين» «2»، و قال ابو جعفر (عليه السّلام): «يا جابر انّ الله أول ما خلق خلق محمدا (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و عترته الهداة المهتدين» الحديث «3».

ثم لا يتوّهم أن اشتراك ولايته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الشرعيّة علي المؤمنين مع ولايتهم علي أنفسهم و أموالهم مع توافق تصرّفهما أو التخالف من تأثير عاملين في معمول واحد، أو تقديم أحدهما فيسقط الآخر، و الشركة راجعة الي حذف كلّ منهما بالنسبة، فان تلك المحاذير تلزم أنهما اذا كانتا في عرض واحد، و اما في الطول فلا، فان المؤمن مع ولايته واقع تحت ولاية الرسول كولايته تعالي علي النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)

______________________________

1- … وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (الأنفال [8] الآية 1).

2- يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لٰا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (الأنفال [8] الآية 20).

3- … وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لٰا تَنٰازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ (الأنفال [8] الآية 46).

4- فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللّٰهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (المجادلة [58]

الآية 13).

5- وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (آل عمران [3] الآية 132).

6- قُلْ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْكٰافِرِينَ (آل عمران [3] الآية 32).

7- يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (النساء [4] 59)

8- وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (النور [24] الآية 56).

9- قُلْ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمٰا عَلَيْهِ مٰا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مٰا حُمِّلْتُمْ … (النور [24] الآية 54).

10- أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ (المائدة [5] الآية 92) و (التغابن [64] الآية 12).

و بتعابير اخري غير الأمر في آيات كثيرة لا تخفي علي المتتبع.

(1)- البحار: ج 18 ص 278.

(2)- البحار: ج 16 ص 368 رواية 76.

(3)- الكافي: ج 1 ص 440 و 442/ باب مولد النبي (صلّي اللّه عليه و آله) فان الأول في الخلقة هو الأشرف الأفضل من الجميع قطعا لامتناع الأخس مع امكان الأشرف فينطبق حقيقته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) علي الفيض المنبسط علي الجميع و هو مسير كل الخيرات و البركات و ليست الولاية التكوينية الّا هذا، كما ذكرناه في محله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 220

و من تحت ولايته من المؤمنين، و لا تزاحم في الطوليّات.

و كيف كان، فلا اشكال في دلالة الآية علي ولاية النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و أحقيته منهم في جميع شئونهم، فهو وليّهم و الحاكم عليهم، يأمرهم و ينهاهم بما يشاء و بما يراه مصلحة في مقام الاجراء و العمل زائدا علي بيان أوامر الله تعالي و نواهيه التي يبلّغها إليهم، و ما علي الرسول إلا البلاغ

المبين.

الثانية- قوله تعالي: وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَي اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلٰالًا مُبِيناً.

(الأحزاب [33] الآية 36)

تؤكد الآية الكريمة ولاية الله تعالي و رسوله الكريم اي أحقية أحكام الله تعالي و حدوده بأن تتبع في كل نظر و حكم ثم أحقية رأي النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في كل رأي و نظر، و تقريب التأكيد لو لا الاثبات بنفي حق و اختيار عن غيرهما، و انه مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَي اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فيرده أو بعضه أو بعض جهاته و كيفياته، بل عليهم أن يطيعوا الله و رسوله في كل ما قضياه و أمرا به: وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلٰالًا مُبِيناً فاذا لم يكن لغير الله و رسوله خيار و نظر في أمر من الأمور إلا ما ساعد خيارهما أو لم يخالفه، و كان العصيان لهما ضلالا بيّنا بعيدا فلا ولاية إلا لهما «1».

______________________________

(1)- و كأن الآية الكريمة تنظر الي سرّ مسألة الولاية و ضرورتها في كل مجتمع، من أن الانسان حيث خلقه الله تعالي حرّا و جعله مختارا يفعل ما يشاء، فليس لأحد أن يبدل خلقه و يجعله في غير طريق فطرته بأن يحدده و يمنعه عن شي ء أو يأمره بشي ء، و ذلك الاختيار و تلك الحرية من أحق حقوق الانسان و أثبتها في الطبع.

و لكن حيث ان الانسان مدني اجتماعي لا يمكنه ان يعيش منفردا متخليا عن الناس فيكون مؤثرا فيهم و متأثرا بهم و حق الاختيار و الحرية

طبيعي له بحسب الحقوق ما لم يضرّ بالآخرين و هو فعّال لما يشاء ما لم يضيع حق المجتمع. و عندئذ يتصادم الحقّان: حق الفرد و حق المجتمع، و كلاهما طبيعي لهما، و بعد الارشاد و النصيحة و تحقق ما علي الرسالة من الابلاغ اذا لم يقبل الفرد و أراد الحرية و الاختيار الي حدّ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 221

ثم ان بعد ولاية الله و رسوله لا أولوية و لا أحقية لأحد علي أحد علي الأصل إلا لمن جعل له ذلك بيد الله تعالي و رسوله و ليس لغيرهما جعل ذلك فان الناس مسلّطون علي أموالهم و أنفسهم و لا يجوز التصرّف فيها بغير اذنهم و رضاهم، فكما لا ولاية لأحد علي أحد في النفس و المال، لا ولاية لأحد في جعل وليّ عليهم بطريق أولي؛ و لذلك لا يصح جعل الولاية من قبل أناس علي أناس، إلا علي فرض التوافق الكامل من الجميع بحيث لا يشذّ عنهم أحد «1»، و لو فرض ذلك يصح ما لم يزد عليهم أحد فاذا أضيف إليهم تنتقض ولايته بالنسبة إليه، فان المجعول لهم لا وجه لمجعوليته علي من تجدّد بينهم فلا تتمّ ولاية بحق في مجتمع في يوم إلا ولاية الله و رسوله، و اما حكومة الأكثرية علي الكل و أحقيتهم في جعل الولي، بل في تعيين حكم أو تقنين قانون ممّا توسّل به أمم العالم علي الضرورة مما لا وقع له في الحقوق الحقة، فانه قد يلزم من ذلك محكوميّة ملايين من بني الانسان بشهوة واحد منهم، حتي لمن لا يرون مصلحتهم، لكونه الموجب لتحقق الأكثر بمعني النصف باضافة الواحد، و أنت تري شناعة ذلك، و لا سيما

فيما يطلبه الشباب حتي من القبائح التي لا يرتضيها العقل و لا الشرع، و مع الأسف انّه يستند إليه المدّعون للمدنية «2» و يستغلّونه في المجالس التشريعية العصرية، و ليس هنا محل للبحث

______________________________

الاضرار بحق الآخرين مع قبول ضرره الفردي و تحمّله، و لكل منهما ردّ الآخر حفظا لحقه، و حيث ان المجتمع مع أهميّة حقه لا يقدر علي ذلك بدخالة جميع الأفراد، بل لا يعقل ذلك لعدم علمهم بذلك في جميع الموارد و عدم الامكان عقلائيا بعدم العلم، فلا بد من حاكم يحفظ حق المجتمع من قبله و يمنعه عن تصرفه ذاك.

و ذلك مقام الامامة و الولاية، و لا بد منه ان يكون الي جنب الرسالة، بحيث لا يتمّ الثاني بدون الأول، فان الإبلاغ و بيان الاحكام من حلال و حرام فقط لا يغني من حفظ حق المجتمع من شي ء.

و مما ذكرنا تعرف ان الولاية تشمل كل حقوق المجتمع و تقتضي حفظها و مراقبتها في شتي الشئون الحياتية و الاقتصادية و الثقافية و العسكرية و غيرها كما أثبتناه في محله.

(1)- و لا تحقق للفرض أصلا و لو فرض فصحته لوجود المعصوم (عليه السّلام) فيهم فإن الأرض لا تخلو من حجة، و هو (عليه السّلام) وليّ من قبل الله تعالي، لا من قبل الناس كما فصّل في محله.

(2)- كما تعلم ذلك عن بعض بلاد أوروبة في إشاعة اللواط.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 222

عنه.

أضف الي ذلك كلّه أن الملاك في الولاية هو حفظ المصالح العامة للمجتمع الاسلامي كما عرفت، و كيف يعرف انسان مصالح انسان آخر علي الاطلاق و من جميع الجهات، و هو لا يملك خبرة كافية، فان الانسان مرتبط بالعالم و مؤثر فيه و متأثر

به، فلا يعلم مصالحه إلا بعد العلم بمجموع الخلقة و جموع الخلق، و لا يمكن ذلك لغير الله تعالي و لا لغير رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و لا لغير أولي الأمر الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) كذلك، و قد أشبعنا الكلام عن هذا الموضوع في محله.

و كيف كان، فلا ولاية بحق لغير الله و رسوله إلا لمن جعل له ذلك من قبلهما و هم أولو الأمر الذين تجب طاعتهم بايجابها كما ستعرف.

ولاية أولي الأمر

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا. (النساء [4] 59)

تفيد الآية الكريمة بوحدة السياق و صراحة الأمر وجوب اطاعة أولي الأمر علي نحو اطاعة الله و رسوله، و من تجب طاعته مطلقا فيما نبّأ به عن الله تعالي و بلّغ، أو ما رأي بنفسه مصلحة و رأيا في مقام التنفيذ و العمل فأمر به بحيث يكون رأيه و نظره مقدما علي كل رأي و نظر، وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَي اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ؛ فهو وليّ و حاكم نحو ولاية الله و رسوله و حكومتهما.

و حيث ان الله تعالي لا يأمر بالطاعة المطلقة لمن يمكن أن يخطئ في رأيه و نظره فيضرّ و يفسد الأمر، لا بدّ و أن يكون الرسول و أولو الأمر هم المعصومين الذين تجب طاعتهم مطلقا، لا من باب الضرورة؛ لدوران الأمر بين أقل الضررين كما في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 223

التبعية عن أكثرية أهل الفن في فنّهم، مع

وجود النظر كالأطباء الاخصائيين في مسألة خاصة.

و من ذلك يعلم ان مفهوم «أولي الأمر» لا ينطبق علي كل حاكم و وليّ و ان كان جائرا، كما توهّم، فان الحكيم العادل الله تعالي لا يأمر باطاعة الفاسق الجائر قطعا، بل يأمر بالكفر به، فانه يأمر بالعدل و الاحسان أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَي الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلٰالًا بَعِيداً. (النساء [4] 60)

ثم ان الرسول الذي لا ينطق عن الهوي عرّف- و الحمد للّه- اولي الأمر بأسمائهم و مشخصاتهم و هم الائمة المعصومون الاثنا عشر (عليهم الصلاة و السلام) كما في رواية جابر و غيره «1»، جعلنا الله تعالي من مواليهم و شيعتهم و خدمة شريعتهم، إن شاء الله، و تمام الكلام في رسالتنا المسمّاة ب «بحث حول الامامة».

ثم انك تعلم ان الامام المعصوم الثاني عشر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) جعل نوّابا و ولاة عامّين بعد نوّابه الخاصّين و جعل لهم علائم و مشخصات، فهم الولاة و الحكّام الذين تجب طاعتهم في زمن الغيبة في كل ما يجب اطاعته (عليه السّلام)، و الرادّ عليهم كالرادّ عليه و الرادّ عليه كالرادّ علي الله، و قد صرّح بذلك- النصب و التعيين- سائر الأئمة (عليه السّلام) أيضا و لا سيما الامام الأعظم أبا عبد الله جعفر بن

______________________________

(1)- عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سمعت جابر بن عبد الله الانصاري يقول: لمّا أنزل الله (عز و جلّ) علي نبيه محمد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ

أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قلت: يا رسول الله عرفنا الله و رسوله فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): هم خلفائي يا جابر و أئمة المسلمين من بعدي أولهم عليّ بن أبي طالب ثم الحسن و الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر و ستدركه يا جابر فاذا لقيته فاقرأه مني السلام ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسي بن جعفر ثم علي بن موسي ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم سميّي و كنيّي حجة الله في أرضه و بقيته في عباده ابن الحسن بن علي. الحديث. اكمال الدين/ ص 253، و غاية المرام في آخر الآية، و الكافي/ ج 1 ص 527، حديث 3 بوجه آخر و عن كاشف الغطاء في مقدمة كتابه (روايات العامة) كما في غاية المرام، و غيرها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 224

محمد الصادق (عليه السّلام) و قد فصّلنا البحث في رسالتنا «ولاية الفقيه».

و الأمر كذلك في الجعل و التعيين حسب المراتب، فالمجعول من قبل أحد النواب مجعول و معيّن من قبلهم يجب اطاعته علي شعاع الجعل و التعيين.

ولاية الفقيه

و عليه فالولاة و الحكّام الحقيقيون في زمن الغيبة هم الفقهاء و العلماء الذين عرّفهم الأئمة (عليهم السّلام) و هم أمناء الله علي حلاله و حرامه ما لم يدخلوا في الدنيا «1» و نوّابهم المأذونون من قبلهم، و لا ولاية لغيرهم في شي ء مما يرتبط بالأمة الاسلامية، و المتصرّف في شئونهم بدون اذنهم غاصب ظالم تحرم طاعته و معاونته و تأييده بأي وجه حتي بالارجاع، و في مواقع بالسكوت. أعاذنا الله

من شرور أنفسنا.

و جدير بالذكر أن عبد الله و هو (الخضر) الذي آتاه الله رحمة من عنده و علّمه من لدنه علما، قد تصرّف في السفينة فخرقها، و الغلام فقتله، و الجدار فأقامه، لم يكن من عنده بل بأمر من الله تعالي بولايته علي ما قصّ الله تعالي في كتابه العزيز قصة مصاحبة كليمه موسي معه (علي نبينا و آله و عليهما السلام) «2»، فان التحفظ علي مصالح الامة الاسلامية و لا سيما في مثل ذلك المستوي الرفيع، الذي لم يكن حتي لأوليائه المأمورين بظواهر الأمور، إلا لولايته الشاملة التي أعطاها الله تعالي اياه فكان له ان يتصرّف في أموال الناس و أنفسهم بمثل ذلك و لم ينحصر بما ذكر.

و من المعلوم انه لا يجوز التصرّف مثل تلك التصرّفات لكل أحد حتي مع العلم بالمصلحة، و انما حسب ظواهر الأمور، ما لم تكن له الولاية العامة الالهية و العلم بالمصلحة علي وجه لا يحتمل الخطأ دون القطع المحتمل، و لا سيما في مثل

______________________________

(1)- قيل و ما دخلهم في الدنيا؟ قال (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) اتّباع السلطان، كما في الحديث: الكافي/ ج 1 ص 46.

(2)- و ذلك في سورة الكهف [18] من الآية 65 الي 82.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 225

القتل، فلا يتم الاستدلال بالقصة علي جواز كل تصرّف كان أولي من تركه، مثل اجارة دار الغائب، و بيع أثاثه المشرفة علي التلف … و غيرها، أو جواز قتل شخص لدفع مفسدة، كما أشار إليه صاحب الزبدة (رضوان الله تعالي عليه) في كتاب «المكاسب» و لا سيما ما نقله عن المجمع (رضوان الله تعالي عليه) من الجواز لكل أحد من تأمله، ففيه تأمّل،

و للجواز في مثل تلك الامور أدلة أخري مذكورة في محالّها.

و اما الكلام في مراتب الولاية علي المستويات المختلفة بحيث تشمل بواطن الأمور و مجاريها العينية الخارجية، التي تكون وراء ظواهرها، التي يتصرّف فيها كل وليّ و حاكم، فهو خارج عن وضع الرسالة، أشرنا إليها في بحث الولاية التكوينية الثابتة لنبينا و الأئمة المعصومين (عليه و عليهم الصلاة و السلام) و هم مجاري رحمة الله و بركاته، و لهم التصرّف في كل شي ء باذنه و ارادته، و مع ذلك يعملون علي ظواهر الأمور و مجاريها العادية، إلا في موارد خاصة أشير إليها في سيرتهم (عليهم السّلام) و لها مقياس خاص.

و الحاصل ان التصرّف في مختلف شئون المجتمع علي تمام المستويات لا يجوز إلا للنبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو الولي (عليه السّلام) أو نوّابهما، و هم العلماء الأعلام العارفون بأحكام الله تعالي و مواقعها و الناظرون فيها و في ظروفها. كثّر الله أمثالهم و أيّدهم بنصره، ليكونوا هم الولاة في المجتمع الاسلامي مبسوطي الأيدي، نافذي القول، حتي تكون كلمة الله هي العليا، و يكون الدين كلّه للّه «1».

______________________________

(1)- و من المعلوم ان اطلاق كلمة الفقيه يوجب أن تكون الولاية للفقيه المطلق دون المتجزّي، و بناء العقلاء علي تقدّم الأفضل، و لم يردع عنه الشارع، و لا يتصور التساوي في جميع الجهات، و التقوي و العدالة يحسمان الأمر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 226

الولاية علي اليتيم و السفيه

الرابعة- قول تعالي:

وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيهٰا وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً* وَ ابْتَلُوا الْيَتٰاميٰ حَتّٰي إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ وَ لٰا تَأْكُلُوهٰا إِسْرٰافاً

وَ بِدٰاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كٰانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كٰانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذٰا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفيٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً. (النساء [4] الآية 5 و 6)

الآية الكريمة بصراحتها تنهي عن ايتاء المال الي السفيه الذي لا يعلم كيف يصرفه فيما يقوّمه، فان المال من نعم الله تعالي التي جعلها قياما للناس بمعاشهم، و شكر كل نعمة صرفها في محالها التي جعلها الله لها، دون اسراف و تبذير.

ثم تأمر بارزاق السفهاء و اكسائهم، و القول لهم بالمعروف، فلا يجوز اهمالهم بما أنهم سفهاء، كما لا يجوز اعطاؤهم المال ليصرفوه برأيهم و في مشتهياتهم، بأن كان المال لهم أو لم يكن، فانهم لا يقدرون علي القيام بمصالحهم علي النحو المتعارف، فلا بد من التولية عليهم و التصرّف في شئونهم، حفظا عليهم و علي مصالحهم، حتي لا يهملوا، فانهم عباد الله مخلوقون مرزوقون من عند الله، و ما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها.

و أما الوليّ المتصرّف في مصالحهم فمن هو؟ و إلي من يتوجه تكليف تحملهم؟ فلم يذكر في الآية- كما تري- شي ء صراحة.

و كذلك الأمر في اليتيم و ماله، فان الآية الكريمة تأمر بدفع أموال اليتامي إليهم بعد اختيارهم و ابتلائهم، و استيناس الرشد منهم، مع الإشهاد عليهم حين الدفع.

و تنهي عن التصرّف فيها قبله اسرافا و بدارا ان يكبروا في خصوص ما يأخذون أجر لولايتهم و تصدي أمورهم، أو في عموم ما يصرفونه لمصالحهم و ما يأخذونه أجرة،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 227

فعلي الفقير أن يأكل بالمعروف، و علي الغني أن يستعفف، وَ كَفيٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً. و لم يذكر فيها انه من الوليّ و انه من هو أيضا.

إلا

أن المتيقّن المقطوع من الآيات المباركات ان المحافظة علي الايتام حتي يبلغوا النكاح و استيناس الرشد، و كذلك السفهاء ما داموا كذلك، مما لا يرضي الشارع المقدّس بتركه بين مجتمع المسلمين، فان اهمالهم و اضاعة أموالهم التي كانت للقيام بمصالحهم باعطائها اياهم و هم غير قادرين عليه، أو بالاسراف فيها. أو البدار و الاسراع اللازم منه غالبا الخطأ الموجب للضرر، مبغوض للشارع المقدّس، منهيّ عنه، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰاميٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. (النساء [4] الآية 10)

و كلما كان مطلوبا له تعالي و لم يتوجه التكليف الي شخص أو عنوان معيّن فهو واجب كفائي، موجّه الي الجميع، و يسقط عنهم بقيام البعض مع أحقية الأقرب فالأقرب، حتي ينتهي الي ولي من لا وليّ له، و هو ولي الأمر و حاكم المجتمع و الملّة.

و من ذلك يستفاد ولاية الأب و الجد، ثم العدول من المؤمنين، ثم الحاكم الشرعي، و لا يبعد أن يكون تعيّن العادل و تشخّصه من قبل الحاكم الشرعي أوفق بالقواعد، فلا يتصرّف كل عادل من قبل نفسه إلا لدي الضرورة، و عدم وجود حاكم من الطرق الطبيعية للمسألة كما في كل أمر حسبي.

الولاية علي العبد المملوك

الخامسة- قوله تعالي:

ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَليٰ شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْنٰاهُ مِنّٰا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّٰهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ.

(النحل [16] الآية 75)

قد ضرب الله تعالي مثلا خلال الأمثلة بأن العبد الذي لا يقدر علي انجاز شي ء

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 228

هل يمكن أن يساوي الذي رزقه الله تعالي رزقا حسنا يتصرّف فيه كيف يشاء و ينفق في سبيله سرّا و جهرا، و

كما في رجلين أحدهما أبكم و هو الذي ولد أخرس، لٰا يَقْدِرُ عَليٰ شَيْ ءٍ، وَ هُوَ كَلٌّ عَليٰ مَوْلٰاهُ، و الآخر القادر الناطق الحاكم الذي يأمر بالعدل و هو علي صراط مستقيم، أو هل يمكن أن يستويان؟ لا.

فالعبد المملوك الذي لا يقدر علي انجاز شي ء، و لا أن يتصرّف بشي ء، ليس كمن رزقه الله تعالي ليجوز له التصرّف كيف يشاء شرعا لا تكوينا، بعد عدم الفرق بينه و بين مالكه و مولاه بحسب الأصول العادية الانسانية، فاذا لم يجز التصرّف شرعا فهو واقع تحت ولاية الغير، الذي يجوز له، و الأقرب إليه مالكه و مولاه، فالمالك وليّ عبده و مملوكه يتصرّف في شئونه، ما لم يمنعه الحاكم و الوليّ الفوق، أي النبي الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الوليّ من قبله (عليه السّلام) أو الأئمة المعصومون (عليهم السّلام) و يد الله تعالي فوق أيديهم، فلا يجوز له قتله و ايذاؤه، أو أمره بما نهاه اللّه تعالي عنه، أو نهيه عمّا أمر الله تعالي به.

و من ذلك يعلم أن مالكية انسان لإنسان ليس كمالكيّته لغيره، يتصرّف فيه كيف يشاء، و البحث عن معني الرقّيّة الممضاة في الاسلام، و ان مستواه أنه أسهل الطرق و أمتنها؛ لتبديل الكافر بالمؤمن، و البعيد بالقريب، حتي ينتهي الي الحرية و قبولها بعد أن كان موضوعها أسري الحرب فقط دون استعباد الظالم القاهر المظلوم المستضعف، و له محل آخر «1»، و لا يبعد الفرق بين عدم القدرة في العبد معه في الأبكم بالتشريع و التكوين لعدم الثاني في الأول مع وجوده في الثاني تكوينا فيكون الأول للأول، و الثاني للثاني.

______________________________

(1)- و في المقام بيان شامل شاف للعلّامة الطباطبائي

(قدّس سرّه) في تفسيره «الميزان» و هو أمتن و أدق فيما رأيناه من الكلام و المقالات فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 229

خلاصة البحث

اشارة

ان الولاية غصن من شجرة الحكومة، و ركن من أركان الدولة الاسلامية، بمعني التصرّف في شئون الغير علي أساس مصالحه بمراتبها حتي تصدّي جميع مصالح الامة الاسلامية مما يتعلّق بالشئون الحقوقية، اي ما يتعلّق بشئون الغيّب و القصر و الأوقاف، و ما يتعلّق بالشئون العمرانية كايجاد و ترميم الطرق و الشوارع و المدارس و المعابد و المستشفيات و مطلق وسائل المواصلات الجماعية المسموعة و المرئية، و كذا ايجاد مؤسّسات الكهرباء و الهاتف و البرق و الفضاء و غير ذلك …

و الأهم من ذلك كلّه ايجاد مؤسّسات الثقافة و الصحة و الاقتصاد، و كذلك الأمر بالنسبة الي الأمور الخارجية الراجعة الي علاقات المسلمين مع غيرهم في شتي الشئون و مختلف الجوانب.

الفروع:

الأول- الوليّ و الحاكم هو الله تعالي و رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يجب اطاعتهما في كل ما أمرا به أو نهيا عنه حكما أو شخصا أو موضوعا.

الثاني- المنصوبون من قبل الله تعالي و رسوله و هم أولو الأمر المعصومون (عليهم السّلام) حكّام أولياء تجب اطاعتهم كذلك.

الثالث- نوّاب الأئمة و وكلاؤهم (عليهم السّلام) و هم الفقهاء الجامعون للشروط (كثّر الله أمثالهم) هم الولاة و الحكّام علي المسلمين في زمن الغيبة تجب اطاعتهم كذلك.

الرابع- يجب علي العلماء العاملين و الفقهاء الجامعين للشروط (كثّر الله أمثالهم) في كل عصر و زمان مع اختلاف مراتبهم العلمية أو تساويهم حفظ بيضة الاسلام و مصالح المسلمين، و دفع خصومه و خصوم المسلمين، و تسديد ثغور

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 230

الاسلام و بلاد المسلمين و حدودها، مع تجويزهم تقليد الناس الأعلم أو غيره من العلماء المجتهدين، و الخيار في الفروع المختلفة فيها، فالحكم بتبعية المسلمين بأجمعهم لواحد منهم،

و هو الأعرف و الأدق و الأمتن بالنسبة الي المصالح العامة و الحوادث الواقعة التي تعني الولاية و الدولة؛ لئلا يقع التفرّق و الانشقاق في قوي المسلمين فيفشلوا و تذهب ريحهم و ينتهي الأمر الي ما انتهي، و حكم الفقيه لازم الاتباع حتي علي الفقيه الآخر دون فتواه «1». اللّهم انصر الاسلام و المسلمين، و اخذل الكفّار و المعاندين، و أيّد العلماء الربّانيين، الحماة للدين، و اجعلنا من خدمة شريعة سيّد المرسلين (صلوات الله عليه و علي آله)، و احفظنا من شرور أنفسنا و شرور الزمن إله الحق آمين يا ربّ العالمين.

الخامس- لا يجوز لغير المذكورين التصرّف في شئون المسلمين بوجه من الوجوه أصلا، و كل من تصرّف بغير اذنهم فهو غاصب ظالم تعدّي حدود الله، فلا يجوز إذن معاونته بأي وجه كان حتي بالسكوت فيما كان، و يجب الكفر به، فقد أمروا أن يكفروا به.

السادس- يجب علي الفقهاء- مهما أمكن- عند ما لم يكونوا مبسوطي اليد التصدي لرعاية الايتام و المحافظة علي الضعفاء و السفهاء و أموالهم، و كذا اقامة الحدود الشرعية مع التمكّن منها، و مع العذر علي العدول ذلك باجازتهم مهما أمكن، و فيما أمكن.

السابع- الأب و الجدّ وليّ للولد و ولد الولد، كما ان المولي و المالك وليّ العبد و مملوكه في طول ولاية الله و رسوله و أولي الأمر عليهم الصلاة و السلام «2».

______________________________

(1)- فان الأمر الولائي و نهيه غير بيان أوامر الله تعالي و نواهيه في الأحكام و بيان الموضوعات و الأول راجع الي الولاية و الثاني الي الفقاهة و الفقيه وليّ كما ان الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) إمام.

(2)- تم بحمد اللّه كتاب الولاية في

ليلة السابع عشر من شهر شوال عام 1394 ه. ق و الساعة تشير الي الحادية عشرة و عشر دقائق، و انا مبعد في «رودبار».

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 231

كتاب الجهاد

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 233

[النوع الأول: الآيات التي تدل علي وجوب القتال]

وجوب الجهاد في سبيل اللّه

الجهاد هو السعي و الاجتهاد لنشر حقائق الاسلام و توسعة معارفه، و دعوة الناس الي الحق و التوحيد حتي بالقتال في منتهي الدعوة، و لئلا تكون فتنة و يكون الدين كلّه للّه، و يكون الحاكم علي الأرض هو الله تعالي و ولاته الحق المنصوبون من قبله.

و القتال هو بذل النفس في المعارك، و هو من أعلي مراتب الجهاد، و مع ذلك يعدّ جهادا أصغر، قبال السعي لتسخير النفس بتزكيتها عن كل رجس و باطل، و لحكومة الحق عليها. و هو الصعب المستصعب الوصول إليه، و المعبّر عنه بالجهاد الأكبر في لسان السنّة المباركة. و قد قال تعالي في كتابه العزيز: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا وَ قَدْ خٰابَ مَنْ دَسّٰاهٰا (الشمس [91] الآية 9 و 10) فانه لو لا ذلك لم يوفق للجهاد علي ما هو حقه.

هذا اذا كان السيف واقعا بين الكفر و الاسلام ينفذ دوره في تنفيذ و ابلاغ التوحيد في بلاد الشرك و الكفر، و تسلّطه عليهم سلطة الحق علي الباطل، حتي يقع خلق الناس في المجري الذي خلقوا له، و يدفع الله الباطل بالحق، فاذا هو ذاهب زاهق، قال تعالي: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَي الْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذٰا هُوَ زٰاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ. (الأنبياء [21] الآية 18)

و أما اذا كان بين أهل التوحيد؛ فجهاد المسلمين مع القاسطين و الناكثين و المارقين منهم من مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، التي تكون علي عهدة الحكومة الحقة و إشرافها، و اطلاق الجهاد عليه تسامح و ان كان جهدا في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 234

سبيل الله، و الواجب فيه الجهد (كذا في اللغة).

و السيف بين الكفر و

الاسلام غير الذي بين أهل التوحيد حسب الشرائط و الخصوصيات كما سيأتي موضوعه ان شاء الله تعالي في محله «1».

و كيف كان فالآيات النازلة في الباب بكثرتها علي أنواع:

النوع الأول:

ما يدل علي وجوب القتال و الجهاد مع الكفار في الاسلام في الجملة، و فيه آيات:

الأولي: قوله تعالي:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتٰالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسيٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسيٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 216)

دلالة الآية الكريمة علي أن القتال في الجملة مكتوب مفروض علي المسلمين ظاهر لا ريب فيها، و هو ثقيل و مكروه علي النفس بالطبع، و يخفّ عليها اذا صارت مطمئنة الي الله تعالي، و عسي أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم، و الله يعلم و أنتم لا تعلمون ما فيه من الخير و الصلاح.

الثانية: قوله تعالي:

وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰي لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلّٰهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلٰا عُدْوٰانَ إِلّٰا عَلَي الظّٰالِمِينَ. (البقرة [2] الآية 193)

الآية الكريمة تأمر المسلمين بمقاتلة الذين يقاتلونهم «2»، و مفادها الابتدائي

______________________________

(1)- في الكلام في قوله تعالي: فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ (الحجرات [49] الآية 9) في مسألة الصلح من كتاب القضاء و الشهادات.

(2)- و قبلها قوله تعالي: وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَكُمْ وَ لٰا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لٰا تُقٰاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ حَتّٰي يُقٰاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قٰاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذٰلِكَ جَزٰاءُ الْكٰافِرِينَ (البقرة [2] الآية 190 و 191)، و سيأتي الكلام عنها إن شاء اللّه في

مبحث الدفاع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 235

و ان كان وجوب المقاتلة ضد الذين يقاتلون المسلمين شأنا لتكون ناظرة الي الجهاد، أو فعلا ليرجع الي الدفاع، كما يؤيده آخر الآية، و انهم إن انتهوا فلا عدوان عليهم و لا مقاتلة ضدهم، إلا ان اطلاق الغاية و ايجاب مقاتلتهم لنفي الفتنة و صيرورة الدين كلّه للّه تعالي يوجب الجهاد علي الاطلاق، فإن الأرض ما دامت ملوّثة برجس الشرك و الكفر، فهي فتنة، لا بدّ للموحّدين أن يكافحوها و يجاهدوها، حتي تطهر الأرض منها، و يزول الرجس عنها، و يكون الدين للّه تعالي، ف إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لٰا يُؤْمِنُونَ. (الانفال [8] الآية 55)

الثالثة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبٰاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً … - الي قوله تعالي-: فَلْيُقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً* وَ مٰا لَكُمْ لٰا تُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجٰالِ وَ النِّسٰاءِ وَ الْوِلْدٰانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَخْرِجْنٰا مِنْ هٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظّٰالِمِ أَهْلُهٰا وَ اجْعَلْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً* الَّذِينَ آمَنُوا يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّٰاغُوتِ فَقٰاتِلُوا أَوْلِيٰاءَ الشَّيْطٰانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطٰانِ كٰانَ ضَعِيفاً … - الي قوله تعالي-: أَيْنَمٰا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. (النساء [4] الآية 71 الي 78)

الآيات المباركات في سياقها الخاص هي في بحث الكفر و الايمان، و ان كل ذنب و انحراف يقبل العفو و الغفران و يمكن أن يغمض عنه، غير الشرك و الكفر، فانهما افتراء و ظلم عظيم و اثم مبين «1».

ثم

توجيه البحث نحو الذين يصدّون عن سبيل الله و يؤيدون الكفر بأنهم الملعونون المردودون، أ لم تر انّ الله لعن الذين آمنوا بالجبت و الطاغوت، و قالوا

______________________________

(1)- و سنبحث عنه في كتاب المحرّمات إن شاء اللّه تعالي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 236

للذين كفروا هؤلاء أهدي من الذين آمنوا سبيلا، يعني المؤمنين المسلمين، و من لعنه الله فلن تجد له نصيرا، و من صدّ عن سبيل الله فكفي بجهنم سعيرا، و الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِنٰا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نٰاراً كُلَّمٰا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنٰاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهٰا لِيَذُوقُوا الْعَذٰابَ.

ثم توجيه الكلام نحو الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا منعّمين مقرّبين.

بعد ذلك أمر المؤمنين بردّ الأمانات و الحكم بالعدل و اطاعة الله تعالي و اطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و ارجاع موارد الاختلاف إليهما دون الطاغوت، و ان الايمان بالله تعالي لا يجتمع مع التحاكم الي أهل الجبروت و الطغيان، و المؤمن لا يقبل سلطة الكفر عليه و علي شئون حياته، و عندئذ يظهر المنافقون أمرهم وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ: تَعٰالَوْا إِليٰ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ إِلَي الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنٰافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً، أولئك الذين لا يريدون حكومة الحق و دولته و يحلفون بالله انهم كذا و كذا، و الله يعلم ما في قلوبهم من النفاق و التمايل الي الظلمة و حكومة المنافقين الذين يهون لهم التمتع بحطام الدنيا و لذائذها.

مع ان الله تعالي ما أرسل من رسول الا ليطاع باذنه و يكون هو الحاكم المطاع بين الناس، و من ينوب عنه من وليّ حاكم إلهي بالحق و العدل، و المؤمنون لا يكونون مؤمنين حقا حتي يحكّموك (يا رسول الله)

فيما شجر بينهم و يطيعوك طاعة مطلقة إلا ان قليلا من الناس يكونون علي ذلك الحدّ الكامل من الايمان و الطاعة المطلقة بقلوبهم للحق و حكومة العدل، ألا تري لو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل.

فهذا هو الكفر و الشرك و ذلك الايمان و التوحيد، و هؤلاء الكفار و المنافقون، و اولئك المؤمنون الذين يحكّمونك ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت، و هم المطيعون للّه و للرسول، فهم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين و الصدّيقين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 237

و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا.

ففي مثل هذا السياق البيّن الواضح الشديد يأمر الله تعالي المؤمنين و يخاطبهم بقوله: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ (النساء [4] الآية 71) و أسلحتكم، و أعدّوا و تهيئوا، فانفروا ثبات أو انفروا جميعا، و جاهدوا في سبيل الله لنشر الحق و الايمان، و الله يعلم ما في قلوبكم، و ما تخفي الصدور، فبعضكم من يتخلّف و ينتظر الأمر و يطمئن، فان أصاب المؤمنين المجاهدين مصيبة من شهادة أو انكسار يقول: قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا، و إن أصابهم فضل من الله من فتح و غلبة و غنيمة قال: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما.

و كيف كان فعلي المؤمنين الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، و هم المؤمنون حقا أن يقاتلوا في سبيل الله و لهم أجر عظيم، سواء كانوا قد غلبوا فاتحين أو غلبوا شهداء مقتولين فلهم احدي الحسنيين.

و ما لكم أيها المؤمنون لا تجيبون نداء الحق و هو نداء المستضعفين من الناس الذين يصرخون من شدة الظلم و الاعتداء حتي

النساء و الوالدان الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها و اجعل لنا من لدنك وليّا و اجعل لنا من لدنك نصيرا، حتي نتغلّب علي الظالمين، و ننجو من شقائهم و ظلمهم، و نعيش بالحق و العدل، فما لكم لا تجيبون هذه الصرخات و النداءات إلا النزر القليل؟ و لم لا تنصرونهم لتخرجوهم من ربقة الظلمة و الكفار الخونظ؟ و المؤمن بطبعه الايماني يقاتل و يجاهد في سبيل الله للايمان و الحق، كما ان الكافر و المشرك يجاهد في سبيل الطاغوت، و يسعي لحكومة الطغاة و سلطة الظلمة، حتي تتمتّع نفسه الطاغية معهم في نهب أموال الناس، و استعبادهم في مختلف الشئون، فما لكم لا تجيبون؟

و لا تقاتلون أولياء الشيطان و أتباع الطغاة؟ اعلموا أن كيد الشيطان و مكر الطغاة في جولانهم الحاكم كان في نظام الخلقة و قوانين العالم و إرادة الله تعالي كيدا و مكرا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 238

ضعيفا مغلوبا، و ليس علي شي ء، فمع تمام قوّته و تظاهراته فهو منكوب، و الله تعالي هو الغالب القاهر.

و اعلموا أن متاع الدنيا قليل، و ليس لحياتها دوام، و النتيجة في إيفاء الحق و تمكين التوحيد في الناس أبقي و أدوم، و ان انتهي الي الشهادة: أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ فَلَمّٰا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتٰالُ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّٰاسَ كَخَشْيَةِ اللّٰهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قٰالُوا: رَبَّنٰا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتٰالَ لَوْ لٰا أَخَّرْتَنٰا إِليٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتٰاعُ الدُّنْيٰا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقيٰ وَ لٰا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (النساء [4] الآية 77)، و الشهادة في المعركة في سبيل الله

هي من أعظم الفيوضات الالهية، التي لا ينالها إلا من خصّه الله بها بلطفه و هي الحياة لا الموت. و الفرار عن مثل هذا الفوز لا ينجيكم (أيها الناس) عن الموت الذي لا بدّ منه، فانه أينما تكونوا يدرككم الموت و لو كنتم في بروج مشيّدة.

و الحاصل: ان الآية المباركة، بشدة التعبير، و صراحة اللهجة، توجب الجهاد و مقاتلة العدو و مناهضته في سبيل الله، و اقامة دينه الحق كما لا يخفي، و اطالة الكلام كانت لبيان السياق.

الرابعة: قوله تعالي:

فَقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ لٰا تُكَلَّفُ إِلّٰا نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَي اللّٰهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللّٰهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا. (النساء [4] الآية 84)

الآية الكريمة- في السياق الذي عرفته بتفصيل من الآية التي قبلها- فهي تأمر رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بأن يقاتل في سبيل الله و يتحمّل بنفسه الشريفة كلفة ذلك الأمر الثقيل و مشقته، و أشق منه انها تأمره (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بتحريض المؤمنين و ترغيبهم حتي يتهيّئوا للجهاد في سبيل الله و يستقيموا فيه، عسي الله أن يكفّ بأس الذين كفروا، فانه أشدّ بأسا و أشد تنكيلا، فيجب إذن مقاتلة الكفار الي أن يكفّ الله بأس الذين كفروا، و يزول شرّهم، و تطهر الأرض منهم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 239

استثناء في الجهاد

الخامسة: قوله تعالي:

… فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لٰا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لٰا نَصِيراً* إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِليٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ أَوْ جٰاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقٰاتِلُوكُمْ أَوْ يُقٰاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شٰاءَ اللّٰهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقٰاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ

السَّلَمَ فَمٰا جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا* سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمٰا رُدُّوا إِلَي الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهٰا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولٰئِكُمْ جَعَلْنٰا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطٰاناً مُبِيناً. (النساء [4] الآية 89 الي 91)

الآيات المباركات في سياق آيات الجهاد التي قد عرفتها، فهي تشير أولا الي:

اختلاف المؤمنين في جواز مقاتلة المنافقين و عدمه، حتي صاروا فئتين:

ففئة منهم يحكمون عليهم بأنهم كفّار، حيث لم تؤمن قلوبهم، و ان شهدت ألسنتهم، فليس لهم حكم الاسلام أصلا، و يجوز مقاتلتهم، و كذا يحرم تولّيهم. و فئة يحكمون لهم بالاسلام، و يعتقدون بعدم جواز مقاتلتهم، لترتّب أحكام الاسلام و آثاره عليهم ظاهرا، فان الاسلام شهادتان و قرينتان.

و الاختلاف ذلك بنفسه كان علي حدّ ينافي مصالح المسلمين، فحذّرهم الله تعالي منه، و قال: ما لكم في المنافقين و قد صرتم بسببهم فئتين؟ اعلموا جميعا، و كونوا علي نظرة واحدة، بأن الله تعالي حكم عليهم بالكفر، و أركسهم و أعادهم فيما كانوا عليه بما كسبوا من نفاق، و الذين يظنون أنهم مسلمون، أ يريدون أن يهدوا من أضلّه الله من أولئك المنافقين؟ و من يضلل الله فلن تجد له سبيلا، فانهم بنفاقهم قد ضلّوا عن الطريق السويّ، و باصرارهم علي النفاق، فلن يجدوا الي الحق سبيلا، بل انهم يريدون إضلالكم و نفاقكم حتي تكونوا كفارا علي سواء، فهم يصرّون عليكم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 240

بذلك.

فلا تتخذوا منهم أولياء معاشرين حتي يهاجروا في سبيل الله، و يتركوا قومهم الكفار و بلادهم و أموالهم و أولادهم، و يلتحقوا بكم علي الحق. فان فعلوا ذلك و هاجروا إليكم، فهم

مؤمنون بعضهم أولياء بعض.

و اما اذا تولّوا، و لم يهاجروا، و بقوا في بلاد الكفر علي نفاقهم، فهم كفار، فخذوهم و اقتلوهم حيث وجدتموهم في الحرم أو غيره، و لا تتخذوا منهم باسلامهم الظاهري وليا و لا نصيرا في الحرب و القتال مع سائر الكفار، إلا أن يكونوا لاجئين الي قوم بينكم و بينهم ميثاق و معاهدة بترك الحرب و وقف القتال، فلا يجوز نقض العهد بمحاربتهم بل يجوز معاملتهم في بعض الأمور الحربية معاملة الخصوم و الأعداء، و من المعلوم أن ذلك بعد وجوب التحفّظ علي الأساس و الأسرار، كما سيأتي تفصيل الكلام عنه في مبحث تولّي الكفار في كتاب المحرّمات ان شاء الله.

و كذا لا يجوز مقاتلتهم، اذا كانوا من الذين حصرت صدورهم في مقاتلتكم، أو مقاتلة قومهم الذين تقاتلونهم، فألقوا إليكم السلم و الأمن، فما جعل الله لكم عليهم سبيلا، فلا يجوز تعقيبهم و قتالهم.

نعم إن كانوا ممن يمكر بكم، و يحتال عليكم، و يريدون أن يأمنوكم و يأمنوا قومهم الذين تقاتلونهم، و لكن اذا اعيدوا في الفتنة من الكفر و الشرك و الحرب مع الاسلام، فلم يعتزلوكم في الحرب، و لم يلقوا إليكم السلم بطلب وقف القتال، و لم يكفّوا أيديهم و قواهم المحاربة عنكم، بل أعدّوا قواهم عليكم، و أبدوا استعداداتهم من الأجهزة و الأسلحة، فحينئذ لكم أن تأخذوهم و تقتلوهم حيث ثقفتموهم من دون رعاية شي ء من الحل أو الحرم، و قد جعل الله لكم عليهم سبيلا و سلطانا مبينا.

فالآيات المباركات- كما تري- بصراحتها تدل علي وجوب مقاتلة المنافقين الذين يراودون الكفار و المشركين، و يسعون في الارض فسادا ضدّ الاسلام

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 241

و المسلمين، و ان

تفوّهوا بالشهادة بالتوحيد و الرسالة، فهو علي الكذب و النفاق، فان الله قد أركسهم بما كسبوا فيما كانوا فيه، فهم كفار حكما في مقاتلتهم بشروط و حرمة توليتهم كما ذكرنا في محله.

و لا يجوز مقاتلتهم اذا استجاروا بقوم و تواصلوا بهم بأن كانت بينهم و بين المسلمين معاهدة استجارة و ترك المحاربة، تحفّظا للمعاهدة و الميثاق، و احتراما لهما، و يجوز مقاتلة الذين يخادعون المؤمنين، و يتعاونون مع أعدائهم، و لا يعتزلونكم و لا يكفون أيديهم و قواهم عنكم، فيجب أخذهم و قتلهم أينما كانوا.

السقاية و العمارة أم الجهاد

السادسة: قوله تعالي:

أَ جَعَلْتُمْ سِقٰايَةَ الْحٰاجِّ وَ عِمٰارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جٰاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ لٰا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰائِزُونَ- الي قوله تعالي-: قُلْ إِنْ كٰانَ آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ وَ إِخْوٰانُكُمْ وَ أَزْوٰاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوٰالٌ اقْتَرَفْتُمُوهٰا وَ تِجٰارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسٰادَهٰا وَ مَسٰاكِنُ تَرْضَوْنَهٰا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهٰادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّٰي يَأْتِيَ اللّٰهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ. (التوبة [9] الآية 19 الي 24)

استفهمت الآيات تقريرا و سألت: هل يمكن أن يستوي سقاية الحاجّ و عمارة المسجد الحرام مع الايمان بالله و اليوم الآخر و المجاهدة في سبيل الله؟ و أين هذا من ذلك؟ لا يستوون عند الله، و الذين يقدّمون الرئاسة علي الجهاد و يعدّونها خيرا فهم الضالّون الظالمون، و الله لا يهدي القوم الظالمين، فان الَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً

عِنْدَ اللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰائِزُونَ، و لهم البشري بالرحمة و الرضوان و جنّة ذات نعمة هم فيما خالدون و لهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 242

عند الله أجر عظيم.

و المؤمن بايمانه لا يمكن أن يتولّي الكافر بوجه من الوجوه، و لو كان من أقربائه كأبيه و أخيه، و من كان لديه الحياة المادية الزائلة و شئونها من أموال و أولاد أحبّ من الله و رسوله و جهاد في سبيله فليتربّص لأمر الله تعالي من الذلّة و الخسران في الدنيا تحت حكومة الكفر و الضلال و العذاب في الآخرة.

و اما جواب التقرير فهو تقدّم الجهاد علي كل منصب و مقام، و ان المجاهد أعظم درجة عند الله، و له أجر عظيم. و ان من تولّي الكفر و الكافر، و قدّم الحياة المادية علي الله و رسوله، فليتربّص لأمر الله، كل ذلك يدلّ علي وجوب الجهاد بأصرح من الأمر به- كما لا يخفي- لا سيما مع التوجّه الي تعبير الفسق: و الله لا يهدي القوم الفاسقين.

الأمر بالقتال

السابعة: قوله تعالي:

قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰي يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ. (التوبة [9] الآية 29)

الأمر بمقاتلة الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر أمر بالجهاد ضد كل كافر و مشرك، حتي يؤمن بالله و اليوم الآخر، و يكون الدين كلّه للّه، فان السماوات و الأرض و ما بينهما خلقن للانسان و لأجله، حتي يسلك الانسان طريقا ينتهي به الي ما لا ينتهي إليه مخلوق غيره و يرتقي الي أعلي مراحل الارتقاء، فان الكفر و الشرك

صدّ عن هذا السبيل، و ضلال عن هذا الطريق، و انهما يوجبان منع الغير أيضا، و تضييع الاستعدادات و قوي الانسان النوعية.

كما ان الأمر بمقاتلة من لا يحرّم ما حرّم الله و رسوله، و لا يدين بدين الحق، أمر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 243

بالجهاد ضد كل منتحل لدين أو كتاب، و لا يعتقد بحلاله و حرامه، و لا يعمل بأحكام الاسلام أيضا، كالذين أوتوا الكتاب من اليهود و النصاري و غيرهم، حتي يسلموا أو يقبلوا الاسلام بمرتبة من حكومته، و تسلّطه الكلي الحكومي، لينحل الكفر و يضمحل تدريجيا بوجود الاسلام، بأن يفرض عليهم الحاكم الاسلامي الجزية المقررة بما يراه مصلحة في ذلك، فيعطونها عن يد و هم صاغرون.

و بالملاك تبيّن الآية الكريمة وجوب المقاتلة ضد كل من يخالف الاسلام و أحكامه من حلال و حرام اعتقادا و عملا، حتي و لو كان من المسلمين، فكيف بزعمائهم و حكّامهم المخرّبين- بسيرتهم- صرح الاسلام القويم و أساسه المتين؛ و سنشير إليه في مبحث الدفاع ان شاء الله «1».

النفير للجهاد

الثامنة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مٰا لَكُمْ إِذٰا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ اثّٰاقَلْتُمْ إِلَي الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا مِنَ الْآخِرَةِ فَمٰا مَتٰاعُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا فِي الْآخِرَةِ إِلّٰا قَلِيلٌ، إِلّٰا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذٰاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لٰا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللّٰهُ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ*- الي قوله تعالي-: انْفِرُوا خِفٰافاً وَ ثِقٰالًا وَ جٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. (التوبة [9] الآية 38 الي 41)

تخاطب الآية الكريمة المؤمنين تخصيصا بهم، و تقول مالكم اذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الي الأرض؟ تظنّون أن التثاقل

الي الأرض و التوغّل في حطام الدنيا أبقي و أنفع لكم؟ و أعداء الله يصدّونكم عن سبيله؛ ليخرجوكم عن دينه فيحاولوا لأن يجعلوكم عبيدا للأهواء مقهورين للشهوات، راضين بالحياة الدنيا دون الآخرة.

______________________________

(1)- و قد أشبعنا الكلام في تلك المسائل في بحث الجهاد في رسالتنا (أبحاث فقهية علي مسلك الأصحاب).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 244

و اعلموا أن الله تعالي لا يترك خلقه سدي و لا يهملهم، فأعداؤه يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متمّ نوره، فانكم إن اثاقلتم الي الأرض، و رضيتم بالحياة الدنيا و شهواتها، فلن يضرّ الله شيئا، فانه تعالي سيستبدل قوما غيركم، فينفروا في سبيل الله و يجاهدوا له بقاء لحجته و ثباتا لدينه و شريعته بحوله و قوته، و الله علي كلّ شي ء قدير. و الذين يتثاقلون الي الأرض و لا ينفرون في سبيله سيعذّبهم عذابا أليما في الدنيا و الآخرة.

فانفروا أيها المؤمنون خِفٰافاً وَ ثِقٰالًا وَ جٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فانكم بجهادكم بالأموال و الأنفس، تنصرون الله و دينه فتزول الفتنة، و يكون الدين كلّه لله، فتصبحون سادة أقوياء صلحاء في الدنيا و سعداء في الآخرة.

و الحاصل ان الآية الكريمة تدل علي وجوب الجهاد في الجملة بأصرح وجه.

الفرق بين المتربّصين

التاسعة: قوله تعالي:

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنٰا إِلّٰا إِحْدَي الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللّٰهُ بِعَذٰابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينٰا فَتَرَبَّصُوا إِنّٰا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ. (التوبة [9] الآية 52)

الآية المباركة في سياق تقوية المؤمنين علي أمر الجهاد، و تثبيتهم عليه، و احصاء امتيازاتهم علي المنافقين المتثاقلين، فان المؤمنين اذا أمروا بالنفر و الجهاد، أطاعوا الله و رسوله بلا تثاقل حتي بالاستئذان الناشئ عنه،

و المنافقين يحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، و الله يعلم انهم لكاذبون، مع انهم لو خرجوا مع المؤمنين لم يكونوا مجاهدين مخلصين، و لا متعاونين معهم، بل لزادوهم خبالا، و لأوضعوا خلالهم، ابتغاء الفتنة، و ان جهنّم لمحيطة بالكافرين، و لكن الله تعالي قد أظهر الأمر و جاء بالحق، و الحاصل ان المنافقين علي حال إن تصبك (يا رسول الله) حسنة من الفتح و التوفيق تسؤهم، و إن تصبك مصيبة يقولوا: قد أخذنا أمرنا من قبل، و يتولّوا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 245

و هم فرحون، و المؤمنون يطيعون الله و رسوله علي كل حال و في كل أمر و نهي.

هذا مقام المؤمنين و شأنهم، و ذلك موضع المنافقين و حالهم، و بعد تبيان هذا و ذلك، قال الله تعالي: قل للمنافقين: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنٰا إِلّٰا إِحْدَي الْحُسْنَيَيْنِ من الفتح و الغلبة في سبيل الله، و اقامة الحق، و تثبيت العدل، أو الشهادة في الله و في سبيله و شريعته، و هو القائل: وَ لٰا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران [3] الآية 169). و أما نحن المؤمنين نتربّص بكم (أيها المنافقون) عذاب اللّه تعالي من عنده أو بأيدينا من القتل و الأسر، فتربّصوا إنّا معكم متربّصون.

و عندنا أن الآية الكريمة تدل علي وجوب الجهاد في الجملة، بمعني أن عذاب الله تعالي للمنافقين المخالفين المتحقق بأيدي المسلمين لا ينطبق إلا علي المقاتلين كما هو ظاهر لا خفاء فيه.

التشديد في الجهاد

العاشرة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ جٰاهِدِ الْكُفّٰارَ وَ الْمُنٰافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ. (التوبة [9] الآية 73)

أمر الله تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و

آله و سلّم) بمجاهدة الكفّار و المنافقين و التغليظ عليهم و التشديد، فان مأواهم جهنّم، و هم يحلفون بالله ما قالوا، و لقد قالوا كلمة الكفر، و ان شرّ الدواب في الأرض الذين لا يؤمنون بالله و آياته.

و دلالة الأمر علي الوجوب- و لا سيما في مثل السياق- مما هو ظاهر. و توجيه الأمر نحو رسول الله لا يوجب التخصيص به، فانه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بمقام إمارته و زعامته علي المسلمين خوطب بذلك، فيجب عليهم اطاعته و امتثال أمره، وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلّٰا لِيُطٰاعَ باذنه، حسب تناسب الحكم و الموضوع لا بنبوته.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 246

التقوي و الوسيلة في الجهاد

الحادية عشرة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جٰاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (المائدة [5] الآية 35)

الآية الكريمة بعد الأمر بالجهاد، توجب التقوي و ابتغاء الوسيلة الي الله تعالي، ليصل بها العبد الي رضوانه، فتفيد الوجوب بلسان ألطف، إلا أن الآية الكريمة بسياقها كسابقتها فكأنّ المراد مجاهدة النفس، و هو الجهاد الأكبر، و لكن الأمر و ظهوره في الوجوب مما لا ينكر.

و قد جمعت آيات هذا النوع في قوله تعالي: وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 244)

هذا كلّه في الآيات التي تدلّ علي وجوب الجهاد في الجملة و هناك أيضا آيات تؤيّد المطلوب نذكرها مشيرين الي وجه التأييد فيها:

ما يشير الي وجوب الجهاد

الأولي: قوله تعالي:

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلٰافَ رَسُولِ اللّٰهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ قٰالُوا لٰا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نٰارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كٰانُوا يَفْقَهُونَ. (التوبة [9] الآية 81)

و وجه التأييد ظاهر، فان الوعيد بنار جهنم و حرّها لمن يتخلّف، لا وجه له إلا تركه الجهاد الواجب، سواء فرح بذلك أو لا، فان التخلّف هو العلّة، و لا تأثير للفرح و الحزن كما هو ظاهر. بل ربّما يكون الوعيد بنار جهنم لقولهم: لا تنفروا في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 247

الحرّ، و منعهم من النفير، كما تشير الآية الكريمة.

الثانية: قوله تعالي:

وَ إِذٰا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّٰهِ وَ جٰاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قٰالُوا ذَرْنٰا نَكُنْ مَعَ الْقٰاعِدِينَ* رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوٰالِفِ وَ طُبِعَ عَليٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لٰا يَفْقَهُونَ. (التوبة [9] الآية 86 و 87)

الآية الكريمة توضّح تفكير المنافقين و تجسّده، و

تبيّن لزوم الانفصال عنهم، و عدم الصلاة علي موتاهم، و القيام علي قبورهم، و ان كانوا أولي طول و ذوي ثروات و أولاد، إنما يريد الله أن يعذّبهم بها، و تشير الآية الكريمة الي موضعهم قبال مسألة الجهاد، فانهم اذا أمروا بالايمان بالله تعالي و الجهاد مع رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) استأذن أولو الطول منهم بالتخلّف، و قالوا: ذرنا نكن مع القاعدين. و منشأ ذلك ان الله تعالي قد طبع علي قلوبهم، فلا يفقهون الحق و السعادة و لا يشعرون بالفضيلة و الكرامة، فانهم لا يرون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا.

فان مختوم القلب و ممهور الفؤاد يرضي بالتخلّف دون الجهاد، و يفرح بالتحفّظ علي وضعه الموجود دون المؤمن الّذي يري بنور الله، و الذي يسعي بين يديه، فانه يذوق معني الحياة و يلمس روح السعادة، فيسعي الي الجهاد و يجيب دعوة الحق.

و من المعلوم انه لا اختصاص بالجهاد مع شخص الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فانه بزعامته و إمامته العامة يجب اتباعه، و يحرم التخلّف عنه، و المورد لا يخصص، فيجب ذلك مع كل امام معصوم أو نائبه، كما هو ظاهر. وفقنا الله تعالي و إياكم لمرضاته، و رزقنا و اياكم خيراته.

الثالثة: قوله تعالي بعد نفي الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقون في سبيل الله من وسائل الحرب و أدواتها، من الضعفاء الذين كانوا يأتون الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ليحملهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 248

علي وسائط النقل، فيقول لهم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): لا أجد ما أحملكم عليه، فيتولون و أعينهم تفيض من الدمع حزنا.. يقول تعالي: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَي

الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِيٰاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوٰالِفِ وَ طَبَعَ اللّٰهُ عَليٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ.

(التوبة [9] الآية 93)

ان الآية الكريمة كسابقتها في التقريب و التأييد، فان المطبوع علي قلبه هو الذي ضلّ عن الطريق، فلم ير إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فرضي أن يكون مع الخوالف، انّه لا مناص له من السؤال و العقاب، بترك النفر بعد تمكّنه و غناه، دون المؤمن العارف غير المتمكّن.

الرابعة: قوله تعالي:

مٰا كٰانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرٰابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّٰهِ وَ لٰا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ … (التوبة [9] الآية 120)

تنفي الآية المباركة اختيار أهل المدينة، و هي البلد الطيّب، و كذلك اختيار الأعراب الذين حولهم من مواطنيهم شرعا، أن يتخلّفوا عن رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) عند ما كان يخرج غازيا، و كانت أنفسهم عندهم أحبّ إليهم من الله و رسوله، فيرغبون بأنفسهم عن نفسه الشريفة «1» فرارا عن المشاق و المشاكل، و تحرّزا عن أن يصيبهم ظمأ و عطش أو نصب و تعب من جوع و مخمصة، و قد عاشوا مستبطنين فاعتادوا علي الراحة و الحياة الحيوانية، و لم يلمسوا الحياة الحقة الشريفة الانسانية، بل انهم لم يشمّوا رائحتها، ليرغبوا فيها، و يعملوا لها، مع انهم لا يطئون موطئا، و لا يقطعون واديا، و لا ينالون من عدو نيلا يغيظ الكفار و يسيئهم ليبطلوا الباطل، و كذلك لا ينفقون نفقة قليلة أو كثيرة في طريق الحق و في سبيل الكرامة و الفضيلة

______________________________

(1)- أي ليس لهم أن يتوجّهوا بأنفسهم حفاظا عليها رغبة، و اعراضا عن نفسه الشريفة بتركهم الجهاد و التحفظ منه، و أصل الرغبة السعة فاذا

تعدّت ب (الي) و (في) أو (الباء) أفادت الميل و التوجّه، و اما اذا تعدت ب (عن) أفادت الاعراض و الصفح كما هو ظاهر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 249

الانسانية، ليحقوا الحق، إلا كتب لهم عملا صالحا ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون، إلا أن أكثرهم لا يشعرون بأصل هذه الفضيلة و الكرامة فكيف العمل بها؟

و نفي ذلك الاختيار شرعا نهي عن ترك الجهاد، و تحريم للتخلّف عنه، و افادة وجوب الجهاد بذلك البيان لعلّه أصرح من الأمر، من غير توقّف علي مسألة التلازم بين الأمر و النهي المتعلّق بأحد الضدّين.

و اما المورد و هو رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله) فلا يخصّص، فانه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بزعامته العامة و إمامته للأمة كان يحرم التخلّف عنه كما عن كل أمير نصبه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و لو كان شابا حدثا مثل أسامة بن زيد، و المتخلّف عنه كالمتخلّف عنه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فيشمل كل زمان مع كل أمير شرعي.

الخامسة: قوله تعالي:

إِنَّ اللّٰهَ اشْتَريٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفيٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّٰهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بٰايَعْتُمْ بِهِ وَ ذٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

(التوبة [9] الآية 111)

تؤيد الآية الكريمة وجوب الجهاد، و لو أن دلالتها عليه ظاهرة، فان اشتراء الله تعالي أنفس المؤمنين و أموالهم بالجنة بأن يبذلوهما في سبيله، يثبت المطلوبية في حدّ أعلي ينطبق علي الوجوب «1» و قرار ذلك البيع و الوعد حق مقرر في الشرائع الالهية السالفة من زمن موسي و

عيسي (عليهما السّلام) و حتي زمن الاسلام. و من أوفي من الله عهدا في أدائه ثمن البيع الذي باعوه و فازوا به فوزا عظيما. و الجملة بسياقها تفيد دوام ذلك في كل زمان و مكان و لكل مؤمن من غير اختصاص.

______________________________

(1)- و في هذا السياق قوله تعالي: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَليٰ تِجٰارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجٰاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ … (الصف [61] الآية 10 و 11).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 250

السادسة: قوله تعالي:

فَلٰا تُطِعِ الْكٰافِرِينَ وَ جٰاهِدْهُمْ بِهِ جِهٰاداً كَبِيراً. (الفرقان [25] الآية 52)

الأمر بمجاهدة الكفار بعد النهي عن طاعتهم، و إن كان ظاهره الوجوب إلا ان السياق كأنه لا يكون في ذلك المقام، فالتأييد بلا اشكال.

تفضيل المجاهدين

السابعة: قوله تعالي:

لٰا يَسْتَوِي الْقٰاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجٰاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّٰهُ الْمُجٰاهِدِينَ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَي الْقٰاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلًّا وَعَدَ اللّٰهُ الْحُسْنيٰ وَ فَضَّلَ اللّٰهُ الْمُجٰاهِدِينَ عَلَي الْقٰاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً* دَرَجٰاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً (النساء [4] الآية 95- 96)

الآية الكريمة كما تري توضّح حقيقة جليّة، يغفل عنها الانسان غالبا، و هي ان المجاهد بماله و طاقاته و حتي بنفسه في سبيل الله و طريق الحق و الفضيلة و الكرامة، لا يساويه الخامل القاعد الخائف علي وسائل راحته، المنقاد لكل ما حازه بلا تفاوت من سيئات أو حسنات أو من المستويات الشريفة العليّة أو الخسيسة الدنيّة؛ و الفضل لمن لا ينقاد إلا للفضيلة، و لا يعمل إلا للكرامة، فلا يجد و لا يجتهد إلا للّه تعالي، و هو مبدأ كل خير و سعادة و

رحمة، ألا و هو المجاهد في سبيل الله بنفسه و ماله و كل طاقاته.

و ذلك ظاهر غير مستور علي أحد حتي علي القاعد الخامل بنفسه، و هو بفطرته يحبّ النتائج العالية للجهاد، من غير جهاد و يحب الحصاد من غير زرع.

و الأمر في نفي التساوي هو عند الله تعالي أيضا، فقد فضّل المجاهدين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 251

بأموالهم و أنفسهم علي القاعدين درجة «1» و فضلا و آتاهم أجرا عظيما رحمة و مغفرة منه و مراتب و درجات في الدنيا و الآخرة «2».

و من المعلوم ان هذه المقايسة هي مع القاعدين غير أولي الضرر، أي المتمكّنين من الجهاد، و اما المعذورين من الضعفاء و المرضي و من به ضرر من عمي أو عرج أو فلج بحيث لا يقدر علي الجهاد بوجه من الوجوه، و كذا الذين لا يجدون ما ينفقون في سبيل الله فليس عليهم حرج و لٰا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلّٰا وُسْعَهٰا.

و كل ذلك فيمن جاهد و نهض بالأمر و قد كفي غيره، و إلا فعند الوجوب عينا كما اذا لم يكن من به الكفاية فلا تفاضل و لا مقايسة بل عصيان و اطاعة، و علي القاعدين في الفرض عذاب أليم، فانهم بقعودهم قد منعوا قيام المجاهدين حتي انقلب عليهم الأمر و تحوّل التكليف.

و كفائية الوجوب مفروضة من قبل، لا بدلالة الآية، فان الاطلاقات التي قد عرفتها تخاطب المؤمنين و زعماءهم، و تناسب الحكم و الموضوع أيضا يقتضي ذلك، و ما كان المؤمنون لينفروا كافة. فان ذلك و أشباهه مما لا يرضي الشارع المقدّس بتركه بين الأمة الاسلامية من غير دخل للمباشر كفائي كما هو ظاهر.

و قريب مما ذكر في الآيات السابقة في التأييد

آيات آخر سورة الأنفال في قوله تعالي: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ … -

الي قوله-: إِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (الانفال [8] الآية 72 الي آخر السورة).

هذا تمام الكلام في النوع الأول من الآيات الراجعة الي أصل الوجوب «3»،

______________________________

(1)- الدرجة هنا طبيعتها التي تساعد الدرجات المتفاضلة المتعددة دون الواحدة المتشخصة المغايرة مع الاخري من غير اختصاص بالدنيا أو الآخرة بل عند اللّه تعالي فيهما.

(2)- بل للمجاهدين أيضا درجات حسب اختلاف مواقع القتال و شروط النضال كما يدل عليه قوله تعالي:

… لٰا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قٰاتَلَ أُولٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قٰاتَلُوا وَ كُلًّا وَعَدَ اللّٰهُ الْحُسْنيٰ … (الحديد [57] الآية 10).

(3)- و اما قوله تعالي: وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا … (الحجرات [49] 9)، و ان كان فيها الأمر بقتال الباغي من المؤمنين … إلا انها راجعة عندنا الي روابط الامة الاسلامية لا سيما مع ملاحظة السياق، ذكرناه في كتاب المجتمع و الآداب فراجع الجزء الرابع منه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 252

و قبل بيان آيات النوع الثاني نودّ الاجابة علي هذا السؤال، الذي هو سؤال عن سياق الآيات و الضمائر الصافية فيها الناظرة إليها، سؤال عن المسلم و فطرته السليمة، سؤال عن الانسان الكريم.

و هو انه لو كنّا امة مسلمة صالحة كريمة لكنّا أقوياء سعداء في كل المستويات العبادية منها و الثقافية و الاقتصادية و الطبية و السياسية، بل و في مختلف الشئون المادية و المعنوية، و حتي في المراكز الانتظامية الكفيلة بحفظ النظام الداخلي و الخارجي، و هذه مسئولية الحكومة الاسلامية الحقة في بلاد الاسلام بالنيابة

العامة، و لكنّا أيضا من ناحية القوي العسكرية و الأجهزة الحربية علي حدّ الكفاية، و لو كان عندئذ في جوارنا قوم يعيشون علي الكفر و الضلال و هم شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الَّذِينَ كَفَرُوا (الأنفال [8] الآية 55). أو علي ملّة و كتاب غير الاسلام و القرآن الكريم، فاذا دعوناهم الي الاسلام و طريق الحق و لم يكن لهم عندئذ إلا التسليم و قبول الاسلام و العيش في ظل حكم القرآن و قبول الحكومة الحقة، أو إعطاء الجزية عن يد و هم صاغرون فيما اذا كانوا من اهل الكتاب و رغبوا في بقائهم علي ملتهم ليستدرجوا الي الاسلام بأجيالهم الآتية، و لكي ينجوا من محاربة المسلمين و بذلك سينتشر الاسلام في بلادهم، و سيدخلون في دين الله الحق، و سينجون من الضلال و سيكون الدين كلّه للّه.

و حينئذ هل يحتمل عدم جواز دعوتهم الي الاسلام و دين الحق و إبقاؤهم علي الكفر و الضلال و الفتنة بتعذّر اشتراط حضور شخص النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو الأئمة المعصومين (عليهم السّلام)؟

و هل يحتمل ان تكون هداية الناس و زوال الكفر و الضلال عن سطح الأرض مطلوبا اذا كان بأمرهم (صلوات الله عليهم) دون اجازتهم و نيابتهم؟ أو هل في شمول أدلة النيابة شك و ترديد، مع ظاهر الآيات الموجبة، و كذا صريح اطلاق التعليل، و ان أصل المسألة عقلائي بعدم الاختصاص بشخص النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 253

و زمانه، بل انه بامامته العامة، و المورد لا يخصص.

و الجواب عندنا نفي ذلك الاشتراك و اطلاق الوجوب، و لزوم الدعوة و الارشاد الي الجهاد و المقاتلة في مثل

الظروف المفروضة، بعد تحصّل الشروط العقلائية و الشرعية المشروحة في الفصول الآتية إن شاء الله.

فعلي المسلمين كافة تطبيق الاسلام بأصوله و فروعه في بلادهم، و إعداد ما استطاعوا من قوة و مكنة، و عليهم أيضا مقايسة أعمالهم و أقوالهم و طبائعهم، بل و شئون حياتهم بالاسلام، لا أن يقيسوا الاسلام بها، فتحرّف فروعه و أصوله بمرور الزمن باسم الانعطاف الجاري في المصاديق و الموارد في الجملة لا في الاحكام و الكليات، كما يبتغيه الحكّام الظلمة و الطغاة الضالين تثبيتا لحكوماتهم الجائرة، و مكرا و تمويها لعوام الناس و الجهلة. صان الله تعالي الاسلام و المسلمين عن خداعهم و ما يمكرون و يكيدون.

و ما ذكرنا من السؤال و الجواب كان بعد ما رأيناه من المحقق المقدّس (رضوان اللّه تعالي عليه) ما لم نكن نتوقّع من مقام تحقيقه و حريّته «1» و ان كان الخطأ منّا فنرجو اللّه تعالي أن يتوب علينا انه هو التوّاب الرحيم.

______________________________

(1)- من قوله (رضي اللّه عنه): و حيث ان الجهاد لم يقع إلا مع الامام، و حينئذ لا نحتاج الي معرفة أحكامه، فتركنا باقي الآيات المتعلّقة به مثل: وَ مٰا لَكُمْ لٰا تُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ … (النساء [4] الآية 75)، و أشار الي آيات اخري.

انتهي. مع ان أدلّ ما أشار إليه أظهر في الاطلاق، و قد ذكرناها تحت الرقم الثالث، فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 254

[النوع الثاني: الآيات التي تدل علي كيفية القتال]

كيفيّة القتال

النوع الثاني:

في الآيات الراجعة الي كيفية القتال، و فيه آيات:

الاولي: قوله تعالي:

وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لٰا تَعْلَمُونَهُمُ اللّٰهُ يَعْلَمُهُمْ وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ يُوَفَّ

إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لٰا تُظْلَمُونَ. (الأنفال [8] الآية 60)

ترشد الآية الكريمة- عقلائيا- الي ما هو الشرط الأول لمقابلة الخصم و مقاتلة العدو من التهيؤ و الإعداد حتي يناسب القوي المقابلة و التقابل معا، و كذا من ناحية الحذر و الأسلحة و الجنود و التنظيم العسكري و المعرفة بفنون الحرب و شروط الزمان و المكان في استعمال الآلات الحربية البرية و البحرية و الجوية، و الأهم من ذلك كله امتلاك الايمان الراسخ عن بصيرة و وعي بغرض المحاربة و هدف المقاتلة.

فالأمر به أمر بمقدماته ابتداء، و قد صرّحت به الآية الكريمة بأن أعدّوا- أيها المؤمنون- ما استطعتم من قوة في كل زمان حسب مقتضياته و أشكال أسلحته، سواء كانت من خشب و حجر أو من رباط الخيل أو من الأسلحة النووية كما في عصرنا الحاضر التي تستعمل في الهواء و الفضاء و في أعماق البحر و أقطار البر.

فلا بد إذن من التهيؤ بمستوي يرهب عدوّ الله و عدوّكم- أيها المؤمنون- بحيث كلما طمع فيكم العدو شيئا رهب و انصرف مدهوشا، و اعلموا انكم كلما جاهدتم في سبيل الله كنتم أنتم الفاتحين إن شاء الله، و كلّما أنفقتم من مال و غيره في سبيل الله للتهيؤ و الإعداد سيوفّيه اللّه تعالي إليكم بتمامه بلا انعدام و لا نقصان و سوف لا تظلمون فتيلا.

ثم بعد التهيؤ و الحضور من قبل المؤمنين و تحصّل الشروط بأجمعها لا بدّ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 255

و أن يكون الجهاد و القتال مع عدوهم مسبوقا بدعوتهم الي الاسلام و ارشادهم الي الحق، فان أجابوا فيها فنعمّا هي، حيث انها أقرب الطرق للوصول الي المطلوب و المقصود، و مع احتمال قبولهم الاسلام لا يجوز

مقاتلتهم قطعا، كما هو الظاهر من العقل و الشرع، فان مناط وجوب الجهاد و ملاكه لم يكن إلا إزالة فتنة الكفر و تطهير الأرض من رجس الشرك، و صيرورة الدين كلّه للّه تعالي دون القتل و النهب و غصب الأموال و الأنفس تحكّما علي الناس و تسلّطا عليهم، كما هو المتعارف عند الأكاسرة و القياصرة الظلمة، و هم أنجس الأرجاس علي وجه الأرض، أزالهم الله عنها و أبعدهم عن الشعوب المستضعفة كما أبعدهم عن رحمته و عنايته.

الصبر و المثابرة

الثانية: قوله: تعالي:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَي الْقِتٰالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صٰابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لٰا يَفْقَهُونَ* الْآنَ خَفَّفَ اللّٰهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صٰابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ مَعَ الصّٰابِرِينَ.

(الأنفال [8] الآية 65 و 66)

الآيتان الكريمتان تعنيان ما هو الأهم من إعداد القوي و الاستمداد العسكري، و هو اشتمال المقاتل المؤمن علي الصبر و الاستقامة، و تحمّله المشاكل و البلايا في ذات الله، و اعتقاده الراسخ و ايمانه القويم بالله و رسوله، و ان الجهاد في سبيل الله يجب أن يكون علي مستوي الروح الانسانية و البنية المعنوية الباطنية، بحيث يساوي كل واحد من جنود الاسلام عشرة من جنود الكفر، و بهذا يتمكّن عشرون صابرون من التغلّب علي مائتين، و لو ان هذا يتمّ بوجود قوي عسكرية أو تكتيك حربي، و لكن لا يكون إلا من شدة الصبر في ذات الله و قوة الايمان، و كان ذلك في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 256

عصر صدر الاسلام لقلة المسلمين و ضرورة

المقاومة علي أصعب الظروف «1».

و لكن بعد ما ثبت الله تعالي حوزة الاسلام، و أحكم بيضته بالمسلمين بدفع الخطر عن أصله و أساسه، علم أن فيهم ضعفا فخفّف عنهم، و جعل الوجوب علي حدّ يساوي كل واحد من المسلمين اثنين من الكفّار، فالمائة الصابرة منهم يغلبون مائتين، و الألف يغلبون ألفين. و هذا نهاية التخفيف علي المجاهدين في الاسلام.

فاذا كانوا علي ذلك الحدّ من حيث العدد، يجب عليهم من حيث ذلك، و ليس لهم الاعتذار بقلّة العدد و كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّٰهِ.

(البقرة [2] الآية 249)

و من المعلوم ان هذا أمر عقلائي، ينطبق علي شروط الحرب في تقابل الأشخاص المقاتلين رجالا أو ركبانا علي الخيل، و في الأسلحة كالسيف و الرمح و تكافح الرجلين في البين الي حدّ المصارعة.

و اما في زماننا هذا و إن كان للأفراد و إيمانهم دخل وافر في التوفيق، إلا أن الأهم توفّر آلات الحرب، و وجود الأسلحة الكافية من الدبابات و الطيارات و قاذفات القنابل بأنواعها الجوية و البرية و البحرية، و الأعظم دخلا في التوفيق هو امتلاك العلم و المعرفة بأسرار استعمال هذه الأسلحة، و رعاية شروطها و كيفية تطبيقها و اجرائها علي الخصم و مواقعه و ثكناته فلا بد من ملاحظة تناسب القوي علي إحدي النسبتين و مساعدتها علي وجه التمكّن من المقابلة بنسبة النصف أو الواحد للاثنين، و أما ايمان المقاتل المؤمن و عقيدته الصامدة الراسخة فهو الأهم و الأهم في مختلف

______________________________

(1)- كما لا يكون من طرف الكفار إلا من ضعف الصبر و قلّة الفهم الراجع الي موضعهم في الخلقة كما يشير إليه قوله تعالي بأنهم قوم لا يفقهون. و لقد ذكر الاستاذ

الدكتور الأمجد في مقالته المبسوطة خلال بيان مزايا التجنيد في القرون الأخيرة تحت الرقم التاسع: قد ثبت لدي الحكومات و الشعوب بعنوان اصل ثابت و ركن ركين ان اثر المعنويات و روحيات العسكريين و قيمتها قبال أثر الأسلحة و العدد ثلاثة أرباع، فالنجاح و التوفيق في الحرب يرتبط بالماديات ربعا و يحتاج الي الايمان و الاعتقاد ثلاثة أرباع. (نقلنا ذلك عن جريدة شهرية- ژاندارمري- رقم/ 286/ صفحة 19).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 257

الشروط و أنواع الأجهزة «1».

بأس الحديد

الثالثة: قوله تعالي:

لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْمِيزٰانَ لِيَقُومَ النّٰاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّٰهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. (الحديد [57] الآية 25)

الآية الكريمة بعد بيان الغرض الأول من ارسال الرسل و بعث الأنبياء و إنزال الكتب السماوية عليهم، و هو لم يكن إلا لاقامة العدل و بسط القسط بين الناس في الدنيا، حتي يكونوا سعداء فيها و في الآخرة، تعني ثانية الحديد الذي فيه بأس شديد و منافع للناس، و التناسب ظاهر، فان الحديد بمعناه العام هو الأساس لصناعة آلات الحرب و غيرها التي لا بدّ للرسل منها في إقامة العدل قبال المعاند الظالم بأشكالها و أنواعها المختلفة حسب المقتضيات.

و معني نزوله من السماء ما هو مبسوط في مقامه من النزول بأصله و مواده في المعادن المتكاملة بعوامل طبيعية، و هو من جنود الله التي في السماوات و الأرض، و البأس المودع في الحديد و منافعه الموجود فيه هو ما يقام به القسط باستعماله حال المحاربة مع الكفار و المشركين و الظالمين، و الله تعالي يعلم من ينصره و ينصر

رسله بالغيب عمّن لا يعتني بشأن العدل و الظلم و يعيش كالهمج الرعاع. لا سيما و أنّ البأس هنا بمعني القوة.

______________________________

(1)- و قد ذكر ضمن بيان اقوي العوامل التي اورثت التوفيق و النصر لاخواننا المسلمين العرب في جبهة سيناء و الجولان في حرب رمضان بعد نفاذ اجهزتهم الجديدة و أسلحتهم الدقيقة، هو تبديل المفهوم الشائع:

الرجل بسلاحه، الي مفهوم جديد و هو: قيمة السلاح بالرجل المسلّح به، ففي المفهوم الأول- كما تري- السلاح هو المعتمد عليه، و في المفهوم الثاني تمام الاعتماد علي روح المسلّح و ايمانه و اطمئنانه (عن ترجمة كتاب حرب رمضان/ ص 78) و يؤيد ذلك بل يدلّ عليه قوله تعالي: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّٰهُ فِي مَنٰامِكَ قَلِيلًا وَ لَوْ أَرٰاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنٰازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ (الانفال [8] 43).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 258

و كيف كان فالآية المباركة ترشد الي لزوم الانتفاع بمعدن الحديد لغرض المجاهدة في ذات الله و إزالة الفتنة عن أرضه، و إقامة العدل بين عباده في كل مكان و كل زمان حسب مقتضياته و متطلباته، من غير انحصار بالسيف و الرمح، و المسألة عقلائية. و هذا ما يدلنا علي ان القرآن اطلق كلمة «الحديد» للبأس، لأنّ الأسلحة الفتاكة تصنع من الحديد، أو أن للحديد اثرا في فعاليّتها حتي الأسلحة النووية في عصرنا الحاضر.

الترابط في القتال

الرابعة: قوله تعالي:

إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ مَرْصُوصٌ.

(الصف [61] الآية 4)

الآية الكريمة ناظرة الي حالات المجاهدين و انهم علي أي وجه كانوا، فإنّ الايمان بالله تعالي و العقيدة الراسخة به هو الموجب لرصّ الصفوف و الاتحاد و التكاتف، و هذا له أثر وافر و سهم كامل في التوفيق و الفتح و

الغلبة، فلا بدّ و أن يكون المجاهدون مستقيمين مترابطين متراصّين كالبنيان الواحد المرصوص المتصل كل جزء منه بالآخر بحيث لا يمكن انفصال جزء منه إلا بهدمه، فان المؤمن للمؤمن كالبنيان الواحد يشدّ بعضه بعضا- كما في الحديث الشريف-، و الله لا يحب الجيش المتباعد المتشتت بهدفه و رأيه، بقلبه و فكره بل انه يُحِبُّ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ مَرْصُوصٌ.

العنف في القتال مع التقوي

الخامسة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قٰاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّٰارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ. (التوبة [9] الآية 123)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 259

ترشد الآية الكريمة الي أمر عقلائي ظاهر أيضا، و هو ان علي جند الاسلام بعد اجتماع الشروط فيهم من تجهيز و تهيّؤ و تنظيم عسكري، و رصّ الصفوف، أي جعلها كالبنيان الواحد المرصوص، و أخذ الحذر حسب تناسب الزمان و المكان و غيرها من مستلزمات الحرب عليهم، أن يأخذوا في الجهاد بمن يليهم اي الأقرب فالأقرب، و يذهبون للقائهم و يثورون عليهم من جوانبهم مهما أمكن، و بهذا سيقضون علي الكفر و الكافرين، و سيكون القرآن الكريم هو الحاكم في الأرض، و ستنتفي فتنة الشرك و الكفر عن وجهها، و يكون الدين عندئذ كلّه لله.

فلا يجوز الابتداء بالأبعد إلا لمصلحة أقوي من شدة الخطر أو كثرة الأثر «1».

و كيف كان، فليكن المؤمنون في الحرب قاذفين نافذين قاطعين كل مانع، مزيلين و دافعين كل دافع علي وجه يجد الكفّار فيهم غلظة و شدة، فان المؤمنين أشدّاء علي الكفّار رحماء بينهم، فلا تأخذهم في الحرب رأفة و رحمة، و لا لومة لائم، و اعلموا أن الله مع المتقين. و هذا نهي عن أي عمل عنادي ينبثق

عن نفوس غير تقيّة زائدا علي ما لا بد من التوسل به في الحرب من تدمير و تخريب أو اعدام و احراق بعد الفتح و النصر و التسلّط علي الخصم أو علي بلده، بل حال الحرب ما لم تقتضيه الضرورة، فان الغرض النهائي من الجهاد في الاسلام هو نفي الفتنة و إزالتها عن وجه الأرض، و إعلاء كلمة الحق، و لا يساعد ذلك بطبعه الباطل و الفتنة، فلا يجوز استعمال أسلحة مخرّبة مع كفاية ما دونها، و يحرم استخدام الغازات الخانقة أو الحارقة و لا سيما التي لا تلتئم جراحاتها بسهولة كالنابالم مع كفاية استخدام ما دونها فان الله تعالي مع المتقين.

______________________________

(1)- و الأول علي القول بشمول الآية للدفاع أيضا، و أما علي اختصاصها بالجهاد الابتدائي كما هو الظاهر فالثاني فقط.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 260

كيفية الحرب و الأسر

السادسة: قوله تعالي:

فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ حَتّٰي إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً حَتّٰي تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا ذٰلِكَ وَ لَوْ يَشٰاءُ اللّٰهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لٰكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمٰالَهُمْ. (محمد [47] الآية 4)

الآية الكريمة تأمر المجاهدين، في شدة مكافحة العدو و حين اشتعال نائرة الحرب، تأمرهم بلزوم الثبات و المقاومة، و ضرب رقاب الخصم و هم الذين كفروا حتي الإثخان بهم و التغلّب عليهم، و أخذ الأسري منهم، و التشديد عليهم حَتّٰي تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا، فاما منّا بعد و إما فداء في التحرير بأخذ وجه قباله «1» و في مثل الحالات التي يواجه الانسان مع المال و النفس أخذا و بذلا يظهر ما في القلب و يعلم حقيقة الأحوال فان في تغيّر الأحوال علم

جواهر الرجال «2» و الله تعالي يبتلي بعضكم ببعض، و الشهداء المقتولون في سبيل الله لا يضلّ أعمالهم، و سيرونها حاضرة يوم القيامة، كما عليه ضرورة العقل و الدين. و يؤيد هذا البحث الآية المباركة التالية.

حرمة الفرار من الحرب

السابعة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلٰا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبٰارَ* وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّٰا مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِليٰ فِئَةٍ فَقَدْ بٰاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّٰهِ وَ مَأْوٰاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ. (الانفال [8] الآية 15 و 16)

______________________________

(1)- و لا تهافت مع قوله تعالي: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (التوبة [9] الآية 5) بين الأوجه الثلاثة:

القتل و المن و الفداء الا بالعام و الخاص، و التخصيص مقدّم علي النسخ كما لا تخيير بين الثلاث؛ القتل، و المن، و الفداء، بجمع الاثنين لما ورد عن الامام الصادق (عليه السّلام) من انحصار الحكم بهما.

(2)- من الكلمات القصار لأمير المؤمنين علي (عليه السّلام) في نهج البلاغة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 261

صراحة الآية المباركة تلزم المؤمن المقاتل حال لقائه بالكفار زحفا «1» و جمعا تلزمه الثبات و المقاومة في المقابلة و المقاتلة معهم، و تحرّم الآية المباركة أيضا تولية الدبر، و صرف الوجه الي الخلف عنهم، و ان من ولي دبره يومئذ فقد باء بغضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير، فهو من الكبائر كما أثبتناه في كتاب المحرّمات، إلا أن يكون التولّي تكتيكا حربيا، كالتحرّف عن القتال او التحيّز، و أخذ الحذر، و ما شابهه، الذي يورد التشكيك و الالتباس علي الخصم، و عندئذ يمكن احاطته و محاصرته مما هو ظاهر عند العقلاء و ولاة الأمر في الحرب علي اختلاف شروط الزمان و المكان.

الثبات و عدم التنازع

الثامنة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لٰا تَنٰازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّٰهَ مَعَ الصّٰابِرِينَ. (الانفال [8] الآية 45

و 46)

إنّ الله تعالي يأمر المؤمنين في هذه الآية المباركة عند لقائهم مع فئة من الكفّار في الحرب و القتال يأمرهم بالثبات و ذكره تعالي كثيرا المؤيّد له، و يأمرهم أيضا بترك التنازع الموجب للاختلاف و التشتت المزيل لعظمة المسلمين و شوكتهم، فتذل رقابهم للأجانب و الأعادي، ثم يأمرهم تعالي بالصبر إيجابا فانه تعالي مع الصابرين فيقول: فَلٰا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَي السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ … (محمد [47] الآية 35) و يقول: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوٰالِ وَ الْأَنْفُسِ … (البقرة [2] الآية 155)، و يقول: حَتّٰي نَعْلَمَ الْمُجٰاهِدِينَ مِنْكُمْ

______________________________

(1)- و في المفردات أصل الزحف انبعاث مع جرّ الرّجل كانبعاث الصبي قبل أن يمشي … و كالعسكر اذا كثر فيعسر انبعاثه، فينطبق علي التحرّك الجمعي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 262

وَ الصّٰابِرِينَ (محمد [47] الآية 31) و ليتميّزوا عن الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُديٰ لَنْ يَضُرُّوا اللّٰهَ شَيْئاً.

التاسعة: قوله تعالي:

فَلٰا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَي السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللّٰهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ. (محمد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) [47] الآية 35)

الآية الكريمة تأمر المؤمنين أيضا بالاستقامة و الثبات و ان التسليم للخصم أو الدعوة إليه بايقاف الحرب منهي ممنوع عنه عند ما تكون الغلبة للمسلمين «1» و اعلموا أيها المؤمنون إنكم أنتم الأعلون و ان اللّٰهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ حينما توهّمتم المغلوبية و الضعف لقلة الأفراد مثلا.

و من المعلوم ان أصل البحث عقلائي، ترشد إليه الآيات المباركات؛ و الدعوة الي السلّم و الصلح منوطة بمصلحة الاسلام و المسلمين، يراه الحاكم الحق

و الأمير العادل حسب اختلاف شروط الزمان و المكان، فان اقتضت المصلحة ذلك فلا بأس به، كما في الآية المباركة التالية.

الإجابة الي السلم الحقّ

العاشرة: قوله تعالي:

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا وَ تَوَكَّلْ عَلَي اللّٰهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّٰهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ.

(الانفال [8] الآية 61 و 62)

فان جنوحهم و رغبتهم للسلم هو دعوتهم إليه فرارا عن أوزار الحرب، و الله تعالي قد أمر بقبوله ما اذا جنحوا له بقوله آمرا نبيّه فَاجْنَحْ و تقبّل منهم متعاهدا معهم، متوكلا علي الله، فان كانوا في ذلك صادقين فبها و نعمت، و ان يريدوا به

______________________________

(1)- الواو هنا حاليّة، و لو لم تكن كذلك لحرمت المهادنة مطلقا، و هي ليست كذلك.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 263

خداعك فلا تجنح لهم، و استقم كما امرت فان حسبك الله الذي أيّدك بنصره و بالمؤمنين، و لا يضرّك خداعهم في مناصرتك بعد الاستقامة و إدامة الجهاد.

و لمّا كان الأمر عقلائيّا مرشدا إليه، قد يجوز دعوة أمير المسلمين و حاكمهم الكفّار الي السلم بايقاف الحرب، كما يجوز الجنوح لدعوة الكفار إليه متعاهدين معهم إعدادا للقوة ما استطاعوا، و تجديدا لها، و تقوية لشئونهم الحيويّة و العسكرية حتي يرجعوا مكافحين مع تجمّع الشروط ثانيا، لا تسليما لهم حتي يؤدي الي نفوذ الكفر في الاسلام، فانه لن يجعل الله للكافرين علي المسلمين سبيلا، و المسلمون هم الأعلون بطبعهم.

الفحص قبل ردّ السلم

الحادية عشرة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لٰا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقيٰ إِلَيْكُمُ السَّلٰامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا فَعِنْدَ اللّٰهِ مَغٰانِمُ كَثِيرَةٌ كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّٰهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً. (النساء [4] الآية 94)

الآية الكريمة بعد بيان حكم قتل المؤمن متعمدا، و ان جزاءه جهنم خالدا

فيها، تخاطب المؤمنين بأنهم حينما يضربون في سبيل الله فيخرجون، تأمرهم بالتبيّن و التفحّص عمّن ألقي إليهم السلام إشعارا باسلامه و دليلا علي ايمانه مجاهدا الي الله، و مقاتلا و غازيا في دينه فيلتقون به، فليس لهم ردّه ابتداء من غير تبيين، و لا يجوز الحكم عليه بالكفر من غير تفحّص، و لا يجوز قتله ابتغاء أمواله من حطام الدنيا، فَعِنْدَ اللّٰهِ مَغٰانِمُ كَثِيرَةٌ، فان سبقه بالكفر لا يدل علي بقائه عليه، بعد ما ألقي إليكم السلام- أيها المؤمنون- مع انكم كنتم كذلك كافرين من قبل، فمنّ الله تعالي عليكم، إذ بعث فيكم رسولا منكم و أنزل معه الكتاب، فأرشدكم الي الحق و أسلمتم.

ثم تؤكد النهي و تقوي الأمر بأن الله تعالي خبير بما تعملون و ما تتفكّرون من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 264

التبيين و قبول قوله لظهوره، أو التبادر الي قتله بغير الحق و بلا تبين طمعا في أمواله و ابتغاء لغنائمه، فعند الله مغانم كثيرة، و هو بكل شي ء عليم و بما تعملون خبير.

فتدل الآية الكريمة علي حرمة قتل من أظهر الاسلام بكلامه، أو ألقي السلام المشعر به مطلقا، و لو حال الحرب، حتي يتبيّن حاله فان كلمة: «لا إله الا الله» حصن حصين، من دخله أمن من العذاب، و هو محكوم بحكم الاسلام ظاهرا، فلا يتصرّف في أمواله أيضا لذلك.

كل ذلك مع الشك في صدقه و احتمال بقائه علي كفره واقعا، و أما مع العلم بكفره واقعا بعد تظاهره بالاسلام، فلا يجوز قتله أيضا، إلا أن يقاتل المسلمين أو يعاضد مقاتليهم، كما فصلنا الكلام عنه في بحث النفاق، و سيأتي البحث عنه في كتاب المحرّمات أيضا، و أما مع العلم بصدقه و

ايمانه فحكمه ظاهر.

و لا يتوهّم اختصاص الخطاب بالذين كانوا كذلك في صدر الاسلام أو بعده من الذين سبقهم الكفر ثم أسلموا، و لقوا من ألقي إليهم السلام استنادا بقوله تعالي:

كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّٰهُ عَلَيْكُمْ (النساء [4] الآية 94)، أو اختصاصه بالمورد الذي نزلت فيه كائنا من كان من زيد بن أسامة «1» و قتله مرداسا و قد ألقي إليه السلام، أو غيره. فان المورد لا يخصصه.

كَذٰلِكَ كُنْتُمْ و هو جواب عن الاستناد بسبق الكفر سبيلا الي جواز القتل

______________________________

(1)- روي ابن عباس ان زيدا حلف أن لا يقتل من قال: «لا إله إلا الله» بعد نزول الآية و بذلك اعتذر عن تخلّفه عن علي (عليه السّلام) و بكرامته (عليه السّلام) قبل عذره.

تري كيف يعمل الجهل بالانسان و يجعله همجا حمقا، و كيف يخرجه عن الحق و العدل باسم الدين و الحق، فان نفس الآية قيّدت الأمر بالتبين، فيجوز بعده و بعد ظهور كفره و نفاقه كما صرّحت به الآية الاخري من لزوم مقاتلة الكفار و المنافقين و التغليظ عليهم من غير فرق، و الأصرح قوله تعالي: وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا … الي قوله تعالي: فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ (الحجرات [49] الآية 9) بعد الغموض عن أدلة وجوب اطاعة الامام (عليه السّلام) من الكتاب و السنّة و تصريح الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في علي (عليه السّلام) في قوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): «يا علي حربك حربي و سلمك سلمي». (مجمع البيان/ ج 3 ص 95) أعاذنا اللّه من شرور انفسنا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 265

لا الاختصاص بمن كان كذلك كما تعلم.

شرعية معاهدة الكفّار

الثانية

عشرة: قوله تعالي:

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لٰا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ عٰاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لٰا يَتَّقُونَ* فَإِمّٰا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ* وَ إِمّٰا تَخٰافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيٰانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَليٰ سَوٰاءٍ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْخٰائِنِينَ. (الأنفال [8] الآية 55 الي 58)

الآيات المباركات تكشف عن حقيقة في الكون و واقع في الخلقة، و هو أن شرّ ما يدبّ علي الأرض- من بين أنواعه الكثيرة- عند الله الذين كفروا بآيات الله من بني آدم، الذين ألقوا الستار علي الحق و ساروا غير مسيرة الخلقة، فلم يؤمنوا بما آمنت به السماوات و الأرض، فان الأحري للانسان أن يؤمن بالله تعالي و آياته و العمل بشريعته التي لا بدّ منها.

و في عصرك- يا أيها النبيّ- ان منهم (اي شرّ الدواب) الذين كفروا بك و بالهك، و قد عاهدتهم علي أن لا يحاربوك و لا يعاضدوا محاربيك، فمنهم من ينقضون العهد، و يصدّون عن سبيل الله، و يمنعونك عن الارشاد، ثم يعتذرون أليك و يتظاهرون بحفظ العهد، ثم ينقضونه ثانية و ثالثة، بل و كل مرة و هم لا يتّقون ذلك، بل لا يؤمنون بشي ء منه فكيف بالعهد و الوفاء به!!

و بما انهم شرّ الدواب، و انهم يضلّون عباد الله، و هم علي ضلال، فان ثقفتهم في الحرب فشرّد بهم و فرّقهم، و شدد عليهم و علي من خلفهم من معاونيهم لعلهم يتذكّرون، فيتوبوا و يؤمنوا أو يوفوا بعهدهم حتي يقع الاسلام موقعه و يذوب الكفر و ينحل شيئا فشيئا الي ان تزول الفتنة و تطهر الارض و يكون الدين كلّه لله.

و اما ان خفت

من قوم منهم خيانة حسب شروطهم الظاهرية بنقض العهد

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 266

و العمل في جهة الاضرار بالاسلام و المسلمين فانبذ إليهم علي سواء بينهم فان الله لا يحبّ الخائنين.

فالآيات المباركات بصراحتها تدلّ علي أصل مشروعية المعاهدة مع الكفار، و ذلك لحفظ مصالح المسلمين، و تتلخّص بترك الخصومة و المحاربة و ترك معاونتهم المحاربين من الكفار، بل علي معاونتهم للمسلمين علي الكفار باستخدامهم علي أمور اجرائية غير بطانة علي نظارة إمارة المسلمين.

و من المعلوم ان المعاهدة علي ترك المحاربة لا بد و أن تكون محدودة و مؤقتة، حتي يستعد المسلمون ما استطاعوا و يستعيدوا قواهم، فيجوز لهم الجهاد بعد انقضاء المدة، و لا يجوز نقض العهد إلا بعد نقضهم، و الغدر في الحرب غير الغدر للحرب، فانّ «الوفاء لأهل الغدر غدر عند اللّه، و الغدر بأهل الغدر وفاء عند اللّه» «1» و ما لم ينقضوا عهدهم لم يكونوا من أهل الغدر، قال تعالي: … وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ* إِلَّا الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظٰاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِليٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.

(التوبة [9] الآية 3 و 4)

و توجه الخطاب و الأوامر نحو الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) حيث لم يكن بشخصه أو برسالته فقط، بل بامامته و ولايته و زعامته العامة للمسلمين، فهي إذن لا تختص به و بزمانه فقط، بل تشمل كل زمان و كل زعيم شرعي للمسلمين.

الاستجارة

الثالثة عشرة: قوله تعالي:

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجٰارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّٰي يَسْمَعَ كَلٰامَ اللّٰهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لٰا يَعْلَمُونَ. (التوبة [9] الآية 6)

______________________________

(1)- من قصار حكم الامام علي

(عليه السّلام) في نهج البلاغة رقم 259.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 267

الآية المباركة ضمن آيات الحرب مع الكفار، و انه لا بد من الارصاد لهم كل مرصد حتي يتوبوا و يؤمنوا، و انه لا وفاء لهم بعهودهم إلا اضطرارا، كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ و يتغلبوا لٰا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا و لا رحما و لا ودّا، يَقُولُونَ بِأَفْوٰاهِهِمْ مٰا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ و أقوالهم، و أكثرهم الفاسقون. اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدّوا عن سبيله انهم ساء ما كانوا يعملون، لا يرقبون في مؤمن إلّا و لا ذمّة، و لا يراعون حسبا و لا نسبا و قرابة أو عهدا أولئك هم المعتدون.

الكفار مع انهم كذلك و انهم لا يسلمون إلا لضرورة، و لا يتفوّهون به إلا فسقا و نفاقا، و لا يتعاهدون إلا مكرا و حيلة، و لا يستجيرون إلا تحفّظا علي دمائهم و أموالهم، يتربّصون بذلك الفرصة علي الاسلام … و الأمر و إن كان كذلك، إلّا ان أدب الاسلام و شرافة الشريعة و كرامة المسلمين و سماحة أميرهم و عظمة أحكام اللّه تعالي لكونها علي أساس الفطرة التي لا تبديل لها يقتضي اجارة المستجير كائنا من كان، و في أي حال مع التحفظ علي كيان الاسلام و مصالح المسلمين، فان أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجٰارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّٰي يَسْمَعَ كَلٰامَ اللّٰهِ و يري نوره، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشيٰ، فانهم قوم لا يعلمون، ثم بعد ذلك أبلغه مأمنه و ارتياحه «1».

و من المعلوم انه ليس معني ذلك كرامة الاستجارة الخادعة منهم و اجارته من غير تحفّظ عليه، و ادخاله في مجتمع المسلمين، و إشرافه علي ما لا يصلح اشراف بعض المسلمين أيضا عليه من

بطانة الأمور و خفاياها، و لا سيما حال الحرب المبتني علي التستّر و الخفاء إلا علي الأوحدي من العسكريين الموثوقين بايمانهم و معرفتهم للامور، و لا سيما في زماننا هذا، و كآلات الحرب و رموز الأجهزة الحربية و الأسرار الخفية الدقيقة يكفي في الفشل لانكشاف بعضها للعدو كما لا يخفي.

فالاجارة واجب بعد استجارته ليسمع كلام الله و يصير من المسلمين أو ليبلغ

______________________________

(1)- هذا هو الفرق بين الأسير الذي عرفت حكمه إما منّا و إما فداء، و المستجير الذي لا بدّ من ابلاغه مأمنه بعد ما يسمع كلام اللّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 268

مأمنه و يؤمن شرّه لا مطلقا.

الجهاد كما يريده الله تعالي

الرابعة عشر: قوله تعالي:

وَ جٰاهِدُوا فِي اللّٰهِ حَقَّ جِهٰادِهِ هُوَ اجْتَبٰاكُمْ وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ. (الحج [22] الآية 78)

الآية المباركة لا تتكئ إلا علي الجهاد و انه لا بدّ و أن يقع علي حده و وجهه من غير توان و تسامح، و ان الجهاد في الله تعالي بأي وجه و طريق لا سيما الحرب و المقاتلة مع الكفار بشروطه لا بد و أن يكون علي حقه تحمّل المشاق و المصائب و الشهادة، و ما جعل عليكم في الدين و حمايته من مشقة و حرج باعتبار الأمة و المجتمع، فيجب الصبر من أجل ذلك و تحمّل المشاق و المشاكل و طروء الحوادث في سبيل الله، و المقاومة في المقاتلة حتي النصر، و التمكّن من أصل الغرض مما عرّفه مرارا و ان ذلك و إن كان بطبعه الاولي حرجيا حسب حال الأفراد، و لكن لا بد من تحمّله حفاظا علي كيان الاسلام و شوكته و أساس الامة من غير حرج عليها فانه

تعالي اجتباكم مسلمين ملّة أبيكم ابراهيم. و الآية تشتمل بعد الامر بالجهاد في الله تعالي حقه علي أمرين آخرين الاول ان الله تعالي هو الذي اجتباكم و اختاركم لهذه الفضيلة التي لا تختص بالاسلام فقط بل توجد في الشرائع الالهية من شيخ الأنبياء ابراهيم (علي نبينا و آله و عليه السلام) الي خاتم الأنبياء اولي العزم من الرّسل ملّة ابيكم ابراهيم. الثاني ان ذلك التشريع لا حرج فيه و لا ضغط، أي لا يكون في اي تشريع من المشروعات، و الدين شريعة سهلة سمحة، و الحرج و الضرر يرفع ذلك اذا كان زائدا علي ما في طبع المشروع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 269

[النوع الثالث: الآيات التي تدل علي وقت القتال]

ظروف القتال

النوع الثالث:

في آيات تدل علي وقت الجهاد و زمن القتال:

أولها- قوله تعالي:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرٰامِ قِتٰالٍ فِيهِ قُلْ قِتٰالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ كُفْرٌ بِهِ … وَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ وَ إِخْرٰاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّٰهِ. (البقرة [2] الآية 217)

ما هو المسئول عنه أولا: حكم القتال في الشهر الحرام، الدال علي أن في البين شهرا بل أشهر يحرم فيها امور، فأجيب بأن القتال فيه من المحرّمات بل من الكبائر و انه صدّ عن سبيل الله و كفر به احتراما لتلك الشهور و احترازا عن القتال الذي يستدرج الي المقاتلة الجاهلية رأسا، التي كانت تشمل حياتهم بشئونها طول السنة و سلبت عنهم معيشتهم. و الاحترام هذا نظير رعاية اعلان وقف اطلاق النار المؤقت و الهدنة في الحرب، حتي يتمكّن من الوساطة و المفاوضات، و استكشاف طريق الفصل و الحل علي ما هو الحق في الاختلافات الموضوعية. و لعلّه لذلك كان نقض الحرمة و النسي ء صدّا عن سبيل الله و

كفرا به، فانه صدّ عن الوصول الي الحق و تحققه و ستر عليه، و هو كفر بالله العظيم بمرتبة، فان القتال اذا لم يكن للحق و حفظ التوحيد و بسط العدل علي وجه الارض، فهو توثّب جاهلي، و توحّش سبعي محرّم، كما هو متداول اليوم- و مع الأسف- بين من يدّعي الرقيّ و التمدّن من الدول الكبري الغربية و الشرقية. إذ نري توثّب كل واحدة علي الاخري، أو كلاهما علي من بينهما من الضعاف و لا سيما في الشرق الأقصي و الأوسط.

و كيف كان، فلا يجوز القتال في الشهر الحرام اجمالا، و أما انه جائز في كل وقت دونه، فهو أمر ملتمس من دليله، و ان كانت الآية الكريمة لا تخلو عن الاشعار بعدم الحرمة أو الوجوب المدلول عليه بما عرفت من الاطلاقات في غير الشهر الحرام كما لا يخفي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 270

ثانيها- قوله تعالي:

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تٰابُوا وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (التوبة [9] الآية 5)

و ثالثها- قوله تعالي:

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّٰهِ اثْنٰا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتٰابِ اللّٰهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ مِنْهٰا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلٰا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قٰاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمٰا يُقٰاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ* إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيٰادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عٰاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عٰاماً لِيُوٰاطِؤُا عِدَّةَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ فَيُحِلُّوا مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمٰالِهِمْ وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكٰافِرِينَ.

(التوبة [9] الآية 36 و 37)

الأولي من الآيتين تفيد بأن الشهر

الحرام الذي سئل عن القتال فيه من قبل، هو أشهر لا شهر واحد، فلا يجوز القتال فيها إلا بعد انسلاخها، فاذا انسلخت يجب القتال مع الكفار و التشديد عليهم فيه بأخذهم حيثما وجدوا، و الإرصاد لهم كل مرصد حتي يقتلوا أو يرجعوا عن كفرهم و يتوبوا الي الله و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة كسائر المسلمين.

و من الآية الثانية يستفاد أن عدة تلك الأشهر الحرم بين أشهر السنة الاثني عشر (عدة الشهور في كتاب الله) أربعة أشهر هي ذي القعدة، و ذي الحجة، و محرّم (ثلاثة سرد)، (و واحد فرد): رجب. و يستفاد من الآية الكريمة أيضا شدّة حرمة القتال في هذه الأشهر الأربعة، و ان ذلك حكم من أحكام الله و دينه، و تخلّفه ظلم علي النفس، و ان النسي ء بتبديل شهر في الحكم مكان الآخر خدعة و إيطاء للشهر الحرام، زيادة في الكفر و ضلال، و عمل سوء زيّن لهم، و الله لا يهدي القوم الكافرين، فلا تجوز المقاتلة ابتداء إلا بعد انسلاخ تلك الأشهر الحرم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 271

و أما ظهور الآية المباركة في كون الشهور اثني عشر شهرا تكوينيا في نظام الخلقة كتاب الله من أول يوم خلق السماوات و الأرض، لا جعلا اعتباريا كما عن الطبري (رضوان الله عليه) و إن صحّ في حرمة الأشهر الأربعة، و معني ذلك في التكوين الهلال الي الهلال المرئي للناس، و تجديد الفصل برودة و حرارة في أية نقطة من الارض و قطر من الأقطار، باثني عشر هلالا أو غير ذلك، و هذا بحث تفسيري خارج عن مقتضي الرسالة «1».

الأمر بالقتال عند نقض العهد

و رابعها- قوله تعالي:

وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي

دِينِكُمْ فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لٰا أَيْمٰانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ* أَ لٰا تُقٰاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْرٰاجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قٰاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّٰهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. (التوبة [9] الآية 12 و 13 و 14)

الآيات المباركات تأمر مؤكّدة بمقاتلة أئمة الكفر و زعمائهم اذا نكثوا عهدهم، فانهم لا أيمان لهم بعد النقض و التحريض علي المقاتلة، فلم لا تقاتلوهم و هم بدءوكم بنقض العهد أول مرّة؟ فلا تخشوهم فان الله أحق أن تخشوه، فقاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم في الدنيا، و يخزهم في الآخرة، و ينصركم الله في الحرب فيشف صدوركم و يفرّح قلوبكم.

و من المعلوم ان الوجوب بذلك اللحن الشديد لدفع توهم بقاء الحرمة بعد نقض العهد مطلقا و الطعن في الدين من حرمة المقاتلة في الأشهر الحرم و غيرها،

______________________________

(1)- تكلمنا عنه اجمالا عند الكلام في الآيات المؤوّلة علي الائمة الاثني عشر المعصومين (صلوات اللّه عليهم أجمعين).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 272

و بيان عدم الوجه لبقاء الحرمة، مع انهم هم الذين كانوا قد بدءوكم بالنقض أول مرّة و هتك حرمة العهد و حرمة الأشهر الحرم، فعليهم اثم ذلك فلا بد لكم من مقاتلتهم.

و بذلك يخصص اطلاق الآيات الدالة علي حرمة القتال في الأشهر الحرم، و انه لا حرمة بعد نقضهم في أي وقت و أي حكم أو عهد، و عليكم بالقتال، كما ان الأمر كذلك لدي العرف و العقلاء، فالحكم ارشادي كما لا يخفي.

مع صراحة قوله تعالي: الشَّهْرُ الْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ الْحَرٰامِ وَ الْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ وَ

اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (البقرة [2] الآية 194) في الحكم، و سيأتي الكلام فيه في كتاب القصاص ان شاء الله.

هذا تمام الكلام في الجهاد و ما يرتبط به من متصديه و مجاهديه و كيفيته و وقته و لزوم مقابلة العدو و مقاتلته و العمل بالمثل مع من اعتدي.

الدفاع

الدفاع في اللغة منع الغير و ايجاد المانع علي طريق تحصّل المقتضي. و في المصطلح دفع الخصم و منعه عن مختلف شئون الحياة كالنفس و العرض و المال، و الدين من أعلي مراتب العرض و أثمن و أغلي شئون الحياة، حيث انه يدافع عنه بالمال و العرض بل بالنفس في بعض مراتبه، و هو أمر عقلائي يدركه كل انسان بل يحسّه كل ذي حياة، أرشدت إليه الآيات المباركات و روايات المعصومين (عليهم السّلام)، قال تعالي: وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّٰهِ كَثِيراً. (الحج [22] الآية 40)، فان الله تعالي دفع شرّ الناس عن شرائعه و مقدّساته و مساجده بأيدي آخرين منهم إبقاء لمعالم دينه، و إنارة لمشاعل شريعته علي طريق العباد الي السعادة الأبدية اللائقة بالانسان، وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ ذُو فَضْلٍ عَلَي الْعٰالَمِينَ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 273

(البقرة [2] الآية 251)

و لعلّك عرفت من ملاحظة آيات الجهاد علي كثرتها، و عنايتها في الشئون المختلفة منه، و حال شروعه، و حين اشتعال نائرة الحرب و عند ما تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا، عرفت من ذلك ضعف ما احتمله البعض من انتفائه في الاسلام رأسا، و توجيه ما وقع في تأريخه الي الدفاع

توهّما منه ان ذلك ردّ علي الاعتراض بأن الاسلام قائم علي القهر و السيف دون الفطرة و العقل. مع ان فتح مكة في زمن حياة الرسول الاكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و بلاد مصر و ايران و أكثر الفتوحات التي وقعت في صدر الاسلام أي بعد وفاته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لم يكن إلا جهادا ابتدائيا كما هو ظاهر.

و الجواب عن هذا التوهّم بعد ما عرفت من الآيات أن خلق السماوات و الأرض كان للتوحيد و الحق، و إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيات الله «1» فاذا انتهي حفظ حق حاكمية الحق الي التوسّل بالسيف و القوة علي شروطه كان ذلك أمرا عقلائيا، يحكم بضرورته و يرشد إليه الشرع، و يقبله كل مجتمع فيما يراه حقا.

و الاسلام يتوسّل بذلك إقراعا لندائه مسمع الناس، و بعده يبقي بينهم بفطرتهم التي فطرهم الله عليها لا بالقهر. ألا تري سعة نطاقه و استغراقه الأقطار بعد زوال القهر، و الناس يتعاونون علي اسماعه الآخرين و انارة مشاعلهم، و ذلك لمساعدته نظام خلق الانسان و فطرته و نظام العالم و قوانينه، و قد عاداه كثير من الجبابرة و رؤساء الحكومات بل و زعماء المذاهب الاخري حفظا لمتاعهم القليل الفاني، و ما عند الله تعالي هو الباقي، و ليس هنا محل بسط الكلام. و كيف كان ففي المقام آيات بيّنات:

الأولي: قوله تعالي:

… وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّٰهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.

(الحج [22] الآية 40)

______________________________

(1)- إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ

لٰا يَعْقِلُونَ (الانفال [8] الآية 22).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 274

و الثانية: قوله تعالي:

وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ ذُو فَضْلٍ عَلَي الْعٰالَمِينَ. (البقرة [2] الآية 251)

الآيتان الكريمتان بتقريب واحد تصرّحان بأن الله تعالي يدافع عن الصلاة و عن المساجد ليذكر فيها اسمه كثيرا، و يدافع أيضا عن انسانية الناس و معيشتهم الصالحة السليمة في طريق الخير و الكمال؛ لئلا تفسد الأرض و من عليها، و هذا لا يكون بعد ارادته التكوينية في نظام الطبيعة إلا من الطرق الطبيعية، و بأيدي الناس، فببعضهم المؤمنين المطيعين يدفع شرّ المنافقين و الكفار المعاندين، و يجعل علي العباد وجوب الدفاع، و ينصرهم في حينه فانه تعالي لينصرنّ من ينصره و هو القوي العزيز، فيغلبون و يدفعون شرّ الكفار عن الصوامع و البيع و الصلوات و المساجد فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، و لو لا ذلك بعدم التكليف، أو عدم النصر، لفسدت الأرض بتسلّط شرّ الدواب الذين يكفرون بآيات الله، و يهدمون معابده، و الله ذو فضل علي العالمين و علي عباده، فلا يتركهم سدي و يأذن للمؤمنين في دفعهم الظلم بالمقاتلة فما دونها: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقٰاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّٰهَ عَليٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. (الحج [22] الآية 39)

فالآيتان المباركتان و إن لم تكونا في مقام تشريع الايجاب أو الارشاد الي وجوب الدفاع العقلي، إلا أنّهما تفيدان بالصراحة تحقق الايجاب من قبل، بدفع البعض ببعض و نصر الناصر، و ان ذلك من شرائع الله تعالي و فضله علي العالمين، ليهتدي كثير من عباده، و ليتخلصوا من أيدي الظلمة الذين يصدّون عن سبيل الله، و يستضعفون الناس فيجعلونهم

شيعا.

الثالثة: قوله تعالي:

الشَّهْرُ الْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ الْحَرٰامِ وَ الْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 275

(البقرة [2] الآية 195)

الآية المباركة علي ما قيل تشير الي أن الشهر الحرام الذي أحرم فيه المسلمون و دخلوا مكة فاتحين في السنة السابعة من الهجرة قبال الشهر الحرام الذي منعهم مشركوا مكة و كانوا قاصدين زيارة بيت الله الحرام في شهر ذي القعدة في السنة السادسة، إلا ان انطباق ذلك علي الكبري الكلية من قصاص الحرمات، و ترتب الأمر بالاعتداء علي من اعتدي بالمثل، يدل علي المطلوب بكليته من الاعتداء علي من اعتدي، و دفع من تعرّض، و صرع من صارع، الي الكفاح و القتال. و اطلاق الاعتداء علي الدفاع و المقابلة تسامح و تغليب، و لذلك لا يجوز التعدي عمّا اعتدي بل يقتصر عليه، و ليتق الله تعالي في الاعتداء بأكثر فان الله مع المتقين.

و من هذا الأصل يستخرج فروع كثيرة مبسوطة كوجوب الدفاع عن المال بمراتبه دون قتل اللص و السارق، و ان لم يكن علي القاتل شي ء، إن قتل السارق حال السرقة اتفاقا؛ فانه هو الذي عرّض نفسه لهذا المعرض، و كوجوب الدفاع عن العرض «1» و عن النفس أيضا، و قد أشبعنا الكلام حول فروع المقام في كتاب الجهاد من رسالتنا «أبحاث فقهية».

و ضابطة الأمر مراعاة الأهم فالأهم في نظر الشرع، و علي ذلك الأساس كانت فروع الدفاع عن الاسلام و القرآن و أحكام الله تعالي و حماه، و عن المسلمين و بلادهم و كل شأن من شئون حياتهم اذا داهمهم الكفر و الشرك بخديعاته و تمهيداته كما تعلم.

الرابعة:

قوله تعالي:

وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَكُمْ وَ لٰا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ

______________________________

(1)- و قد ورد أنه ليس عليه شي ء بينه و بين الله لو قتل المتعرّض المتجاوز لعرضه أو قتلهما اذا وجدهما متناكحين مع الكلام في حده الظاهري و ان ذلك حق له يجوز أ و لا، علي ما في المفصلات.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 276

أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لٰا تُقٰاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ حَتّٰي يُقٰاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قٰاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذٰلِكَ جَزٰاءُ الْكٰافِرِينَ. (البقرة [2] الآية 191 و 190)

الآية الكريمة تأمر المسلمين بمقاتلة الذين يقاتلونهم و تنهاهم عن الاعتداء فان الله لا يحبّ المعتدي كائنا من كان، و في اي مقام و شأن. و حيث ان ظاهر العنوان الفعليّة، فالذين يقاتلون المسلمين هم الكفار المهاجمون عليهم بالفعل، فيجب حينئذ قتالهم من غير اعتداء و تجاوز، اي قتل غير المقاتل أو المقاتل بعد استسلامه، أو بعد الغلبة في الجملة؛ و ليس ذلك إلا الدفاع بمنع شرّهم عن المسلمين، و لذلك أكّدت الآية الكريمة الأمر بالتشديد عليهم في قوله تعالي: وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ فانهم هم الذين أثاروا الفتنة و أوقدوا نار الحرب و القتال، و هي أشدّ منه.

نعم لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام مراعاة للحرم و حفظا لحرمته، إلا أن يقاتلوكم فيه، فاقتلوهم فيه أيضا، و إن كان خلاف حرمة المسجد، فانهم أول من نقض؛ و شأن الدفاع ذلك.

هذا علي الفعلية في الوصف و أما علي الشأنية فإنّ علي المسلمين قتال الذين يقاتلونهم بطبعهم و اعتقادهم أينما تمكّنوا، فان الذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت كما

يقاتل المؤمن في سبيل الله، فيرجع الأمر الي الجهاد كما يؤيد ذلك الكبري الكلية وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰي لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ بتقريب قد عرفته.

الهجرة

الهجرة هي مفارقة الانسان غيره، و متاركته بالجسم و الروح أو بأحدهما.

و اصطلاحا هي ترك بلد يألفه الي بلد آخر، لعدم تمكّنه عمّا يريد في معيشته أو الاتيان بشعائر مذهبه و مناسك دينه فيه. و الانسان مجبول علي الحرية و الاستقلال، و مفطور علي التوسّع في العمل، و لا سيما الاتيان بما يعتقده و يدين به

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 277

فاذا أحسّ المنع و المحدودية يكافح المانع و يعارضه بطبعه و سيرته و سلوكه، فاذا انتهي به الأمر الي عدم تمكّنه من القيام بشي ء، يخرج عن بيته مهاجرا الي الله و الي الخير و الحق، حتي ينتهي الي بلد يحسّ فيه الراحة و الحرية و التمكّن من العمل.

و الأمر في ذلك علي السواء بين حياة الفرد و المجتمع؛ و الاسلام بنظرته الثاقبة يري الهجرة واجبة فيما يتوقف عليها واجب، و راجحة في الراجح، و ذلك من مراتب الجهاد في سبيل الله و اعلان شعائره تعالي.

و في باب الهجرة آيات:

الأولي: قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّٰاهُمُ الْمَلٰائِكَةُ ظٰالِمِي أَنْفُسِهِمْ قٰالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قٰالُوا كُنّٰا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قٰالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّٰهِ وٰاسِعَةً فَتُهٰاجِرُوا فِيهٰا فَأُولٰئِكَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجٰالِ وَ النِّسٰاءِ وَ الْوِلْدٰانِ لٰا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لٰا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. (النساء [4] الآية 97 و 98)

الآيات المباركات تفيد عدم تمامية استدلال الظالمين أنفسهم بانحرافهم عن الحق و ابتلائهم بالباطل بالضعف، فكيف باستضعافهم الآخرين، فيقال لهم: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّٰهِ وٰاسِعَةً فَتُهٰاجِرُوا فِيهٰا حتي تتمكّنوا من إيفاء الحق

و الاتيان بما أمر الله تعالي به، و ما يدركه عقلكم الفطري الانساني من اكتساب الحسنات و ترك السيئات، فقد قال تعالي: وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا (الشمس [91] الآية 8 و 7) فأولئك بظلمهم أنفسهم، و تركهم الهجرة، و بقائهم في بلاد لم يتمكّنوا من اقامة العدل و أداء الوظيفة «1»، مأواهم جهنم و ساءت مصيرا. و اذا كان ترك أمر يوجب نار جهنم و تصليتها، اذن فيجب فعله. و صدق الظلم بالنفس لا يكون بإطلاقه إلا في ترك الواجب، أو فعل المحرّم، فاذا اقتضي البقاء في بلد ذلك يجب الخروج و الهجرة عنه، و في ترك الراجح و فعل المرجوح يرجّح.

______________________________

(1)- لتسلّط الجبابرة و صيرورتهم مستضعفين بأيديهم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 278

نعم، المستضعفون الذين لا يستطيعون حيلة و وسيلة و لا يهتدون سبيلا للخروج و الهجرة ليس عليهم شي ء و لعلّ الله يغفر ذنوبهم الصغائر اذا اجتنبوا الكبائر و عملوا- حسب طاقتهم و محيطهم- بالواجبات و كان الله عفوا غفورا.

و من المعلوم ان الهجرة و ترك البلد المألوف الي بلد آخر يزيد في الايمان، و يضاعف العمل بشعائر الدين، و إن كان فيها المشاق و المصائب. و لكن من هاجر الي الله و الحق و الخير يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرٰاغَماً كَثِيراً «1» وَ سَعَةً و توفيقا منه تعالي يتحقق خلال ذلك من منازعات في الحق و الباطل و توفيق وسعة في الحق بتأييد الله تعالي و نصره فيصير الآخر مقهورا مرغوما و المهاجر في سعة.

و كفي في فضل المهاجر في سبيل الله من الباطل و الشرك الي الحق و الخير بترك بلاده الي منأي من المدن للتمكّن من إقامة

الحق و شعائر الله تعالي و إنارة مشاعله و توسعة شريعته زائدا علي نفس الخير و النور الذي يصل إليه قوله تعالي:

وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهٰاجِراً إِلَي اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَي اللّٰهِ وَ كٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً (النساء [4] الآية 100)، فلا يؤجر بشي ء خاص معيّن من الجنّة و نعيمها بل علي الله تعالي أجره و لا نعرف فضلا في ذلك الحد.

الثانية: قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهٰاجِرُوا مٰا لَكُمْ مِنْ وَلٰايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّٰي يُهٰاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلّٰا عَليٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. (الأنفال [8] الآية 72)

الآية الكريمة- كما تري- تنادي بإناطة الولاية التي هي من أوثق عري الايمان

______________________________

(1)- و ما ذكرنا من المعني اقرب باللغة مما ذكره صاحب المفردات من «مذاهب و منكرات يغضب عليها المهاجر»، فان الرغام كما ذكره هو التراب الرقيق (الدقيق) اي الغبار و السحيق، و المراغم بالفاعل من يرغم أنف خصمه علي الأرض فيتلطخ بالغبار فهو مراغم بالفتح أو مرغوم، و المهاجر في سبيل الله يجد مراغما كثيرا لا المنكرات و قد كان واجدها في البلدة التي هاجر عنها كما لا يخفي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 279

بالهجرة، و لا يكفي صرف قبول الاسلام بقول الشهادتين لدخوله في جمع المؤمنين ما لم يهاجر، و ان الولاية تكون بين الَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ و بين الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا المجاهدين و هم

المؤمنون حقا، فليس لهم تلك الولاية حتي يهاجروا، و نفي ذلك يساوق نفي الايمان عنهم بتركهم الهجرة، فان المؤمن الذي لم يعد من جمع المؤمنين و لم يكن جزء منهم و لا من مجتمعهم، فلم يكن بينه و بينهم الولاية و التدافع و التناصر علي الحق و توسعة الأمر و ترويج الشرع، فليس بمؤمن حتي يهاجر و يتصل بالجمع و يشدّ ببعضه الآخرين ليكونوا كالبنيان الواحد المرصوص، فيؤثّر في جماعة المؤمنين و يقوّي حياتهم و يكون من المؤمنين حقا، فقد قال تعالي: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (الانفال [8] الآية 74)، فجعل سبحانه لكل من الهجرة و المجاهدة دخلا في صدق الايمان بحق و كونه منهم كما جعل للايواء و تبوّأ المهاجر و نصرته سهما.

و حينئذ فدلالة الآية المباركة علي وجوب الهجرة فيما اذا لم يتمكّن في بلده من الاتصال بالمؤمنين و إيتاء الشعائر الدينية ظاهرة، إلا أن يكون لبقائه في بلد الكفر أثر أرجح من تبليغ الحق و ترويج الدين مع عدم الافتقار إليه في دار الايمان، فان ذلك أيضا جهاد في سبيل الله تعالي بوجه «1».

الثالثة: قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ هٰاجَرُوا فِي اللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مٰا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيٰا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.

(النحل [16] الآية 41 و 42)

تصرّح الآية المباركة بأن المهاجرين هم الذين يبوّئهم الله في الدنيا مبوّأ

______________________________

(1)- فيخصص اطلاق قوله تعالي: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهٰاجِرُوا مٰا لَكُمْ مِنْ وَلٰايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّٰي يُهٰاجِرُوا (الانفال [8] الآية 72) بذلك عقلا كما

هو ظاهر من غرض الهجرة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 280

حسنا و لهم في الآخرة أجر كبير، فان تنسيق الايمان و تنظيم اصوله و فروعه في الدنيا علي وجه ينتج التبوّؤ في الدنيا و التسلّط علي الارض بحكومة الحق و إقامة العدل، و في الآخرة يورث أجرا كبيرا لا يمكن إلا بالمجاهدة في سبيل الله و نشر معارفه و إقامة حدوده، و عند عدم التمكّن فالهجرة الي دار الايمان و الاتصال بالمؤمنين في إعلاء كلمة التوحيد أولي.

و حيث أنّ الوصول الي ذلك المقام مطلوب علي وجه الوجوب بمرتبة إقامة الواجبات و الاستحباب في ما دونها، فيجب المهاجرة اذا ظلموا في بلدهم و فتنوا فيه، و الصبر في سبيل ذلك علي المشاكل و المشاق و التوكل علي الله تعالي في طريق التقدّم و النصر، دون تحمّل الظلم و تسليط العدو و تقوية الحاكم الجائر و المنظمات الخائنة، و لو بالسكوت و المداهنة، فاذا قتلوا أو ماتوا في سبيل الحق لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللّٰهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اللّٰهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّٰازِقِينَ* لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ (الحج [22] الآية 59 و 58) و يرجح في بعض المراتب.

الرابعة: قوله تعالي:

إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هٰاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مٰا فُتِنُوا ثُمَّ جٰاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهٰا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. (النحل [16] الآية 110)

الآية المباركة في سياق الآية السابقة، فهي تفيد ان الله تعالي مع الذين هٰاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مٰا فُتِنُوا، و هو تعالي لهم و معهم لتركهم بلاد الكفر و الفساد، و توجههم الي مواضع الايمان و الصلاح، فلم يتحمّلوا الظلم و الطغيان بل جاهدوا في سبيل الله ضدّ الطغاة و الظلمة و صبروا علي مشاق ذلك، و هو تعالي ناصرهم و مؤيدهم حتي

يبوّئهم في الدنيا مبوأ حسنا و لهم في الآخرة أجر كبير، فتدلّ علي أن ذلك مطلوب مرغوب لا لنفسه بالذات، بل لإقامة الحق و اعلاء كلمة التوحيد، فتجب في مرتبته و تستحب في الاخري.

و في المقام أيضا آيات تدل علي ان للهجرة اثرا بالغا في السعادة و التوفيق في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 281

الدنيا و الآخرة، كما هو كذلك بطبعها، مع ما فيها من المتاعب و المضايقات فان الله تعالي استجاب دعاء الذين قالوا: رَبَّنٰا وَ آتِنٰا مٰا وَعَدْتَنٰا عَليٰ رُسُلِكَ وَ لٰا تُخْزِنٰا يَوْمَ الْقِيٰامَةِ (آل عمران [3] الآية 194) فقال: أَنِّي لٰا أُضِيعُ عَمَلَ عٰامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثيٰ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هٰاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قٰاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ ثَوٰاباً مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوٰابِ. لٰا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلٰادِ (آل عمران [3] الآية 195 و 196)، و تسلّطهم أو تصرّفهم، فان ذلك متاع قليل و مأواهم جهنم و بئس المهاد، الي آخر ما تشير إليه الآيات المباركات من سورة آل عمران [3] الآية 197 و غيرها. و كذلك الذين يرجون رحمة الله تعالي و يأملون أن تنالهم خيراته في الدنيا و الآخرة، بأنهم هم الذين يؤمنون بالله و يهاجرون عن بلاد الكفر و الضلال الي مدن الحق و الايمان، و يجاهدون في سبيل الله فيتّصلون بعباد الرحمن المؤمنين، و يتعاونون علي الخيرات و المبرات، و هم يد واحدة علي من سواهم، دون الذين يهضمون حقوق غيرهم مهما كانت، و يتقرّبون بأنفسهم الي المستويات التي أنشأها الظلمة و الكفار، بل

يتقرّبون بها إليهم مذبذبين، فانهم الأشرار الأذلّاء الأسراء بأيديهم و عبيد الدنيا بأعمالهم، و الدين لعق علي ألسنتهم، يخافون علي طعامهم و شرابهم، و الأمر كلّه بيد الله تعالي و مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ وَ أَبْقيٰ. (القصص [28] الآية 60)

ثم لا يخفي انه كما ان للمهاجرين ذلك المقام الرفيع و الأجر الجزيل، فكذلك للذين يحبّون من هاجر إليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرونهم علي أنفسهم و لو كان بهم خصاصة، المقام الرفيع لهم و الفلاح و النجاح، و لا سيما الذين يحبّون المهاجرين الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ أَمْوٰالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً وَ يَنْصُرُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ هُمُ الصّٰادِقُونَ. (الحشر [59] الآية 8)

فليس كل مهاجر من اي بلد كان و بأي قصد و نيّة، و لا كل من يبوّئ المهاجر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 282

و لو طمعا في ماله و مناله، يكون من الصادقين.

و لذلك لا بد للمسلمين عند التبوّؤ ان يمتحنوا المهاجرين إليهم، و يختبروهم، و لعلّ فيهم عيونا للأعداء و جواسيس للخصوم. فان وجدوهم صادقين والوهم، و هم منهم.

امتحان المهاجرين و المهاجرات

قال تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ الْمُؤْمِنٰاتُ مُهٰاجِرٰاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنٰاتٍ فَلٰا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَي الْكُفّٰارِ …

(الممتحنة [60] الآية 10)، و من المعلوم انه لا فرق بينهنّ و بين المؤمنين إلا أن الملاك فيهنّ أقوي.

و الأمر كما لدي العقلاء: إنّ علي مجتمع الاسلام و المسلمين أن لا يقبلوا كلّ من هاجر إليهم و ادعي الاسلام و الايمان، فيعمل معه ابتداء عمل الاخوة و الولاية بعضهم مع بعض، بل حسب الظاهر يفتح له الطريق، و يرشد الي الخير و الصلاح، و

يختبر أ هو من المؤمنين حقا و صدقا، و ذلك تحفّظا علي ثغور المجتمع الاسلامي و كرامة الامة الاسلامية فلا الرد علي الاطلاق و لا القبول كذلك.

*** و الحاصل ان المؤمن اذا امتنع عليه العمل بشعائر ايمانه و مظاهر اسلامه في بلد ما، فعليه الهجرة عنه و تركه الي ما يتمكّن فيه علي الطاعة لأمر الله تعالي:

يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وٰاسِعَةٌ فَإِيّٰايَ فَاعْبُدُونِ (العنكبوت [29] الآية 56).

و كلّما كان ذلك العمل و الشعار أوجب و أعظم، كانت الهجرة ألزم و أوجب حتي من الأذان المستحب، الواجب علي الحاكم الشرعي اشعاره في كل مجتمع اسلامي، إلا أن يكون لبقائه في البلد أثر أعظم و أقوي من التبليغ و تعريف الاسلام كما هو، و كذلك علي المؤمنين في بلدهم أن يجيروا و يبوّءوا المهاجر إليهم ابتغاء فضل الله

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 283

تعالي و رضوانه بعد الاختيار و الامتحان كما عرفت «1»، و قد أشبعنا الكلام في هذا الباب في مؤلّفنا: «رسائل فقهية علي طريق الأصحاب».

و اما الهجرة من الرذائل النفسية الي الفضائل الخلقية، و من الشرك الي التوحيد، كما تشير إليه آيات أصحاب الكهف و روايات في الباب، فهي تطبيق و تأويل كما هو ظاهر، و ان كان يساعدها المعني اللغوي كما عرفت.

خلاصة البحث

اشارة

يستفاد من آيات الباب مطالب؛ النوع الأول فروع، هي:

الأول: إن الجهاد مكتوب مفروض علي المسلمين في الجملة.

الثاني: انه يجب الجهاد ضد كل كافر و مشرك، حتي يكون الدين كلّه للّه تعالي، و مع كل من لا يحرّم ما حرّم الله و لا يحلّل ما أحلّ الله، و يفسد و يبدع في شرائع الله سواء كان من أهل الاسلام أو من أهل

الكتاب.

الثالث: انه يشترط في وجوب الجهاد وجود امير و زعيم شرعي، حتي يكون هو المحور و المرجع في تنظيم الأمور و تنسيقها، سواء كان الرسول الأكرم بنفسه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو من ينوب عنه بأمره، أو الأئمة المعصومين من بعده (عليهم السّلام)، أو نوّابهم الذين بأيديهم مجاري الأمور، و الذين يحرزون باقي الشروط المؤهّلة فيهم.

أيّدهم الله تعالي.

و من النوع الثاني فروع أيضا:

______________________________

(1)- و أما الامر باسراء موسي (علي نبينا و آله و عليه السلام) عباد الله؛ لكونهم متبعين حتي يغرق الخصم و يهلك كما في موارد ثلاثة (طه [20] الآية 77) و (الشعراء [26] الآية 52) و (الدخان [44] الآية 23)، و كذلك اسراء لوط بأهله ليلا حتي يهلك الظالمون كما في موضعين (هود [11] الآية 81) و (الحجر [15] الآية 65)، فليس من الامر بالهجرة إلا بنوع من التوسّع، و لا يشابه ذلك أمر رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) المسلمين بالهجرة الأولي الي الحبشة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 284

الأول: يجب علي المسلمين اعداد القوي و التهيؤ في كل زمان حسب الشروط و المقتضيات علي حد يرهب الخصم و يقطع طمعهم في الاسلام و المسلمين، في جميع شئون حياتهم الفردية و الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية و الطبية و غيرها.

الثاني: يجب دعوة الخصم الي الحق و الاسلام في كل سنة مرّة، فان أجابوا فبها، و إلّا يدعون الي قبول حاكمية الاسلام و زعامته بادائهم الجزية عن يد و هم صاغرون، و إلا فالمقاتلة معهم.

الثالث: يجب الجهاد بالمقاتلة حينما يكون عدد المسلمين بعسكرهم نصف الكفّار ليقابل الواحد الاثنين.

الرابع: يجب استخدام الآلات الحربية المتكاملة في كل عصر، حسب مقتضياته

من الحجر و الخشب أو السيف و الرمح أو القاذفات و الطائرات و النفّاثات الجوية و القوي البرية و البحرية، كما في زماننا هذا، و الأكمل في الآتي، و كل ما يثبته و يمكّنه الظرف.

الخامس: يجب تواصل العسكر المقاتل و اتحاد أفراده و اتفاقهم في الرأي بأن يكونوا كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا.

السادس: يجب جهاد الأقرب فالأقرب، قبل الأبعد إلا لمصلحة أقوي، كما اذا كان الأبعد أشدّ و أضرّ علي الاسلام.

السابع: يجب في الحرب أخذ الكفار بشدة و غلظة من غير رأفة و رحمة و لا الالتفات الي لومة لائم، كما يجب استمرار الحرب و الابقاء عليها بضرب الرقاب حتي اثخان الخصم بالجراح، و التغلّب عليهم ثم شدّ الوثاق علي الأسري حال الحرب، و بعد ان تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا، فاما منّا بعد و إما فداء.

الثامن: يحرم علي المقاتل الهروب من العدو (تولّيه الدبر)، و التخوّف منه عن القتال، إلا لمصلحة الحرب من التحيّز الي فئة، أو أخذ الحذر و غيره. فيجب الثبات

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 285

و الاستقامة في الحرب، و ذكر الله كثيرا عند الحرب، و يحرم التنازع و الاختلاف الموجب للفشل.

التاسع: لا يجوز لأمير المسلمين بعد شروع الحرب الدعوة الي السلم و ترك القتال إلا لمصلحة يراها صائرة من غير أن ينتهي به الأمر الي أن يكون للكافرين علي المسلمين سبيل، و لن يجعل الله لهم عليهم سبيلا. فيجوز ذلك (السلم)، كما تجوز معاهدة ترك القتال مؤقتا لا دائما، بتركهم معاونة المحاربين، أو معاونتهم المسلمين استجارة علي أمور غير بطانة من عمليات.

العاشر: لا يجوز نقض العهد معهم و الابتداء بالحرب بعد الميثاق فان الله لا يحبّ الخائنين، و الغدر في الحرب غير نقض

العهد للحرب، فيجوز بعد انقضاء المدة أو نقضهم العهد كما هو ظاهر، و كذلك لا يجوز مقاتلة المنافقين الذين تواصلوا قوما بينكم و بينهم ميثاق و معاهدة إلا بعد النقض أو انقضاء المدة.

الحادي عشر: لا بد من تحمّل جميع مشاكل الحرب و مشاقّه حتي الشهادة.

و ما جعل عليكم في الدين من حرج، حتي في ما كان طبعه حرجيا بحسب حال الفرد، بعد ما كان فيه صلاح الجمع و حياتهم.

الثاني عشر: يجب إجارة المستجير في المحاربة كائنا من كان، مع التحفّظ علي كيان الاسلام و مصالحه، حتي يسمع كلام الله أو ايصاله الي مأمنه، فيري كرم و كرامة الاسلام و عظمة المسلمين في خلوّهم عن الأحقاد الشخصية.

و من النوع الثالث فرعان:

الأول: يحرم القتال في الأشهر الحرم، و هي رجب، ذو القعدة، ذو الحجة، و محرّم، (ثلاثة سرد و واحد فرد).

الثاني: يجوز القتال في الأشهر الحرم عند نقض الكفار العهد، و هتك حرمته و الإثم عليهم فانهم هم الناكثون.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 286

و من آيات الدفاع فروع:

الأول: يجب الدفاع عن النفس و المال و العرض بأي وجه أمكن، فبالمال عن النفس و العرض، و بالعرض عن النفس، و بالنفس عن النفس مع رعاية الأهم فالأهم في المراتب و الدوران في نظر الشرع.

الثاني: يجب الدفاع عن الاسلام بمعارفه و عقائده، باصوله و فروعه و أحكامه، و عن المسلمين من بلادهم و أمصارهم و مختلف شئون حياتهم، بأي وجه أمكن مع ملاحظة الأهم فالأهم بنظر الشرع و مبناه، فيجب تفدية المال لحفظ ضروريات الدين، و دفع الشر عنها بدفع البدع و إعدامها، بل بالعرض و النفس في بعض المراحل.

الثالث: لا بأس بالدفاع لو اقتضي القتال في الشهر الحرام و المسجد الحرام

و إن أمكنه ذلك في الخارج، و لبسط الكلام محل آخر.

الرابع: لا يجوز قتل اللص و السارق، بل كل متوثّب حال الدفاع ابتداء، مع إمكان الدفع بدونه، و ليس عليه شي ء لو قتل اتفاقا، فانه هو الذي عرّض نفسه للقتل.

الخامس: لا يجوز تفدية النفس للمال و العرض، و لا بأس بما يتفق أحيانا من فديتها لهما، و جميع فروع الباب علي أصل مراعاة الأهم فالأهم بمنظار الشرع.

و من آيات الهجرة فروع:

الأول- تجب الهجرة علي المؤمن اذا امتنع عليه العمل بشعائر دينه و مظاهر اعتقاداته الي دار يتمكّن فيها منها، و كلما كان الشعار ألزم كانت الهجرة أوجب، و تستحب في المستحب.

الثاني- لا بأس بترك الهجرة في الحال اذا كان لبقائه في البلد أثر أنفع بحال الاسلام و المسلمين، من نشر كلمة الحق، و تنفيذ التوحيد بين أهله، و لا افتقار إليه في دار الايمان بألزم منه.

الثالث- يجب علي المؤمنين في دار الايمان أن يبوّءوا المهاجرين و يمكّنوهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 287

دورا تناسب شأنهم من غير طمع في المال و المنال، و هم يبتغون فضلا من ربهم و رضوانا.

الرابع- لا بد من اختبار المهاجر و امتحانه بعد تبوّئه و قبوله ابتداء، فان وجد صادقا و محقا ائتمن به، و عدّ من مجتمعهم، له ما لهم و عليه ما عليهم، فلا تردّ الي الكفار النساء المهاجرات، بعد ما وجد فيهنّ الصدق، فانهنّ محرّمات علي الكفار، كما سيأتي بيانه ان شاء الله في كتاب النكاح.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 289

كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 291

الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

الأمر و النهي كما حقق في الأصول هو طلب الفعل او الترك جدا عن العالي بوجه ممن دونه، و الظاهر المبيّن عند كل عرف، الشائع لديهم من غير نكير هو المعروف، كما ان البعيد المستور الممنوع عند كل عرف، منكر غير معروف عندهم. فالواجبات أعرف مصاديق المعروف بين المسلمين، كما ان المحرّمات أنكر المنكرات لديهم، و هكذا المستحب و المكروه الي الآداب الراجحة و المرجوحة حسب التداول و المرتبة، و في ذلك آيات:

الأولي: قوله تعالي:

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَي الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ

الْمُنْكَرِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. (آل عمران [3] الآية 104)

الآية الكريمة في سياق الأمر بالاتحاد، و الاعتصام بحبل الله تعالي، و التحرّز عن التفرّق و الاختلاف، و التذكّر لنعم الله تعالي من رفع العداوة و البغضاء من بينهم، و ايجاد الأخوّة، و النجاة من النار، فهي تأمر صريحا بأنّه لا بدّ و أن يكون في مجتمع المسلمين في كل زمان و مكان أمّة يدعون الي الخير دعوة قاطعة، تنتهي الي العمل، يأمرون بالمعروف و يطلبونه مجدّين، و ينهون عن المنكر الي أن يترك. و المفلحون هم الأمّة الداعية، بل الذين بينهم الأمّة أجمع، فان الفلاح لا يتحصّل إلا بترك المنكر و اتيان المعروف، و ذلك لا يتحقق في مجتمع إلا بوجود من يأمر الناس بالمعروف و ينهاهم إلزاما عن المحرّمات، و يقيمهم علي تركها و قلعها في حياتهم المعاشية في مختلف شئونها، و علي فعل الواجبات و إقامتها علي أصولها و أصلابها فيها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 292

و حيث ان الطلب و المنع علي ذلك الحدّ لا يكون في شأن كل أحد، فلا بد و ان يكون في كل مجتمع أمّة تتصدّي لذلك، و الأمّة هذه عليها أن تعرف المعروف لتأمر به، و المنكر لتنهي عنه، و تعلم بالتخلّف، و تكون علي حد يؤثر أمرها و نهيها من غير ضرر و إضرار، بلا اختصاص بمقام الحكومة و الموظفين في شئونها، كما توهّم من كلمة الأمة، و ان كانت الحكومة اولي و أقدم و بيدها القدرة و السيف كما في الحكومة الاسلامية.

فلا تسلب المسئولية عن مثل الأب بالنسبة الي أولاده و أهله و أقربائه و قبيلته، بل كل من كان أعلي من غيره بوجه، فان الوجوب

علي الكفاية، و المقطوع ان الغرض الأصلي تحقق المعروف و ترك المنكر في الخارج في مجتمع المسلمين من غير دخل لنفس الأمر و النهي بل الآمر و الناهي أيضا، فلا وجه للاختصاص بعد تحقق شروطه الطبيعية.

و كيف كان فلا اشكال في دلالة الآية علي أصل الوجوب و انه لو لم يكن في مجتمع اسلامي أمّة داعية الي الخير و آمرة بالمعروف و ناهية عن المنكر، يعاقب جميع أفراد المجتمع بحكم الكفائية.

و حيث ان الدعوة الي الخير- و لو من غير أمر و نهي- كثيرا ما تنتهي الي اتيان المعروف و ترك المنكر، بل هي من عوامله المهمة، فلا يبعد استظهار وجوب وجود الامة الداعية الي الخير أيضا من الآية الكريمة علي طريق تعدد المطلوب، حتي يكون لذكر الدعوة الأعم وجه، و الفلاح يتوقّف عليها أيضا.

الثانية: قوله تعالي:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتٰابِ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفٰاسِقُونَ. (آل عمران [3] الآية 110)

الآية الكريمة تمدح المؤمنين بأنهم خير أمّة أخرجت للناس و أفضل مجتمع

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 293

في المجتمعات علي ملاك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و ذلك بنفسه، و ان كان لا يفيد الوجوب، إلا أن جعل الأمر و النهي مع الايمان بالله تعالي ملاك الخيرية و الأفضلية لعله يشعر به، و لا أقل من إفادة المطلوبية في حد يؤكّده.

الثالثة: قوله تعالي:

لَيْسُوا سَوٰاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ أُمَّةٌ قٰائِمَةٌ يَتْلُونَ آيٰاتِ اللّٰهِ آنٰاءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسٰارِعُونَ فِي الْخَيْرٰاتِ وَ أُولٰئِكَ مِنَ الصّٰالِحِينَ. (آل

عمران [3] الآية 113 و 114)

الآية الكريمة بتقريب سابق تمدح الامّة الآمرة بالمعروف و الناهية عن المنكر في سياق الايمان بالله و اليوم الآخر و القيام لعبادة الله تعالي آناء الليل و تلاوة آياته تعالي و هم يسجدون، و ان الامّة العاملة بذلك كله لا يساويها أهل الكتاب الذين لو آمنوا- بدورهم- لكان خيرا لهم، منهم المؤمنون و أكثرهم الفاسقون، و أين الثري من الثريا.

و عندنا إشعار الآية بالوجوب، بل دلالتها عليه يكون بوجه ألطف من الأمر، فان ذكر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تلو الايمان بالله و اليوم الآخر حتي مع مسبوقيتهما بالتهجّد الراجح يشعر بالمطلوبية بأعلي حدّ، و إن أبيت فأصل الرجحان لا اشكال فيه.

الرابعة: قوله تعالي:

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ يُطِيعُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* وَعَدَ اللّٰهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّٰاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوٰانٌ مِنَ اللّٰهِ أَكْبَرُ ذٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. (التوبة [9] الآية 71 و 72)

الآية الكريمة تصف المؤمنين و المؤمنات بعد بيان وحدتهم و إن بعضهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 294

أولياء بعض «1» بأنهم يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، و يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة، و يطيعون الله تعالي و رسوله، و بذلك سيرحمهم الله و يدخلهم الجنات، و يؤويهم في مساكن طيّبة و رضوانه الأكبر في النهاية. فذكر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في سياق الواجبات من إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة بل مطلق إطاعة الله و رسوله، مع التصريح بأن ذلك كلّه يوجب

رحمة الله و جنّته و رضوانه، أصرح في الدلالة علي الوجوب من كل أمر مباشر.

أضف الي ذلك توصيف المنافقين و المنافقات علي عكس ما ذكر، بعد بيان ان بعضهم من بعض، بأنهم يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف، و علي الكلية نسوا الله تعالي فنسيهم، و أعدّ لهم نار جهنم خالدين فيها هم و الكفار معا، فان البيان و إن كان لا يوجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لجواز الوسط من السكوت عنهما أمرا و نهيا، إلا أن دلالة المجموع مع التقابل مما لا ينكر.

الدعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة

الخامسة: قوله تعالي:

ادْعُ إِليٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. (النحل [16] الآية 125)

أمر الله تعالي بالدعوة الي سبيله بأي وجه أمكن و ما يناسبه الجوّ و المدعو من الحكمة و البرهان و بيان الآيات و الدلالة عليها و بها علي الله تعالي و سبيله أو الموعظة «2» و النصيحة بذكر الامثال و ما مضي علي الأمم و الأقوام من الاحوال، أو

______________________________

(1)- و أنت بحمد الله ممن كان له قلب، فتري ما في اختلاف تعبير بيان وحدة المؤمنين بأن بعضهم أولياء بعض، و في المنافقين بعضهم من بعض، قال تعالي: الْمُنٰافِقُونَ وَ الْمُنٰافِقٰاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللّٰهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ … (التوبة [9] الآية 67).

(2)- و لنا في المقام مقال مطبوع تحت عنوان: «علي (عليه السّلام) بر منبر وعظ» افتتحناه بالآية الكريمة و أثبتنا فيه أن الأشمل الأنفع من الطريق هو الموعظة كما سلكه مولانا و إمامنا علي (عليه السّلام)

في أكثر خطبه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 295

الجدال باسكات الخصم المنافق الذي لا يطلب الحق بما يقبله، و لو كان الباطل من المقال دفعا لشبهاته عن طريق الآخرين السالكين الي الله المتعال.

و لا نشكّ في أن الاتيان بالواجبات و ترك المحرّمات بل الاتيان بكل معروف و ترك كل منكر هو من أقوم الطرق الي الله تعالي و أقسط السبل إليه، اذا فالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من أجلي مصاديق الدعوة المأمور بها فيجبان بوجوبها.

إلّا أن يقال ان الدعوة غير الأمر و النهي و كون اتيان المعروف و ترك المنكر سبيلا غير كون الأمر و النهي دعوة و لا تلازم بين وجوبهما، فإن الأمر بالدعوة قد يمتثل بالموعظة أو الجدال بل البرهان بلا أمر بالمعروف و نهي عن المنكر.

فانه يقال قد عرفت في الآية الأولي أن الدعوة الي الخير أعم، تشتمل علي الأمر و النهي، فان كل أمر و نهي دعوة أيضا و لا عكس، و ادعاء التباين دون اثباته خرط القتاد، فاذا وجب الأعم بجميع أفراده لا علي الاطلاق وجب الأخص في ضمنه أيضا، و ادعاء الوجوب علي نحو الاطلاق دون العموم بعد التصريح بالأفراد لبيان الشمول مشكل.

و لكن مع ذلك كله ففي الاستدلال بالآية مستقلا شي ء لا يخفي، و الذي يسهل الخطب أن أدلة الباب بأجمعها إرشاد الي ما يثبته العقل كما سيأتي.

ثم ان آخر الآية المباركة لعله يشير الي أن قلّة أصحاب المعروف و كثرة شيوع المنكر لا يسقط التكليف، فان عليك الهداية و الدعوة و الارشاد، و ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين.

السادسة: قوله تعالي:

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا

بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ. (الحج [22] الآية 41)

الآية الكريمة تصف الذين بهم دفع اللّه شرّ الكفار و المنافقين عن دينه و شريعته، فبقيت المساجد و الصوامع قائمة علي أصولها، و ارتفع ذكر الله تعالي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 296

علي منائرها، و استعلت كلمته في البلاد، فان الله تعالي ناصرهم و مؤيّدهم بنصرهم و تأييدهم لدينه، و حمايتهم له، و دفاعهم عنه. فتصفهم الآية المباركة بأنهم هم الذين اذا أعطيناهم المكنة، و منحناهم القوة، و جعلنا لهم سموّ الرأي و نفوذ الكلمة شكروا الله لنعمه، و استخدموها في إقامة حدوده و إجراء أحكامه باقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لا أنهم اذا مكّنوا أترفوا في دنياهم، و ألزموا أنفسهم المساكن، و نسوا الله تعالي و حدوده و أحكامه، و اعتذروا بعدم القدرة إعماء لأنفسهم، و أحكام الله تتغيّر بين ايديهم، و حدوده يتعدّي عليها بمرأي منهم، و عباد الله يقتلون و يسرقون و يقصون و يسجنون في بلادهم، فلا يردّون لهفتهم، و لا يزيلون محنتهم، بل انهم يسوّفون و يكثرون من التهليل و الحوقلة مع التقصير في أعمال المكنة و استعمال القدرة و لو بقدر الطاقة، أعاذنا الله من ذلك، مع ان مقاليد الامور بيده تعالي، و له جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ، و إليه عاقبة الأمور و منتهاها و قد أراد بإرادته بقاء نوره و دوام شريعته و لو كره الكافرون «1».

و الآية الكريمة و إن لم تشتمل إلا علي توصيف و تعريف لمن ينصر الله و دينه فينصره الله و ينصر دينه به، إلّا أن السياق و ارداف الأمر و النهي للصلاة و الزكاة

يعطي الوجوب بنحو ألطف من الكلام علي وجه الفصل في الوجوب كما لا يخفي.

السابعة: قوله تعالي:

يٰا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلٰاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَليٰ مٰا أَصٰابَكَ إِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. (لقمان [31] الآية 17)

ذكرت الآية المباركة أمورا بلسان الحكيم لقمان لابنه و هو يعظه، فأمره بإقامة الصلاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ذكرهما معها يشعر بالوجوب، و ان ذكر غير الصلاة أيضا قبلها و بعدها من واجب و حرام كإطاعة الوالدين و مصاحبتهما في

______________________________

(1)- و من المعلوم ان تلك العبارات كانت قبل نجاح الثورة الاسلامية و تحقّق حكومة الجمهورية الاسلامية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 297

الدنيا معروفا و الشرك باللّه فانه ظلم عظيم، أو مستحب و مكروه من الصبر علي المصائب و القصد في المشي، أو تصعير الخدّ للناس و المشي في الأرض مرحا كما هو ظاهر.

و نظن بعد ذلك كلّه أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ممّا لا ينكر وجوبهما عقلا أيضا، و يعرف ذلك العقلاء بأنفسهم، و الكلام قد يقع في الموضوع نفسه و ان ذلك منكر أولا، و معروف أولا، و الشارع لعلّه أرشد الي الحكم، و البحث الموضوعي مفروغ عنه، حتي في الواجبات و المحرّمات التعبديّة الشرعية، فانها معروف و منكر بدليل وجوبها و حرمتها.

خاتمة البحث

و لنشر في ختام البحث الي ما لا ينبغي تركه من الفرق بين النهي عن المنكر مع ردع البدع، وردها، فان موضوع الأول علي بقاء المنكر و المعروف علي ما هو عليه من المنكرية و المعروفية في الحكم و الاعتقاد، إلّا أن العمل وقع علي خلافه بترك معروف أو فعل منكر، فيجب الأمر و النهي علي من

اجتمعت فيه شروطهما بخلاف الثاني، فان مقامه قبل العمل و موضعه في الحكم و الاعتقاد، و إن كان العمل علي وفق الحق بجهة أخري، كما في التحجّب عن البرد، و الحكم قانونا بأنه لا حجاب في الاسلام، و لا يشترط في الردع علي من أدخل في الدين ما ليس منه، مثل جواز إسقاط الجنين، و ان الطلاق بيد المحكمة دون ذي الساق، و من أخذ به، أو اخرج عنه ما هو منه، مثل وجوب الحجاب، فقال بأنه ليس من الدين في مقام الحكم، فالأمر و النهي واجبات علي عموم المسلمين مع شروطهما، و الردّ واجب علي العالم به و الحاكم، و لا بد من تحمّل الضرر بل الاضرار بنفسه و المسلمين حسب أهمية البدعة الي تفدية الأموال و النفوس، كما أشرنا إليه في كتاب الجهاد و الدفاع، كما ان الأمر و النهي يجبان مع احتمال التأثير عقلائيا، دون رد البدع، فانه يجب مع القطع

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 298

بعدم التأثير فعلا أيضا تحفّظا علي الدين و أحكامه، و علي حكم الأجيال الآتية حول عمل الماضين، و أخذه دليلا، و لئلا يقولوا: لو لم يكن ذلك من الدين أو كان منه لخالفه السلف المسئولون؛ فيضلّوا بذلك عن الحق «1».

خلاصة البحث

1- يجب علي كل مجتمع اسلامي أن تكون فيه أمّة داعية الي الخير و لو بغير أمر و نهي، كما يجب عليهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كفاية، و لا سيما في مثل الأصول العامة و الفروع الهامة.

2- يجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر علي من اجتمعت فيه شروطهما عينا فلا يجوز التخلّف بوجه.

3- يشترط في وجوب الأمر و النهي أمور:

الأول: معرفة المعروف و المنكر.

الثاني:

العلم بتحقق الخلاف من ترك المعروف و ارتكاب المنكر.

الثالث: احتمال التأثير عقلائيا، فلا يجب عند القطع بعدم التأثير لا أنه يجب مع القطع بالتأثير.

الرابع: الاطمئنان بعدم الضرر و الاضرار له أو لغيره و به من المسلمين مع ملاحظة الأهم من الأثر و الضرر علي منظر الشرع.

و تمام الكلام مع ملاحظة السنّة و سائر الأدلة علي منوال الأصحاب في رسالتنا «مباحثات فقهية» باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و الحمد للّه أوّلا و آخرا و نسأله التوفيق.

______________________________

(1)- ذكر تلك الأمثلة في العبارات الخاصة لما كان ذلك قبل نجاح الثورة الاسلامية و تحقّق حكومة الجمهورية الاسلامية في ايران.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 299

كتاب الحدود

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 301

الحدود

معني الحدّ:

الحدّ يحيط بالشي ء فيشخّصه و يعيّنه و لو منطقيا من الجنس و الفصل، أو فلسفيا من المادة و الصورة، و بالملازمة بمنعه عن الاختلاط بالغير، و يدفع الغير عن الاختلاط به فيمتاز، لا أنه معناه، و أحكام اللّه تعالي حدوده التي تحيط بعباده المؤمنين و تميّزهم عن غيرهم، و الحدود اللازمة علي الطغاة و العصاة مثل ما علي السارق و الزاني و القاتل و المحارب من أحكام اللّه تعالي أيضا، و إن كان المخاطب و المسئول عنها مجتمع المسلمين، و المباشر لإجرائها الحاكم الشرعي الاسلامي و من ينصبه و يعيّنه ليتصدّي لأمورهم الحكومية، و لذلك أطلق عليها الحدّ كسائر أحكام اللّه، لا بما يمنع المحدود عن المعاودة كما عن المفردات، و في الكتاب آيات:

النهي عن القتل إلّا بالحق

الأولي: قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ إِلّٰا بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلٰا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً. (الاسراء [17] الآية 33)

تنهي الآية الكريمة عن قتل النفس التي حرّمها اللّه، فجعلها متحصّنة محفوظة محترمة، لا يجوز إيذاؤها و الإضرار بها، فكيف إعدامها إلّا علي وجه الحق أي المقابلة بالمثل بأن أعدم نفسا فيقتل قصاصا، ثم تجعل الآية الكريمة لوليّ المقتول

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 302

ظلما «1»، سلطة علي القاتل يفعل به ما يشاء من غير إسراف في القتل، بأن يقتص بواحدة أكثر منها، و السلطة هذه من مصاديق الأمر الكلي من أن المظلوم منصور علي النهاية في حكم اللّه المشروع، و في نظامه المكنون المطبوع. و من المعلوم أن متعلّق السلطان نفس القاتل فقط، فله أن يفعل بها ما يشاء من العفو و الصفح رحمة عليه من غير أخذ شي ء عنه، أو مع

الأخذ حسب التعارف فيأخذ الدية علي التفصيل الآتي أو يقتله نفسا بنفس.

حدّ قتل المؤمن خطأ

الثانية: قوله تعالي:

وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلّٰا خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِليٰ أَهْلِهِ، إِلّٰا أَنْ يَصَّدَّقُوا، فَإِنْ كٰانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كٰانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِليٰ أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّٰهِ وَ كٰانَ اللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً. (النساء [4] الآية 92)

الآية المباركة بعد بيان حرمة نفوس المؤمنين، و أنّه لا يجوز للمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه إلّا خطأ، بأن أراد أمرا آخر فانتهي الي قتل مؤمن، تبين [الآية المباركة] حكم ذلك، بأنّ عليه تحرير رقبة مؤمنة كفّارة للقتل، فانه بمنزلة إحياء نفس و إيرادها المجتمع عوضا عمّا أعدم، و إخراج دية مسلّمة الي أهله أداء لحق ورثة المقتول إلا أن يعفوا و يتصدّقوا علي من عليه الأداء، و لم يأخذوا منه، سواء كان المقتول منكم أو من قوم بينكم و بينهم ميثاق ترك المقاتلة، و أما لو كان من قوم عدوّ لكم فلا دية مردودة إليهم، و لو كان له ورثة مسلمون، بل يكتفي بتحرير رقبة مؤمنة، و من لم يجد

______________________________

(1)- أي عمدا فان العامد هو الظالم فلا يشمل قتل الخطأ فالآية راجعة الي العمد لا الي الخطأ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 303

ما لا ليشتري به رقبة أو يؤدي دية أو لم يجد رقبة فعليه صيام شهرين متتابعين توبة من الله تعالي عليه، و الله تعالي يعلم أنّه واجد أو لا، كما يعلم خطأه و عمده في نفس الأمر، و

هو العليم الخبير.

ثم إنّ ظاهر الآية- كما تري- ان الدية علي من عليه الكفارة، و لكن اتفق النص و الفتوي علي أنها علي عاقلة الجاني و أقربائه لا عليه، فان الآية لا تنافي ذلك لذكر نفس الدية، و الظاهر لا يقاوم النص، و لعلّ سرّ ذلك انه يمنع من ظهور التعاند و التضارب بين اسرتي القاتل و المقتول، فاذا أدي أقرباء القاتل مالا الي أسرة المقتول و أقربائه تتقارب الأسرتين، و تغضّان عمّا وقع خطأ، فيندفع التعاند.

و اما مقدار الدية في النفس و الأعضاء و في الجروح فلم يذكر في الآيات إلّا بعنوان المعروف و الاحسان كما في الآية الأولي من كتاب القصاص (البقرة [2] الآية 178)، و باسم التصدّق كما في الثانية منه (المائدة [5] الآية 45)، الظاهر في عدم تعيّن مقدار مشخّص و جواز الاختلاف حسب اختلاف الشروط زمانا و مكانا، و يمكن أن يستدل عليه بذكر الابل و البقر و الغنم ثم الدرهم و الدينار، و قيمة الأنعام تختلف، و لكن الأمر ليس كذلك، و قد فصّلت السنّة الشريفة حدود الدية في كل من المذكورات كما في المفصلات، و احتمال أن تكون المذكورات فيها بعنوان المصداق دون التعيين محل بحث، لا بد من ملاحظة لسان السنّة الشريفة المبيّنة التي هي عدل الكتاب.

حدّ من حارب الله و رسوله

اشارة

الثالثة: قوله تعالي:

إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ* إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 304

عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (المائدة [5] الآية

33 و 34)

تحكم الآية الكريمة علي الذين يحاربون الله و رسوله بسلّهم السيف و حملهم السلاح، و بالجملة بإطلاق النار علي المؤمنين و بلادهم بما هم مؤمنون، و علي نواميس الله تعالي و أحكامه مما جاء به النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من المشروعات و الأحكام المقدّسة، و كذلك تحكم علي الذين يسعون في الأرض فسادا باخلال نظم المسلمين و ايجاد الهرج و المرج، و يبتغون في دين الله اعوجاجا كائنا من كان، و في اي مقام، و بأي وجه حارب، تحكم الآية عليهم بالقتل أو الصلب، اي يقتّل به تشديدا في العذاب أو قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف بقطع يده اليمني من الأصابع أو وسط الكف و رجله اليسري من وسط القدم و يترك حتي يموت لعذاب أشد، أو نفيهم من أرض البلد المحارب علي اختلاف مراتب محاربتهم و فسادهم، و علي اختيار من الحاكم حسب ما يراه مصلحة بالنسبة إليه في تلك الأطراف و خصوصيات كل طرف، ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم.

و من المعلوم ان ذكر المحارب لله و رسوله و حكمه في ذلك السياق بين حكم القاتل و السارق و بعد بيان حكمهما، مستقلا يدلّ علي انه لا يكون المراد من يريد أموال الناس و أنفسهم، بل الذي يحارب دين الله تعالي و شريعته، و يعاند الحق بصدّ سبيل الله علي الناس مع السلاح و الكفاح، و أي فساد في الارض أشدّ و أعظم من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه و السعي في خرابها بالنهي عن الصلاة و الصيام و منع بيان معارف الاسلام و الأمر بالمنكرات و منهياته تعالي

و محرّماته و نشر المضلّات «1»، فلا يختص بمن يحارب المسلمين لأموالهم و أعراضهم من غير تعرّض بشرائع الله، كما ذكره الأصحاب فان ذلك بطريق أولي، و يؤيد ما ذكرنا لو لم يدل عليه عدم سقوط عذاب الآخرة عنه باجراء الحدّ عليه كما في سائر الحدود،

______________________________

(1)- قال تعالي: «قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ …» (التوبة [9] الآية 9).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 305

و لهم في الآخرة عذاب عظيم «1».

و كيف كان فعلي مجتمع المسلمين قلع مادة الفساد و إزالة الرجس عن أمتهم بأي طريق أمكن، و المجري لمثل تلك الاحكام الوليّ الحاكم علي المسلمين، و هو الامام المعصوم (عليه السّلام) أو من ينوب عنه علي ما عرفت في كتاب الولاية، من أيّة طبقة كان المحكوم، و لو من الحاكمين الجائرين في الظاهر، فعلي الوليّ قتل المحارب، أو صلبه علي رءوس الأشهاد حتي يكون عبرة للآخرين، أو قطع يده و رجله من خلاف باليمني و اليسري، و أقل تعذيبهم النفي من البلد و الاقصاء الي محل لا يتمكن فيه من القول و الفعل علي خلاف مصالح الاسلام، لو كان المراد من الأرض البلد «2».

كفائية الحدود

و أنت تعلم ان المطلوب في الكفائيات تحققها في الخارج من غير دخل لمباشر خاص في أصل المطلوب، و المباشر مقصود ثان لحفظ حقوق المجتمع، و المنع عن الهرج و المرج، و عليه فان لم يتمكّن الحاكم بالحق من ذلك، فعلي عدول المسلمين، ثم عليهم بأجمعهم، بحيث لو تركوا ذلك كانوا عصاة معاقبين علي ذنبهم، و هو ترك حدود الله تعالي بين الأمة.

فلو فسدت الحكومة

و انحرفت عن طريق الحق و العدل و استعملت الموظفين و المنظمات في طريق المشتهيات علي خلاف الاسلام و مصالح المسلمين فأخذوا يسعون في الأرض فسادا، و يبتغون في دين الله اعوجاجا، و لم يكن من يجري عليهم حدود الله تعالي، و يمنعهم عن محاربة الله و رسوله، فعلي

______________________________

(1)- كما يؤيد بل يدل علي ما ذكرنا قوله تعالي بعده: «إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» (المائدة [5] الآية 34)، الظاهر في التسلّط عليهم دون إقرارهم لدي الحاكم.

(2)- حكما عن الاصحاب و عندنا صدق عدم كونه علي الأرض بما هو انسان بمنعه عن الحقوق الاجتماعية و إلا فالمفسد لا فرق له بين بلد و بلد و يحتمل النفي بوجه كان من أقسام القتل السابق عليه احتمالا ضعيفا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 306

جميع المسلمين القيام بوجههم حتي النصر و الفتح بقتلهم و صلبهم أو نفيهم و قطع الأيدي و الأرجل؛ و بالجملة بقلع مادة الفساد حتي تسوية المنظمات و ادارتها علي المدارات الاسلامية، و لا سيما علي الذين لهم بين المسلمين مقام متّبع و موقع مرموق، الذين يقتدي بهم الناس اذا تقدّموا، و يتركون الأمر اذا تساهلوا و تسامحوا، و لا سيما علي الذين اذا ظهرت البدع فعليهم أن يظهروا علمهم، و إلا ألجموا بلجام من نار، فانهم أمناء الله في بلاده، و منار الله علي عباده، فعليهم قبل كل أحد إجراء الحدود الشرعية، و دفع المحارب المعاند للّه و رسوله.

و عندنا ان من حارب الله و رسوله بقلمه و لسانه فقد شهر سيفه عليهما، و كذا اذا خطب أو كتب علي خلاف أصول الاسلام و معارف القرآن و أحكام الله تعالي، و بارز المسلمين

بنشر مقالات ضالة، أو إلقاء خطابات مضلّة، فهو أيضا محارب لله و رسوله، فعليه الحدّ بما عرفت من القتل أو الصلب أو النفي من البلد مما يراه الحاكم مصلحة في حدّ عمله. نعم اذا تاب المحارب فندم عمّا فعل و غرم ما أضرّ، فالله غفور رحيم، و لا يجري عليه الحد اذا كانت توبته قبل القدرة عليه إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

حدّ السارق

الرابعة: قوله تعالي:

وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالًا مِنَ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* فَمَنْ تٰابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللّٰهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (المائدة [5] الآية 38 و 39)

تأمر الآية الكريمة إيجابا بقطع يد السارق و السارقة، فان ذلك جزاؤهما في الدنيا بما كسبا، نكالا عليهم من الله العزيز الحكيم. و الموضوع لا يصدق عرفا إلّا في سرقة ما كان له قيمة يعتني بها، و كان محفوظا مقفولا عليه عرفا، دون غير المضبوط

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 307

المطروح. و أما حدّ الحكم حيث لم يذكر فيه بيان و تفصيل، و يصحّ الاطلاق لغة علي قطع اليد من الكتف، كما يطلق علي قطعها من كل من العضد و المرفق و الساعد و الزند و الكف و الأصابع، فانها اسم للمجموع و تطلق علي بعضها أيضا، و لكن بعد اختصاص الراحة من اليد باللّه تعالي في السجود، لما يستند عليها حال السجدة، فهي من المساجد وَ أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ (الجن [72] الآية 18). فلا بد و أن تقطع من الأصابع، كما استدل بها الامام (عليه السّلام).

و كذلك يكتفي بقطع أصابع يد واحدة للصدق عرفا، و الجمع بلحاظ

السارق و السارقة. و لا نري وجها لقطع الرجل مع التكرار، ثم الحكم بالسجن معه «1»، و لا يقاس بالمحارب، فان قطع اليد اليمني و الرجل اليسري ليصدق من خلاف كان في عرض واحد من التعذيبات التي بيد الحاكم أمرها في تحديد المحارب.

و عندنا خروج سرقة الأب و العبد و الغانم و الشريك من الابن و المولي و الغنيمة و المال المشترك موضوعيّ لا حكميّ، أي ليس بسرقة عرفا، بعد ولاية الأب و تصرّف بعض المالك في البعض من العبد، و تصرّف الغانم في سهمه من الغنيمة، و كذلك الشريك في المال المشترك، كما في كل شبهة، خلافا لما عن صاحب الكنز (رحمه اللّه) من أنه حكمي كما لا يخفي.

و من تاب بعد سرقته و ظلمه فأصلح نفسه بالعزم علي عدم العود، و ردّ مال الغير الي صاحبه، فاللّه غفور رحيم، يقبل التوبة عن عباده من غير فرق بين ثبوته بالإقرار أو الشهادة و البيّنة و عدمه، كما هو ظاهر الآية، إلّا أن السقوط بعد الثبوت لدي الحاكم مشكل، لتناسب الحكم و الموضوع، فان كل مذنب بعد ما رأي

______________________________

(1)- كما عن بعض، فانه لا بأس بالسجن مع التكرار قبل قطع الرجل، و الملاك منعه بعد ما لم يمنعه الحدّ الالهي، و أما عمل الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) المشار إليه في روايات الباب، بعد أنّه لا لسان له فلا يبعد أنه كان علي مصلحة رآها ولاية، فان الأمر بعد حكم الله تعالي علي نظر الحاكم، و تسرية حكم المحارب بعد التكلّف تسرية من موضوع الي آخر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 308

مقدمات اجراء الحدّ عليه يتوب و يستغفر ربّه، إلّا من خاف مقام

ربه، فان قبلت توبته مطلقا، فأين يكون حفظ مصالح المجتمع و اعتبار الآخرين من المحدودين، و بذلك يخصص الاطلاق، و قبل الثبوت لدي الحاكم يناسب العفو عن الله الغفور الرحيم لمن تاب و أصلح.

حدّ الانحراف في الشهوة الجنسية

اشارة

الانحراف في أعمال الغريزة الجنسية عن طريقتها الطبيعية المشروعة، المفسد للفرد و النسل و المجتمع، المخرّب للجسم و الروح اقتضي المنع عنه الشدة و الاهتمام، فلم يكتف الشرع بالتحريم التكليفي، و انه ذنب يعاقب عليه، كما سيأتي البحث عنه إن شاء الله في كتاب المحرّمات من الجزء الرابع، بل جعل عليه الحد أيضا في كل قسم بحسبه من الانحراف في الرجال و النساء، أو فيهما، أي اللواط و المساحقة و الزنا، و في كل آية يذكرها حسب الأهمية.

حدّ الزنا

الخامسة: قوله تعالي:

الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لٰا تَأْخُذْكُمْ بِهِمٰا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

(النور [24] الآية 2)

تأمر الآية الكريمة إيجابا بجلد كل من الزانية و الزاني مائة جلدة، و توكّد الأمر بالنهي عن اتخاذ الرأفة و الرحمة في مقام اجراء الحدّ الذي هو من دين الله و شريعة رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و تؤكّده ثانيا بقوله تعالي: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، فان التساهل في اجراء حدود الله تعالي و التسامح في العمل بأوامره تعالي و التناهي عن نواهيه ينشأ من ضعف الايمان و وهنه، كما هو ظاهر، و في النهاية ترشد الآية

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 309

الكريمة الي مصلحة أخري لا بدّ من استيفائها، و هي الغرض الأصيل من تشريع الحدود، و هو دفع المجتمع عن الذنوب و تطهيره عنها، فتحكم بلزوم حضور طائفة من المؤمنين، و ليكن اجراء الحدود بمرأي حتي يعتبروا و يعلموا حكم الله تعالي و حدّه، و انه في حق كل مجرم كذلك.

و المتعلّق معلوم انه الضرب بالسوط

بحيث لم يتجاوز ألمه عن جلده، و ذلك كناية عن التوسيط في الضرب، ليكون متعارفا لا شديدا عن عناد و لا خفيفا عن رحمة، و إلّا فتألّم المضروب لا يختصّ بعروقه المنتشرة في جلده، و الضرب غير الجرح ليكون عدم التجاوز بمعناه.

ثم إنّ ظاهر إطلاق العنوان و الموضوع أن الحكم ثابت لكل زان و زانية محصن و محصنة أو غيرهما، شيخين كانا أو شابين، و لكن تناسب الحكم و الموضوع يخصص الأمر بشاب غير محصن، و يقتضي في غيره الشدّة و لا سيما الشيخ المحصن، و قد فصّلت السنّة الشريفة بحمد الله في باقي الموارد من الرجم مع الجلد أو بدونه، و مع التغريب (النفي) أو بدونه، و عندنا الزائد علي المذكور في كتاب الله كان من مختار النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو الوليّ (عليه السّلام) بعنوان المصداق: لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الاحزاب [33] الآية 21)، و الحكم ما رآه الحاكم مصلحة علي اختلاف الشروط و المقتضيات كما لا يخفي، كما عرفت في حدّ السرقة بعد قطع اليد اليمني بأصابعه الأربع.

ثم انّ الحدّ المذكور راجع الي الأحرار، و أما ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات اذا أحصنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَي الْمُحْصَنٰاتِ مِنَ الْعَذٰابِ (النساء [4] الآية 25).

و من المعلوم كما ذكرنا من قبل أن المجري لتلك الحدود هم الولاة و الحكّام الشرعيون الذين هم حصون البلاد و أمناء الله علي العباد و بيدهم مجاري الامور.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 310

حدّ السحق

السادسة: قوله تعالي:

وَ اللّٰاتِي يَأْتِينَ الْفٰاحِشَةَ مِنْ نِسٰائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّٰي يَتَوَفّٰاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لَهُنَّ سَبِيلًا.

(النساء

[4] الآية 15)

الآية المباركة تحكم علي اللاتي يأتين بالفاحشة من النساء و ثبتت الفاحشة عليهنّ بشهادة أربعة من الرجال أو ما يقوم مقامها، كما في كتاب الشهادات، و لا تثبت بدونها، فتأمر إيجابا بعد الثبوت بامساكهنّ في البيوت حتي يمتن، و ذلك قريب من السجن المؤبد، و انتخاب البيوت لهنّ دون السجون ظاهر، فان التستّر عليهنّ في مثل الشروط ألزم حتي يَجْعَلَ اللّٰهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، و سبيل المسجون لذنبه توجيهه الي طريق الخير و السلامة عن الذنب الذي سجن به، فان كانت غير محصنة فتزويجها و تحصينها و خلاصها عن افتقارها الطبيعي علي الطريق المشروع، و ان كانت محصّنة فتوبتها و عفو الحاكم اذا رأي مصلحة.

و ظاهر الفحشاء يعمّ الزنا و السحق إلّا أنه بعد بيان حكم الزنا صريحا- كما عرفت- نستظهر من المقام أن المراد السحق مؤيّدا بالسياق من التأنيث ثم التذكير المختص بالرجال، و بعبارة أخري بعد ذكر الانحراف في الزنا الحاصل بهما، و اللواط بالرجل مع الرجل، فتعود الفاحشة في المقام الي السحق «1»، و بما ذكرنا يناسب السبيل في آخر الآية المباركة ما عرفت في صدرها فلا يلزم النسخ و سائر التكلّفات، و يساعد الحكم الموضوع و إن كان الزنا و الاستمناء و غيرهما … فاحشة أيضا لغة و من وراء ما أحل اللّه و من ابتغاه فهو من العادين «2».

______________________________

(1)- الراجع الي المرأة مع المرأة.

(2)- راجع آيات أول سورة «المؤمنون».

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 311

و الفطرة الحاكمة بجواز استمتاع كل من الرجل و المرأة بالآخر تحكم بالضبط تحفّظا علي النسب الذي هو الغاية المنشودة و الحقيقية عن تلك الغريزة من بقاء النوع و حفظ النسب علي الشرف و الكرامة، و

قد بيّن الشرع ذلك كلّه، و أرشد إليه، فأحلّ النكاح و الزواج، و حرّم الزنا و السفاح.

حدّ اللواط

السابعة: قوله تعالي:

وَ الَّذٰانِ يَأْتِيٰانِهٰا مِنْكُمْ فَآذُوهُمٰا فَإِنْ تٰابٰا وَ أَصْلَحٰا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمٰا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ تَوّٰاباً رَحِيماً. (النساء [4] الآية 166)

الظاهر ان المراد من الموصول علي صيغة التثنية تذكيرا: الرجلان اللذان ارتكبا الفاحشة القبيحة التي كانت في قوم لوط، و ان كان لغة يعمّ رجلين أو امرأتين أو رجل و امرأة تغليبا أو كناية، إلّا أنه في السياق المذكور قبله حكم امرأتين من الحبس و الامساك في البيت علي ما عرفت مع ملاحظة حكم رجل و امرأة في آية الزنا يختصّ برجلين و فاحشتهما اللواط لاشتراكهما فيها بالالتصاق دون اقتراف كل فاحشة حتي تشمل الاستمناء أيضا.

و علي الحاكم بعد الثبوت إيذاؤهما بما يري مصلحة دون القتل، فانّه لا يعدّ من مراتب الايذاء عرفا، فلا بدّ لقتلهما من دليل آخر، كما في صحاح الروايات علي التفصيل المذكور في محله، و إن تابا و أصلحا أنفسهما فلا تتعرّضوا لهما إنّ الله كان توّابا رحيما، و الظاهر ان ذلك قبل الثبوت لدي الحاكم.

و من المعلوم ان الحدود المذكورة لتلك الانحرافات تكون لغير المكره عليه، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ (البقرة [2] الآية 173) بعد ظهور عناوين الزانية و الزاني و الآتي بالفحشاء في حال الاختيار.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 312

حدّ الرمي

الثامنة: قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ. (النور [24] الآية 4)

تحكم الآية الكريمة وجوبا علي الذين يرمون المحصنات بالفاحشة و يقذفونهنّ، ثم لم يثبتوا ذلك بأربعة شهداء، بأنه يجب جلدهم ثمانين جلدة، و انهم فاسقون، لا تقبل شهادتهم أبدا بارتكابهم الذنب العظيم إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ

الْمُحْصَنٰاتِ الْغٰافِلٰاتِ الْمُؤْمِنٰاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ (النور [24] الآية 23).

ثم انك بالتأمّل في لسان الآيات و تشديد الحكم تري اهتمام الشرع المقدّس بحيثية المجتمع الاسلامي و عنايته بعلو مقامه و كرامة شرفه، و ان الذنب الصادر عن البعض أحيانا لا بدّ و أن يكون مستورا منكرا لا يعرفه غيره فيتوب بنفسه الي الله تعالي و يستغفره، و ليس لأحد أن يستطلع غيره، و يستظهر زوايا معيشته، و لو اطّلع علي فاحشة من الغير اتفاقا ليس له أن يتفوّه بها عند الآخرين، و عليه التستّر مع منعه و نهيه عنها علي خفاء، كما ليس للمذنب نفسه ذلك حتي لا تشيع الفاحشة، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ (النور [24] الآية 19).

و من المعلوم أن الاطّلاع علي الفحشاء و ترديد ذكرها يستصغر الأمر و يستدرج الي ارتكابها، فتشيع، و يتوسّع نطاق الانحراف، كما هو كذلك في زماننا بأيدي الأجانب «1» و حكّام الجور العاملين و سلطانهم علي مختلف شئون المسلمين الذين يعاندون الدين، و يحاربون الله و رسوله، و ينتحلون الي الاسلام، و يعدون

______________________________

(1)- كان ذلك قبل نجاح الثورة الاسلامية و تحقق الجمهورية الاسلامية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 313

أنفسهم من أسلم المسلمين، عليهم لعنة الله و خذلانه، و قطع الله أيديهم عن البلاد …

و كيف كان، فالقاذف إن أثبت بالشهادة يحدّ المقذوف بحدّه، و إلا فالرامي، و يحكم بفسقه حفظا لكرامة الامة و شرف المجتمع، و حيث قل ما يتمكّن من اثبات مثل هذه الامور بأربعة شهداء، يجتنب عنه فيتوب المذنب في خفاء.

التاسعة: قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوٰاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ

لَهُمْ شُهَدٰاءُ إِلّٰا أَنْفُسُهُمْ فَشَهٰادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهٰادٰاتٍ بِاللّٰهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّٰادِقِينَ وَ الْخٰامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللّٰهِ عَلَيْهِ إِنْ كٰانَ مِنَ الْكٰاذِبِينَ وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذٰابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهٰادٰاتٍ بِاللّٰهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكٰاذِبِينَ وَ الْخٰامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللّٰهِ عَلَيْهٰا إِنْ كٰانَ مِنَ الصّٰادِقِينَ. (النور [24] الآية 6 الي 9)

الآيات المباركات تدلّ أيضا علي أن الأمر في التحفّظ علي سمو الامّة الاسلامية و شرفها، و التستّر علي العيوب و الذنوب علي هذه الشدّة و الأهمية يكون حتي في الأسرة و العائلة، و لا سيما بين الزوج و الزوجة، فليس لأحدهما قذف الآخر بكل ما يتوهّم أو يظنّ، وَ لَوْ لٰا فَضْلُ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوٰاهِكُمْ مٰا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللّٰهِ عَظِيمٌ (النور [24] الآية 14 و 15)، فليس للزوج قذف زوجته و رميها بالفحشاء من السحق أو الزنا أو نفي الولد بعنوان إثبات الزنا دون المجمل أو مع احتمال جذب الماء أو الوطء شبهة.

و مع ذلك كلّه، لو قذف فعليه الاثبات بأربعة شهداء، و لها الجرح حتي يتمّ القضاء، و يحكم عليها بالحدّ، و إلّا فان لم يكن للزوج شاهد إلّا نفسه، فعليه اللعان فرارا عن حدّ القذف، بأن يشهد الله علي صدقه أربع مرات، و الخامسة ان لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، و أيّ مؤمن يعترف بالله و اليوم الآخر ثم يشتري لعنة الله

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 314

علي نفسه فرارا عن عذاب قليل في الدنيا، و للزوجة أن تدرأ العذاب و الحدّ بأن تشهد الله علي كذب زوجها

أربع مرات، و الخامسة ان غضب الله عليها إن كان زوجها من الصادقين، و أيّة خاطئة تؤمن بالله و اليوم الآخر تشتري غضب الله لنفسها دفعا لعذاب الدنيا؟

و الحاصل انّه بعد القذف، إن لم يشهد بأربع شهادات و لم يلعن، يحدّ بقذفه ثمانين جلدة، و لا تقبل شهادته، و ان شهد بأربع غير مجروح تحدّ الزوجة حدّها، و أما إن لم يكن له شاهد إلّا نفسه فاللعان بوجه عرفته، فان لاعن الزوج دون الزوجة تحدّ حدّها أيضا، و إن لاعنت أيضا يدرأ عنها العذاب، و لا حدّ علي أحدهما، و لكن كيف يمكن أن يبقيا علي ما كانا عليه من الزوجية بعد تلك المطاردة و الملاعنة، و كيف يتصوّر استقرار الصفاء و الوداد بينهما، و كلّ منهما يكذّب الآخر علي تلك الشدّة في مثل أمر هو أساس مسألة الزوجية، فكأنه بنفس تلك المطاردة تنقطع عنهما العلاقة الزوجية من دون طلاق و لا حكم حاكم، كما صرّحت به السنّة المباركة، و لم يذكر في الآيات ما يعطي ذلك، و لكن يستظهر منها حسب الاعتبار اعتمادا علي السنّة الشريفة، و لولاها ما تجرأنا، و لقلنا بلزوم الطلاق أيضا، كما لا يبعد احتياطا، كما ان الاعتبار يقتضي الحرمة الأبدية، و السنّة المباركة بحمد اللّه قد بيّنت الأمر.

و أنت تعلم أن الآيات بسياقها راجعة الي قذف المرء زوجته بالزنا و لو بنفيه الولد، اذا أراد به ذلك. و أما نفيه مع احتمال جذب الماء أو الوطء بشبهة فالظاهر انصراف الآيات عنه، و لا لعان، كما ان الظاهر انصراف اطلاق كلمات الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) الي ذلك، أي إرادة الزنا من نفي الولد، فلا يتمّ ما ذكروه مطلقا.

و أما ذكرهم

اللعان عقيب الطلاق و الظهار بلحاظ الأثر، أي الانفصال بلا طلاق فلا يخلو عن شي ء فان ذلك ممّا يترتب عليه، و هو من لواحق الرمي و توابع الحدود، كما عرفت و الحمد للّه ربّ العالمين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 315

خلاصة البحث

الأول: من قتل نفسا خطأ، فعليه تحرير رقبة مؤمنة كفّارة للقتل، و عليه أيضا أداء الدية الي ورثة المقتول أداء لحقهم.

الثاني: لا دية فيما اذا كان المقتول مؤمنا و قد قتل خطأ و انه من قوم عدوّ للمسلمين أي من الكفّار و المشركين، فيكفي عندئذ تحرير رقبة كفارة له، فان اداء الدية الي غير المسلم لا وجه له.

الثالث: الدية هذه علي العاقلة من أقرباء القاتل، و عليه الكفّارة.

الرابع: من لم يجد رقبة للتحرير أو مالا للدية فعليه صيام شهرين متتابعين.

الخامس: من حارب الله و رسوله أي حارب و ناهض دين الله و شريعته، يقتل بحكم الحاكم الشرعي أو يصلب أو تقطع يده و رجله من خلاف و يترك حتي يموت «1»، أو ينفي من الأرض علي اختلاف مراتب محاربته سواء كانت بواسطة السيف أو الرمح أو البندقية أو المتفجّرات من الآلات الحربية النارية أو بواسطة القلم أو الخطابة أو الاذاعة أو النشر أو غيرها مع صدق المحاربة «2»، كل ذلك قبل توبته.

السادس: السارق و السارقة لمال مضبوط تقطع يداهما اليمني من الأصابع، و مع التكرار بعده فباختيار الحاكم في أن تقطع رجله أو يسجن أو يقتل.

السابع: لا حدّ في سرقة الأب من ابنه و العبد من مولاه و الغانم من مال الغنيمة و الشريك من شريكه فانه ليس بسرقة موضوعا.

الثامن: الزاني و الزانية بعد ثبوت زناهما يجلد كل واحد منهما مائة جلدة اذا كان الزاني

شابّا عزبا، و في المحصن الرجم مع الجلد أو بدونه، و مع التعذيب أو بدونه علي ضوء السنّة الشريفة، وَ اللّٰاتِي يَأْتِينَ بفاحشة المساحقة فلا بدّ من حبسهنّ

______________________________

(1)- من المعلوم ان الصّلب و قطع اليد و الرجل من خلاف قسيم القتل و ليس يراد بهما القتل سواء انتهي الي موته أو لا، و لذلك لا بدّ من فكه من الصلب بعد ثلاثة أيام و تركه لو كان حيا و كذلك القطع.

(2)- كما إذ كان من منظمة محاربة مثل منظمة المنافقين المحاربة لنظام الجمهورية الاسلامية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 316

و إمساكهنّ في البيوت حتي يمتن أو يتزوّجن حتي يحصن حسبما يراه الحاكم صلاحا. و اللذان يأتيان بفاحشة اللواط، علي الحاكم ايذاؤهما و تعزيرهما و ما يراه مصلحة الي القتل عند اجتماع الشرائط علي ضوء السنّة.

التاسع: الذين يرمون المحصنات المؤمنات الغافلات بفاحشة الزنا ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يجب أن يجلدوا ثمانين جلدة و لا تقبل شهادتهم أبدا لفسقهم هذا.

العاشر: من رمي زوجته بالزنا و لو بنفي الولد بقصده دون احتمال جذب الماء أو الوطي بشبهة فان أثبت ذلك لدي الحاكم بأربعة شهداء تحدّ زوجته حدّها و إلّا فعليه اللعان و حدّ حدّ القذف، و ان لاعن يدرأ عنه ذلك. و للزوجة أن تلاعن دفعا للحدّ عليها، فان لاعنت ينفصل كل عن الآخر من غير طلاق اعتبارا من الكتاب العزيز و تحريما أبدا أيضا علي ضوء السنّة المباركة في المقام.

الحادي عشر: إجراء حدود اللّه تعالي بين عباده بيد وليّه الامام المعصوم (عليه السّلام) أو من ينوب عنه نيابة خاصة أو عامة من الفقهاء الذين بيدهم مجاري الامور، و علي العدول بل المسلمين كفاية حال قبض اليد لئلا

تتعطل حدود اللّه تعالي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 317

كتاب القصاص

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 319

القصاص

القصاص علي وزن فعال من قصّ أي تتبّع الأمر و الخبر، ثم استعمل في تتبّعه الجرح و الدم، و يترتب عليه من المعاملة بالمثل من القتل و القطع و في جبر كل ضرر حتي في قصاص المال و تقاصّه.

و من المعلوم انّه لو لم يجازي الظالم في المجتمع فستنفعل الامّة بالظلم شيئا فشيئا حتي تضعف و تذلّ بتسلّط الجائر الظالم فتموت. و بالمجازاة المتناسبة يتعادل المجتمع و يحتفظ بحياته فتحيا الأمّة به و تقوم علي صلبه. و ذلك معني قوله تعالي:

وَ لَكُمْ فِي الْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ يٰا أُولِي الْأَلْبٰابِ. (البقرة [2] الآية 179)

كيفية القصاص

و في الكتاب آيات:

الأولي: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصٰاصُ فِي الْقَتْليٰ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثيٰ بِالْأُنْثيٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّبٰاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَدٰاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسٰانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَديٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذٰابٌ أَلِيمٌ.

(البقرة [2] الآية 178)

الآية المباركة توجب أصل القصاص علي لسان ايجاب الأركان و الأعمدة «1»،

______________________________

(1)- قال تعالي: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (البقرة [2] 183)، و قال: إِنَّ الصَّلٰاةَ كٰانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً (النساء [4] 103).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 320

فان الكتابة كناية أبلغ من الأمر و الايجاب، و المعني أن ذلك مقضي محتوم مكتوب من قبل لا يختلّ بشي ء.

ثم بعد بيان استحكام ذلك المشروع علي الاجمال تفصّل الأمر بأنّه لا بدّ من مراعاة التعادل في القتلي علي الكمال: الحرّ بالحرّ، و العبد بالعبد، و الأنثي بالأنثي، و الذكر بالذكر، بل و الحرّ بالعبد، و الذكر بالأنثي، بمعني عدم الفرق و نفي الامتياز بين النفوس، فكلّ من

قتل نفسا بغير حقّ يقتل قصاصا سواء كان القاتل حرا أو عبدا ذكرا أو أنثي، و كذلك المقتول فان النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، و المسلمون تتكافأ دماؤهم، و ذكر المذكورات ردّ علي التفاضل المتوهّم الذي لا مفهوم له.

و من المعلوم ان ذلك في مجتمع المسلمين و عدم وجود التفاضل بينهم، امّا التفاضل بالاسلام علي الكفر فهو أمر يحقّق علي التفصيل في محله و لا بدّ من التساوي في الدين من الاسلام و غيره.

كذلك نستظهر من الآية الكريمة و نفهم أنّها بصدد بيان المساواة بين النفوس البشرية، علي خلاف ما ذكره الأصحاب (رضوان اللّه تعالي عليهم) من عدم القصاص عند الاختلاف بالحرية فقط، و انه لا يقتل الحرّ بالعبد مع قولهم بقتل الذكر بالأنثي، و السياق واحد، فلزمهم توجيهات بعيدة حتي خرجت الآية المباركة عن مفهومها مع صراحتها في التشريع، و أنّها في مقامه، و أضعفها تخصيص الآية بواقعة خاصة من موردها، و أشدّ ضعفا النسخ بقوله تعالي: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ … كما أشار إليها صاحب الكنز (رحمه اللّه) مع انه لا يتم البحث أيضا في الحرّ و العبد كما لا يتمّ جواب صاحب الكنز أيضا من أن الناسخ مكتوب في التوراة فلا يكون ناسخا، فان لسان النقل يعلن بيان المشروع الباقي في الاسلام أيضا و نقل في القرآن بذلك الملاك.

و لا ينافي ما استظهرناه لزوم ردّ نصف الدية بعد قتل الرجل القاتل للمرأة الي وليّ المقتول قصاصا، كما لا ينافي عدم قصاص رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من المولي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 321

الذي قتل عبده، فان لوليّ الدم العفو كما سيأتي، و هو (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بنفسه وليّه، بل

لا ينافي في الحكم بعدم قتل الحرّ بالعبد مطلقا بالسنّة القطعية، و إن بعد ذلك مع اعتياد المولي.

و يؤيد ما ذكرنا قوله (عليه السّلام): «لا يقتل حرّ بعبد، و لكن يضرب ضربا شديدا و يغرم ثمنه دية العبد» (الكافي ج 7 ص 304 ح 1) بعد قراءة أبي بصير لأحدهما (عليهما السّلام) قول اللّه (عزّ و جلّ): كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصٰاصُ فِي الْقَتْليٰ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثيٰ بِالْأُنْثيٰ فانه لو كان ظاهر الآية كما ذكروه لم يكن الي البيان افتقار، فانه بنفسه مفاد الآية و توضيح الواضح لا يناسب الامام (عليه السّلام). فهو لبيان تخصيص المفاد بغير الحرّ و العبد، و تعيين الدية فيهما، اذا كان القاتل حرّا فيضرب علي حدّ من الشدّة يمنعه عن ذلك إن كان مولاه، فان ديته من ماله، و هو أتلفه و يغرم إن كان غيره دية بدل القصاص، و ذلك لا يفيد الاطلاق حتي مع الاعتياد و عدم المنع.

و الحاصل انّه لا بدّ من حفظ ظهور الآية في جميع الفقرات و التخصيص في الحرّ القاتل للعبد بالدية دون القصاص من طرفي الحكم بالسنّة القطعية، فتأمّل.

و مع ذلك كلّه: وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً … (الأسراء [17] الآية 33) فله أن يقتصّ من القاتل، كما له أن يعفو عنه، و لكن من عفي له من أخيه المؤمن الذي هو وليّ دم المقتول، فعليه الاتباع بالمعروف و الإحسان الي ورثته باداء المتعارف دية و غرامة، دون أن يأخذ نفسه معفوا مجانا و بلا عوض، و ذلك الخيار بين القصاص و الغرامة المجعول لوليّ الدم تخفيف و رحمة من اللّه عليكم، و من اعتدي بعد ذلك فله

عذاب أليم. و ظاهر ذلك عدم لزوم نظارة وليّ المسلمين و امامهم عليه، خلافا لما جاء عن الطبرسي في المجمع و الشيخ في المبسوط و العلّامة في القواعد، مع عدم اشتراط الآخرين في سائر كتبهم. نعم يمكن القول بذلك حفظا لنظام الأمّة و منعا عن الهرج و المرج.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 322

المقابلة بالمثل أو العفو

الثانية: قوله تعالي:

وَ كَتَبْنٰا عَلَيْهِمْ فِيهٰا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصٰاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّٰارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ. (المائدة [5] الآية 45)

تحكي الآية الكريمة حكم القصاص المكتوب في التوراة التي فيها هدي و نور و التي يحكم بها النبيّون الذين أسلموا في القتلي بأن النَّفْسَ بِالنَّفْسِ مطلقا من غير تفصيل فيها بين المزايا المتوهّمة من الرئاسة و الشرف و غيرهما، و في الأعضاء العين بالعين واحدا و متعددا، و الأنف بالأنف، و الأذن بالأذن، و السنّ بالسنّ مع مراعاة العدد، و كذلك الجروح فيها قصاص مع مراعاة المقدار، و من تصدّق به فهو كفّارة له.

و كذلك من عفي عنه من أداء الكفارة و الدية أو بدونه، فان العفو و التكفير في الجروح بل في القتلي مع عدم اعتداء من ظلم أولا بأداء المعروف و الاحسان و التصدّق أي الدية يوجب الرأفة و الرحمة بين الأفراد، و تقارب بعضهم مع بعض، و تعزيز علاقاتهم بالامتنان من بعض علي بعض، كما أشارت إليه الآية المباركة السابقة. و لذلك كانت الدية علي العاقلة أي أقربائه كما في السنّة الشريفة، كما ان القصاص يوجب تنبّه و ردع الظالم و منعه عن الاعتداء و تقليل

الفساد، فالحياة.

فقد روعي في المشروع- كما تري- جميع الجوانب و الأطراف، و الآية بقيودها في الصدر تكون بيانا للمشروع لا نقلا و حكاية فقط، و إن شئت قلت إنشاء بلسان الإخبار أو استصحاب لما ثبت.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 323

الكيفية و الزمان في القصاص

الثالثة: قوله تعالي:

الشَّهْرُ الْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ الْحَرٰامِ وَ الْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.

(البقرة [2] الآية 194)

الآية المباركة كما تري خلال آيات الجهاد و مقاتلة أعداء الدين تراها تتعرّض بالمناسبة لمسألة القصاص فيما اذا اعتدي الخصم و لم يراع حرمة الشهر الحرام، فيجوز القتال فيه (الشهر بالشهر)، ثم تقضي علي الأمر ببيان قاعدة كلية تستغرق كل مقام، و هي عندنا من أعرق الأسس التي تحفظ بها الأمة و استقلالها بل كيانها ثم رقيّها و تكاملها في كل عصر و زمان، و هي عدم الاستسلام مقابل أيّ ظلم و اعتداء، و لزوم مكافحة الظالم و مواجهة المعتدي و مدافعته، حتي يرتدع. و ما يفعل في طريق ذلك عقلائيا حق و عدل يستحقه كل ذي حياة و رمق، فكيف بانسان و أمّة اسلامية، و هي خير أمّة أخرجت للناس، و ليس ذلك باعتداء، و انما أطلق عليه للمقابلة، و القاعدة العريقة الواسعة قوله تعالي: فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ ردّا عليه و منعا لاعتدائه من غير نقيصة، حتي يكون انطلاقا و قبولا للاعتداء و لو في الجملة و من غير زيادة، لئلا يكون اعتداء عليه فيها، فاتقوا الله تعالي من الاعتداء بالزيادة باسم القصاص و التقابل، و اعلموا أن الله مع المتقين الذين لا يعتدون و لا يتحمّلون الاعتداء، فان

جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا «1»، وَ إِنْ عٰاقَبْتُمْ فَعٰاقِبُوا بِمِثْلِ مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ «2»، و بذلك يتحقق المطلوب و الغرض الأصلي من القصاص و هو العدل الاجتماعي الساري في تمام شئون الأمة و مختلف جوانبها.

______________________________

(1)- الشوري [42] الآية 40.

(2)- النحل [16] الآية 126.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 324

و كل أمة لم تتعرّض لذلك، و لم تلتزم به (القصاص)، فهي مظلومة محكوم عليها، مسروقة حقوقها المشروعة علنا و علي رءوس الأشهاد- كما مرّ- «1».

القتل بلا قصاص

الرابعة: قوله تعالي:

مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنٰا عَليٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسٰادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمٰا قَتَلَ النّٰاسَ جَمِيعاً … (المائدة [5] الآية 32)

الآية المباركة- كما تري- جاءت بعد بيان نبأ ابني آدم إذ قرّبا قربانا (القصة)، و قبل بيان حدّ المحارب المفسد في الأرض، فتقصّ أنّه مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنٰا عَليٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ تشريعيا ان من قتل نفسا بغير نفس فهو في العصيان و الذنب كمن قتل الناس جميعا، دون ما اذا كان بنفس، بأن قتل قاتلا، فلا بأس؛ لأن ذلك حق مشروع فالتقيّد يفيد المطلوب مع ما في الآيات السابقة من الكفاية، فان نقل مثل ذلك في مثل السياق لا يساعد بيان حكم التقصيص إلّا تبعا بالاشارة إليه علي وجه التسلّم و الفراغ كما هو ظاهر.

و من المعلوم أن ظاهر الآيات اختصاص الحكم بالعامد دون الخاطئ كما سيأتي التصريح به في موضوع الحدود إن شاء الله، و العمد دائر مدار الصدق العرفي حسب الآلة و القصد و المباشرة و غيرها.

______________________________

(1)- قد أشرنا إليه في كتاب الجهاد.-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 325

خلاصة البحث

1- من قتل نفسا متعمدا بغير نفس يقتل نفسا بنفس.

2- لو قتل رجل امرأة يقتل و يردّ نصف الدية الي ورثة المقتول قصاصا.

3- وليّ دم المقتول ظلما له السلطة علي نفس القاتل إن شاء قتله قصاصا، و إن شاء عفا عنه من غير أخذ شي ء، أو معه دية بالمتعارف، و علي المعفوّ عنه اداء شي ء إحسانا من غير أخذ نفسه مجانا.

4- إن القصاص في الأطراف (الأعضاء) العين بالعين و الأذن بالأذن و الأنف بالأنف و هكذا و الجروح قصاص.

5- يجوز التصدّق علي من عليه القصاص في النفس و

الطرف و الجرح بالعفو ممن له ذلك و هو الوليّ في النفس، و نفسه في الأطراف و الجروح.

6- لا بدّ من دفع كل ظالم بعين ما ظلم، جزاء سيئة سيئة مثلها، فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ.

الي هنا تمّ كتاب القصاص و يتلوه كتاب القضاء و الشهادات إن شاء اللّه تعالي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 327

كتاب القضاء و الشهادات

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 329

القضاء و الشهادات

المقدمة:

من المعلوم ان الانسان بما هو اجتماعي مدني يحتاج بطبعه الي أخذ و عطاء، و الي بيع و شراء، أو بالأحري فهو يحتاج الي تبادل و تعامل في أمواله و ثرواته بينه و بين بني نوعه، فهو يفتقر الي محاكم قضائية شرعية لحفظ الحدود و الحقوق و فصل الخصومات، و يرفع بها ما يبدو له من مشاحنات و مشاجرات … و بهذا تعتدل حياته و حياة غيره.

فالحاكم أو الحكم هو محور و مدار المحكمة القضائية و الحكم أيضا حيث ان حكومته و حكمه قسم من الولاية و جزء من الحكومة العامة، و بهذا تتوقف علي وجوده الحياة الاجتماعية سواء كان في المجتمعات الاسلامية أو غير الاسلامية و بأية صورة و كيفية كانت. و الاسلام الحنيف الذي هو آخر شريعة سماوية سمحاء الي يوم القيامة قد أمضي أصوله الكلية، و ردع عن الانحراف عنه، و هو محفوظ بحفظ اللّه عن أيّ انحراف و اعوجاج: إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلٰامُ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 330

الفصل الأول: الحكم بالعدل

ما يرتبط بالحكم، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِليٰ أَهْلِهٰا وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّٰهَ نِعِمّٰا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ سَمِيعاً بَصِيراً.

(النساء [4] الآية 58)

تخبر الآية الكريمة عن أمر الله تعالي و حكمه بأمرين لكل منهما أثر خطير في حياة المجتمع:

الأول: أداء الامانات الي أهلها، و هذا موجب لتحكيم روابط الأفراد بعضهم مع بعض و توثيق الاعتماد بينهم بأقوي مراتبه الذي هو من أهم أركان الحياة و أهنئها.

الثاني: الحكم بالعدل في المحاكم عند فصل الخصومات حتي يري و يلمس كل فرد ان حقه

مصون محفوظ.

ثم توصي الآية المباركة برعاية هذين الأمرين و الاتعاظ بهما نعم الوعظ، يعظكم اللّه به إنّه هو السميع لحكمكم بالعدل أو الظلم، و هو البصير العليم بردّ الامانات الي أهلها. و من المعلوم ان إفادة الوجوب بالاخبار أصرح من الأمر.

الثانية- قوله تعالي:

إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ وَ لٰا تَكُنْ لِلْخٰائِنِينَ خَصِيماً. (النساء [4] الآية 105)

تفيد الآية المباركة انّ من علل نزول الكتاب و الفرقان هو الحكم بين الناس بالحق و العدل مما بيّنه الله تعالي مرارا لنبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و أراه، لا ما تعارف عند بعض

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 331

الناس و عند المحاكم التي لا تحكم بما أنزل اللّه و لا سيّما في الدول التي تدّعي الاسلام، و الاسلام منهم براء، فهي تبتني محاكمها علي قوانين متهافتة أكثرها قائمة علي أمور باطلة و ظلم و خلاف كالتمييز بين الناس، و التحقير لفئة منهم دون فئة، لا لعلّة شرعية عقلائية بل لخصومات قومية نفسانية فردية و جماعية، و هذا ما ينافي الاصول و الحقوق الانسانية، و الشرائع الربانية، فلا بدّ إذن من أن يكون الحكم بالحق و العدل أي بما أنزل اللّه تعالي علي نبيه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم).

الثالثة- قوله تعالي:

… سَمّٰاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جٰاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْرٰاةُ فِيهٰا حُكْمُ اللّٰهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ مٰا أُولٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. (المائدة [5] الآية 42- 43)

الآيتان المباركتان توحيان بأن اللّه تعالي قد خيّر نبيّه

(صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في أن يقبل التحكيم و يتصدّي للحكم بين أهل الكتاب إذا جاءوا و رجعوا إليه، أو أن يعرض عنهم من غير أن يضرّه شي ء من ناحيتهم حتي يرعي جانبهم في القبول. نعم إن اختار الحكم، لا بدّ و أن يحكم بالقسط بينهم، فان اللّه يحبّ المقسطين، فان أعرضوا و تولّوا عن حكم اللّه فالحق موجود في كتابهم الذي يجعلونه وراء ظهورهم، فكيف بهم إذا حكمت بينهم بما لديك من القرآن الحكيم و بما أراك اللّه تعالي فيه من الحكم و فصل الخصومات.

و قوم هذه شيمتهم ما هم بمؤمنين، كيف إذن يحكّمونك و يرضون برأيك، و هو الحقّ و العدل، و عندهم كتابهم الذي فيه حكم اللّه، أو ما أراك اللّه في كتابك، ثم يتولّون و يعرضون، و كيف ما كان، عليك الحكم بالعدل فيهم.

فاذا أمر اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أن يحكم بين أهل الكتاب بالقسط، فالحكم بالقسط بين المسلمين أوضح و أوجب، فعلي كل حاكم إذن أن يحكم بين الناس

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 332

بالقسط و لا سيما حكّام المسلمين فيما بينهم.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النّٰاسِ لَفٰاسِقُونَ. (المائدة [5] الآية 49)

قد أمر اللّه تعالي نبيّه في هذه الآية المباركة بالحكم بين الناس بالحقّ، و بما أنزل اللّه، و التحرّز عن اتّباع أهواء أهل الكتاب، و مراعاة ميولهم جذبا لهم الي الدين، و الاحتراز عن افتتان الناس في جانب الحق

بالتظاهر الموجب للانحراف عن العدل في الحكم، ثم ان ذلك من مهام آثار الرسالة و أعظم أغراض الهداية، فان الحكم بالحق و بما أنزل اللّه من أقوي أركان حياة المجتمع الانساني، و أبقي و أدوم لحياة الانسان علي الصفاء و الهناء، بحيث كلّما انحرفت أحكام المحاكم و قضاء القضاة عن القسط و العدل بأيّ سبب كان، كتنفيذ رغبات و طلبات ذوي الثروات و الأموال أو الخوف من ذوي السلطة و المناصب، انحرف بنسبته استقلال الحاكم و المحكمة، فتنحرف عندئذ الحياة الانسانية و العدالة الاجتماعية عن المجري الحقيقي، و تضيق المعيشة بأهلها كما هو في أكثر البلاد و الأقطار الشرقية و الغربية، حيث صارت المحاكم وسيلة في أيدي السلطات الحاكمة، و آلة للمكر و الحيلة و التظاهر بالمشروعية في العزل و النصب، و في الاعدام و السّجن و الإقصاء و سائر الجنايات الاخري بأنها مشروعة قانونية، بينما الشرع و القانون منها براء، أعاذنا اللّه من شرور أنفسنا و فتن الزمان.

فان تولّي القضاة عن الحق و العدل، و حكموا بغير ما أنزل اللّه، فانه سيصيبهم ببعض ذنوبهم، و ان أكثر الناس لفاسقون، و قد حكم شريح القاضي (لعنه اللّه) بما حكمت نفسه و قريحته، و ضلّ من ضلّ بواسطته و وقع ما وقع.

و الحاصل: ان الآية الكريمة تفيد وجوب الحكم بما أنزل اللّه من الحق

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 333

و العدل، و التحرّز عن افتتان الناس، لئلا يشتبه الأمر، فيحكم باسم العدل ظلما، و بصورة الحق باطلا، فتضلّ الناس و تنحرف- أعاذنا اللّه من شرور النفس.

و الظاهر: إن الاطلاق في قوله تعالي: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أو: بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ مع قوله تعالي: وَ عِنْدَهُمُ التَّوْرٰاةُ فِيهٰا حُكْمُ

اللّٰهِ يفيد جواز حكم الحاكم الاسلامي بين أهل الكتاب بكتابهم، أو بما في الاسلام، و كلاهما قسط و عدل، و حكم بما أنزل اللّه، بعد ملاحظة عدم نفوذ التحريف الوارد في كتبهم في الحكم، و ان لم يساعد ذلك بعض الجزئيات في قضاء الاسلام. و إذا كانت التوراة فيها حكم اللّه تعالي، فكذلك الإنجيل لصراحة القرآن الكريم في تساوي الحكم و الحاكم في الكتب السماوية، قال تعالي: إِنّٰا أَنْزَلْنَا التَّوْرٰاةَ فِيهٰا هُديً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هٰادُوا وَ الرَّبّٰانِيُّونَ وَ الْأَحْبٰارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتٰابِ اللّٰهِ وَ كٰانُوا عَلَيْهِ شُهَدٰاءَ فَلٰا تَخْشَوُا النّٰاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لٰا تَشْتَرُوا بِآيٰاتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ* وَ كَتَبْنٰا عَلَيْهِمْ فِيهٰا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ … (الي قوله تعالي): وَ قَفَّيْنٰا عَليٰ آثٰارِهِمْ بِعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرٰاةِ وَ آتَيْنٰاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُديً وَ نُورٌ … وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ* وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ …

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ … (المائدة [5] الآيات 44- 48) «1»

و يستفاد من الآيات المباركة أن ما أنزل اللّه تعالي الي موسي و عيسي و نبيّنا محمد (عليه و علي آله و عليهم الصلاة و السلام) في كتبهم إنما هو نور و هدي ليحكموا به و هو الحكم بما أنزل اللّه مع صراحة تساوي بعض الحدود في كتبهم مثل: إن النَّفْسَ بِالنَّفْسِ،، فلا إشكال في جواز الحكم لأهل الكتاب بكتابهم.

______________________________

(1)- و الي ذلك يشير أيضا قوله تعالي: كٰانَ النّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً

فَبَعَثَ اللّٰهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ … (البقرة [5] الآية 213)، و ان كان ظاهر مورد الاختلاف غير المبحوث عنه لكن الاطلاق يشمله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 334

الفصل الثاني: من هو الحاكم؟

ما يتعلّق بالحاكم و أنّه من هو؟ و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا. (النساء [4] الآية 59)

تخاطب الآية الكريمة المؤمنين و تأمرهم بإطاعة اللّه و إطاعة رسوله و أولي الأمر، ثم تأمرهم بردّ المنازعات الي اللّه و رسوله، و ذلك خير لهم و أحسن تأويلا، و أكّدت بأن ذلك مقتضي الايمان و إن كان الحق عليهم، ذلك إن كانوا مؤمنين.

لا إشكال في دلالة الآية المباركة علي وجوب إطاعة اللّه تعالي إرشادا الي ما أفاده العقل، فلا بدّ من اتّباع أوامره تعالي من الصوم و الصلاة و غيرهما و النهي عن نواهيه، كما لا إشكال في دلالتها علي وجوب إطاعة الرسول أيضا علي نسق إطاعة اللّه تعالي، فلا بدّ من اتباع أوامره (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في الموضوعات و تطبيق العناوين الكلية علي المصاديق العرفية و تعيين الأوقات الشرعية و الأشخاص و نصب أمير و عزله، أو اختيار إمام و تعيينه، و أخذ الوجوه الشرعية (الزكوات و غيرها) و صرفها في مصارفها، و في كل ما يرجع الي الحاكم الشرعي في المجتمعات و الأمم، و كذلك الأمر في أولي الأمر فان ذلك معني صاحبي الأمر و زعامة الأمة فهم الذين بتنصيب النبي

(صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و تعيينه يتولّون هذا المقام الإلهي العلوي، فيجب عندئذ إطاعتهم فيما يجب إطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و هم الأئمة المعصومون المهديّون الاثنا عشر (عليهم الصلاة و السلام)، قال تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 335

مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. (الحشر [59] الآية 7)

و قال رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم):

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي …».

و الحاصل: إن ما يأتي به الرسول الكريم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و يحكم به يكون علي نوعين:

1) بما هو رسول من اللّه تعالي الي عباده فينبئ عنه تعالي و يحكي أحكامه لعباده و يبلّغها لهم، و ما علي الرسول إلّا البلاغ المبين، و إطاعته في المقام إطاعة اللّه تعالي.

2) بما هو وليّ و أمير من قبل اللّه تعالي علي عباده فيأمرهم و ينهاهم بما هو حاكم و وليّ و إطاعته حينئذ إطاعة اللّه تعالي.

فله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) مقامان: مقام الرسالة، و مقام الإمامة، يشير الي الأول قوله تعالي: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَي الْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ … (الفتح [48] الآية 29)، و قوله تعالي: مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اللّٰهِ وَ خٰاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كٰانَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (الأحزاب [33] الآية 6)، و قوله تعالي:

وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَي اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلٰالًا مُبِيناً (الأحزاب [33] الآية 36)، و غيرهما من الآيات.

و كما يجب

إطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في مقام رسالته الراجعة الي إطاعة اللّه تعالي، كذلك يجب إطاعته في مقام إمارته و حكومته و قضائه. و كما أن عصيان اللّه تعالي ضلال، فكذلك عصيان الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ضلال أيضا، و كما هو معلوم ان الرسالة تقبل الختام دون الزعامة و الامامة كما فصّلناه في مقامه و في كتاب الولاية و الحكومة.

فالآية الكريمة تدلّ بأوّلها علي لزوم قبول قضاء اللّه تعالي و رسوله و حكمهما مطلقا، و تدلّ بآخرها- علي سبيل ذكر الخاص بعد العام- و تصرّح بلزوم إرجاع

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 336

المنازعات الي اللّه تعالي و رسوله الكريم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم). و ليس لغيرهما تصدّي القضاء و رفع الخصومات، فلا يجوز الرجوع الي غيرهما كالطاغوت مثلا و قد أمروا أن يكفروا به، و ذلك مقتضي الايمان: فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا.

الثانية- قوله تعالي:

أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَي الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلٰالًا بَعِيداً. (النساء [4] الآية 60)

تنبئ الآية الكريمة عن تفكير الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اللّه تعالي الي أنبيائه مع أنهم يتحاكمون الي الطاغوت و يرجعون الي حكّام الجور و قضاة الظلم و قد أمروا أن يكفروا بهم فكيف يكونوا مؤمنين بالحق و بما أنزل اللّه علي رسله (عليهم السّلام) و هو الكفر بالطاغوت؟ إلّا أن الشيطان يريد أن يضلّهم و يبعدهم

عن الحق، فان الذين يرضون بقضاء الجور و يقبلون حكم الظلم، يتباعدون بالتدريج عن العدل الي حد إِذٰا قِيلَ لَهُمْ: تَعٰالَوْا إِليٰ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ من القسط في الحكم و الي الرسول الحاكم بينكم بما أراه اللّه تعالي من الحق يتولّون و يصدّون عن سبيل اللّه، فيجعلون أنفسهم وراءه فان أصيبوا بظلمهم هذا يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ إِنْ أَرَدْنٰا إِلّٰا إِحْسٰاناً وَ تَوْفِيقاً، أُولٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّٰهُ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً.

فالآية الكريمة- كما تراها- في سياقها تدلّ علي أن الحاكم هو اللّه تعالي و رسوله فقط دون الطغاة الذين يتجاوزون حدود اللّه تعالي و أحكامه من الجبابرة و الظلمة و قد أمر اللّه تعالي عباده أن يكفروا بهم و يستروا عليهم حتي يزولوا فيعدموا و يطهّر المجتمع من دنسهم كما هم معدمون في نظام التكوين بإرادة اللّه تعالي و حكمه إن شاء اللّه.

وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ الصّٰالِحُونَ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 337

و من لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون، الفاسقون، الكافرون، كما يدلّ علي المطلوب إطلاق قوله تعالي: وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَي اللّٰهِ … (الشوري [42] الآية 10)، و إطلاق النهي عن إطاعة المفسدين في قوله تعالي: وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ.

(الشعراء [26] الآية 151 و 152)

الثالثة- قوله تعالي:

فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰي يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. (النساء [4] الآية 65)

الآية الكريمة بعد ما صرّح قبلها بلزوم إطاعة الرسول بوجه مطلق في قوله تعالي:

وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلّٰا لِيُطٰاعَ بِإِذْنِ اللّٰهِ تؤكّد مع القسم بأن الذين آمنوا لم يؤمنوا كمال الايمان حتي يحكّموك فيما شجر بينهم و يرجعوا أليك في منازعاتهم دون غيرك، فان الذي لا يحكم إلّا بالحق هو أنت، فانك رسول أمين، و غيرك طاغوت متجاوز لحدود اللّه مراع لميوله، مفتتن بفتن الناس، و كذلك لم يتم ايمانهم حتي يرضوا بما حكمت لهم مما أراك اللّه تعالي و أنزل أليك، و لم يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت لهم أو عليهم علي أساس القسط و العدل، و يسلّموا تسليما كاملا.

و البيان آكد ما يمكن تثبيت الأمر به و ان الحاكم هو الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الحاكم بحكم اللّه تعالي فقط، و كذلك من يحكم بحكم الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ممّن تولّي بأمره (عليهم الصلاة و السلام) و نوّابهم و وكلاؤهم (رضوان اللّه عليهم)، و ليس للمؤمنين الرجوع الي غيرهم و لا لغيرهم للحكم بينهم، فانهم (الحكام الشرعيون) لا يحكمون إلّا بما أنزل اللّه، و غيرهم يحكم بغيره و لو أحيانا، و من لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون، الفاسقون، الكافرون، علي اختلاف المراتب.

الرابعة- قوله تعالي:

… وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 338

و في الاخري … هُمُ الظّٰالِمُونَ، و في الثالثة: … هُمُ الْفٰاسِقُونَ.

(المائدة [5] الآيات 44 و 45 و 47)

صراحة الآيات الكريمة في تعيين الحاكم و تعريفه أنّه هو الذي لا يقضي إلّا بقضاء اللّه تعالي، و أمره و حكمه قسط و عدل أنزلهما اللّه تعالي علي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و أراهما

إيّاه، فمن لم يحكم بما أنزل اللّه أي حكم بغيره- لا من لم يحكم بذلك أصلا- فقد اقترف ذنبا و ارتكب إثما مبينا، و بذلك فقد ظلم نفسه و فسق عن أمر ربّه، بل انه بتستّره هذا علي الحق قد كفر باللّه العادل الخبير العليم بالحق و بما جاء من عنده و بما حكم به و بكل شي ء أيضا.

و الحاصل: إن الحاكم القاضي قسمان:

حاكم يقضي بما أنزل اللّه من قسط و حق و بميزان فرقان حكيم.

و قاض يحكم بغير ذلك علي مقاييس الطغاة الخونة الفسّاق الظلمة- خذلهم اللّه- و من حكم بحكمهم فهو أيضا فاسق خئون بل هو كافر ظلوم حسب مراتب حكمه لو لم نقل به في كل حكم لم يوافق ما أنزل اللّه كائنا من كان، فلا بدّ من الكفر به، و من حذا حذوه، و هجرانهم جميعا و تركهم حتي يزولوا عن حياة المجتمع الانساني.

و الأول من القضاة هو الحاكم العادل اللائق للبقاء و للاستناد علي مسند القضاء و متكأ الحكم- كثّر اللّه أمثالهم و أيّدهم بنصره.

و الظاهر ان الاتكاء علي كلمة: بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ بكلّيتها في الآيات المباركة يدلّ علي أن القاضي لا بدّ و أن يكون علي حدّ من الفقه و شعور الحكم يتمكّن به من استخراج الفروع و حكم الحوادث من الأصول الثابتة، و تطبيق الكليات العالية علي المصاديق الدانية الواقعة الذي نعبّر عنه بالاجتهاد، يعني يشترط في القاضي أن يكون فقيها مجتهدا.

كما ان اشتراط العدالة ظاهر بطبعه فان غيره يقع في تفتين الناس و إحرافهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 339

سريعا و يميل بهم الميول و الاتجاهات المنحرفة فيحكم بغير ما أنزل اللّه و هو لا يشعر أحيانا لطول

المقدمات في الانحراف، و العدالة في القضاء تمنع عن ذلك كلّه، فيمكن استنباط اشتراط العدالة في القاضي من مفهوم: بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ أيضا، كما لا يبعد وضوحها من قوله تعالي: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (الحجرات [49] الآية 6).

و اما طيب المولد بعد الغضّ عن التأثيرات العريقة النسبية في التفكير و المستوي الثقافي من ناحية الجراثيم الأصلية المسمّاة ب «الجينات» و التي أثبتتها العلوم الحياتية اليوم باسم الوارثة و أشار إليها بل صرّح بها آيات كثيرة في أبواب شتي و لا سيما المربوطة بهذا الباب «1»، فلعلّه لما نشعر به و نستفيد منه من الحكم بما أنزل اللّه تعالي أيضا و حفظ الحدود الالهية و الحقوق الحقّة، هو أن من كان مولودا من نقض الحكم و محصولا من ابطال الحدّ الالهي و تضييع الحق، كيف يتصدّي لحفظ الحكم الشرعي و ضبط الحق الالهي و إجراء الحدّ مع تنفّر الطباع عمّن لم يطب مولده، و السنّة المباركة بحمد اللّه قد صرّحت بهذا الأمر و بيّنت الشروط فيه بوضوح.

و اشتراط الذكورة في القضاء مستفاد من تناسب الحكم و الموضوع مع التصريح بها في السنّة المباركة، و تفصيل الكلام لهذا الباب مبسوط في رسالتنا:

«أبحاث فقهية» باب القضاء.

______________________________

(1)- من كتاب النكاح لا سيما باب الرضاع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 340

الفصل الثالث: ما يتعلّق بالشهادات

اشارة

من المعلوم أن أول شي ء ينبثق التنازع منه و التخاصم هو الادعاء الذي يدّعيه شخص ما لأمر ما، و الانكار الذي ينكره شخص آخر، فيدّعي أحدهما تحقق شي ء و أحقيّته، و الآخر ينكره، فان أثبت المدّعي فلا شي ء، و إلا فالمنكر ينقلب مدّعيا لخلاف ما ادعاه الأول مع ضعف منكره الذي كان مدّعيا فيثبت أمره بأسهل مما كان علي

الأول إثباته مثل القسم فتنفصل الخصومة و يرتفع التنازع.

نعم ان ما لا يحتاج الي مئونة و تكلّف هو النفي و الانكار، و لكن الاثبات لا بدّ و ان يستند الي دليل و مثبت لأوله، و أقربه شهادة لمن حضر الواقعة و شهدها بعد كونه عادلا، لا يشهد عن زور و لا عن طمع و ميل، و من ذلك يعلم أن القضاء لا ينفكّ عن الشهادة غالبا، فاذا لم يتمكّن المدّعي عن الاشهاد و إراءة المستند أو إثبات ما يدّعيه ينتهي الأمر الي المنكر، و عليه الإشهاد أو اليمين بعد انقلابه الي مدّع خلاف الأول.

و ما ذكرناه أمر عقلائي، كان و لا يزال سائدا في جميع الأمم و الشعوب، و قد أمضي الشارع المقدّس أسسه الكلية و تصرّف في بعض جزئياته نفيا و إثباتا مثل تعدد الشاهد و عدم كفاية المرأة الواحدة في الشهادة، و سوف يبحث كلّه مفصّلا بعد القضاء و الشهادات إن شاء اللّه، و في الفصل آيات:

الشهادة في التجارة و الامانة

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِليٰ أَجَلٍ مُسَمًّي فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لٰا يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمٰا عَلَّمَهُ اللّٰهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَ لٰا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كٰانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 341

ضَعِيفاً أَوْ لٰا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا الْأُخْريٰ وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا وَ لٰا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِليٰ أَجَلِهِ ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّٰهِ

وَ أَقْوَمُ لِلشَّهٰادَةِ وَ أَدْنيٰ أَلّٰا تَرْتٰابُوا إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً حٰاضِرَةً تُدِيرُونَهٰا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَلّٰا تَكْتُبُوهٰا وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ وَ لٰا يُضَارَّ كٰاتِبٌ وَ لٰا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّٰهُ وَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ* وَ إِنْ كُنْتُمْ عَليٰ سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كٰاتِباً فَرِهٰانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمٰانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.

(البقرة [2] الآية 282 و 283)

تأمر الآيات الكريمة بتحكيم الأمور في المعاشرات و المعاملات التي لا تخلو عن استقراض و تداين لئلا ينتهي الأمر الي منازعة و مخاصمة، و إذا انتهي إليها كان الأمر في الحل و الفصل أسهل لتحكيمه و إحكامه من قبل ككتابة ما يتفق عليه و ايجاد الشاهد و غير ذلك.

فتأمر الآيات الكريمة بكتابة ما يقع بين الدائن و المدين من ناحية الأجل و العدالة من غير بخس في حق كل منهما و من غير سأم و ملل في كتابة كل صغيرة و كبيرة، فان ذلك أقسط و أقوم للعدل و الشهادة، و ليكن إملاء الكتابة علي الذي عليه الحق تحفّظا عليه كيف ما يشاء لسدّ ثغوره، و ان لم يستطع فليملل وليّه بالعدل، و أما إن لم يوجد كاتب أصلا فليس لهما التسامح في التداين و التعامل بل عليهما رهان مقبوضة، إلّا أن يأمن كل واحد بالآخر، فليؤدّ الذي ائتمن أمانته و ليتق اللّه ربه.

و بعد ذلك كلّه فليستشهدوا علي أمرهما هذا شهيدين من الرجال أو رجلا واحدا و امرأتين أو أربعة منهنّ فقط من العدول، أن

تضلّ إحداهنّ فتذكّرها الأخري، و لا كفاية في غيرهم من الشهود، كما لا تكفي شهادة امرأة واحدة عوضا عن شهادة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 342

رجل واحد، بل لا بدّ من شهادة امرأتين بدل شهادة رجل واحد أو أربعة بدل رجلين.

كل ذلك جار و ماض في التبايع و التداين اذا كان ذا أجل و مدة، أما اذا كانت تجارة حاضرة تدار من قبل أفراد فليس عليهم جناح أن لا يكتبوها و لا يستشهدوا عليها فان الحضور و الدوران يقطعان الأمر.

ثم ان الآيات الكريمة- كما عرفتها- لا تستند إلا علي أمر واحد و هو تحكيم الأمور في المعاملات علي وجه تقلّ فيه المنازعات و تحلّ فيه الخصومات، و كل ذلك بأمور عقلية أرشد إليها الشارع المقدّس مع تصرّف في بعضها مثل الشاهد.

و عليه فاستفادة إباحة الاستدانة أولا، و التأجيل فيه ثانيا، و وجوب كون الأجل مضبوطا ثالثا، الي آخر ما عدّه صاحب الكنز و الزبدة «1» (رضوان اللّه عليهما) مما كان معمولا لدي العقلاء بما هم عليه مما لا يخفي، و الآيات الكريمة تشمل أوامر و نواه، و لو ان كلها ارشادي يرجع الي أمر واحد، فلا يبقي مجال للبحث عن الوجوب و الاستحباب فيها لعدم التشريع و التأسيس رأسا و انما هو ردع لا غير.

تستحق الآية هنا مزيدا من الشرح حول إضرار الكاتب أو الشاهد أو كلاهما و التحذير من ذلك.

الشهادة في الطلاق

الثانية- قوله تعالي:

فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ ذٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. (الطلاق [65] الآية 2)

الآية الكريمة بصراحتها تأمر بإشهاد ذوي

عدل حين التفريق و تسريح الزوج زوجته لما ذكرنا من التحفّظ علي الأمر نفسه و دفع الإنكار و النسيات أو الموت أو غير

______________________________

(1)- كنز العرفان/ ص 46 ج 2، الزبدة/ ص 441.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 343

ذلك مما ينبعث عنه الاختلاف و الخصومة، و الأمر- و لا سيما في هذا المورد- يدلّ علي الوجوب بحيث لا يقع بدونه و لا يصح، و ذلك لأهمية الموضوع، فان ذلك تعاهد للمعيشة و الحياة الانسانية و تعاهد للأسرة، و في النهاية تعاهد للمجتمع الذي لا ينفصل بشي ء من الوهم و الخيال و لا يتّصل أيضا، كما فصّلناه في كتاب التسريح، و كلّما كان الأمر أهم كان الإشهاد عليه ألزم، و لذلك لا بأس بتركه في بعض المعاملات الجزئية مع صراحة الأمر به فيما عرفت من الآية المباركة السابقة.

ثم إنّ في المقام أمرا مهما بل أهم قد أشير إليه، و هو تكليف من شهد الواقعة و حضرها من وجوب اداء الشهادة بعد التحمّل حال الافتقار، و أنّه لا بدّ و أن يكون أداؤه للّه تعالي لا لمن له الحق أو عليه خوفا من قهره، أو ترحّما لضعفه، فان من يؤمن باللّه و اليوم الآخر لم يستتر عن الحق و لم يقض عليه، و ان اللّه علي كل شي ء شهيد و هو خير الحاكمين، و من يتّق اللّه يعلم ان اللّه تعالي سيجعل له مخرجا، و أنّه هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، فلا يكتم الشهادة و لا يؤدّيها بغير حق طمعا في مال أو استرزاقا من غير اللّه تعالي، و هو يعلم انّه تعالي يرزقه من حيث لا يحتسب، و كذلك من يعلم ان اللّه تعالي هو البارئ الخالق المصوّر

و بيده كل شي ء، و كل شي ء عنده بمقدار، لا يكتم الشهادة و لا يؤديها بغير حق، بل يتوكّل علي اللّه تعالي فهو حسبه، إِنَّ اللّٰهَ بٰالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً، و يتّعظ بذلك خير الوعظ، و عليه فلا بدّ من الاشهاد. و يجب علي الشاهد أداء شهادته للّه تعالي بالحق و يحرّم الكتمان، و بغير ذلك لا أنه ترك واجبا فقط بل انه فعل حراما أيضا في كتمانه هذا ما دام كاتما لوجود الأمر و النهي معا في الاعتبار دون اتخاذ أحدهما من دون الآخر حتي يلاحظ المتخذ عنه فقط.

ثم ان السرّ في شدّة الاهتمام ظاهر، فان الشهادة- كما عرفت- هي التي تنفصل بها الخصومة و يحكم بحسبها الحاكم غالبا، فبها ينقلب الحق باطلا أو الباطل حقا، أو يظهر الأمر كما هو، فكأن الشاهد هو الذي يضلّ الحاكم عن الحق أو يهديه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 344

إليه، فالأمر خطير جدا، و التكليف ثقيل لو لم نقل بأنه أخطر، فان الحاكم يقضي علي البيّنة و اليمين، و لذلك نري الآيات الكريمة تعبّر عن كتمان الشهادة بأشدّ تعبير و لا سيما في قوله تعالي:

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهٰادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّٰهِ وَ مَا اللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ.

(البقرة [2] الآية 140)

فان لسان الآية الكريمة- كما تراه- يفيد الاستفهام علي نحو آكد أن من كتم عن اللّه تعالي و عن حاكم الحق ما عنده من الشهادة بأن حضر الأمر و شاهده ثم لم يؤدها و ما تحمّله لدي الافتقار إليه سواء أنّه لم يؤد شيئا منه أصلا، أو انّه أداه علي خلاف الحق، فهو أظلم من كل ظالم، لأنه قد هدم بظلمه هذا مكانة

و اعتبار حافظ حقوق المجتمع المنظّمة المعتدلة التي هي أقوي أركانه، لا أنه ظلم بنفسه شخصا معيّنا في واقعة فقط، و قد اشتري بذلك غضب اللّه تعالي و عذابه، و ما اللّه بغافل عمّا يعمل الظالمون، فكما انّ الشهادة بالحق واجبة، فكذلك كتمان الحق حرام.

الشهادة لإقامة العدل

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَليٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّٰهُ أَوْليٰ بِهِمٰا فَلٰا تَتَّبِعُوا الْهَويٰ أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً. (النساء [4] الآية 135)

تخاطب الآية المباركة المؤمنين و تأمرهم باقامة القسط في مجتمعهم علي الاطلاق في مختلف شئونهم الحياتية التي منها المحاكم القضائية فلا بدّ لذلك من إقامة الشهود للّه تعالي و بالحق، و لو كان علي أنفسهم أو علي والديهم أو الأقربين منهم، فليس له مراعاة نفسه أو أقربائه بطبقاتهم فيشهد لهم علي خلاف الحق و العدل من غير فرق في ذلك بين أن يكونوا فقراء أو أغنياء، و المتّبع هنا هو العدل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 345

و الحق لا الميل و الهوي، فان اللّه تعالي خبير بما تعملون في اداء الشهادة بالحق أو الإعراض عنه و إن تلووا أو تعرضوا فان اللّه كان بما تعملون خبيرا.

و قد استدلّ بالآية الكريمة علي جواز شهادة الولد علي الوالد كما له ذلك قبال عدم الجواز لولاية الأب، و ان الولد و ما له للوالد ولاية، و المتّبع هنا هو إطلاق القرآن بعد صراحته في اشتراط عدالة الحاكم و لا ينافي ولاية الأب، و احترام الابن له لزوم الاحسان إليه، فان الاحسان في الآيات راجع الي الروابط المتعارفة دون

الحقوق و الأحكام الشرعية و قد فصّلنا الكلام في مقامه «1».

الرابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَليٰ أَلّٰا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْويٰ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ.

(المائدة [5] الآية 8)

الآية المباركة كسابقتها تخاطب المؤمنين و تأمرهم أن يكونوا قوّامين للّه بأن يملأ اللّه تعالي حياتهم الفردية و الاجتماعية بمظاهره و شعائره حتي يتجلّي الحق و القسط في بيوتهم و طرقهم و شوارعهم و معاملهم و متاجرهم و منظماتهم العامة و الخاصة، فاذا كانوا كذلك، كان الحق قائما بينهم، و كانوا هم قوّامين له و يصحّ أن يطلق علي بلادهم بأنها بلاد المسلمين، علي خلاف ما هو الظاهر في زماننا من أكثر تلك البلاد و عواصمها، حيث ان الاسلام قد انزوي و انحصرت أعمال المسلمين في المساجد و المعابد فقط و حبست بين جردانها، و المسلم مسلم ما دام فيها، فاذا خرج عنها فهو في بلده و معبره و متجره و معمله كبلاد الكفر في معابرهم و منازلهم و معاملهم، لا في مزاياها و محسّناتها فحسب بل في أكثر الجهات، صانها اللّه عن شرور الكفار و حيل الأجانب.

______________________________

(1)- في كتاب المجتمع و الآداب، و في كتاب (الجهاد) باب اشتراط إذن الوالدين من (رسائل فقهية)/ ص 46.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 346

و يتمكّن من استظهار وضع المحاكم و قضاتها الحاكمين علي المسلمين اللاعبين بالاسلام و أحكامه- خذلهم اللّه و قطع أيديهم و أيدي من سلّطهم علي رقاب المسلمين إن شاء اللّه- فهؤلاء القضاة الطغاة يقضون وفق أسس الغربيين أو القواعد التي تحكم بقهر المظلومين المستضعفين و لا سيما الذي عاصرناه في بلادنا و

عشناه في جميع شئوننا من حكم البهلوي و استبداده و أعوانه السافاك حفاظا علي السلطة الجائرة.

و المطلوب في المجتمع الاسلامي اضافة الي تربيته الفرد و تأديبه، تربية المجتمع الانساني و المجتمعات الاخري أيضا و تأديبهم بأن تكون الظواهر كلّها اسلامية سواء كانت في البيوت و الأسواق و المعامل أو المعابد و علي الصورة الشرعية حتي يستجلب المحيط و المجتمع الاسلامي كل فرد إليه و يذيبه في صبغة الاسلام و ضوء القرآن.

و من ذلك يأمرهم تعالي باقامة العدل و الشهادة بالقسط في مختلف شئون الحياة، و في المحاكم لدي فصل الخصومات بطريق أولي و مصداق أجلي بلا تأثّر بشنآن قوم، فيميلوا عن الحق و يجرموا، و العدل أقرب للتقوي و اتقوا اللّه إن اللّه خبير بما تعملون في أيّ مقام، و في الشهادة بالعدل أيضا.

أهميّة الشهادة

الخامسة- قوله تعالي:

… وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهٰادٰاتِهِمْ قٰائِمُونَ. (المعارج [70] الآية 33)

الآية الكريمة- كما تراها- في سياق عدّ عوامل النجاح في الدنيا و الفلاح في الآخرة، فجعل إقامة الشهادة بعدم كتمانها و أدائها بالحق رديف الدوام علي الصلاة و اداء الزكاة و صيانة الشهوات و رعاية العهود و الأمانات التي هي من مهام أركان الأحكام و العبادات؛ و ليس ذلك إلا لأهمية موقف الشهادات في المحاكم و لدي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 347

فصل الخصومات، فان قيامها بالحق و العدل يورث الاطمئنان لكلّ أحد و يوجب هناءة المعيشة و الصفاء و الراحة في الدنيا و الآخرة، وفّقنا اللّه تعالي لإقامة الحق و العدل في خير أمّة إن شاء اللّه.

الشهادة عند ردّ الأموال

السادسة- قوله تعالي:

… فَإِذٰا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفيٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً.

(النساء [4] الآية 6)

الآية الكريمة في مقام بيان ولاية الأب و الجد «1» و ان السفهاء لا تردّ إليهم الأموال، بل لا بدّ من إرزاقهم و إكسائهم و القول معهم بالمعروف المتعارف، و كذلك الأيتام لا يؤتون أموالهم، حتي اذا بلغوا النكاح و استؤنس منهم الرشد، فيجوز عندئذ دفع أموالهم إليهم و لا بدّ من الإشهاد علي الدفع تحكيما للأمر و دفعا للخلاف و تسهيلا للحل اذا ظهر عن عمد أو خطأ أو نسيان أو غير ذلك.

الشهادة عند الوصيّة

السابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلٰاةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لٰا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبيٰ وَ لٰا نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اللّٰهِ إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ* فَإِنْ عُثِرَ عَليٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقّٰا إِثْماً فَآخَرٰانِ يَقُومٰانِ مَقٰامَهُمٰا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيٰانِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ لَشَهٰادَتُنٰا أَحَقُّ مِنْ شَهٰادَتِهِمٰا وَ مَا اعْتَدَيْنٰا إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الظّٰالِمِينَ. (المائدة [5] الآية 106 و 107)

______________________________

(1)- كما مرّ في كتاب: «الولاية و الحكومة» ج 2/ 21.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 348

توجب الآية الكريمة الإشهاد علي من أراد الوصية بعادلين من معارفه إذا كان حضور الموت و الوصية بين الأقرباء و في الوطن حيث يعرف كل واحد منهم الآخر بحدوده، و أما إن أنتم ضربتم في الأرض و كنتم علي سفر فالإشهاد يكون بعادلين أيضا و لو من غير المعارف إذا حضركم الموت و أصبتم بمصيبته و عند الحاجة أيضا، و شهادة الشاهدين معتبرة

إن لم يكن بهما ريب، و إن ارتبتم في صدقهما لعدم المعرفة بحالهما كما هو حقه تحبسونهما و توقفونهما بعد الصلاة فيقسمان باللّه علي انّا لا نكتم شهادة اللّه و هو علي كل شي ء شهيد و لا نشتري به ثمنا لا قليلا و لا كثيرا، سواء كان من ذي قرابة أو غيره، و لو كنّا ممن كتم شهادة اللّه أو اشتري بها ثمنا، لكنّا إذا من الآثمين المستحقين للعذاب، فان أقسما بذلك، و ما عثر علي كذبهما، فهو حقّ، و يتم به الأمر، و إلا فان عثر علي كذبهما فعلي الآخرين اللذين كانت الشهادة عليهما من الذين استحق عليهم الأوليان من صاحبي الحق القسم فيقومان مقامهما و يقسمان باللّه إنّ شهادتنا أحق من شهادتهما و ما اعتدينا، و لو لم يكن كذلك لكنّا من الظالمين.

فان أقسما بعد شهادتهما يعمل بها، و ذلك أدني و أقرب الي المحافظة علي الحق و الواقع، و تحقق الشهادة علي وجهها، و عدم ردّ الايمان الي غير مورده فانه مع عدم الشهادة علي المنكر اليمين و ردّه علي المدّعي، و معها علي الوجه المذكور لا ردّ للايمان إلا الي محلّها، فاتقوا اللّه تعالي في الشهادة و اليمين لئلا تميلوا عن الحق و العدل الي الباطل و الخلاف، و اسمعوا ما وعظكم اللّه به و اعلموا ان اللّه لا يهدي الفاسقين باقتراف الذنب.

و كيف كان فلا إشكال في دلالة الآية المباركة علي لزوم الإشهاد و تحكيم الأمور به، و كلّما كان الأمر أهم كان الاهتمام به أشدّ، و منها الوصية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 349

مراجعة الظالمين لاستنقاذ الحق
اشارة

مسائل ثلاث:

الأولي:

بعد ما عرفنا أن وجود المحاكم العادلة ضرورة حفظا لحقوق الناس و تحكيما للعدالة الاجتماعية

في ضوء الحكومة الاسلامية الحقّة حتي لا تكون فتنة في الأرض و يكون الدين كلّه للّه، فان كانت الحكومة الاسلامية متحققة، و الحاكم شرعيا عادلا فبها و نعمت، و إلا فلا يجوز الرجوع الي حكّام الجور و قضاة الظلم و قد أمرنا أن نكفر بهم.

نعم قد ورد عن الأصحاب الجواز بذلك عند ما يتوقّف استنقاذ الحق عليه مطلقا، و في الاطلاق لدينا كلام، فان تجويز التحاكم لديهم علي الاطلاق تحكيم لأركان عروشهم و تقوية لمباني محاكمهم الجائرة، فان رجوع الناس إليهم هو علّة لبقائهم، و تردد الناس إليهم و الاكتفاء بهم هو دعم في دوام أساسهم، من غير تأثّر بهم لكون الاعتقاد بهم أنهم ظلمة يجب إزالتهم عن المجتمع الاسلامي اللازم، فان الناس إذا رأوا كفايتهم في استيفاء حقوقهم، و تجويز الفقهاء العظام (رضوان اللّه تعالي عليهم) لهم بذلك، و انه لا ملجأ لهم غيرهم، فلا داعي في مخالفتهم لهم، و لا يقدح في تصوّراتهم لزوم الحفاظ علي المحاكم الشرعية بل في ايجادها، اذا لم تكن كما في زماننا «1»، فكيف بمكافحتهم الي أن يزول الكفر و الظلم و ينقطع شرّهم عن الناس، و يجزم بانقطاعهم عن سائر غصون شجرتهم الملعونة متدرجا و هم ظالمون قاهرون، و مخالبهم ناشبة في عروق المجتمع الاسلامي باسم الاسلام و الدين، خذلهم اللّه جميعا.

فالحق ان مراجعات الناس لهم هي التي توجب بقاءهم و نفوذهم في المجتمع الاسلامي، و لو حال فقدان طريق آخر، و هي لا تجوز قطعا، سواء كان ذلك من ناحية

______________________________

(1)- أي قبل قيام الجمهورية الاسلامية المباركة، أو في غيرها من بقاع الأرض.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 350

المراجعين كرجال متّبعين في قومهم و مثل للمؤمنين و هم

أسوة حسنة فيهم، الذين يقتدي بهم غيرهم و يستظهرون من مراجعتهم قبولهم في مقامهم متمسّكين بأعذار، سواء كان مورد الخصومة ما يعتني به من القيمة أو لا، أو من ناحية الأمر الذي تخاصموا فيه، كان المراجع من كان و من أيّ طبقة و صنف، كما في الأمور الاجتماعية الراجعة الي المكاسب و المعامل أيضا.

و الحاصل: ان المسألة تبتني علي تعارض المهم مع الأهم، لا بدّ من ملاحظتهما و انتخاب الأقل مفسدة من تقوية الحق أو تقوية الظالم.

نعم لا بأس برجوع من لا تأثير لرجوعه إليهم في تحكيمهم ممّن لا يقتدي به في المجتمع و لا يقاس بعمله شي ء، أو ممّن لا يبالي بشي ء و هو معروف بذلك، كان الحق فيه ما كان، و الغرض توقّف استنقاذه عليه.

و ما ذكرناه هو مقتضي الجمع بين تأكيد الآيات الشريفة في اختصاص حق حكومة اللّه تعالي و رسوله و الأئمة (عليهم السّلام) و المنصوبين من قبلهم و حرمة التحاكم الي الطاغوت مع سرّ ضرورة وجود المحاكم و حكمة وجوب القضاء كفاية كما لا يخفي، و لذلك لا يختصّ ما ذكرناه بالقضاء بل في مشابهاته أيضا كالصلاة و سائر التصرّفات في الأراضي الموزّعة بين الفلّاحين بيد الحكومة الجائرة من غير رضا المالك، لمن يجوز له بشخصه لولايته أو إجازته من الوليّ فانه لا يجوز له ذلك، اذا انتزع من عمله الملكية و صحة عمل الجائر، إلّا أن يصرّح بوجه الجواز لشخصه و بقاء الملك علي مالكه الأول، و لعلّ منه قبول بعض الخطباء و المبلّغين تعهّد المنظّمات الدولية عدم تدخلهم في بعض المسائل، مع أنها هي الأساس الاسلامي اللازم بيانه كالحجاب و الطلاق و حقوق الزوج و الزوجة من البدع

المحدثة، بل و من الباب السكوت المطلق قبال أعمالهم الجائرة مثل هجومهم الوحشي علي المدرسة الفيضية العلمية و ضرب و نهب و جرح و قتل طلّاب العلوم الدينية مرارا- لعنهم اللّه- فانه قد يستظهر من ذلك القبول و من ذلك السكوت إمضاء الباطل و قس عليهما مسائل اخري،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 351

حفظنا اللّه من شرور أنفسنا و لا سيما ممّا يسوّل لنا الشيطان و يؤول لنا فيقوي بنا الظالم الجائر، اللّهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق باذنك و احفظنا من شرور انفسنا.

حرمة الرشوة

الثانية:

لا إشكال في حرمة الرشوة مطلقا- كما سيأتي بيانه في كتاب المحرّمات إن شاء اللّه و لا سيما حرمتها علي القاضي و الشاهد و المتحاكمين.

قال تعالي:

وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَي الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.

تنهي الآية الكريمة عن التوسّل بالحكّام و التدلّي إليهم بالأموال ليحكموا لصالح صاحب المال فيأكل فريقا من أموال خصمه من الناس بالقضاء الباطل و الإثم فان ذلك أكل للمال بالباطل، و ما ينفق في سبيل الباطل باطل، و الآخذ و المعطي بل الرابط بينهما و الكاتب لهما شركاء في الإثم كما في السنّة المباركة: «الراشي و المرتشي كلاهما في النار» و تمام الكلام و تفصيله في كتاب المحرّمات مذكور.

الدعوة الي الصلح

الثالثة:

الصلح الجاري في جميع الحقوق و الأموال المتنازع عليها بين الأفراد أو الأقوام و الملل، و كما ان ماهيّته لا تتحقق إلا بقرار و تسالم مضبوط بعقد أو توافق مضمون بلفظ أو كتابة، و هو بطبعه حسن يستحسنه كل انسان و يستسيغه كل عاقل في مختلف موارد الاختلاف، فان إرجاع الأمر الي طبعه الأصلي الصالح لئلا يفسد بتمامه، و هو الاصلاح الحاصل منه الصلح، مطبوع لدي العقلاء، مستحسن عندهم،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 352

و لذلك يستحب للقاضي أيضا دعوة المتخاصمين الي الصلح أولا قبل قضائه، و قد رغّب إليه الشرع المقدّس أيضا إلّا في موارد خاصة و التي لا يقبلها طبع المتنازع فيه، و لا يستحسنه العقلاء أيضا، كما في الجهاد حال اشتعال نائرة الحرب و ظهور علائم الفتح للحق و النصر و انهزام الخصم الباطل، فانه لا يتوسّل الي الصلح إلّا الضعيف دفعا لسقوطه و انعدامه، و لا يقبله القوي الفائق

فانه تضعيف للحق و خذلان لأهله و هو حرام، كما يجوز ذلك إذا كان تركه ضررا للحق و تضعيفا لا ينجبر بموازين عقلائية، قال تعالي:

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا وَ تَوَكَّلْ عَلَي اللّٰهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّٰهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ.

(الانفال [8] الآية 61 و 62)

فكما يجوز التجنيح و التواضع للسلم عند المصلحة، كذلك لا يجوز عند إرادة العدو الخدعة للاسلام و المسلمين، بل لا بدّ من التعقيب و الإدانة، فان اللّه تعالي هو الكافل الكافي و المؤيّد بنصره المؤمنين المجاهدين.

و كما في الزوجين عند مخافتهما في أن لا يقيما حدود اللّه تعالي فالصلح بينهما مرغوب عنه، كما سيأتي بيانه في كتاب النكاح إن شاء اللّه تعالي.

و في غير هذه الموارد فان الصلح حسن علي الاطلاق يختلف حسنه حسب متعلّقه و مورده، و في المقام آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَي الْأُخْريٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. (الحجرات [49] الآية 9 و 10)

الآية الكريمة- بصورة الكبري كليا بعد ذكر قسم من موارد الاختلاف- تأمر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 353

بالإصلاح بين المؤمنين مهما أمكن لدي اختلافهم بعضهم مع بعض أو مع طائفة أو طائفتين و لا سيما اذا انتهي اختلافهم الي القتال و الحرب، فان لزوم الاصلاح و وجوبه علي حدّ لا بدّ من مقاتلة الباغي منهما حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ، و بعد ذلك لا بدّ من الاصلاح بينهما بالعدل و

القسط و رعاية حدود اللّه تعالي و حقوقه في الطرفين فان المؤمنين إخوة بعضهم أولياء بعض.

و كيف كان فلا إشكال في دلالة الآية الكريمة علي مطلوبية طبيعة الاصلاح الحاصل منه الصلح بمعني الأعم، و مقتضي كلية الكبري وجوب ذلك في جميع الموارد فان الاختلاف بطبعه الموجب لبقاء الضغائن و التعاند و الفساد مبغوض ممقوت و لو كان المتخلّف فيه حقيرا.

الثانية- قوله تعالي:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّٰهَ وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. (الأنفال [8] الآية 1)

الآية الكريمة، و ان كانت في مورد بيان الأنفال و اختلافهم في حكم اللّه تعالي حسب توقّعهم و انتظارهم في تقسيمها بأجمعها بينهم، إلّا أن الأمر بالاصلاح و توافق الجميع علي ما هو حكم اللّه تعالي واقعا من أنها للّه و لرسوله، و إطاعة الجميع للّه تعالي و رسوله في الحكم و الموضوع و الاتقاء عن محارمه بالتصرّف فيها علي غير وجهها، كل ذلك يدلّ بوضوح علي أصل مطلوبية الصلح، مع إفادة أمر زائد، و هو أن الاصلاح و التوافق لا بدّ و أن يكون في نطاق دائرة أحكام اللّه تعالي و موضوعاته المشروعة بحسب الانطباق من غير تحليل حرام أو تحريم حلال أو تغيير موضوع عن موضعه، فالصلح جائز إلّا ما حرّم حلالا أو أحلّ حراما كما في السنّة المباركة، و طبع الأمر يقتضي ذلك، فان الإصلاح بين المؤمنين هو إرجاعهم الي ما هو الأصل في طبع المؤمن بما هو مؤمن في المورد المختلف فيه، فلا ينقلب به ما هو عليه لو لا الاختلاف من الحكم أو الموضوع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 354

الثالثة- قوله تعالي:

وَ إِنِ امْرَأَةٌ خٰافَتْ

مِنْ بَعْلِهٰا نُشُوزاً أَوْ إِعْرٰاضاً فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يُصْلِحٰا بَيْنَهُمٰا صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً. (النساء [4] الآية 128)

لا إشكال في دلالة الآية الكريمة علي أن الصلح بطبعه خير و حسن و لا سيما في أمور الاسرة و ما يطرأ بين الزوجين من أمور خلافية ينشأ منها النفور و النشوز من أحدهما علي الآخر، فان ترك ذلك ينتهي الي ما لا يحمد عقباه و ما لا ينجبر أحيانا مما يؤدي الي انفصالهما و تشتت العائلة و ضياع الأولاد، و الابتلاء بما لا ينبغي لإنسان ما، فكيف لمسلم!! و كثيرا ما كان أسّ الأمر الموجب للنفار غير خطير، فالصلح في مثل هذه الموارد أكثر خيرا و أحفظ لمصالح الأسرة و المجتمع معا، و تمام الكلام و تفصيله مذكور في كتاب النكاح.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقٰاقَ بَيْنِهِمٰا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا إِنْ يُرِيدٰا إِصْلٰاحاً يُوَفِّقِ اللّٰهُ بَيْنَهُمٰا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً خَبِيراً. (النساء [4] الآية 35)

الآية المباركة في سياق العناية بالأسرة و العائلة أيضا، حيث هي أساس المجتمع و لبنته، و تحثّ علي لزوم رعاية مصالحها و دفع الاختلافات الحاصلة فيها، المنتهية الي الفساد و الانحطاط، فتأمر الآية المباركة- مخافة وقوع ذلك- بأن يختار كل منهما حكما ينوب عنه، و اللّه تعالي هو الموفّق بينهما و هو المعين علي حصول الصلاح و تحققه إن أرادا ذلك، فعليكم الإقدام للاصلاح بوجه أصلح حتي اختيار الحكم من كل منهما و حتي التوفيق بينهما، و لا تيأسوا من روح اللّه …

فالآية الكريمة تدلّ بوضوح علي مطلوبيّة الصلح و لزومه حسب

الموارد الكافية.

الخامسة- قوله تعالي:

لٰا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوٰاهُمْ إِلّٰا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلٰاحٍ بَيْنَ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 355

النّٰاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اللّٰهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.

(النساء [4] الآية 114)

تنهي الآية الكريمة- بلسان النفي- عن النجوي و المكالمة مع مخاطب معيّن في حضور الآخرين منفصلا به عنهم بحيث لا يسمعون قوله، فيتوهّم كل من حضر بوهم، فيتأذون، فان ذلك من عمل الشيطان قد نهي عنه و هو مذموم حرام حسب الظاهر، ثم استثنت الآية الكريمة منه موارد الخير و الصلاح، فلا خير في كثير من نجواهم إلّا فيما اذا أمر بصدقة أو إعانة الفقراء و الضعفاء، و لم يكن في ذكر ذلك شفاها و بمسمع الآخرين مصلحة و لا فائدة لمورد الصدقة أو الفقير أو الغني المخاطب، و كذلك من موارد الخير في النجوي اذا كان النجوي لمعروف و خير و صلاح يأمر به المناجي و لا يصلح الإعلان به لوجه، و مثل ذلك اذا أراد الاصلاح بين الناس فيما اختلفوا فيه، و بالنجوي و التكلّم خفاء بمحضر الآخرين يحصل التوفيق بينهما علي الفرض و بالتسويف الي ملاقاة المخاطب خصوصيا لا في جمع تفوت الفرصة و لا سيما اذا كان ذلك ابتغاء لمرضاة اللّه تعالي دون رئاء الناس.

و حيث ان قبح النجوي و حرمته لا يكون ذاتيا بل للايذاء و تحقير الآخرين و أشباه ذلك فاذا كان في البين مصلحة أقوي فلا بأس به تكليفيا مع بقاء الوضع كما هو الظاهر من مسألة اجتماع الأمر و النهي في مصداق واحد، و الآية الكريمة تدلّ علي أن مصلحة الصلح علي حد تغلب المفسدة في النجوي.

قال تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

إِذٰا تَنٰاجَيْتُمْ فَلٰا تَتَنٰاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَنٰاجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْويٰ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. (المجادلة [58] الآية 9)، و سيأتي الكلام عنه في كتاب (المجتمع و آدابه) إن شاء اللّه.

و حاصل الآيات الخمس: انّ الصلح خير و حسن، لازم في مختلف مستويات المجتمع الاسلامي من الأمور العادية في العوائل و الأسر، و لازم أيضا في موارد

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 356

الاختلاف في المعاملات و المكاسب حتي المنازعات الحاصلة بين الطوائف لاختلاف الأفكار و المفاهيم أو بغي بعض علي بعض، فلا بدّ من الاصلاح بينهم ما لم يلزم تغيير حكم من أحكام اللّه أو حدّ من حدوده حتي انّه لا بدّ من مقاتلة الباغي ليفي ء إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ، و ترك الصلح اذا خاف الزوجان أن لا يقيما حدود اللّه، فالصلح جائز نافذ ما لم يحرّم حلالا أو يحلّ حراما.

و لا يتوهّم من ظاهر قوله تعالي:

فَمَنْ خٰافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (البقرة [2] الآية 182) انه يجوز تبديل الوصية و التصرّف فيها بعنوان الاصلاح فهو حرام بدونه و ليس كذلك، فان المراد من الإصلاح بين الورثة في الوصية هو تراضيهم علي الحق و انفصالهم عن الباطل و لو بتصرّف كل منهم في سهم الآخر برضاه، و سيأتي تفصيل الكلام عنه في كتاب الوصية إن شاء اللّه.

خاتمة المطاف

نتيجة المقدّمة:

لا إشكال في ضرورة وجود المحاكم و وجوب القضاء كفاية كوجوب أصل الحكومة و الولاية العامة أي زعامة و قيادة الأمة، و في الفصل فروع:

الأول: يجب الحكم بالعدل و بما أنزل اللّه تعالي، و هو أصدق مصاديق العدل، و يحرم الحكم بخلافه فانه

فسق و ظلم و كفر.

الثاني: يجوز للحاكم الاسلامي أن يحكم بين أهل الكتاب بكتابهم علي القسط و العدل و بالاسلام كذلك.

الثالث: لا بدّ للحاكم أن يتحرّز عن افتتان الناس حتي لا يشتبه عليه الأمر فيحكم بغير الحق و هو لا يعلم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 357

الرابع: يجب علي الناس أن يوكلوا و يرجعوا حلّ مخاصماتهم الي اللّه و رسوله و إطاعتهما فيما أمرا به و في خصوص القضاء و فصل الخصومات فيما بينهم عن رضي و طيب نفس سواء كان لهم أو عليهم ليكونوا مؤمنين.

الخامس: يشترط في القاضي أن يكون فقيها مقتدرا علي استنباط الحكم بما أنزل اللّه من الكتاب و السنّة كما يشترط فيه العدالة و طيب المولد.

و في الفصل الثاني فروع:

الأول: ينبغي تحكيم كل عقد أو إيقاع بل كل قرار بين طرفين بكتابته و ختمه و الاستشهاد عليه حتي يسهل الفصل و الحل عند بروز خلاف بموت أو سهو أو نسيان أو غيرهما، و لا سيما في مهام الأمور كطروء الموت، بل يجب ذلك شرعا في بعضها مثل الطلاق و الوصيّة، بحيث لا يتمّ الأول بدون شاهد و لا يثبت الثاني بدونه و لا بدون الكتابة أيضا، فلا بدّ من أحدهما.

الثاني: ينبغي عند إرادة الكتابة أن يملل صاحب الحق بأيّ وجه شاء فان ذلك أقرب الي حفظ الحق و سهولة الفصل لدي الخصومة الطارئة فيما بعد.

الثالث: يجب علي الشاهد تحمّل الشهادة لدي الاستشهاد كفاية فيجب عليه أداؤها كما تحمّلها عينا كذلك فيحرم عليه الكتمان بتركها أو أدائها لا علي وجهها المطلوب.

الرابع: الإشهاد لا بدّ و أن يكون بواسطة رجلين عادلين أو رجل و امرأتين أو أربع نساء عادلات في موارد خاصة.

الخامس: يجب علي

الشاهد أن يري الحق بعينيه و يجمع شعوره و يعلم بأن اللّه تعالي علي كل شي ء شهيد، فلا يتّبع الهوي فيعدل عن الحق أو يراعي جانب أحد بالقدرة أو القوة أو القرابة، بل عليه أن يشهد بالحق و العدل فان اللّه بما تعملون خبير.

السادس: إن شك في شهادة الشهود في الوصية، فيقسمان باللّه، و إلّا فآخران

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 358

غيرهما يشهدان مقامهما و يقسمان باللّه إنّ شهادتنا أحقّ من شهادتهما، و ما اعتدينا إنّا إذا لمن الظالمين.

السابع: يحرم التحاكم الي قضاة الجور إلّا اذا توقّف عليه استنقاذ الحق ما لم يكن تأييدا لظلمهم، أو تحكيما لمقامهم الجائر، و إلّا فلا يجوز أيضا. و إن فات الحق، إلّا أن يكون حقّا أهم من تأييد الظالم، و أيّ حق كذلك؟!

الثامن: تحرم الرشوة و التدلّي الي الحكّام الطغاة لأكل أموال الناس بالباطل أو لاستنقاذ الحق، و كلية قاعدة الأهم في مقامه من غير تحليل.

التاسع: الصلح خير جائز في كل الأمور ما لم يحرّم حلالا أو يحلل حراما أو يوجب ضررا أكثر، كما في الحرب بعد ظهور آثار الفتح و النصر و انهزام الخصم أو في الزوجين لا يقيما حدود اللّه، و في الأمور الأسرية العائلية أرجح و ألزم.

العاشر: لا بأس بالنجوي عند إرادة الصلح.

الحادي عشر: لا بأس بالإصلاح بين الورثة عند خوف الجنف أي ميل الانحراف في الحكم، و الحكم بتراضيهم في التصرّفات.

و بتمام كتاب القضاء و الشهادات تمّ الجزء الثاني من الجهد حسب التجزئة الراجحة عندنا، و يتلوه الجزء الثالث في كتاب النكاح إن شاء اللّه.

الجزء الثالث من فقه القرآن «العقود و الايقاعات»

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 7

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

محتويات الجزء الثالث من كتاب فقه القرآن

كتاب النكاح 11

المقدمة 13

الفصل الأول- الترغيب في النكاح 15

تعدد الزوجات 17

الفصل الثاني- الالتزام بالعقد 24

عدم مشروعية العقد قبل انقضاء العدة 25

الصداق 26

الفصل الثالث- المتعة أو الزواج المؤقت 28

الفصل الرابع- المحرّمات 31

المحارم 33

المحيض 35

الظهار 37

امهات المؤمنين 38

المكروهات 40

الفصل الخامس- النشوز 41

نتيجة البحث الأول 46

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 8

نتيجة البحث الثاني 47

نتيجة البحث الثالث 49

نتيجة البحث الرابع 50

نتيجة البحث الخامس 51

خاتمة المطاف: ثمرة الزواج (الولد) 52

تذييل: في الفروع المستفادة من الآية (في الخاتمة) 56

كتاب الطلاق 59

الفصل الأول- ما يدل علي كراهية الطلاق و جوازه 61

الطلاق قبل التماس 64

الفصل الثاني: فيمن يقع عنه الطلاق و ما يقع عنه 65

عدد الطلاق 66

الافتداء و البذل 67

الفصل الثالث: شروط التسريح و الرجوع 68

الفصل الرابع: احصاء العدّة 71

حرمة كتمان النطفة 72

احصاء العدة 73

المتوفّي عنها زوجها 75

نتيجة البحث الأول 77

نتيجة البحث الثاني 78

نتيجة البحث الثالث 79

نتيجة البحث الرابع 80

وهم و دفع 81

الظهار 84

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 9

الايلاء 86

نتيجة البحث 87

كتاب التجارة 91

في كرامة الانسان عند اللّه 93

الاسترقاق 98

أركان المعاملة 102

العوضان 107

تعادل الميزان 108

البيع- الربا 110

الاجارة 114

الكتابة 117

الرهن- الضمان 118

الكفالة و الوكالة و الامانة 119

نتيجة الابحاث 120

بحثي الربا و الدّين 121

كتاب القرض 123

نتيجة البحث 129

كتاب العهود و الايمان 131

نقض العهد 138

شروط العهود و كفّارة الحنث 140

خاتمة المطاف 143

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 11

كتاب النكاح

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 13

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام علي محمد و آله الطاهرين

النكاح

المقدمة:

النكاح و الزواج من ضروريات الحياة، و تدعو إليه الفطرة و الخلقة لا في الإنسان فحسب بل في كل ذي حياة من حيوان و نبات، قال تعالي وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الذاريات [51] الآية 49)، و قال أيضا: وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَرٰاتِ جَعَلَ فِيهٰا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.. (الرعد [13] الآية 3). و هذا هو سرّ بقاء النسل و أساس دوام الحياة في الأنواع المختلفة، و قال تعالي مخاطبا شيخ أنبيائه نوحا (علي نبيّنا و آله و عليه السلام): فَإِذٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا وَ فٰارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهٰا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ (المؤمنون [23] الآية 27)، و في آية اخري قال: قُلْنَا احْمِلْ فِيهٰا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.. (هود [11] الآية 40)، و لم يكتف بواحد ممّن خلق و إنما خلق أراده اللّه تعالي لا تبديل لخلقه و فطرة الناس عليها.

و الأمر الي حدّ لعلّه يصح أن يقال: إن الرجل بل الفحل مطلقا بما هو نصف في الخلقة، كما ان المرأة بل الأنثي مطلقا نصف في الخلقة أيضا، لا يتمكّن كل منهما بنفسه علي بقاء نوعه و دوام حياته و حياة غيره أيضا، و بموتها يموت النوع و يزول، و هما معا نوع واحد كانسان واحد له حياة و دوام أولا، و لهما عيشة و لذّة ثانيا. فان إرادة اللّه تعالي و قدرته تفعل ما تشاء في نكاحهما و زواجهما من توليد الذكر أو الأنثي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 14

منهما علي نسبة خاصة لازمة مع جهلهما أو غفلتهما عنها، و هذا ما أثبتته

العلوم الحديثة أيضا.

قال تعالي:

وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. (الروم [30] الآية 21)

و قال أيضا:

وَ اللّٰهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبٰاتِ … (النحل [61] الآية 72)

و قال أيضا:

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحٰامِ كَيْفَ يَشٰاءُ … (آل عمران [3] الآية 6)

ثم إن العمل الطبيعي الضامن للبقاء و اللازم للدوام يعمل به من قبل غير الانسان أيضا علي حدود و قوانين تكوينية مجبولة عليها بلا افتقار الي اعتبار حكم، لعدم تخلّف و انحراف، بل لعدم إمكانه. و أما في الانسان المختار من بين الموجودات المتميز عنهم بكل أعماله، الظلوم الجهول بعد إمكان انحرافه عن الفطرة و احتمال صدور الزلّة عنه، فقد جعل اللّه له حدودا و شرائع و بيّن له ما لم يكن يعلم تحفّظا عليها و تتميما للنعمة.

و الحاصل: إن النكاح مسألة طبيعية غريزية عقلائية مشروعة بنفسها عند كل قوم و ملّة، و له أحكام و حدود، و التخلّف عنها سفاح و فاحشة: أرشد إليه و الي حدوده و خصوصياته الشارع المقدّس توسعة و تضييقا، فالأصل الأوّلي فيه الجواز و الإباحة حتي يثبت الخلاف، و الآيات المباركة في الكتاب العزيز التي تعني بهذا الباب ستذكر خلال فصول إن شاء اللّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 15

الفصل الأول: الترغيب في النكاح

اشارة

نشرع هذا الفصل فيما يتعلّق في الآيات المرغّبة لأصل النكاح الآمرة به مع الردّ علي من يمتنع عنه متعذّرا بأمور أو متخيّلا لها، و فيه آيات:

الاولي- قوله تعالي:

وَ أَنْكِحُوا الْأَيٰاميٰ مِنْكُمْ وَ الصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اللّٰهُ

مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ* وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لٰا يَجِدُونَ نِكٰاحاً حَتّٰي يُغْنِيَهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتٰابَ مِمّٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ فَكٰاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مٰالِ اللّٰهِ الَّذِي آتٰاكُمْ وَ لٰا تُكْرِهُوا فَتَيٰاتِكُمْ عَلَي الْبِغٰاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللّٰهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرٰاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (النور [24] الآية 32 و 33).

الآية المباركة تأمر العزّاب الذين يعيشون فرادي- سواء كان رجلا لا زوجة له أو امرأة لا زوج لها- «الأيامي» بالنكاح، و ترشد الي لزوم الإقدام لرفع تلك الضرورة الطبيعية التكوينية و تأمينها؛ و هو ما يدركه العقل، إلا ان الآية الكريمة ترشد الي مصلحة أخري أيضا و هي اختيار الشريك الصالح للحياة و العون للمعيشة (زوجا و زوجة)، فإنّ الصلاح هو أساس الفلاح في هناءة العيش و صفوة الاستمتاع بالزواج.

و حيث أن الإهمال يورث الفساد و الهلاك، لذا فقد ردّت الآية الكريمة علي التسويف فيه و الاستنكاف عنه، و علي من يتخيّل أنه سبب الفقر و شبهه، فقد ردّت الآية الكريمة علي ذلك كلّه و اعتبرته سوء ظنّ باللّه العظيم، فانه تعالي يغنيهم من فضله الواسع و هو عليم بعباده و بمن يستحق الفضل و الغني.

و حيث ان الغريزة الجنسية الطبيعية لو لم تجد ما تسكن إليه، تعلو و تطغي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 16

علي نفس الانسان فتسلّط علي إدراكاتها العقلية و تحكم عليها- أعاذنا اللّه منها- فقد أمر اللّه تعالي الذين لا يجدون نكاحا- و في النكرة اشارة الي نفي جميع الأقسام المباحة من الدائم و المنقطع و الملك أيضا، فانه بمعناه اللغوي لا العقد- أمرهم سبحانه بالاستعفاف و التحفّظ

حتي يغنيهم اللّه من فضله، و يسبب لهم الخير من الزواج و ينجوا من الهلكة، طبعا، من خلال مجاريه و أسبابه، بعد السعي و العمل بما في عهدته علي الطرق الشرعية و الطلب الجميل من مسبب الأسباب و هو اللّه تعالي الذي بيده مقاليد السماوات و الأرض.

ثم تأمر الآية المباركة الذين يبتغون المكاتبة مع أوليائهم و مالكيهم (أي الأيامي) تحريرا لأنفسهم، فيعملون لغير مالكهم و يعطونه ما يحصلون عليه من أجرة اشتراء لأنفسهم علي أيّ وجه يتفقان عليه من التحرّر سواء كان بنسبة معيّنة أو تحرر كلي بعد أداء جميع مال المكاتبة، هذا.. إن علم فيهم خيرا عند تحريرهم و وجود قدرة كافية فيهم علي تكسّب الحلال دون إكراههنّ علي البغاء.

ثم تأمر الآية الكريمة أيضا بإيتائهم الأيامي شيئا من الأموال التي آتاها اللّه تعالي فانهم الضعفاء لا بدّ من الترحّم و العطف عليهم، و ظاهر الأمر في المقامين (في المكاتبة و الايتاء) الوجوب إلّا أن مقتضي إطلاق الملكية هو الجواز راجحا مؤكّدا في الأموال، و مقتضي السياق الاستحباب في الثاني (الإيتاء) كرامة و توسعة و فضلا عليهم، و كيف كان فالآية الكريمة تدلّ علي صحة المكاتبة و معاملة المولي مع عبده أيضا.

و أخيرا تنهي الآية الكريمة عمّا يوجب استدراج الإماء بل الفتيات مطلقا الي السفاح و البغاء، و ذلك بطلب المال منهنّ بمكاتبة سقيمة بينهم علي شروط كانت دارجة في سالف الزمان، أو ابتغاء ما يوجب ذلك عرض الدنيا، أو علي شروط تكون كالتي في زماننا هذا، و القارئ الكريم بعد معرفة تطورات الزمان يعلم و يعرف ما الذي تنهي الآية الكريمة عنه من غير اختصاص بزمان أو صراحة بشي ء و ليس

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3،

ص: 17

علينا التفصيل «1».

و لعل ذلك يعمّ الفتيان أيضا، و الآية الكريمة ترشد الي حرمة كل ما ينتهي الي البغاء من الطرفين، و الكتابة علي أخذ المال من أيّ طريق كان في طرف الإماء مصداق للحرمة أيضا و العقل يرشد إليه مسبقا، فالحرمة شرعية و عقلية أيضا.

تعدّد الزوجات

الثانية- قوله تعالي:

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا تُقْسِطُوا فِي الْيَتٰاميٰ فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ مَثْنيٰ وَ ثُلٰاثَ وَ رُبٰاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنيٰ أَلّٰا تَعُولُوا. (النساء [4] الآية 3)

تأمر الآية الكريمة بنكاح الطيّبات من النساء ناظرة الي مشروع آخر من التحديد فارغة عن أصل الجواز و هو أنهنّ محللات طيّبات مثني و ثلاث و رباع مع رعاية العدالة بينهنّ و إن خفتم أن لا تعدلوا، فكيف اذا لم تعدلوا بينهنّ، فاكتفوا بواحدة حتي لا تكونوا ممّن طغي و ظلم، فان التعفف و الاقتصار علي واحدة أو بملك اليمين أدني و أقرب من أن لا تعولوا و تكونوا من الظالمين علي أنفسكم و أزواجكم «2».

______________________________

(1)- و نحن نخجل من ذكر أنواع ما عملته الحكومة الجائرة البهلوية فيهنّ من إجبارهنّ علي الاشتراك في المعسكرات و المنظّمات و استخدامهنّ في الفنادق و المضيّقات الخاصة شارطة عليهن إطلاق أنفسهن و عرضها علي الضيوف الأجانب من الأوروبيين و الأمريكيين و غيرهم.

(2)- و أما كون تفريع الأمر بنكاحهنّ علي خوف عدم التقسيط في اليتامي غير ظاهر الترتيب، فهو بحث تفسيري ذكر فيه وجوه من أن المراد منه اليتامي اللاتي تريدون أن تنكحوهنّ لا مطلقا، و النساء غيرهنّ فان خفتم أن لا تقسطوا بين اليتامي إن نكحتموهن فانكحوا من غيرهنّ، كما قيل؛ و ضعف ذلك ظاهر فانه

لا دخل للعدالة في نكاح غير اليتامي من النساء مع بعد نكاح المتعدد من اليتامي و لا وجه للتقييد.

و يمكن أن يقال: إن سياق الآيات في الأموال و ردّها الي مالكيها فالمعني اذا خفتم أن لا تقسطوا في ردّ أموال اليتامي فتبدلوا الخبيث بالطيب من المال فانكحوا ما طاب لكم من النساء متعددا تحصيلا للسعة في المعيشة كما أشار إليه الحديث، و تمام الكلام في محله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 18

هذا.. و لكن التأمل في التعبير يعطي جواز تعدد الزوجات و صحة نكاحهنّ من غير اشتراط الحل و الجواز بالعدالة بينهنّ فانه أشير إليها مفهوما بذكر المقابل و ان الخائف علي عدم العدالة، عليه الاقتصار بواحدة لئلا يكون من الظالمين، و بعبارة أخري فرق بين الاشتراط و تعليق الحكم بأن يقال: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني و ثلاث و رباع إن كنتم عادلين بينهنّ ناظرين إليهنّ علي السواء، و بين ما وضّح من البيان الكريم البليغ، و التعليق يفيد عدم المشروط عند عدم الشرط، و البيان لا يعطي ذلك. نعم يشير الي أن المؤمن الكامل كذلك، فانه أبعد عن التعالي المذموم أخلاقيا مع بعده عن المحرّمات شرعا.

و عليه فلا إشكال في صحة نكاح المتعدد و حلّية الاستمتاع لمن لا يعدل بينهنّ أيضا، و إن كان ذلك ظلما و تعاليا مذموما بل حراما في بعض مراحله إلّا أن المحرّم غير المحلل مصداقا مع أن الحق صحته في وحدة المصداق لو فرض أيضا، فان مقام تعلّق الحكم غير مقام الانطباق و الامتثال علي ما حقق في الأصول، و قد شيّد أركان المسألة الاستاذ الأعظم المرجع الأعلي و الملجأ الأوحد آية اللّه العظمي الإمام الخميني (حفظه

اللّه تعالي و رعاه و أعطاه سؤله و مناه …).

اذا عرفت ذلك تعلم بطلان الاستدلال علي حرمة تعدد الزوجات و عدم صحته في الاسلام كما قيل «1» بأن القرآن الكريم اشترط الجواز بالعدالة بينهنّ في آية، و صرّح بعدم إمكان تحقق ذلك الشرط في الأخري، قال تعالي: … وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ (النساء [4] الآية 129) فأفاد بهما عدم الجواز بألطف بيان.

و وجه البطلان ان الآية الكريمة الثانية واقعة في آخر بحث الاستفتاء الحاصل عن الرسول (صلّي اللّه عليه و آله) في النساء و ما حولهنّ من مسائل شتي التي ينتهي منها الي

______________________________

(1)- كما عن بعض أساتذة الأزهر خلال كلماته علي ما في تاريخ قوانين المدنية، و عن الدكتور مصطفي الرافعي في كتابه: (الاسلام نظام انساني).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 19

مشاجرات تقع كثيرا بالطبع بين الأزواج و في كل أسرة، و لا يخلو بيت منها في الجملة، و لزوم الإرشاد الي الإصلاح، و ان الصلح خير، و أحضرت الأنفس الشحّ و البخل، ففي السياق تقول: لن تستطيعوا أيّها المؤمنون أن تعدلوا بين النساء- و المخاطب العموم ممّن له زوجة واحدة علي الغلبة من غير اختصاص بمن له زوجات ليرتبط بالبحث مع صراحة التفريع علي ذلك بقوله تعالي: فَلٰا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ.

مع انه لا تهافت أيضا لو سلّم الاختصاص بتعدّد الزوجات فان الشرط الممكن للعدالة في العمل و ظواهر الأمور حال تقسيم تعاطي المعيشة من المأكل و الملبس و المسكن و غير ذلك.. و من غير الممكن حصول الحبّ في القلب المشار إليه بكلمة «لن» كما هو ظاهر «1».

و من المعلوم أن ذكر شرط غير ممكن لبيان عدم

الجواز و حكم الحرمة في مثل هذا المقام و لا سيما في كلامين يشبهان الأكل من القفا، بعيد جدّا عن سموّ مستوي كتاب اللّه العزيز و هو أفصح كلام و أكمل بيان.

ثم ان قوله تعالي: أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ عطفا علي واحدة يكتفي بنكاحها من النساء يدلّ علي جواز الاستمتاع بها و تأمين ذلك الافتقار من ملك اليمين فان للمالك التصرّف في ملكه كيف يشاء حسب ما يتوقع من المتاع و السلعة عقلائيا و ذلك قسم مستقل قبال النكاح و الزواج و سيأتي الكلام عنه إن شاء اللّه.

الثالثة- قوله تعالي:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلٰاتِهِمْ خٰاشِعُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكٰاةِ فٰاعِلُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ* إِلّٰا عَليٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ

______________________________

(1)- راجع بحث «النشوز» من الكتاب، و قد صرّحت بذلك روايات الباب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 20

فَمَنِ ابْتَغيٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ العٰادُونَ.

(المؤمنون [23] الآية 7) و (المعارج [70] الآية 29- 31)

الآيات الكريمة تصف المفلحين من المؤمنين بأنهم الذين يحفظون فروجهم علي حدّ الضرورة، و الوجوب تلو الخشوع في الصلاة «1»، و الإعراض عن اللغو و إيتاء الزكاة الواجبة، و لعلّ السياق في سورة المعارج آكد أكثر.

و بذلك أفادت الآيات الكريمة وجوب حفظ الفرج مطلقا و حرمة تركه أيضا، و حيث ان الإطلاق ينافي الافتقار الطبيعي الغريزي و لا يساعد طريق الخلقة و سبيل الفطرة التي لا تبديل لها من بقاء النوع، استثنت منه بقوله تعالي: إِلّٰا عَليٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ ردّا علي تاركي النكاح مطلقا كما عن بعض الهنود و ما في المسيحية المحرّفة، و إثباتا

لموارد الجواز لأن النفي كان للتحديد و بيان موارد الإثبات، فينحصر سبيل تأمين ذلك الافتقار شرعا بموردين فقط:

الأول: الزوجية، فيجوز استمتاع كل من الزوجين بالآخر بأيّ وجه كان، حرّين كانا أو مملوكين أو مختلفين، فانهم غير ملومين في ذلك.

الثاني: الملكية في ناحية الرجل فله الاستمتاع من أمته التي هي بملك اليمين، و لها ذلك منه طبعا بأيّ وجه كان كالزوجية، دون المرأة فليس لها الاستمتاع من عبدها بالملك فانه في ناحية الرجل يصدق التصرّف في المستمتع منها و للمالك أن يتصرّف في ملكه كيف يشاء عقلائيا، و أما من ناحية النساء فليس تصرّفا منها فيه، فان الاستمتاع فيهنّ من حيث القبول و الانفعال و الاستسلام، و الرجال هم القوّامون علي النساء الواردون عليهنّ، و القبول و الانفعال ليس بتصرّف إلّا في نفسها فليس للحرّة الاستمتاع من عبدها بالملكية و ان كان لها التصرّف فيه بسائر الأعمال العقلائية.

______________________________

(1)- قد سبق في كتاب الصلاة ان الآية الكريمة تدلّ علي وجوب الخشوع مهما أمكن و هو حضور القلب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 21

و الحاصل: إن الاستمتاع في المقام هو تصرّفه فيها لا تصرّفها فيه عقلائيا، و أما في سائر الأعمال استخدامها إياه تصرّف لها فيه و للمالك أن يتصرّف في ملكه كيف يشاء عقلائيا «1».

و من هذا عرفت أن عبدها لها من هذه الجهة كالأجنبيّ، و عليها التستر منه، و ليس له لمسها و النظر إليها أيضا كما هو ظاهر، فلا يتوهّم جوازهما في الاختلاء أيضا، فكيف بذات البعل.

و لا يقال: إن قوله تعالي: وَ لٰا مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ في تعداد المحارم الذين يجوز للمرأة النظر إليهم، و بالعكس انه يعمّ العبد و الأمة في قوله تعالي: لٰا

جُنٰاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبٰائِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰائِهِنَّ وَ لٰا إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ أَخَوٰاتِهِنَّ وَ لٰا نِسٰائِهِنَّ وَ لٰا مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ … (الاحزاب [33] الآية 55) فيجوز للسيدة النظر الي عبدها و بالعكس و لو كانت ذات بعل بحكم الإطلاق.

فانه يقال: لو كان كذلك لكان الأنسب ذكر ملك اليمين بعد: «الرجال» و قبل كلمة: «و لا نسائهنّ» و نفس ذكره بعدها يشير الي الاختصاص بالأمة، و لا تكرار مع نسائهنّ فانهنّ المسلمات فقط بمقتضي الإضافة، و أما ما ملكت أيمانهنّ من الإماء يعمّ الكافرات كما هو ظاهر، و كيف يرضي الشارع المقدّس بأن ينظر الرجل المملوك الي جسد مالكته و سيدته التي هي ذات بعل كما في الأم و الأخت بلا ريبة إلّا أن يحسب حيوانا لا نراه، و كذلك البحث في آية الغض (النور [24] الآية 31)، أضف الي ذلك قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ …

(النور [24] الآية 58)، و سيأتي الكلام فيه عند بحث الحجاب إن شاء اللّه «2».

______________________________

(1)- و أما مسألة اعتبار مالكية انسان لإنسان و مملوكيته له كالسلعة فهي بحث حقوقي علمي ليس هنا محله، و لا غرو فيها بعد معرفة معني الملكية و حدود جواز تصرّف المالك في ملكه و ما في المقام من تحديدات كثيرة.

(2)- في كتاب: «المجتمع و الآداب» الجزء الرابع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 22

ثم ان الآيات الكريمة أكّدت وجوب حفظ الفرج و التحفّظ عليه، و انحصار عدم الملامة بتركه في الأمرين: الزوجية و الملكية بوجه عرفته بقوله تعالي: فَمَنِ ابْتَغيٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ العٰادُونَ بأنفسهم الظالمون بتعدّيهم و عصيانهم:

وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ

الظّٰالِمُونَ (البقرة [2] الآية 229)، وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا وَ لَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ.

(النساء [4] الآية 14)

و بذلك تدلّ الآية الكريمة علي حرمة اللواط و المساحقة و المجامعة مع حيوان أو ميّت- و لو كانت زوجته لانقطاعها عنه بالموت- أو مع المجسّم الذي يشبه الرجل أو المرأة القابل للانعطاف المصنوع من موادّ بلاستيكية أو غيرها، و كذا حرمة الاستمناء بأيّ وجه كان، سواء باليد أو بالنظر الي صورة، أو بالتخيّل أو غيرها، المؤدية إليه، فان ذلك كلّه وراء الزواج و الملكية، و ابتغاؤها عدوان و ظلم محرّم.

كما تدلّ الآية المباركة علي حرمة كشف العورة، و النظر الي عورة الغير، و لو كان مماثلا أو من المحارم، فان ذلك ترك لحفظ الفرج الواجب حفظه و ستره.

و لا يقال: إن دلالة الآية الكريمة علي حرمة اللواط و المساحقة لأنهما يستلزمان ترك حفظ الفرج و انكشافه لدي الغير و عليه تمام الحرمة.. و أما في غيرهما من مجامعة الحيوان أو الميّت و كذلك الاستمناء بأقسامه لا سيما بالنظر و التخيّل فلا دلالة فيها علي حرمتهما لعدم كشف العورة علي الغير المحرم فلا ينافي التحفّظ، و لا بدّ من التماس دليل آخر علي الحرمة فيها، فانه يقال: إن تعبير الآية الكريمة لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ، لا حافظون فروجهم عن الغير، فالواجب نفس التحفّظ و المنع عن التمايلات و الشهوات النفسية و القيام بتلك الأعمال التي تنافي الحفظ و التحفّظ و المنع و إن لم يصدق كشفه علي الغير، فالآية الكريمة تدلّ علي حرمتها أيضا.

و يستفاد من عطف: مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ علي: أَزْوٰاجِهِمْ بحرف: «أو»:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 23

أنّ الزوجية لا تقع علي

الملكية و انهما لا يجتمعان، و إن كانت تقع في المملوك أيضا، فلا يصح للمالك أن يكون زوجا لمملوكته، و لا زوجة لمملوكها، و إن كان يصح تزويج مملوكه بالحرّ أو الرق، كما يصح له إجازة تزويج المملوك نفسه أو لنفسه فضوليا مع حرّ أو رق كما فصّل في محلّه.

و لعلّ الوجه هو أن النكاح يشبه البيع من جهات و هو عقد و عهد بين الزوجين و ليس ببيع كما سيأتي بيانه، فكأن الزوج و الزوجة متبايعان، و المهر و البضع ثمن و مثمن مع عدم التعيّن في طرف الزوجة، و لا معني لمبادلة الانسان مع ملكه- بنفس رغبات ذلك الملك- بملكه الآخر كما لا معني لتبديل ملك مع ملك في الملكية لمالك واحد، و لو قلنا بمالكية الرقيق فان العبد و ما في يده ملك لمولاه، و النكاح و عقده بين المالك و المملوك يرجع الي ذلك كما لا يخفي.

نعم.. لا يبعد الجواز بين السيدة و عبدها علي ما عرفته من قبل، فانها لا تملك الاستمتاع به فيصح بالعقد، و إطلاق عدم الجمع بين الزوجية و الملكية باق علي حاله من غير تقييد بمفاد: «أو».

خاتمة في الآية الكريمة:

قد عرفت دلالة الآية الكريمة علي انحصار جواز الاستمتاع و ترك حفظ الفرج بأمرين: الزوجية و الملكية، عينا و منفعة أو انتفاعا كتحليل الأمة، و أما الهبة بأن تهب المرأة نفسها لرجل من غير زواج فلا يكون، و لم يكن إلّا للنبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، قال تعالي- عطفا علي المحللات:.. وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهٰا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرٰادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهٰا خٰالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (الاحزاب [33] الآية 50)، و كان ذلك لحكمة

خاصة في وقت خاص مع احتمال تحقق النكاح بمعناه: العقد و التعاهد بعد أن أوهبت نفسها له (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و قبل النكاح بمعني التعلّق و الدخول فلا نقض للانحصار، مع ان الهبة تمليك للعين، و لا تتعلّق بالمنفعة كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 24

و ليس للحرّة تمليك نفسها ليلحق جواز الاستمتاع بالملك، كما لا يصح تملّك إنسان لإنسان آخر بذلك.

الفصل الثاني: الالتزام بالعقد في الزواج

اشارة

ما يدلّ علي أن النكاح أمر لا يتحقق إلّا بالتعاهد و العقد بين الزوجين ليثبت علي كل منهما بذلك أحكام قبال التزام الآخر، و ثبوت أحكام له أيضا، و ما لم يعقد ذلك التعاهد و الالتزام بين الطرفين لا تتحقق تلك الرابطة المجوّزة للاستمتاع.

و أما الرضا الباطني و التقاول بين الطرفين فليسا بعقد و لا يكفيان عنه، و كما أنه لا يتحقق إلّا بعقد له أحكام، فهو لا ينحل و لا ينفصل إلّا بسبب، و له أحكام أيضا، و بعد إجرائه تثبت أحكام أخري.

فهنا ملتزمان: موجب و قابل، و هما ركنان، و في البين شي ء يعقد عليه، فتتحقق في الاعتبار الزوجية، و التزامهما: كون الرجل زوجا للمرأة و المرأة زوجة له، فيخرجان عن الانفراد في الاعتبار و العين، و في المقام أمر آخر يتعلّق الالتزام الزوجي به و هو الصداق و النحلة قبال تسلّم المرأة، و لكلّ من تلك الأمور أحكام تتعرض لها الآيات المباركة في كتاب النكاح و الطلاق، و كيف كان ففي الفصل آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسٰاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّٰهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لٰكِنْ لٰا تُوٰاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلّٰا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً

وَ لٰا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكٰاحِ حَتّٰي يَبْلُغَ الْكِتٰابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 235)

الآية الكريمة و إن كان سياقها بيان النساء اللاتي توفّي عنهنّ أزواجهنّ،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 25

و عليهنّ أن يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً «1»، و أنه لا جناح عليهنّ بعد بلوغ الأجل و انقضاء العدّة ان يفعلن في أنفسهنّ ما هو المتعارف ممّا يدل علي التمايل الي الزواج المصرّح به في الآية الكريمة السابقة، إلّا أنها تعني الرجل في تثبيت و إمضاء ما هو المتعارف أيضا من الخطبة، و إظهار الرغبة في النساء بوجه معروف بين الناس علي اختلاف آدابهم، ثم تصرّح الآية الكريمة بأنّه لا جناح علي المكنون في النفس من حبّ النساء و من العلاقة بامرأة يريد الزواج منها ما لم ينته الي التواعد معها سرّا عن أهلها. نعم لا بأس بالمقاولة العادية معها سرّا عن أهلها استطلاعا علي نظرها و رعاية لجانبها، و لا سيما في المبحوث عنها، و هي المتوفّي عنها زوجها المتوقّع انقضاء عدّتها، فالتزويج معها، و لا يبعد الاختصاص بها.

عدم مشروعية العقد قبل انقضاء العدّة

ثم بعد ذلك كلّه تنهي الآية الكريمة صراحة عن عزم عقدة النكاح قبل أن ينتهي الكتاب أجله و تنقضي العدّة للزوجة المتوفّي عنها زوجها فتخرج عنها، فتدلّ الآية الكريمة علي ان التقاول و التراضي سرّا كان أو علنا غير انعقاد ذلك العزم، و عقدة النكاح غيرهما، فالنكاح عقد يعزم، و عزم يعقد عليه، لا بدّ أن لا يكون في العدّة، فلا زوجيّة قبل العقد و لو مع التراضي، فالآية الكريمة و ان لم تكن في مقام بيان لزوم العقد في

تحقق النكاح إلّا أنها تعطيه بوجه أصرح من الفراغ عن لزوم ذلك و ان هناك عقدا يعزم و عزما يعقد، إلّا أنه لا بدّ و أن لا يكون في العدّة، و لا بأس بمقدماته قبل انقضائها من التقاول و التراضي و التوافق حسب الحدود الشرعية.

ثم ان العقد الذي أرشدت إليه الآية الكريمة في المقام هو الموجود في مختلف المجتمعات حتي الذين لا يعتقدون بدين و شريعة أيضا، فان السفاح لديهم

______________________________

(1)- كما سيأتي في بحث العدة ان شاء اللّه تعالي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 26

غير النكاح، و انه يتوقّف تحققه علي توافق مظهر بلفظ صريح أو إمضاء و كتابة علي اختلاف الآداب المتعارفة؛ و في الاسلام باللفظ فقط.

و العقد هذا علي الأصل لا يكون إلّا بيد الطرفين من الزوج و الزوجة و لو بالوكالة أو بواسطة وليّهما علي ضوء أدلّة الولاية- كما وضّح «1».

قال تعالي:

.. أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ. (البقرة [2] الآية 237)

و سيأتي الكلام عنه في كتاب الطلاق إن شاء اللّه تعالي.

ثم إنّ العقد المذكور لا يعزم و لا يستحكم إلّا بإنشاء واضح و بيان صريح من لفظ: النكاح و الزواج و ما يقوم مقامهما علي اختلاف الألسن و اللغات، و لا تكفي الألفاظ المشتركة، و لا الكناية أو الاشارة الي قرار ترتبط به السعادة الفردية و الاجتماعية، فلا ينعقد بسهولة و لا ينحلّ بتخيّل.

و أما توهّم جواز انعقاده بلفظ الهبة كما في زواج النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فمدفوع- بما عرفت- من أنه لو كان قبال النكاح و الملك لكان مختصا بنفسه الشريفة من دون المؤمنين كما عليه صراحة الآية الكريمة.

الصداق

الثانية- قوله تعالي:

وَ آتُوا النِّسٰاءَ صَدُقٰاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ

طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً. (النساء [4] الآية 4)

تأمر الآية الكريمة بإيتاء النساء صدقاتهنّ و أنه لا يحل أكلها إلّا اذا طابت أنفسهنّ بها أو بشي ء منها، فان الصداق و المهر و هو المال الذي تملكه الزوجة قبال

______________________________

(1)- في كتاب: «الولاية و الحكومة» في الجزء الثاني.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 27

تملّك الزوج الاستمتاع بها، مقدّرا كان ذلك المال و مسمّي أو مثلا يشبه الثمن في البيع، و الزوجان يشبهان المتعاملين فيتوقّف تمامية العقد و صحته علي المهر، و يجب عليه ردّه إليها لدي المطالبة، و لها ذلك في كل وقت حتي قبل تسليم نفسها إليه، كما عليها ذلك في كل وقت طلب منها، كل ذلك بمقتضي العقد، و تشير الي ذلك (أي الي الصداق و النحلة) آيات الطلاق أيضا مثل قوله تعالي:.. وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مٰا فَرَضْتُمْ..، كما سيأتي بيانها إن شاء اللّه.

و عليه فأكل الزوج للمهر (الصداق) بلا طيب من نفس زوجته أكل للمال بالباطل، و مع طيب نفسها فهو هني ء مري ء يؤكّد هناءته البضع بلا عوض.

و كذلك البحث في أجورهنّ في المنقطع من النكاح لقوله تعالي:

«فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً..» (النساء [4] الآية 24)، كما سيأتي الكلام عنه إن شاء اللّه.

الثالثة- قوله تعالي:

قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا يٰا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ* قٰالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَي ابْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ عَليٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمٰانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شٰاءَ اللّٰهُ مِنَ الصّٰالِحِينَ* قٰالَ ذٰلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلٰا عُدْوٰانَ عَلَيَّ وَ اللّٰهُ عَليٰ مٰا نَقُولُ وَكِيلٌ* فَلَمّٰا

قَضيٰ مُوسَي الْأَجَلَ وَ سٰارَ بِأَهْلِهِ … (القصص [28] الآيات 26- 29)

تقصّ الآية الكريمة إنكاح شعيب النبي (عليه السّلام) ابنته من موسي النبيّ (عليه السّلام) و قبول عمله ثماني حجج أجرة و عوضا له، و الحكاية تعطي أمورا:

الأول: جواز خطبة المرأة للرجل، فقد قالت إحداهما: يا أبت استأجره؛ إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين، و توصيفها إيّاه في المقام يشعر بذلك و لا بأس به من حيث هو.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 28

الثاني: لزوم وجود العوض و المهر في النكاح، و ذلك أمر عقلائيّ.

الثالث: إن المهر في النكاح لا بدّ و أن يكون مالا يصحّ أن يبذل بإزائه المال كائنا ما كان، حتي العمل في المستقبل، و لو تعليم سورة من القرآن كما ورد في السنة المباركة، و المهر هذا لا بدّ و أن يكون معيّنا مضبوطا كثماني سنوات و إتمام العشر من عنده و التعيين، ذلك لا بدّ منه حتي بين المعيّنين فان الترديد في قوله: إِحْدَي ابْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ و كذلك في أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ لم يكن إلّا في مقام المقاولة قبل عزم عقدة النكاح و إحكام عهدته كما صرّح به كلامه: أُرِيدُ، و أما التي جعلت منكوحة و ما جعل مهرا كان معيّنا معلوما لقوله تعالي: فَلَمّٰا قَضيٰ مُوسَي الْأَجَلَ، و ما قضاه كان مشخّصا، و الترديد في مقام المقاولة لا يضرّ بعد الجزم و البتّ و التعيين في أطراف العقد، و أما عدم التقدير في طرف البضع طبيعي و لذلك يشبه النكاح بالبيع و ليس ببيع.

و من المعلوم أن الصداق للزوجة كما ان البضع للزوج، و ظهور قول شعيب (عليه السّلام): عَليٰ أَنْ تَأْجُرَنِي في وقوع الأجرة له لا لابنته مندفع بمقام المقاولة

و ولايته عليها، و في العمل تقع لها أو له بمصالحتها لأبيها، و لا وجه لصيرورتها له ابتداء.

الفصل الثالث: المتعة أو الزواج المؤقت

قد عرفت ان جواز الاستمتاع و ترك التحصّن و حفظ الفرج ينحصر في أمرين، و هما: النكاح و ملك اليمين، ثم ان النكاح قسمان، هما: دائم و منقطع، علي ما يصرّح به قوله تعالي:

… وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوٰالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 29

فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا تَرٰاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً. (النساء [4] الآية 24)

فان تعبير الاستمتاع و أداء الأجرة متفرّعا علي حلّية ما وراء المحرّمات المذكورات، و الابتغاء بالأموال محصنين تاركين السفاح قبال النكاح و الصداق في الآيات الكريمة السابقة، و ملك اليمين فيها و في اللاحقة «1»، مع العلم بحرمة الاستمتاع في غيرهما، يفيد صريحا أن ذلك قسم من النكاح يطلق علي صداقه الأجرة و علي عقده المتعة، و هذا هو النكاح المنقطع المؤقت، و في بعض القراءات بعد كلمة: «منهنّ»: الي أجل مسمّي «2»، مضافا الي ثبوت ذلك بالسنّة المباركة العملية و القولية في زمن رسول اللّه (عليه السّلام) و لا سيما عند فتح مكة «3»، و لا يعبأ بقول من لا ضمان لرأيه و لا وقع لاجتهاده قبال النص.

و بعبارة أخري: آيات سورة النساء الباحثة عن النكاح و أحكامه و فروعه من أول الأمر من قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا وَ بَثَّ مِنْهُمٰا رِجٰالًا كَثِيراً وَ نِسٰاءً الي قوله: فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ مَثْنيٰ وَ ثُلٰاثَ وَ رُبٰاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ

أَلّٰا تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنيٰ أَلّٰا تَعُولُوا وَ آتُوا النِّسٰاءَ صَدُقٰاتِهِنَّ نِحْلَةً.

ثم آيات ذكرت فروعا أخري ترتبط بالصداق و الروابط الزوجية و التوارث بينهما و فروعها الي قوله تعالي: وَ لٰا تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ، و ذكر

______________________________

(1)- من قوله تعالي: «فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ..» كما سيأتي الكلام فيها إن شاء اللّه.

(2)- كما عن أبي بن كعب و عبد اللّه بن عباس و سعيد بن جبير و غيرهم.

(3) صحيح مسلم عن عبد اللّه بن مسعود.. ثم رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب الي أجل.. و عن جابر بن عبد اللّه، قال: كنّا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق لأيام علي عهد رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و أبي بكر حتي نهي عنها عمر في شأن عمرو بن حريث، و أما نسخها من ناحية الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فمختلف فيه لديهم أيضا، فراجع مختصر صحيح مسلم ج ص 210.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 30

محرّمات أخري بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ … الي قوله: وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ ففي مثل هذا السياق الذي تكون الآيات بصدد بيان تمام أقسام الحلال و الحرام من النكاح و فروعه تبيّن تفريع الاستمتاع بالأجرة و الابتغاء بالأموال مع لزوم التحصّن و ترك السفاح، و هو صريح في تقسيم التحصّن الي النكاح و الاستمتاع و الملك، و الثاني هو النكاح المؤقّت لصدق الأجرة قبال الصداق نحلة، و لا ينافي ذلك إطلاق الأجرة في نكاح المؤمنات المهاجرات الأعم من الدائم و المنقطع، قال تعالي:.. وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذٰا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.. (الممتحنة [60]

الآية 10)، كما لا ينافي قوله تعالي: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (النساء [4] الآية 25) الدال علي صحة نكاح الإماء أيضا دواما و منقطعا باذن أهلهنّ و مالكهنّ لمن لم يستطع طولا أن ينكح المحصنات، فان إطلاق الأجرة علي المهر غير مقابلتها معه مع التصريح بأن ذلك اذا لم يكن مسافحات زانيات أو متّخذات أخدان، فان اتخاذ الخدن و معاشرة الفتيات و الفتيان بالتصادق و التلاصق محرّم كالزنا، كما يشير إليه ذكرهما معا في آيات «1».

ثم لا إشكال في أنه يعتبر في نكاح المنقطع ما يعتبر في الدائم من شروط العقد، و يزيد فيه تعيين المدة التي تراضيا عليها بعد فريضة الأجرة، فلا يكفي نفس تراضيهما بالاستمتاع مدة قبال أجرة بل لا بدّ من العقد بلفظ صريح في المتعة بأيّ لغة بعد عدم تمكّنهما من العربية و تعيين الأجرة و المدة.

ثم لا جناح عليهما فيما تراضيا عليه من بعد الفريضة أيضا بالزائد عليها بأن يكونا معا أكثر مما فرضاه أولا من المدة و الأجرة من بعد انقضاء المدة المفروضة بقرار جديد و عقد آخر، فلا تصح الزيادة في المدة و الأجرة بالتراضي فقط بل من بعد الفريضة الأولي إلّا أن تهب باقي المدة من الفريضة الأولي حتي يصدق الانقضاء

______________________________

(1)- «غَيْرَ مُسٰافِحٰاتٍ وَ لٰا مُتَّخِذٰاتِ أَخْدٰانٍ..». (النساء [4] الآية 25) «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ وَ لٰا مُتَّخِذِي أَخْدٰانٍ..». (المائدة [5] الآية 5)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 31

و التراضي الجديد، و الفريضة بعد انطباقها علي الأجرة تشمل المدة أيضا تحقيقا للتراضي أي التوافق في جوانب الأمر.

و بعبارة أخري: إن نفس حلّية الابتغاء بالأموال و الاستمتاع منهنّ بأداء الأجرة فريضة معلومة، لا تعطي لزوم تعيين المدة

أيضا إلّا بالملازمة بين فرض المال و فرض الوقت للحال في قوله تعالي: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، و أما قوله: وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا تَرٰاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إما تأكيد للأول، و أنه بعد تحقّق الفريضة في الأجرة و التراضي في المدة فلا جناح عليكم، كما لا يبعد، و اما تجويز للتجديد بعد انقضاء الفريضة الأولي مدة و أجرة فيما تراضيا عليه للاستقبال، فالتراضي للحال كان أوله للاستقبال تجديدا يفيد لزوم تعيين المدة- كما لا يخفي-.

مع أن الأمر متّضح بالسنّة الشريفة بحمد اللّه علي التفصيل في محله.

الفصل الرابع: المحرمات

اشارة

لا يحلّ نكاح بعض النساء بالنسب أو السبب، و قد أوضح ذلك في آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لٰا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكٰاتِ حَتّٰي يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لٰا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّٰي يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَي النّٰارِ وَ اللّٰهُ يَدْعُوا إِلَي الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آيٰاتِهِ لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. (البقرة [2] الآية 221)

تنهي الآية الكريمة المؤمنين عن نكاح المشركات و تقول: المؤمنة خير من المشركة و لو كانت معجبة بحسنها، و كذا تنهي المؤمنات عن نكاح المشركين و لو كانوا معجبين، فالشرك و الكفر يمنعان عن صحة نكاح المؤمن معهم لا أن نكاح

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 32

المشركين و الكفّار بين أنفسهم باطل حيث أن لكل قوم نكاح، فلا بدّ إذن و أن يكون زوج المؤمنة أو زوجته مؤمنا أو مؤمنة، قال تعالي: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ»، وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ من مشرك و مشركة، و يصرّح بذلك أيضا قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ الْمُؤْمِنٰاتُ مُهٰاجِرٰاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِهِنَّ

فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنٰاتٍ فَلٰا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَي الْكُفّٰارِ لٰا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لٰا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ..

(الممتحنة [60] الآية 10)، و في الكفّار قال تعالي: وَ لٰا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوٰافِرِ..

الدال علي بطلان نكاحهنّ.

و من المعلوم أن الايمان في المقام أريد به معناه الأعم و هو الاسلام، فيصح نكاح العامي بل المانع الشرك و الكفر، فيصح نكاح الكتابيين، و لا يشترط فيه الاسلام، نعم ما ذكر تعليلا من قوله تعالي: أُولٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَي النّٰارِ وَ اللّٰهُ يَدْعُوا إِلَي الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ لعلّه يعطي لزوم التحذّر عن كل نكاح يدعو أحد طرفيه الآخر الي النار، و لا سيما اذا كان الداعي الرجل لضعف المرأة، و لذلك يجتنب عن نكاح المرأة المؤمنة مع العامي بل مع المؤمن الشارب للخمر الفاسق كما في السنّة الشريفة، و لعلّه لذلك أيضا خصّ الجواز في الكتابيين بالمنقطع لعدم الدعوة فيه، و لا ينتقض بالمشركة الكافرة المحرّمات حتي الموقّت، فان النار فيهما أشدّ و أحرق منهنّ بعد إيمانهنّ باللّه و اليوم الآخر كما لا يخفي.

و لا يبعد دلالة الآية تعليلا و معللا علي مسألة الكفاءة و أن المؤمن كفو المؤمنة، ثم مراتب الايمان حتي ينتهي الي اختلاف مراتب العلم و الأدب دون المال و المنال كما هو المتعارف اليوم، فالملاك هو الدعوة الي النار، و ملاحظة مراتب الاختلاف التي ينتهي ترك رعايتها الي الدعوة الي النار بمراتبها كما لا يخفي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 33

المحارم

الثانية- قوله تعالي:

وَ لٰا تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ إِلّٰا مٰا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَ مَقْتاً «1» وَ سٰاءَ سَبِيلًا* حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ وَ عَمّٰاتُكُمْ وَ خٰالٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُ الْأَخِ وَ بَنٰاتُ

الْأُخْتِ وَ أُمَّهٰاتُكُمُ اللّٰاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ مِنَ الرَّضٰاعَةِ وَ أُمَّهٰاتُ نِسٰائِكُمْ وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسٰائِكُمُ اللّٰاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلٰائِلُ أَبْنٰائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلٰابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلّٰا مٰا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَ الْمُحْصَنٰاتُ مِنَ النِّسٰاءِ إِلّٰا مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ كِتٰابَ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ …

(النساء [4] الآيات 21- 24)

الآيات الكريمة تنهي عن نكاح منكوحة الأب و تحكم علي أنّ ذلك فاحشة و مقت، و كذلك منكوحة الجدّ للصدق عليه، و هي غير الأم لذكرها قبالها و التصريح بها بعدها مستقلا عنها، فالمحرّمات في الآيات الكريمة عددها ثلاث عشرة طائفة، و هي:

زوجة الأب و الجدّ، و الأم نسبا و رضاعا و إن علت، و البنت كذلك، و الأخت نسبا و رضاعا، و العمّة التي هي أخت الأب، دون عمّة العمّة ما لم تكن عمّة، و الخالة التي هي أخت الأم دون خالة الخالة ما لم تكن خالة، و بنت الأخ، و بنت الأخت و إن علتا، و أم الزوجة، و بنت الزوجة المدخول بها من زوج آخر دون غير المدخول بها، و حليلة الابن من الصلب دون الأدعياء كما سيأتي بيانه، و أخت الزوجة- جمعا بهما دون التفريق-، و المحصنة ذات البعل، فان كل هذه الموارد يحرم نكاحهنّ، و ذلك

______________________________

(1)- المقت: البغض الشديد لمن تراه تعاطي القبيح.. (المفردات).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 34

حكم اللّه تعالي و كتابه عليكم «أيها المسلمون» و أحلّ لكم ما وراء ذلك.

و الظاهر: إنّ العناوين السببية مثل منكوحة الأب و أم الزوجة و بنتها و أختها تشمل الزنا و

الوطي بشبهه أيضا، فتحرم أم المزني بها أو الموطوءة بشبهة و بنتها علي الزاني، و تحرم هي بنفسها علي أبيه و ابنه، فان الأول مصداق: أُمَّهٰاتُ نِسٰائِكُمْ»، و الثاني مصداق: رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسٰائِكُمُ اللّٰاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، و الثالث مصداق: حَلٰائِلُ أَبْنٰائِكُمُ» بالنسبة الي أبيه: مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ بالنسبة الي ابنه.

و ليس ذلك بمعني الإلحاق موضوعا أو حكما بالسنّة المباركة، فان الزنا و الوطي بشبهة ليس من النكاح، و كيف يصدق علي المزني بها أنها من: حَلٰائِلُ أَبْنٰائِكُمُ، بل القطع بأن النكاح بملاكه الأصلي غير المنفكّ عنه غالبا أي الدخول لو لم يكن ذلك معناه اللغوي، فانه يوجب الحرمة و يورثها، و العقد يوجب حلّيته و لعلّه لم يصدق عليه مقيّدا بعدم الدخول و الحليلة و إن كانت بلحاظ كونها معقودة عليها، إلّا أن أساس الحرمة هو الزوجية و المباشرة و الدخول مع التصريح به في ناحية الربيبة، و الإطلاق و الصدق يعطي الحرمة في الحليلة و أمهات النساء بعد العقد و لو قبل الدخول، كل ذلك بعد الزنا أو الوطي بشبهة و أما اذا طرءا علي العقد لم تحرم لانعقاد العقد بلا مانع كما هو ظاهر.

و الذي ينبغي الإشارة إليه: إنّ المذكورات في المقام هنّ المحرمات نكاحهنّ دون المحللات من ناحية النظر إليهنّ، و لا تلازم بينهما و إن كان بعضه كذلك علي ما في آية النظر، فقد قال تعالي بعد ايجاب الحجاب و تحريم النظر:

لٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبٰائِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰائِهِنَّ وَ لٰا إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ أَخَوٰاتِهِنَّ … (الاحزاب [33] الآية 55)، فيجوز للأب النظر الي ابنته، و للابن الي أمّه و أخته، و لابن

الأخ الي عمته، و لابن الأخت الي خالته، كل ذلك من غير ريبة، كما سيأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالي في محله، و أما غيرها فلا يستفاد من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 35

حرمة نكاحهنّ جواز النظر، كما تري في المحصنات اللّاتي عدّت من الأول، و لا يجوز النظر إليهنّ قطعا فلا بدّ من التماس دليل آخر إلّا أن تقبل التنزيل حتي تكون منكوحة الأب بمنزلة الأم و كذا أم الزوجة بتنزيل الصهر منزلة الابن و الربيبة بمنزلة البنت لا سيما مع القيد، و أما بنت الأخ و بنت الأخت فبتنزيل العم و الخال منزلة العمّة و الخالة دون تنزيلهما منزلتهما لعدم وجود وجه لهما، و الأمر سهل بعد التفصيل في السنّة الشريفة بحمد اللّه.

المحيض

الثالثة- قوله تعالي:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذيً فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰي يَطْهُرْنَ فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. (البقرة [2] الآية 222)

أمر اللّه تعالي في هذه الآية الكريمة باعتزال النساء في المحيض، لأنّه أذي حَتّٰي يَطْهُرْنَ، فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ يجوز إتيانهنّ من حيث أمر اللّه.

فلا إشكال في دلالة الآية الكريمة علي حرمة المباشرة بمعني المواقعة معهنّ حال الحيض، لأنّه المتيقّن المتوقّع منهنّ مع تناسب الحكم و الموضوع، فان كيفية الأذي يناسب منع المواقعة، و أما الاستمتاع بما دون ذلك فهو باق علي الجواز و الحلّية استصحابا لا بل دليلا لأن المواقعة فقط متيقّنة الخروج.

كما ان المتيقّن من الحرمة حالة الابتلاء به فقط، أما بعد زواله و قبل الغسل فهو باق علي الجواز أيضا، و لا تستصحب الحرمة لأن المتيقّن هو ذلك المقدار، و لا شكّ لإطلاق دليل الجواز

مع ارتفاع تناسب الحكم و الموضوع، نعم لو ثبت أن التطهّر المذكور غاية للنهي في قوله تعالي: حَتّٰي يَطْهُرْنَ بالتشديد لكانت

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 36

الحرمة الي الغسل و لم يثبت هذا «1».

و أما الأمر باتيانهنّ بعد التطهّر أو التطهير حيث أنه عقيب الحظر فلا يعطي شيئا إلّا ما كان عليه قبله فانه لبيان منتهي الحرمة لا مبدأ الجواز.

ثم تقييد الإتيان بقوله تعالي:.. مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّٰهُ يشعر الي لزوم تعديل إتيانهنّ الي ما هو المتعارف بين الزوجين زجرا عن وطئهنّ دبرا علي حدّ الكراهة بل الحرمة لو كان الأمر تحديدا، إلّا أنه راجع الي ما هو الأمر من أول الأمر علي سعة قوله تعالي: نِسٰاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰي شِئْتُمْ (البقرة [2] الآية 224)، زمانيا كان كلمة: أَنّٰي أو مكانيا ألّا أن يقال برعاية المحرث، و الدبر كأرض سبخة لا تحرث ما يزرع فيها، و كيف كان الحكم بالحرمة فهو خلاف الاحتياط، و الاحتياط في تركه أولي و لا بأس بالحكم بالكراهة الشديدة كما لا يخفي.

______________________________

(1)- فان التطهّر متعدّيا ظاهر في رفع الحدث و القذارة النفسية كما يرشد إليه موارد استعماله في الكتاب الكريم، فقال تعالي: «إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفٰاكِ عَليٰ نِسٰاءِ الْعٰالَمِينَ» (آل عمران [3] الآية 42)، و قال أيضا: «.. أُولٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّٰهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ..» (المائدة [5] الآية 41)، و قال أيضا: «.. أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ» (الاعراف [7] الآية 82)، و قال أيضا: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ» (التوبة [9] الآية 103)، و قال أيضا: «إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (الاحزاب [33] الآية 33)، و غيرها من موارد

كثيرة مثل التي في سورة (النمل [27] الآية 56)، و في سورة الأنفال [8] الآية 11) و غيرها، فان الموارد لا تساعد علي غير رفع الحدث و طهارة الباطن، كما ان ظاهر استعماله لازما في رفع الخبث و النجاسة الظاهرية كما هو معناه اللغوي في قولهم: (طهر ضدّ نجس)، قال تعالي: «وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً» (الفرقان [25] الآية 48).

و الأمر في آية الطهارات الثلاث حيث انه متعدّ يفيد وجوب الغسل و التطهّر في النفس زائدا علي التنظيف الظاهري، و الخبث الذي لا بدّ من إزالته في الجنابة و الحيض أبعد عن مقام الانسانية و توغّل في الحيوانية لا سيما في الجنابة حال الإجناب و المباشرة، و ذلك معني الجنابة لغة دون البعد عن أحكام الطاهرين، كما قيل، فانه اعتباري، و الحدث أمر نفسي عيني و لذلك لا يرتفع إلّا بالتقرّب الي اللّه تعالي حين امتثال أمره فيعود الي الانسانية، و يعتدل حيث ان الانسان ينجذب الي قطب بالإصرار و التكرار و ترتفع خباثته الظاهرية أي النجاسة التي تكون تحت كل شعرة في الجنابة أيضا.

و كيف كان ففي المقام حيث يمكن القراءة متعديا و لازما و لا دليل علي تعيين أحدهما لا وجه للحكم بالحرمة قبل الغسل، و قد أشير إليه في كتاب الطهارة أيضا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 37

الظهار

الرابعة- قوله تعالي:

مٰا جَعَلَ اللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ مٰا جَعَلَ أَزْوٰاجَكُمُ اللّٰائِي تُظٰاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهٰاتِكُمْ وَ مٰا جَعَلَ أَدْعِيٰاءَكُمْ أَبْنٰاءَكُمْ ذٰلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوٰاهِكُمْ وَ اللّٰهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. (الأحزاب [33] الآية 4)

الآية الكريمة تنفي و تردّ بعض ما كان في عصر الجاهلية شائعا معتبرا، منها أنّه تعالي لم

يجعل لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «1» و انه لا يمكنه التوجّه الي أمرين في آن واحد، و لعل منه امتناع اجتماع الدنيا و الآخرة بمعناه المشروح في وجه، فلا يجتمع وجهان يلي أحده الربّ و يلي الآخر الخلق.

و منها أنّه ما جعل اللّه أزواجكم اللائي تظاهرون منهنّ أمهاتكم، فلا يتمّ ما هو المعمول بينهم من جعلهم القول للزوجة: «أنت عليّ كظهر أمّي» طلاقا بل أشدّ منه يورث الحرمة الأبدية و تصير الزوجة بمنزلة الأم. و نفي ذلك بردّ الأمومة و أنه لا يوجب الحرمة الأبدية، لا ينافي الحرمة و هي ترتفع بالكفّارة علي ما سيأتي بيانه إن شاء اللّه في ختام كتاب الطلاق في بحث الظهار و الإيلاء.

و منها أنّه ما جعل اللّه أدعياءكم أبناء لكم، فلا يترتّب عليهم أحكام الأبناء بدعائكم لهم، فان ذلك قول و تفوّه لا أساس له في الخلقة و لا في الاعتبار الشرعي، فلا يحرم عليكم حلائلهم بعد الطلاق و لا حلائلكم عليهم كذلك، فانهنّ لا أمهات لهم و لا أزواج الآباء و منكوحاتهم، كما انهنّ لسن بحلائل الأبناء، و صرّح بذلك النفي أيضا تقييد الابن بالصلب في قوله تعالي عطفا علي المحرمات:.. وَ حَلٰائِلُ

______________________________

(1)- قيل في شأن الجملة أنه كان رجل يقال له: جميل بن معمر بن نهري شديد الحافظة و كان يقول: (إنّ لي قلبين اعلم بكل منهما أكثر من علم محمد..)، و لذا فان قريشا أسموه: (ذو القلبين)، فعند انهزام الكفّار في معركة بدر رأوه هاربا آخذا بيده إحدي نعليه و الأخري برجله، فقيل له: انتبه..!! قال: ما كنت أعلم ذلك، فعلموا أنّه ما كان له من قلبين في زمان، و الآية علي سياق الكلّي، فقد

بيّنت الحقيقة النفسية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 38

أَبْنٰائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلٰابِكُمْ، فلا تحرم حلائل غير الصلبي ممن تدعونهم أبناء، و أصرح من ذلك كلّه قوله تعالي:.. لِكَيْ لٰا يَكُونَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوٰاجِ أَدْعِيٰائِهِمْ إِذٰا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً في قصة زيد و تزوّج النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) زوجته بعد ما طلّقها- علي تفصيل في محله.

و حكم اللّه تعالي في ذلك كلّه هو الحق و سبيله هو الرشاد، و هو أحقّ أن يتّبع لا حكم الجاهلية التي تبغي عوجا، فهو قول يتفوّهون به بألسنتهم من غير تدبّر و تأمّل.

فعليكم (أيها المسلمون) أن تدعوا كل أحد لأبيه فان ذلك أقسط و أعدل عند اللّه تعالي، فان لم تعلموا آباءهم و لا تعرفونهم فهم إخوانكم في الدين و مواليكم في الايمان، و ليس عليكم جناح فيما أخطأتم، و لكن ما تعمّدت قلوبكم، و كان اللّه غفورا رحيما.

أمّهات المؤمنين

الخامسة- قوله تعالي:

.. وَ مٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ وَ لٰا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ عِنْدَ اللّٰهِ عَظِيماً. (الاحزاب [33] الآية 53)

تنفي الآية الكريمة صراحة جواز نكاح أزواج النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من بعده أبدا و بذلك تعطي الحرمة الأبدية و أنه لا يجوز للمؤمنين نكاحهنّ من بعده سواء كان ذلك بملاك التحليل و الاحترام لمقام النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو لمقام أزواجه من بعده، كما يعطي نفس الحكم قوله تعالي: النَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ (الاحزاب [33] الآية 6)، فان جعل الأمومة اعتبارا شرعيا في سياق جعل الولاية لا يصح إلّا بالإلحاق بالحكم، فحرمتهنّ كحرمة الأم الأبدية،

فلا يرد عليه ما عن صاحب كتاب (الكنز)- رضوان اللّه عليه- من لزوم حرمة أولادهنّ أيضا فانهنّ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 39

أخوات للمؤمنين و هكذا العمومة، لأن التنزيل و الاعتبار يقتصر علي دليله و يدور الحكم مداره، فلا يصغي الي ما توهّم أن ذلك عنوان لهنّ للتجليل بقرينة أولوية النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، كما لا يصغي الي حمل النهي المستفاد من النفي علي التنزيه و الكرامة، فان ذلك يردّه صراحة العطف علي الإيذاء المحرّم قطعا لا سيما في سياق بحث العشرة مع النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بالأمر و النهي من قوله تعالي: لٰا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلّٰا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِليٰ طَعٰامٍ غَيْرَ نٰاظِرِينَ إِنٰاهُ وَ لٰكِنْ إِذٰا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذٰا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا «1» … الآيات، علي ما سيأتي بحثها إن شاء اللّه تعالي في كتاب:

المجتمع و الآداب.

و أما الولاية الشرعية المجعولة للنبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في طول ولاية اللّه تعالي و ولاية المؤمنين علي أنفسهم و أموالهم من قبيل ولاية الأب و الجد من دون ورود العاملين علي معمول واحد- كما أشرنا إليه في كتاب الولاية و الحكومة- فهي غير مرتبطة بولايته التكوينية التي هي مسألة ثقيلة قد أوصي الأئمة المعصومون (صلوات اللّه عليهم) أصحابهم بترك ذكرها و ذكر أمثالها من مسألة الطينة و غرض الخلقة و القضاء و القدر، و الجبر و التفويض … و غيرها ممّا يصعب حلّها علي العموم إلّا أن يجدوا أهلها فيبيّنوها لهم بارشاداتهم حسب الشروط في روايات خاصة لا تخفي علي من له قلب أو ألقي السمع و هو شهيد.

و الولاية بمعني الوساطة في الفيض الوجودي

عن اللّه تعالي لا مستقلا عنه، و هي ثابتة له (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و للأئمة المعصومين (عليهم السّلام) بما أنهم نور واحد مخلوق قبل كل شي ء، حينما لم يكن مع اللّه أحد، لا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل، و بما أنهم مجاري الفيوضات الحقيقية و الأنوار العينية، فلا يوجد شي ء بلا وجود، و لا وجود بلا علّة، و لا علّة إلا و هو معلول متسلسلا الي أول معلول لا علّة له إلّا علّة العلل

______________________________

(1) الاحزاب [33] الآية 53.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 40

و الوجود الغني الواجب المبدئ الأول الذي هو اللّه تعالي و هو علّة و لا معلول، و أول معلوله نور واحد، فان الواحد الحقيقي من جميع الجهات لا يمكن أن يصدر عنه إلّا واحد، كما ان الواحد الكذائي لا يصدر إلّا عن الواحد و هو المجري لجميع الفيوضات المنتشرة يعبّر عنها بالعقل الأول، الوجود المنبسط و الحقيقة المحمدية (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فان أول ما خلق اللّه العقل و نورهم (عليهم السّلام) المتنوّر به كلّ ظلمة، و المهيات ظلمات، و الوجود نور حقيقي، فكل وجود تنوّر به شي ء و ماهيّته فيض يصدر عن المبدأ الأول و يعبّر عن معلوله الأول، و ذلك معني وساطتهم في الفيض و ولايتهم في الكون، و لا شي ء إلّا تحت ولايتهم، و حيث ان العلّة واجدة للمعلول لا بحدّه، و ما زاد دون المعلول و العلم هو الواجدية و الحضور، فكل علّة عالمة بمعلولها علما حقيقيا و لا يمكن العكس، فكل حلقة من سلسلة عالم بما دونه دون ما فوقه، و ما في رأس الخلق فهو عالم بجميع ما سواه،

و من الوسط اذا كان علي وضع يتمكّن من اتصاله بالفوق فهو في حال الاتصال عالم بالسابق و بوساطته باللاحق، و هذا معني قولهم (عليهم السّلام): «لو شئنا علمنا»، «و لو لا الإمام لساخت الأرض بأهلها»، و غير ذلك ممّا فصّل في محلّه، و كأن القلم اغتصب منّا العنان و قادنا الي ما لسنا من أهله، و ليس المقام محلّه، فمنك العفو ايها القارئ المحترم.

المكروهات

خاتمة للفصل في المكروهات:

قال تعالي:

الزّٰانِي لٰا يَنْكِحُ إِلّٰا زٰانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزّٰانِيَةُ لٰا يَنْكِحُهٰا إِلّٰا زٰانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ. (النور [24] الآية 3)

الآية الكريمة كأنّها تخبر عن تناسب و سنخيّة في الكفاءة الملحوظة في النكاح عرفا، و ان الرجل الزاني بانحرافه و اعتياده بذلك الذنب العظيم لا يري نفسه صالحا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 41

لنكاح المؤمنة الملتزمة بالحلال و الحرام، فلا يفكّر إلّا بزانية أو من يشبهها في عدم المبالاة من مشركة فلا ينكح إلّا إيّاها، و كذا الزانية لا تتوقع و لا تنتظر أن ينكحها مؤمن صالح بل تري نفسها مطلوبة لمسانخها و هو رجل زان لا يبالي بشي ء من الأحكام أو مشرك كذلك، لا سيّما مع التوجّه الي أن الوصف عنوان لا يصدق علي من زني اتفاقا ثم تاب من غير أن يحدّ و يعلم به أحد بل المراد المعنيّون به كشارب الخمر و آكل الربا و أمثالهما، و هذا المفاد غير ما هو في الفقه من الجواز و عدمه أي الصحة و الفساد، مع انّا نري أن الزاني قد ينكح غير الزانية و غير المشركة من مؤمنة صالحة، و كذا الزانية قد ينكحها غير هما من مؤمن صالح بعد ما تابت و

انصرفت عمّا كانت عليه، و الإطلاق بلحاظ السابقة، و لا إشكال في صحة نكاحهما هذا، فان زناهما علي النهاية يجعلهما فاسقين و لا يخرجهما عن الايمان بمعناه الفقهي الواسع الموضوع للأحكام، إلّا أن بيان ذلك و إلحاق الزاني بالمشرك، و الزانية بالمشركة بعد إفادة أن الزنا كبيرة و ان نكاح كل منهما الآخر متناسب، يشعر بعدم تناسب نكاح المؤمن معهما، و ذلك معني الكراهة، و يحمل عليها الحرمة في قوله تعالي: وَ حُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ.

و الحاصل أن الآية الكريمة تحكم بألطف بيان بكراهة نكاح الزانية دواما و منقطعا، و كذلك تزويج الزاني، و أما حكم المشرك و المشركة فقد عرفته من قبل صريحا.

الفصل الخامس: النشوز

سنبحث في هذا الفصل ما يتعلّق في النشوز و العصيان بين الزوجين، و فيه آيات تتصدي بعضها الي نشوز النساء، و الأخري الي نشوز الرجال، ثم طريق الحل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 42

و رفع الخلاف.

الأولي- قوله تعالي:

الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَي النِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَليٰ بَعْضٍ وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ فَالصّٰالِحٰاتُ قٰانِتٰاتٌ حٰافِظٰاتٌ لِلْغَيْبِ بِمٰا حَفِظَ اللّٰهُ وَ اللّٰاتِي تَخٰافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضٰاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلٰا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيًّا كَبِيراً* وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقٰاقَ بَيْنِهِمٰا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا إِنْ يُرِيدٰا إِصْلٰاحاً يُوَفِّقِ اللّٰهُ بَيْنَهُمٰا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً خَبِيراً.

(النساء [4] الآية 35 و 36)

تخبر الآية الكريمة- أولا- عن حقيقة تكوينية تشهد بها العلوم الحديثة الجديدة بفنونها الحياتية و الطبيعية، و هي: تفوّق الرجل علي المرأة، و هما صنفان من نوع واحد، فالرجال قوّامون علي النساء بما فضّل اللّه بعضهم علي بعض في الخلق و الطبع، و

بما يترتّب علي هذا التكوين من الاعتبار ترتّب الحكم علي الملاك- ثانيا- من أن الرجال أنفقوا من أموالهم أي عليهم ذلك نحلة و مئونة، و هي المعيشة من مأكل و ملبس و مسكن فيجب عليهم ذلك، و الإطلاق يحمل علي ما هو المتعارف حسب شأنها في الجهات المختلفة التي تعنيها.

و قبال ذلك فالزوجات الصالحات يكن خاضعات لأزواجهنّ، قانتات مطيعات لهم، حافظات لما يجري بينهنّ و بين أزواجهنّ ليلا و نهارا في مختلف شئون حياتهم الزوجية بما حفظ اللّه تعالي. و بهذا تفيد الآية الكريمة وجوب إطاعة الزوجة لبعلها و حرمة النشوز، و كذلك وجوب التحفّظ علي الزوج في المال و النفس و التستّر علي أسراره، أي أن الصالحات لا بدّ و أن يكن كذلك.

و أما غير الصالحات اللاتي تخافون نشوزهنّ و عصيانهنّ فعظوهنّ- أولا- موعظة حسنة لتصلحوهنّ، و من المعلوم أن موعظة الرجل لامرأته غير موعظة غيره لها، فلا بد و أن تكون زائدة علي غيره، و ذلك علي أساس المحبّة و استدرار العطف،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 43

و ذكر الأسرار العائلية و توضيحها لكونها من مسئوليات الزوجين و التذكير بعواطف الأم و تأثيرها في سعادة الأولاد إن كانت ذات ولد، ثم التذكير بالآخرة و يوم القيامة و نتائج الأعمال ثوابا و عقابا؛ فان أثّرت المواعظ فيهنّ و رجعن عن النشوز و أطعنكم فبها و نعمت، و إلّا فاهجروهنّ في المضاجع، و هذا يورث إطاعتهنّ بالطبع، لافتقارهنّ إليكم و الي محبّتكم و الي مضاجعتكم حسب الخلقة و الفطرة، ثم بعد ذلك إن لم يطعنكم أيضا فاضربوهنّ تنبيها لا بغيا برعاية المراتب شدّة و ضعفا بموازاة احتمال التأثير، و اللّه تعالي أعلي و أكبر، يجازيكم ببغيكم

عليهنّ و التكبّر و التنمّر.

و بعد ذلك كلّه، إن خفتم الشقاق أيضا فلا طريق إلّا الإصلاح و الاستمداد بالتحكيم بأن يعيّن حكما من أهله و حكما من أهلها، فان كانا يريدان الإصلاح حقا يوفّق اللّه بينهما، و اللّه عليم بما تعملون في تلك المراحل، خبير بما تريدون من البغي عليهنّ أو الإصلاح فاحذروه و اتقوه.

الثانية- قوله تعالي:

وَ إِنِ امْرَأَةٌ خٰافَتْ مِنْ بَعْلِهٰا نُشُوزاً أَوْ إِعْرٰاضاً فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يُصْلِحٰا بَيْنَهُمٰا صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً* وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلٰا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً.

(النساء [4] الآية 128 و 129)

الآية الكريمة تتصدّي لحكم نشوز الرجال و تعصّبهم، فان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا عنها فلا جناح عليهما أن يصلحا، فان الصلح خير، و ان كانت النفوس علي شحّ و حرص، و ذلك يوجب تشديد الاختلاف بين الزوجين، فانه لم يخلق إنسانان متماثلان في جميع الشئون الجسمية و الروحية، فكل انسان يغاير الآخر في أمور فكرية و روحية قطعا، و لا سيما الرجل و المرأة، فلا بدّ من التفاهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 44

و الغضّ عن موارد الاختلاف، و الاستفادة من موارد الاتفاق، و لا سيما الطبيعية منها، فالإحسان و الخير يقتضيان الصلح و التسلّط علي شحّ النفس، فأحسنوا و اتقوا فان اللّه بما تعملون خبير من انكم ايها الرجال لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسٰاءِ في تلك المواقع و الظروف حال ظهور الشحّ و بروز العصبية و لو حرصتم عليه بمقتضي العقل

و الايمان لما في أنفسكم من طلب التجديد و التنوّع، و كل شي ء في العيش معا يصير عاديا بسرعة بعد زمان، و النفس لن تشبع أبدا، فلا تميلوا عن حسن السلوك و هناءة العيش كل الميل فتذروا الزوجة كالمعلّقة لا ذات بعل فتتمتّع ببعلها و لا مطلّقة فتملك نفسها أو يخطبها خاطب. و أما احتمال الإطلاق، و شمول حكم عدم الاستطاعة بتعدد الزوجات أيضا فقد عرفت جوابه من أن غير الممكن غير ممكن، فان الأول راجع الي القلب و الباطن و الثاني الي ظواهر الأمور.

و كيف كان فالإحسان و التقوي و العدل بينهنّ و لو في ظواهر الأمور أفضل و أقوم بحكم العقل و الايمان، فاعفوا عن خطيئاتهنّ و سيئاتهنّ تحقيقا للصلح و تمتّعا بالخير.

ثم اعلموا أن الطلاق و انفصال كلّ عن الآخر لا يوجب هلاكا، فلا تتخيّلوا و يقول أحدكم: لولاي لما كنت تقدرين علي المعيشة و الحياة و اني أنا الذي أكفيك فقط، و لا كفيل لك بعدي، و أمثال ذلك، فان اللّه تعالي يغني كل عبد من عباده رجلا كان أو امرأة بما لديه من النعمة من كل جهة، قال تعالي: وَ إِنْ يَتَفَرَّقٰا يُغْنِ اللّٰهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَ كٰانَ اللّٰهُ وٰاسِعاً حَكِيماً (النساء [4] الآية 130).

ثم انك ممّا عرفت تعلم ان الرابطة بين الزوجين لا بدّ و ان تكون علي الصفاء و الصداقة و العفو و المروءة و الهناءة و التمتع، فعلي المرأة الإطاعة لزوجها و التحفّظ عليه، و علي المرء العدالة و التقوي في رعاية زوجته و حقوقها فانه قوّام لها و قوّام عليها أيضا، و هي ريحانة تشمّ لا قهرمانة تصارع، و في تعبير آخر: الرجل محتاج لجثتها

و هي محتاجة لمحبّته و علقته أكثر من جثّته.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 45

و مع ذلك كلّه فان ظهر بينهما التمرد و النشوز فهو أمر طبيعي في الجملة، فان كان من جانبها فعلي الرجل موعظتها أولا، ثم تنبيهها بالهجران، ثم الضرب دون البغي عليها، و ان كان من جانبه فعليها الدعوة الي الصلاح و الإصلاح مهما أمكن، و إلّا فالتفريق دون التعليق بغيا، فان اللّه تعالي يغني كلا منهما بما لديه من الفضل و النعمة.

و في الترتيب لطف لا يخفي، فان الموعظة مستفادة من مرحلة التعقّل بمعونة العواطف التي تكون فيهنّ أشدّ و أقوي، ثم الهجران مستفاد من الغرائز الطبيعية التي تكون فيهنّ كذلك و هما استمداد من الباطن ثم من الخارج. و الظاهر التحديد في الحدود و التأديب بالضرب كل ذلك منهما، و عند عدم الإمكان لا بدّ من الاستمداد بتعيين حكم من أهله و حكم من أهلها، فان أراد إصلاحا واقعا يوفّق اللّه بينهما، و إلّا فآخر الدواء الكيّ و لا خلاص إلّا بالطلاق.

ثم انك حال المقارنة بين حكمي نشوزهما تري بوضوح نكتة الحراسة من قيّومية الرجال، و ان لهم التصدّي للارشاد ثم التنبيه بمراتبه دون النساء، فانهنّ اذا خفن من بعلهنّ نشوزا أو إعراضا، فعليهنّ الإصلاح أو علي الحكمين منهما لا عليها فقط أو الحكم الذي تختاره، و هو يشير الي عدم رشدها و صلاحيتها الي حدّ إدارة المعيشة مستقلة في زوايا تفتقر الي التعقّل و العزم بحسب النوع.

هذا في كونها قد ابرزت أسرارها فكيف بأسرار قومه و شعبه و مجتمعه، و يا عجبا من أدب الاسلام في اعلان تلك الأسرار حين التحفّظ علي شخصيتها بما هي عليها من أنها إنسانة لا

يجوز لها البغي علي زوجها بوجه من الوجوه كما فصّل في محله.

و مع ذلك كلّه فالإسلام ينهاهنّ صريحا عن التظاهر و التبرّج تبرّج الجاهلية، بل ينهاهنّ عن الخضوع بالقول، فان ذلك يورث انهدام شخصيّتهنّ و طمع من في قلبه مرض. و شمول الخطاب في الآية الكريمة لغير نساء النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) مع العناية الي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 46

شأنهنّ ظاهر، قال تعالي:.. وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لٰا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰاهِلِيَّةِ..

(الاحزاب [33] الآية 33)، و سيأتي الكلام عنه إن شاء اللّه في بيان مسألة الحجاب في كتاب: «المجتمع و الآداب».

[النتائج]

نتيجة البحث [الاول]

آيات الفصل الأول فروع، هي:

الأول: النكاح واجب علي العزّاب الأيامي الذين لا يجدون نكاحا فيبتلون بترك العفّة و العفاف، و لا بدّ من انتخاب الصالح.

الثاني: يجب الاستعفاف علي من لم يجد نكاحا حتي يغنيه اللّه تعالي من فضله مع سعيه الجميل في طريق تحصيله.

الثالث: يحرم شرعا و عقلا ابتغاء كل عرض من الحياة الدنيا بأن يستدرج الفتيات و الفتيان الي السفاح و البغاء.

الرابع: لا إشكال في جواز تعدد الزوجات الي الأربع، و لا بدّ من رعاية العدالة بينهنّ ما أمكن في المأكل و المشرب و المسكن و الفراش و جميع حقوق المعيشة، و لا بأس باختلاف المحبة و العلاقة الباطنية القلبية ما لم يكن في الظاهر خلاف.

الخامس: يصحّ استمتاع المتعدد الزوجات و يحلّ الاستمتاع بهنّ مع عدم العدالة أيضا، و ان ظلم نفسه و زوجته تكليفا.

السادس: يجوز استمتاع كل من الزوجين بالآخر بأيّ وجه شاءا، و من أيّ جزء من جسدهما نظرا كان أو لمسا أو دخولا.

السابع: يجوز استمناء الرجل بأيّ جزء من أجزاء بدن حليلته و كذلك استمناء المرأة

بأي جزء من أجزاء بدن زوجها.

الثامن: يجوز استمتاع الرجل بأمته المملوكة له كزوجته، و الاستمناء بأيّ جزء من بدنها، كما يجوز استمتاعها بمالكها و استمنائها بأيّ جزء من بدنه كل ذلك بنفس

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 47

الملكية.

التاسع: العبد المملوك للحرّة كالأجنبي لها، فعليها التستّر منه، و يحرم النظر و اللمس، فكيف الاستمتاع بالملكية.

العاشر: يجب حفظ الفرج و ستره عن الغير مماثلا كان أو غير مماثل، فيحرم النظر إليه من الغير في غير الزوجين.

الحادي عشر: يحرم اللواط، و المساحقة، و المجامعة مع الحيوان أو الميت و لو كان زوجته أو المجسّمة اللينة الطرية، و كذا الاستمناء بأيّ وجه كان سواء كان باليد أو بالنظر أو بالتخيّل.

الثاني عشر: لا تنعقد الزوجية بين المالك و مملوكه رجلا و امرأة، أمة أو عبدا ما دامت الملكية محققة.

الثالث عشر: لا يجوز للعبد النظر الي سيدته مكشوفة، و يجب أن تكون نظرته كنظرته للأم و الأخت بلا ريبة أيضا، كما لا يجوز لها النظر إليه إلا كنظرتها الي الأب و الابن و سائر محارمه.

نتيجة البحث الثاني

و لآيات الفصل الثاني فروع أيضا، و هي:

الأول: لا يقع العقد علي التي تكون في عدّة الغير من وفاة و غيره.

الثاني: لا يجوز التواعد مع النساء سرّا عن أهلهنّ و إنّ كان التقاول معهنّ بالمعروف جائزا، و لا يبعد اختصاص ذلك بالمعتدّة دون الباكرة.

الثالث: لا بدّ في تحقق العقد و انعقاد الزواج من لفظ صريح من النكاح و الزواج و ما يقوم مقامهما في اللسان، فلا يكفي المشتركات و الكنايات حتي لفظ الهبة لغير النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و أما اذا كان له (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فمحلل مستقل لا

نكاح علي القول به كما وضّح من قبل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 48

الرابع: يجب ردّ الصداق و المهر الي النساء اذا طالبن به، و لا يحلّ أكله بالباطل إلّا اذا طابت به أنفسهنّ أو ببعضه.

الخامس: يجوز خطبة المرأة للرجل كما يجوز العكس.

السادس: لا بدّ في العقد من عوض و مهر، و هو الصداق.

السابع: كل ماله ماليّة يصح أن يجعل صداقا و لو عملا.

الثامن: لا بدّ من تعيين أطراف العقد من الناكح و المنكوحة و الصداق حتي يصحّ، و لا يضرّ عدم تعيّن البضع لعدم إمكانه.

التاسع: الصداق ملك للزوجة فلا يحل أكله بالباطل.

و هناك فروع أخري لا بدّ من ذكرها مما يناسب المقام، و هي:

لو أنكح ابنته الصغيرة ولاية لوليّ العصر الإمام الغائب (عليه السّلام) و قبل من قبله فضوليا الإيجاب من قبلها، فلما بلغت أشدّها و لم يظهر من ناحيته (عليه السّلام) ردّ أو إمضاء، فهل تبقي معلّقة لتزلزل العقد إلّا أن تردّه بنفسها، أو يبطل باستظهار ردّه (عليه السّلام) من انه لا يترك الواجب من الإنفاق و باقي الحقوق كما قيل، فلها التزوّج من غير دخالة الفقيه الحاكم، أو لها ذلك بعد الإرجاع إليه و ضرب الحاكم الأجل فتنتظر انتظار الزوجة الغائب عنها زوجها فيسرّحه الفقيه نيابة بعد انقضائه، أو أن ذلك الغائب العادي دون ما نحن بصدده مع العلم بحياته و إحاطته و إمكان الردّ أو القبول صريحا و الشك في شمول نيابة الفقيه لمثل ذلك؛ وجوه:

فاذا قبلت و أجازت العقد بعد بلوغها لا سيما مع علمها بخصوصيات الحال فقد تمّ العقد من ناحيتها، و لا طريق الي الخروج، و أما من ناحيته (عليه السّلام) فاستظهار البطلان من تركه الواجب كما حكي عن

المحقق الخراساني صاحب كتاب الكفاية (رحمه اللّه) جوابا عمّن ابتلي بذلك من زهّاد زمانه في النجف الأشرف ظاهر الضعف، فان نفقتها ليست عليه بمجرّد العقد الفضولي قبل الإجازة و تمام العقد، و لو سلم ففي أمواله و علي وكلائه أداؤها ما لم يثبت الردّ و لا ينفق عليها حينئذ بعنوان

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 49

الزوجة، و مجرّد ترك الإنفاق مباشرة لا يثبت الردّ لعدم ثبوت حقّ أولا، و عدم تركه ثانيا، و لا بأس به اذا كان غيبة الزوج لوجه صحيح ثالثا كما لا يخفي فليس لها التزوّج بعد قبولها العقد و قبل ردّ الفقيه العقد.

و أما بقاؤها معلّقة فلا يساعد شأن الامام (عليه السّلام)، فقد يستظهر من نفس ذلك أن الامام (عليه السّلام) لم يقبل العقد و جعلها مسرّحة، و علي الفقيه إظهار ذلك و إبلاغه كسائر أموره التي يستظهر الفقيه رضاه أو عدمه فيعمل عنه نيابة، و ذلك غير شمول أدلة النيابة بإطلاقها للمورد حتي يستراب فيه. و عليه فلا فرق بين المورد و الغائب العادي، فلا بدّ من دخالة الفقيه و ردّه العقد حتي يخرج العقد عن التزلزل و تخلص عن قبولها و تصير مسرّحة يمكنها أن تبتعل.

ثم ان ما ذكرناه لا ينحصر بالإمام (عليه السّلام) بل يشمل كل غائب، جعل علي أموره وكيلا أو وكلاء و لم يكن له وسيلة عادية لإبلاغ نظره بصورة مباشرة كما لا يخفي، فلا يقال: إنّ ذلك العقد للإمام (عليه السّلام) أمر لهوي غير عقلائي من أول الأمر، فان ذلك من عدم المعرفة بحق الامام (عليه السّلام) و شأنه فانّه حيّ مرزوق بين الناس يأكل و يمشي غائبا عن الأنظار (عجّل اللّه تعالي فرجه الشريف و

أعزّ به الاسلام و أهله إن شاء اللّه تعالي).

نتيجة البحث الثالث

و لآيات الفصل الثالث فروع أيضا، هي:

الأول: النكاح قسمان: دائم و منقطع، يسمي الثاني بالمتعة من غير فرق بين الحرّة و الأمة، و لا بدّ أن يكون باذن أهلها.

الثاني: يحرم علي كل من الفتيان و الفتيات اتخاذ الخدن أي اتخاذ صديق مصاحب من جنس مخالف شهوة، كما هو المتداول بين مدّعي المدنية في بلاد الكفر، و مع الأسف بين غير المبالين من المسلمين في بعض بلادهم، و حرمة ذلك

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 50

لا يقل عن حرمة الزنا.

الثالث: لا بدّ في النكاح المؤقّت من كل ما لا بدّ منه في الدائم، و يزيد لزوم تعيّن المدّة و الأجرة، فلا يكفي التراضي بلا عقد و لفظ.

نتيجة البحث الرابع

و لآيات الفصل الرابع فروع أيضا، هي:

الأول: لا يجوز للمؤمن نكاح المشرك و المشركة، و بالأولوية الكافر و الكافرة و لا بأس بنكاح الكتابية مؤقّتا.

الثاني: لا بأس بنكاح المؤمن للعامية مطلقا، و أما المؤمنة للعامي فلعلّه لا بأس به اذا كانت قوية علي حد لم تتأثّر به بل أنها تؤثّر فيه.

الثالث: ينبغي الاجتناب عن كل نكاح يدعو أحد الطرفين الآخر الي النار، و لا سيما نكاح شارب الخمر، الفاسق المفسد بشربه الحرث و النسل- كما ورد في السنّة المباركة.

الرابع: المؤمن كفؤ المؤمنة في النكاح مع رعاية مراتب التقوي و الأدب دون المال و المنال، نعم لا بدّ من التحرّز الي كل ما يلزم البعد عن اللّه تعالي و الدعوة الي النار في ضروريات المعاش.

الخامس: لا يجوز نكاح المحارم بوجه، و المحارم هي:

زوجة الأب، الأم نسبا و رضاعا، البنت، الأخت، العمّة، الخالة، بنت الأخ، بنت الأخت، أم الزوجة، أخت الزوجة جمعا، حليلة الابن من الصلب، الربيبة من المدخول فيها، و المحصنات

من النساء اللاتي لهنّ بعل.

السادس: لا يجوز النظر الي ما ذكر من المحرّمات ريبة كغيرهنّ، نعم يجوز بدونها الي غير العورة في المحصنات ذات بعل.

السابع: يجب الاعتزال عن النساء حال ابتلائهنّ بأذي الحيض بترك المواقعة،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 51

و لا بأس بالاستمتاع بهنّ بغيرها في الحال، كما لا بأس بها بعد رفع الأذي و قبل الغسل و يكره شديدا إتيانهنّ في الدبر.

الثامن: الظهار و هو أن يقول لزوجته: (أنت عليّ كظهر أمي) لا يوجب الحرمة الأبدية و لا يجعلها أمّا له، بل لا بدّ من الكفّارة عنه بعتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا مرتّبا لا مخيّرا.

التاسع: التبنّي لا يوجب البنوّة، فلا تحرم زوجة المتبنّي المطلّقة علي المتبنّي بلحاظ الأم أو منكوحة الأب، فان دعاء الغير لشخص ابنا لا يجعله كذلك.

العاشر: زوجات النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أمّهات المؤمنين شرعا، فهنّ محرّمات عليهم أبدا.

و في ختام الفصل: يكره نكاح الزانية دواما و منقطعا، كما يكره تزويج الزاني كذلك.

نتيجة البحث الخامس

و لآيات الفصل الخامس فروع أيضا، هي:

الأول: يجب علي المرأة إطاعة زوجها، و التحفّظ علي نفسها و علي ماله أيضا، و يحرم عليها النشوز، و يجب علي الرجل الإنفاق عليها و تأمين معاشها حسب شأنها عرفا.

الثاني: علي الزوج موعظة زوجته اذا نشزت، ثم هجران مضجعها، ثم ضربها من غير بغي للتأديب و الإصلاح، ثم التحاكم لدي حكم من أهله و حكم من أهلها، و بالنهاية التفريق دون البغي عليها و تعليقها، و علي الزوجة طلب الإصلاح اذا خافت من بعلها نشوزا، و إلّا التفريق دون البغي عليه، و إن كان الرجل هو القوّام و الأمر بيده.

الثالث: لا بدّ و أن

تكون الرابطة بين الزوجين قائمة علي الصفاء و المودّة و التعاون ليهنئا و ليتمتع كل واحد بالآخر، و ليكن ذلك من طرف الزوج ابتداء

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 52

و استدامة، فان النساء- كما قيل- طائلات الشعور «1» و قاصرات العقول، و قد أشير الي الثاني بعنوان النقص في السنّة الشريفة.

خاتمة المطاف ثمرة الزواج (الولد)

اشارة

إن من أطيب ثمار الزواج بعد السكون هو الولد، فعلي أساس التحفّظ عليه و بقاء النسل و طهارته يكون النكاح مشروعا طبيعيا و مرغوبا فيه فطريا في كل مجتمع و ملّة..

ألّا تري ما في حقيقة النكاح من اختصاص المرأة بالرجل و منعها من تمكينها للغير من الرجال و ان ذلك يعد سفاحا و خيانة، دون اختصاص الرجل بالمرأة لدي العقلاء، حتي غير المتديّن منهم و تزوّجه بامرأة أخري لا يعدّ خيانة و سفاحا، و الأمر كذلك في الاسلام إمضاء مع تضييق و توسعة، كل ذلك صيانة علي الماء و النطفة و تحفّظا علي الولد، و لا ينحصر الأمر بدوران الحمل و تكامل الجنين الي أن يتولّد بل الي أن يصير فردا مستقلا.

قال تعالي:

وَ الْوٰالِدٰاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلٰادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كٰامِلَيْنِ لِمَنْ أَرٰادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضٰاعَةَ وَ عَلَي الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لٰا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلّٰا وُسْعَهٰا لٰا تُضَارَّ

______________________________

(1)- و من المعلوم أن التعبير كان للنساء السالفات في الزمن السالف اللاتي كان طول شعورهنّ زينة لهنّ و فضيلة علي الخلاف لما هو المعمول المتداول في زماننا، فان قصره زينة رائجة بين جميع طباقتهن من المحجّبات و السافرات و لا يكون في كثير منهنّ أطول من شعر الرجال و لا سيما بالنسبة الي المتداول أخيرا بين جمع من الفتيان المقلّدين للأوروبيين، الكاشف كل ذلك عن خفة و

عدم تشخيص في مثل تلك الأمور.

و الاسلام يريد استقلال أمّته و علوّ كيانها في جميع الأمور حتي في مثل ذلك، و لذلك شرّع لهم آدابا و رسوما في كل شئونهم حتي في التزيّن و لبس الألبسة الجيدة النظيفة و شبهه.

كل ذلك إن كان المراد من الشعور ما هو جمع: (شعر) لا مصدر: (شعر) حتي يكون المراد الإحساس قبال الإدراك كما لا يبعد.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 53

وٰالِدَةٌ بِوَلَدِهٰا وَ لٰا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَي الْوٰارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ فَإِنْ أَرٰادٰا فِصٰالًا عَنْ تَرٰاضٍ مِنْهُمٰا وَ تَشٰاوُرٍ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلٰادَكُمْ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِذٰا سَلَّمْتُمْ مٰا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

(البقرة [2] الآية 234)

الآية الكريمة تدلّ علي أمور:

الأول: إنّ الوالدات بما هنّ والدات فهنّ زوجات أيضا أو مطلّقات يجب عليهن- مؤكّدا بالجملة الخبرية- أن يرضعن أولادهنّ حولين كاملين- و إن تمكّن المولود من التغذّي بغير لبن الأم أو لبن غيرها- لمن أراد أن يتم الرضاعة، و إلّا فلا بأس بالأقل منهما أو أكثر بقليل يصدق معه حولين عرفا كشهر أو شهرين، فان إرادة الإتمام قيد لكمال الحولين لا لأصلها، و الإيجاب ذلك علي الأمهات تحفّظا علي سلامة الأولاد و رشدهم جسما و روحا، فانه لن يعوّض شي ء عن الإرضاع من ثدي الأم في تقوية الولد؛ جثّته حسب التناسب الدقيق المودع بيد القدرة في جهاز تغذيته الشاملة لكل ما يحتاج إليه البدن بمقدار، و روحه بامتصاصه عواطف الأم التي هي أرقّ العواطف و أطيبها مع امتصاصه الثدي، و لا ينوب عن ذلك شي ء حتي تغذية لبن الأم من غير ثديها، كما صرّح به أهل

الفنّ من العلوم الحيويّة و النفسية في بناء شخصية الطفل.

الثاني: إن المولود له، و هو الأب يجب عليه رزق الوالدات و كسوتهنّ بالمعروف من غير تكلّف عليه، فانه لا تكلّف نفس إلّا وسعها، و بما أن الأب (المولود له) يجب عليه ذلك- زوجا كان للوالدة أو لا بأن طلّقها- و كذلك الوالدات بما هنّ، لهنّ الرزق- سواء زوجات كنّ أو مطلّقات- فالإيجاب هنا علي ملاك رابطة الوالدين مع الولد فكأن رزق الوالدة و كسوتها بالمعروف رزق للولد حقيقة، و بالتقابل يعلم ان الإيجاب بذلك الملاك يكون ما دامت الأم ترضع ولدها لا مطلقا، و ان صدقت عليها الوالدة بل الزوجة فانه لا بدّ لوجوب نفقة الزوجة علي الزوج من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 54

التماس دليل آخر دون الآية الكريمة كما عن البعض. نعم تدلّ علي وجوب نفقة الولد علي الوالد رزقا و كسوة بالمعروف حتي بعد الحولين فانه فيهما كان الإنفاق علي الوالدة- كما مرّ-.

الثالث: انه لا بدّ و أن لا يضرّ كل من المولود له (الأب) و الوالدة (الأم) الآخر بسبب الولد. فعلي الأب مراعاة ما عليه من الرزق و الكسوة و سائر حقوقها المقرّرة «1» و قبول رضاعها للولد فلا يأخذه لترضعه غيرها، و لا يمنعها من الرزق و الكسوة و سائر الحقوق المقررة. و علي الأم- في الضمن- مراعاة الميسور و المتعارف في طلب الرزق و الكسوة و قبول إرضاع الولد، فلا تضرّه بطلب الزائد أو عدم إرضاع الولد كما هو، فيتضرر الولد و الوالد بسببه. و مع ذلك كلّه لا يضرّ كل منهما الولد أيضا بمنعه عن ارتضاعه من أمّه اذا كان له أصلح من غيرها، أو منعها عن ارتضاعه من

غيرها اذا كان له أصلح أيضا، فان المنهيّ عنه إضرار كل من الوالدين الآخر و الولد بسببهما، و لا بأس بإرادة المعنيين فيكون تضار بمعني تضارّ أو تضرر.

الرابع: انه علي وارث المولود له (أي الأب) مثل ما كان عليه من حرمة إضرار الأم بسبب الولد و إضراره أيضا بانتزاعه عنها ليرتضع غيرها مجانا أو من مال الولد بل مع إعطاء المرضعة شيئا للمرتضع لغرض عقلائي مع أصلحية ارتضاعه من الأم لشرافتها و طيبها و سلامتها عن ذلك فان ذلك الانتزاع في مثل الظرف ضرر علي الأم و الولد ليس للوارث ذلك، كما لم يكن للأب، من غير فرق بين أن يكون لذلك الوارث ولاية عليه أيضا مثل الأب و الجد أو لا، بل كانت دخالته بعنوان آخر مع انطباق قاعدة: (لا ضرر..) الكلية علي الصورة الثانية أيضا.

ثم لا يبعد شمول إطلاق مثل ذلك في الآية الكريمة لوجوب الإنفاق علي

______________________________

(1)- فلا يتركها معلّقة غير موطوءة باسم الولد، و ان المباشرة تضرّ الولد حال الحمل و الإرضاع، كما نقله الأردبيلي رحمه اللّه عن قانون الشيخ رحمه اللّه في كتاب الزبدة/ ص 559، و لو سلّم فيقدّم الأهم أي الأقل ضررا به أو بها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 55

الوارث أيضا فان نفقة الولد في ماله إن كان غنيّا و في بيت المال إن لم يكن، فعلي الوارث تولّي رزق الوالدة و سكناها بالمعروف ما دامت ترضع الولد و لو من ماله- سواء كان ذلك الوارث المتصدّي متولّيا شرعيّا أيضا أو جعلا كوصيّ الأب، أو لم يكن- و لا يضرّ ذلك ان الأمر بالإنفاق في المورث بمعني وجوبه من ماله و في الوارث به معني وجوب التصدّي من مال

الولد أو غيره، كما هو ظاهر.

و حيث لا مسئولية لوارث الأم في الحكم الذي كان عليها من وجوب الإرضاع و حرمة الإضرار بسبب الولد به و بالوالد و بوارثه المتصدّي لأموره، فإنّ عهدة المرتضع بعد موت أمّه علي أبيه أو وارثه كما كان قبله، فلا يشمل كلمة الوارث في قوله تعالي: وَ عَلَي الْوٰارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ لوارث الأم و إن كان يمكن تصوّر إضراره الأب أو وارثه أو الولد بدخالته في أموره علي خلاف مصلحته، بل يمكن تصدّيه للإرضاع باستيجار المرضعة و اختيارها علي خلاف المصلحة، كما اذا لم يكن له أب و لا وارثة، إلّا أن ذلك يردّه قاعدة (لا ضرر..) الكلية و هي: «لا ضرر و لا ضرار في الاسلام»، فان قوله تعالي: لٰا تُضَارَّ وٰالِدَةٌ بِوَلَدِهٰا وَ لٰا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ راجع الي ما كان من الأحكام المبحوث عنها من وجوب الإرضاع علي الأم و وجوب النفقة علي الأب و حرمة الإضرار كل واحد بالآخر و بالولد، و أما حمل الوارث علي نفس الأم بمعني الباقي كما عن الفاضل المقداد (رحمه اللّه) فخلاف الظاهر، مثل سائر الاحتمالات المذكورة في كلام المحقق (رحمه اللّه) في كتابه (الزبدة) كما لا يخفي.

الخامس: إنّ المولود له (و هو الأب) و الوالدة (الأم) إن أراد فصالا و انقطاعا للولد عن الإرضاع قبل الحولين أو بعدها عن تراض منهما و تشاور لا يخصّهما و لا يعنيهما فلا جناح عليهما، ما لم يكن ضررا علي الولد، كما انه لا جناح علي الأب نفسه فقط إن أراد أن يسترضع ولده من غير أمّه اذا أدّي أجرة الإرضاع بالمعروف، و لم يكن ضررا علي الولد ماليا و جسميّا، فاتقوا اللّه تعالي

في ذلك، لئلا يكون إضرارا من كل واحد بالآخر أو بالولد، و اعلموا أن اللّه بما تعملون من أداء حقوق كل واحد

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 56

للآخر و حقوق الولد أو تركها بصير يري ما ترون من المصلحة و ما تعملون وفقها لمنفعة الولد و إطاعة اللّه تعالي أو خلافها لمنافعكم و اتباع الهوي.

و من ذلك يعلم أولا: أن وجوب إرضاع الأم ولدها المدلول عليه بصدر الآية الكريمة لا يكون ابتداء بل بعد توافقهما عليه بالتراضي و التشاور و بعد عدم إضرار كل واحد الآخر و الولد أيضا، و مع ذلك للأب أن يسترضع لولده من غير أمّه، فتدلّ علي أن ذلك الواجب فيما كان لا يكون مجانا و بلا عوض، و لها ان تطلب الأجرة زائدا علي الرزق و الكسوة ما دامت ترضع ولدها و لو كانت مطلّقة.

و ثانيا: ان (علي الوالدات أن يرضعن أولادهنّ حولين كاملين، و علي الأب أن يسترضع لولده غير الأم) لا يكون إلّا فيما اذا كان ذلك مصلحة للطفل لا مطلقا، لحرمة إضرار كل واحد منهما بالولد أيضا، و ترك صلاحه نوع من الضرر، فالواجب عليهما رعاية مصلحة الطفل مطلقا.

تذييل: في الفروع المستفادة من الآية الكريمة في ثمرة الزواج (الولد):

الأول: يجب علي الأم إرضاع ولدها من ثدييها مهما أمكن حولين كاملين عرفا، لمن أراد أن يتمّ الرضاعة فلا تضرّ الزيادة و النقيصة بقليل.

الثاني: يجب علي الأب رزق الوالدة و كسوتها بالمعروف ما دامت ترضع ولدها، كما يجب علي الأب نفقة الولد أيضا مطلقا و كسوته في الحولين.

الثالث: للوالدة أن تطلب الأجرة ازاء ارضاعها الولد، زائدا علي الرزق و الكسوة- زوجة كانت أو مطلّقة.

الرابع: للوالد أن يسترضع لولده غير أمّه اذا كان ذلك أصلح كما اذا كانت أشرف و

أطيب، أو كانت الأم خبيثة أو مريضة، فيجب عليه أداء الأجرة اذا كان ذلك بالإجارة.

الخامس: يحرم إضرار كل من الأب و الأم الآخر أو الولد بسببهما، فعليهما

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 57

رعاية مصلحة الولد و ان خالف صلاح أحدهما.

السادس: يجب علي وارث الأب في الولد كلّ ما كان يجب علي مورثه من الإنفاق علي الأم و لو من مال الولد، و يحرم عليه ما كان حراما عليه- سواء كان وليّا شرعيا أو لا- و يسقط عنه التكليف بعد تصدّي الوليّ الشرعي كالأب و الجد، أو الجعلي كالوصي اذا لم يكن وليّا.

السابع: للأب و الأم مع التشاور و التراضي فصال الولد عن لبن الأم و تغذيته بلبن غيرها أو غير لبنها من أنواع المسحوق.. كل ذلك اذا لم يكن ضررا علي الولد بوجه من الوجوه، فيجب عليها مراعاة مصلحة الولد من جميع الجهات، فلا يجوز إرضاعه من أخبث أو أضعف، أو تغذيته بأهون مع وجود الأشرف و الأطيب و الأقوي و يسار الوالد أو الولد كما هو ظاهر.

الي هنا أختتم بحمد اللّه تعالي و عونه كتاب النكاح ما يسمّي بالعهد الوثيق (الزواج) و تحقيقه و ما يترتّب عليه من الآثار و الحمد للّه أولا و آخرا و نستعين به علي التوفيق، و يتلوه كتاب التسريح بعون اللّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 59

كتاب الطلاق

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 61

الطلاق

التسريح و الطلاق:

من المعلوم ان النكاح ميثاق وثيق لا ينتقض بشي ء من الوهم أو من العناء، فانه ميثاق الحياة و العيش، و ميثاق السكون و الأمن و الأسرار، و ميثاق التلبّس بخير لباس، الساتر للعيوب و الظاهر للكمال و الجمال.

قال تعالي:

.. وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً … (الروم [30] الآية 21)

و قال أيضا:

هُنَّ لِبٰاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبٰاسٌ لَهُنَّ … (البقرة [2] الآية 187)

و من المعلوم أنّ هذا الميثاق يقتضي البقاء و الدوام و يخالف القطع و الفصل، لذا يكره الطلاق و الانفصال بلا وجه عقلائي و شرعي أيضا.

و في الكتاب فصول:

الفصل الأول: ما يدلّ علي كراهيّة الطلاق و جوازه

اشارة

و فيه آيات: الأولي- قال تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسٰاءَ كَرْهاً وَ لٰا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 62

بِبَعْضِ مٰا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلّٰا أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عٰاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسيٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً* وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ مَكٰانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْدٰاهُنَّ قِنْطٰاراً فَلٰا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً* وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضيٰ بَعْضُكُمْ إِليٰ بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثٰاقاً غَلِيظاً.

(النساء [4] الآيات 19- 21)

تقول الآية الكريمة لا يحلّ للمؤمنين أن يرثوا النساء كرها، و تنهاهم عن عضلهنّ ليذهبوا ببعض ما آتوهنّ من صداق، و بكلّه الأولوية، و من المعلوم أن الإرث المنهي عنه لا يكون عن موت، فان المفروض الإلهي الذي يرثه الزوج عن زوجته حق مشروع جعله اللّه تعالي له هنيئا مريئا من نصف أو ربع علي ما سيأتي بيانه في محلّه إن شاء اللّه تعالي، فهو في المقام بمعناه

العرفي أي التملّك بوجه فصّلته الجملة التالية من الانعضال عن الزوجة و البغي عليها في حقوقها حتي ترضي بترك صداقها لزوجها كلا أو بعضا ليرافقها أو يسرّحها فان التملّك و التوارث بهذا الوجه منهيّ عنه لا يحل و لا يجوز.

ثم أكّدت الآيات المباركة النهي و الحرمة ثانية فيما اذا أراد اسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ مَكٰانَ زَوْجٍ بأن يطلّقها و ينكح غيرها مكانها، فتنهي الآية الكريمة عن أخذ شي ء من صداقهنّ مهما كان و لو قنطارا واحدا، و ان التهاون بهنّ من تركهنّ العفّة اعتذارا لأخذ ذلك الشي ء أو طلاقهنّ، لهو إثم مبين و ذنب عظيم، فان النكاح ميثاق غليظ لا ينتقض بشي ء، و عهد متين لا يتخلّف عنه.

و الذي تراه من جمع الآيات الكريمة هو النهي عن الطلاق بلا عذر و وجه وجيه، و أن النكاح ميثاق غليظ، و علي المتعاهدين الوفاء به و الصبر عليه و التحمّل لما يخالف ميلهما و رغبتهما، فانه عسي أن يكرهوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً، أكثر ممّا يتوهّمه الزوج في مال زوجته، أو الزوجة في الخلاص و الراحة في حلّ العقد و نقض الميثاق من الولد و تشكّل الأسرة و السعة فيها و بها التوفيق للخيرات،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 63

فالطلاق مكروه مرغوب عنه، و كما في السنّة المباركة: «إنّ أبغض الحلال الي اللّه تعالي الطلاق».

ثم ان الانقطاع و الانفصال بلا عذر بين الزوجين و إن كان مبغوضا منفورا إلّا ان الخلاف بينهما قد ينتهي الي حدّ لم يبق طريق للجمع بينهما إلّا التفريق، فلا بدّ و أن يكون جائزا في الجملة «1»، بل و قد يكون محبوبا راجحا لئلا تصعب الحياة عليهما و تشقّ، فيعذّبان بالبقاء معا

و بعذاب النار أيضا، و قد أمضي الشارع المقدّس هذا النوع من الطلاق، و في بيانه آيات كريمة، هي:

الثانية- قوله تعالي:

وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلٰا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَ إِنْ يَتَفَرَّقٰا يُغْنِ اللّٰهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَ كٰانَ اللّٰهُ وٰاسِعاً حَكِيماً. (النساء [4] الآية 139- 130)

إنّ اللّه تعالي بعد الإخبار بواقع كلّي خارجي و هو عدم رعاية الرجال العدالة بين النساء مطلقا «2»، بل عدم استطاعتهم علي ذلك، علي سبيل الجمع الذي لا ينافيه، بعد ذلك كلّه ينهي تعالي عن الميل و الانحراف عن الحق بترك المرأة معلّقة لا هي ذات بعل تسكن إليه و لا هي مسرّحة تخطب زوجا جديدا آخر. فتقوي اللّه تعالي و العفو عمّا يوجب الخلاف و طلب الإصلاح لإعادة العيش الرغيد و الصفاء المديد لهو خير مطلوب و خير مرغوب محبوب، فان اللّه كان غفورا رحيما.

و المفروض بالمؤمن أن يتّصف بصفاته تعالي، فيعفو و يرحم حتي يجمع اللّه تعالي بينه و بينها علي خير. و مع ذلك كلّه فان لم يتفقا معا و لم يجتمعا، فلا يتوهّم كل

______________________________

(1)- خلافا لما في المذهب الكاثوليكي المسيحي المحرّف من تحريم الطلاق مطلقا كما في انجيل مرقس/ صحاح/ 10/ الآيتان/ 8 و 9 نقلا عن كتاب (فقه السنّة) ص 245.

(2) من غير اختصاص به أزواج و زوجات، بل يشمل الزوج و الزوجات، و الزوج و الزوجة، و مع ذلك لا يتمّ الاستدلال بها علي عدم جواز تعدد الزوجات كما عرفت في كتاب النكاح.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 64

منهما أن في الانفصال هلاكا و دمارا، أو هلاك

أحدهما و خسرانه، و ان حياته و سعادته بيد الآخر، فيقول الثاني له: لو لم أكن لما كنت تقدر علي العيش و الحياة و كذا و كذا.. الي غيره من الكلام الذي لا اعتبار له، فلا يتوهّم أحد ذلك، بل إن يتفرّقا يغن اللّه تعالي كلّا من سعته و هو تعالي حكيم واسع الرحمة، وَ لٰا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.. راجع (البقرة [2] الآية 231).

الطلاق قبل التّماس

الثالثة- قوله تعالي:

لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ مٰا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَي الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَي الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتٰاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي الْمُحْسِنِينَ* وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مٰا فَرَضْتُمْ إِلّٰا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْويٰ وَ لٰا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. (البقرة [2] الآيتان 236- 237)

الآية المباركة أصرح من الآية السابقة في الدلالة علي جواز الطلاق و مشروعيته في الجملة، فانها تصرّح بنفي البأس و الجناح في الطلاق قبل مسّهنّ و التصرّف فيهنّ، كالذي بعد العقد بأيّ وجه شاء فهو مكروه مؤكّدا و إن كان بلا وجه وجهة وجيهة بمقتضي الجمع مع الأولي.

و في المقام أحكام أخري مجملها إنّ الطلاق و إن كان بيد من أخذ بالساق قبل أخذه به و بعده، إلا أن العدل و الكرامة بين الزوجين يقتضيان استمتاع كل واحد من الآخر، و التمتع بالعيش و ردّ الصداق المفروض أو المثل وفاء بالعهد الوثيق و الميثاق الغليظ، و إلّا فلا تمسكوهنّ ضرارا لتعتدوا عليهنّ و لا تجعلوهنّ معلّقات بل تسريح باحسان و ردّ المفروض

إليهنّ أو المثل إن كان ذلك بعد التصرّف فيهنّ، و نصفه إن كان قبله، أو التمتع بشي ء من المال علي الموسع قدره و علي المقتر قدره ممّا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 65

يتعارف إن لم يكن، أو ما يقتضيه الفضل و الكرامة اذا عفون أو عفا من بيده عقدة النكاح فلا تنسوا الفضل بينكم علي أيّ حال إنّ اللّه بما تعملون خبير بصير.

الفصل الثاني: في من يقع عنه الطلاق و ما يقع منه

اشارة

و فيه آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلٰاقَ فَإِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 227)

تفيد الآية الكريمة بأن الطلاق إيقاع لا بدّ و أن يقع مع العزم و القصد، فلا يقع بلا توجّه و إرادة، و لا يصحّ ممن لا قصد له و لا عزم شرعا و لا عرفا كالمجنون و الساهي و الخاطئ و كذلك الغضبان و المكره و الهازل و غير البالغ، فان اللّه تعالي يعلم ما في قلوبكم من الجدّ و الهزل أو الاختيار و الإكراه، و يسمع ما تنشئون و تقولون.

و إسناد العزم الي الأزواج فقط من غير دخل للزوجات كما في الإيلاء- علي ما سيأتي بيانه- فهو يدلّ علي كونه ايقاعا متحققا بالموقع و المنشئ فقط، كما هو ظاهر.

عدد الطلاق

الثانية- قوله تعالي:

الطَّلٰاقُ مَرَّتٰانِ فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ وَ لٰا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّٰا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّٰا أَنْ يَخٰافٰا أَلّٰا يُقِيمٰا حُدُودَ اللّٰهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا يُقِيمٰا حُدُودَ اللّٰهِ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ فَلٰا تَعْتَدُوهٰا وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ* فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلٰا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يَتَرٰاجَعٰا إِنْ ظَنّٰا أَنْ يُقِيمٰا حُدُودَ اللّٰهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ يُبَيِّنُهٰا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآيتان 229- 230)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 66

تعطي الآيات المباركة أمورا؛ منها:

إن الطلاق الذي يقع حسب العادة و الطبع و لا يعدّ لعبا و إضرارا مرّتان، بأن يطلّق الزوج زوجته المعقودة عليه المدخول بها، ثم يندم بعد ذلك علي ما عمل و يلتفت الي خطأه، فله استرجاعها قبل أن تنقضي عدّتها، أو يتزوجها بعقد جديد بعده؛

و حينئذ يصدق مرّة واحدة، ثم انه بعد مدة يطلّقها مرة ثانية لما ظهر بينهما خلاف و نزاع و توهّم انحصار طريق الخلاص بالطلاق، فطلّقها للمرة الثانية ثم ندم أيضا فله استرجاعها أيضا في عدّتها أو يعقد عليها بعدها، و حينئذ يصدق مرة ثانية- أي «مرّتان» - و هما رجعيان اذا كان الوصل بالرجوع، و بعد ذلك إن لم يتمكّنا من التوافق و العيش معا فطلّقها مرة ثالثة، عند ذلك لا تحلّ عليه و لا يجوز الرجوع إليها، أو العقد في العدّة بعدها إلّا أن ينكحها زوج آخر، فتري المرأة في زواجها هذا (الثاني) بعض الحقائق المشتركة و يري الرجل أيضا الاضطراب بعد الأمن، ثم إن طلّقها هذا الزوج (الثاني) فلا جناح عليهما (هي و الزوج الأول) أن يتراجعا، إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه تعالي، فان فلسفة تشريع الطلاق و علّة تجويزه هي حفظ كرامة الزوجين و هناءة العيش دون الإضرار و الإيذاء و التلاعب بحياة المرأة، كما حكي في شأن نزول الآية الكريمة، و هو أن رجلا قال لامرأته: (و اللّه لا أطلّقك لتبيني منّي، و لا آويك أبدا، قالت: كيف ذلك؟ قال: كلّما همّت عدّتك أن تنقضي راجعتك)، فنزل قوله تعالي:

الطَّلٰاقُ مَرَّتٰانِ و بعدهما فعلي الزوج إمساك بمعروف من أداء حقوقها و رعاية شئونها، أو تسريح باحسان من افتراق مع أداء حقّها المفروض أو تمتيعها بشي ء من المثل أو ما يقتضيه الفضل و الكرامة إن لم يكن في البين فرض.

نعم إن تغيّر الشروط و تحوّل الأحوال يورث التقرّب الي الواقعيات و البعد عن التخيّلات، فان من لم يؤدّبه الأبوان أدّبه الدهر و الزمان، فلو نكحها زوج آخر ثم طلّقها، و ظنّا بتلك

التغيّرات التي طرأت أنهما يقدران علي تحمّل مشاق العيش المشترك فيتمكّنان من إقامة حدود اللّه تعالي و أحكامه بينهما فلا جناح عليهما أن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 67

يتراجعا، و إلا فمع العلم ببقاء الحالة السابقة و انتهاء العقد الجديد الي الطلاق أيضا فليس ذلك عقلائيا و إن صحّ شرعا لوجود احتمال التوافق و لو في الجملة، و لذلك لو تكرر الثلاث ثلاثا مع تخلل الزوجين، تحرم عليه أبدا، كما في السنّة المباركة، لأنّه ملعبة لا حياة و لا زواج، اذا كان ذلك جائزا مطلقا.

الافتداء و البذل

و منها إنه لا يجوز أخذ شي ء من صداقهنّ ممّا آتيتموهنّ قبال الطلاق بالبغي أو التضييق عليهنّ حتي يرضين ببذل شي ء منه، إلّا فيما اذا افتدت به الزوجة بنفسها من غير إضرار، فان المرأة قد تري من نفسها أنها لا تقدر و لا تتمكّن عليه بوجه من الوجوه فلا تقدر هي علي اقامة حدود اللّه في الزوجية و تخاف في ابتلائها بالنشوز أو الفحشاء، فان النفس لأمّارة بالسوء، فتطلب من زوجها الطلاق و خلاص نفسها من عذاب الدنيا و شقاء الآخرة، فإن سرّحها فهو إرفاق و إكرام، و إلّا فلا جناح عليهما فيما افتدت به من صداقها بل الزائد عليه، فتهبه لزوجها ليطلّقها و لتخلّص نفسها منه، فلا جناح علي الزوج حينئذ في قبول ذلك فداء و عوضا لتسريحها و تخليصها عمّا وقعت فيه من مخمصة، و الأمر بيده، فان كان من جانبه النفور و الانزجار بحيث أنهما معا كانا يخافان أن لا يقيما حدود اللّه فيسمّي: «مباراة» لتبرّي كل واحد عن الآخر، و إلا فالخلع لإخلاع الزوجة ثوبها فانهنّ لباس لكم كما انكم لباس لهنّ، و تلك حدود اللّه فلا

تعتدوها، و من يتجاوزها بالإضرار أو التضييق عليهنّ لتفتدي عن حقها و نفسها فيأخذ ممّا أوتيت فقد ظلم نفسه و زوجته، و من يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظالمون.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 68

الطلقات الثلاث

و منها أن الثلاثة من الطلاق الموجب للحرمة حتي ينكحها زوج غيره لا يتحقق في مجلس واحد بذكر لفظ (الثلاث) من غير تخلل الرجوع و العقد، فان المرّة و المرتين لا يصدقان عليه بل و لا بتكرار الطلاق أيضا «1».

و منها: أنه لو نكح المطلّقة ثلاثا زوج آخر قاصدا طلاقها حين النكاح حتي تحلّ لزوجها الأول فلا بأس به و صحّ العقد و الطلاق لإطلاق قوله تعالي: حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يَتَرٰاجَعٰا، و يطلق عليه: (الزواج المحلل)، و علي عقده: (نكاح التحليل)، و لا يصغي الي ما عن بعض العامّة من دعوي انصرافه الي العادي فقط نكاحا و طلاقا توهّما منه أن ذلك و صمة علي جبين الاسلام ينافي شأنه و شرافته، فان الحكمة موجودة فيه أيضا و نعم الفرار من الحرام الي الحلال.

ثم انك عرفت ممّا ذكرنا أن الطلاق علي أربعة أقسام:

الرجعي، و البائن، و الخلع، و المباراة، و لكل واحد منها حكمه الخاص.

الفصل الثالث: شروط التسريح و الرجوع

و فيه آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ

______________________________

(1)- خلافا لجمع من فقهاء العامة القائلين بوقوعه ثلاثا مستدلين بأمور موهونة، و عن بعضهم وفاقا للشيعة أنّه يقع واحدة مستدلا بما عن رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): «أ يلعب بكتاب اللّه و أنا بين أظهركم» حين أخبر برجل طلّق زوجته بثلاث جمعا فقام غضبان و قال ذلك.

و القانون المصري في عصرنا الحاضر يعتبر لفظ الطلاق الثلاث طلاقا واحدا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 69

رَبَّكُمْ لٰا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لٰا يَخْرُجْنَ إِلّٰا أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ وَ مَنْ

يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لٰا تَدْرِي لَعَلَّ اللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً* فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ … (الطلاق [65] الآية 1- 2)

تحكم الآيات الكريمة أولا بأن الطلاق لا بدّ و أن يكون لعدّتهنّ، فلا بدّ من إحصاء عدّة النساء و تعداد أيّامهنّ حتي لا يقع فيما اذا كنّ مستبطنات الزوج إن كنّ مدخولا بهنّ فلا يصح الطلاق في طهر المواقعة بل لا بدّ من أن يحضن ثم يطهرن لإمكان الحمل مع الحيض و لو نادرا دون الحامل و غير المدخولة، فاتقوا اللّه تعالي في رعاية الحدود.

ثم ان الآيات الكريمة تنهي بعد الطلاق عن إخراجهنّ من بيوتهنّ ما دمن في العدّة، فانهنّ فيها زوجات حكما كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه، فيحرم خروجهنّ أيضا بلا إذن إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة فلا بأس باخراجهنّ.

و الحاصل إنّه بعد إحصاء العدّة و تحقق الشرط إما إمساك بمعروف و تحفّظ علي الأسرة برعاية الحقوق و الحدود أو تفريق باحسان من رعاية الأصول الشرعية و العرفية من ردّ الصداق أو تمتيعها بشي ء حتي يغني اللّه كلّا منهما من فضله الواسع.

فان أردتم الطلاق عليكم أن تستشهدوا عليه ذوي عدل منكم ليكون الطلاق بمحضرهما، و لكي لا يدّعي أحد طلاق زوجته أو نفي ولده بسهولة، و كذلك لكي لا تنكر المطلّقة الطلاق بسهولة أيضا لتلحق به الولد و تطلب النفقة، فلا يصح الطلاق بدون إشهاد عادلين، و عليهما تحمّل الشهادة ثم أداؤها للّه تعالي عند الاختلاف و الحاجة، فان اللّه علي كل شي ء شهيد. فالمطلّقة بدون إشهاد يحرم نكاحها مع العلم بأنها ذات بعل و ان اعتدّت

و انقضت عدّتها، و مع الجهل، و قد وطأت بالشبهة يجب الانفصال عنها لدي انكشاف الحال.

الثانية- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 70

وَ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لٰا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لٰا تَتَّخِذُوا آيٰاتِ اللّٰهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ مٰا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتٰابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ* وَ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلٰا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوٰاجَهُنَّ إِذٰا تَرٰاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كٰانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِكُمْ أَزْكيٰ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 231- 232)

تنهي الآيات المباركة- صراحة- عن الإضرار بالنساء و الاعتداء عليهنّ بترك حدود اللّه و أخذ آياته و أحكامه فيهنّ هزوا و لعبا، فاذا طلّقتم النساء و بلغ انتهاء أجلهنّ و عدّتهنّ فليس لكم عندئذ إلّا أحد الأمرين، و هما:

الأول: الرجوع قبل تمام الأجل و الإمساك بمعروف من رعايتهنّ و إعطاء حقوقهنّ لا سيّما من ناحية المضاجعة و المباشرة دون الإمساك إضرارا و اعتداء بالرجوع و الطلاق و هكذا.

الثاني: التسريح و الإطلاق بمعروف أي بعدم الرجوع حتي تنقضي عدّتهنّ و يبغين عندئذ زوجا آخر دون الإضرار و الاعتداء بعدم ردّ الصداق و الحقوق الاخري أو الرجوع و الطلاق كذلك.

هذا اذا كان المراد من قوله تعالي: طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فعليه الطلاق، و أما اذا كان المراد إرادته؛ فالمراد انه لا بدّ من التأمّل الي بلوغ الأجل في المدخولة الحائلة من الطمث و الطهر، و اذا بلغن أجلهنّ فأحد الأمرين إلا

أن ذلك ينافي الإطلاق الشامل لغير المدخولة و الحامل.

و كيف كان فمن تعدّي أحكام اللّه تعالي فيهنّ فقد ظلم نفسه و عليه العقاب، فاذكروا نعمة اللّه تعالي عليكم بالهداية و الإرشاد الي الأحكام التي فيها الخير و النجاة التي أنزلت إليكم من الكتاب و الحكمة إنّ اللّه يعظكم بها فاتقوه فيها و اعلموا أنّ اللّه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 71

بكل شي ء عليم يعلم و يري ما تعملون فيهنّ و في حقوقهنّ.

ثم انكم اذا طلّقتم النساء فبلغن أجلهنّ بانقضاء عدّتهنّ، فان تراضوا و توافقوا مرّة أخري علي النكاح و المزاوجة فلا تعضلوهنّ و لا تمنعوهنّ عن ذلك اذا كان بالمعروف مراعيا كل منهما حدود اللّه تعالي في حقّ الآخر، فان ذلك أزكي و أطهر من الميل إليهنّ و منعهنّ أن ينكحن أزواجهنّ لتناكحوهن، و قد اختبر كل منهما الآخر من قبل و حدث بينهما الفراق لحدّة نشأ منها التكامل و التعرّق في الأمور الداخلية العائلية فاتعظوا بذلك و تراضوا.

الفصل الرابع: إحصاء العدة

اشارة

ما يتعلّق في العدّة.

العدّة من تعديد الأيام و انتظارها الي أجل معيّن، و هي لا تكون إلا للمدخول بها عند الانفصال عن زوجها أو المتوفّي عنها زوجها مطلقا، و هو في الأولي ثلاثة قروء، يتحقق أكثر بثلاثة أشهر و عشرا إن لم تكن حاملا، و إن كانت حاملا فالي أن تضع حملها، و في الثانية: (أي المتوفّي عنها زوجها) أربعة أشهر و عشرا، أو أبعد الأجلين منها و من أن تضع حملها، و في الفصل آيات مباركة.

الاولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنٰاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمٰا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهٰا فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَرٰاحاً جَمِيلًا.

(الاحزاب [33] الآية 49)

فقه القرآن (لليزدي)،

ج 3، ص: 72

تفيد الآية الكريمة صراحة أن الطلاق بعد العقد و النكاح و قبل المسّ «1» لا يتوقّف علي انتظار الأجل و عدّ الأيام لئلا يقع في طهر المواقعة حيث لا دخول، فيجوز تمتيعهنّ بشي ء إن لم يكن في البين فريضة، و إلا فنصف ما فرضتم- كما وضّح- ثم تسريحهنّ سراحا جميلا من غير عناد و إضرار، و لها النكاح و التمتع من زوج آخر بلا انتظار للزمان و تعديد للأيام، فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّونها.

و أنت تعلم ما في التقييد من إشارة بل صراحة الي رمز الاعتداد و سرّه من التحفّظ علي الماء و الولد، فحيث لا لمس و لا دخول فلا ماء و لا تحفّظ و لا عدّة، و حيث كان لا يصحّ الطلاق في طهر المواقعة، و كما عرفت لا بدّ من الطهر بعد الطمث لاحتمال جمع الحيض و الولد فيشترط في طلاق المدخولة خلوّها من الحيض دون غيرها، و أما العدّة التي عليها فلجواز تزوّجها من غيره- كما تري-.

حرمة كتمان النطفة

الثانية- قوله تعالي:

وَ الْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلٰاثَةَ قُرُوءٍ وَ لٰا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذٰلِكَ إِنْ أَرٰادُوا إِصْلٰاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجٰالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. (البقرة [2] الآية 228)

الآية الكريمة تحكم- بلسان الإخبار- علي المطلّقات بتربّص ثلاثة قروء، فلا يجوز لهنّ قبل انقضائها النكاح بزوج آخر، و الإطلاق مقيّد بالآية السابقة، فيختصّ الحكم بالمدخولة كما يؤيده تناسب الحكم و الموضوع، بل يدلّ عليه لو كانت

______________________________

(1)- و هو كناية عن الدخول لا مطلق المس و ذلك من أدب

القرآن الكريم كما عرفت في كتاب الطهارة عند قوله تعالي: «.. أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ» و كما تري في قوله تعالي أيضا: «فَلَمّٰا تَغَشّٰاهٰا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً..» (الاعراف [7] الآية 189)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 73

السابقة راجعة الي شرط الطلاق لا الزواج مع غيره بعده، و كذلك تحكم الآية الكريمة عليهنّ بحرمة كتمان ما خلق اللّه تعالي في أرحامهنّ، فعليهنّ الإظهار و التربّص الي أن يضعن حملهنّ كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه، و بعولتهنّ أحقّ بردّهنّ من غيرهم قبل انقضاء العدّة بالرجوع أو بعده بعقد جديد- كما عرفت من قبل- إن أرادوا إصلاحا دون اعتداء، و ظاهر القيد عدم الجواز مع عدم إرادة الإصلاح، و لا أقول: مع إرادة الإفساد و الإضرار المنهيّ عنهما مكررا لو لا الاجماع علي الجواز و كأنّه عدم التعرّض للحكم الوارد عن الأصحاب لا الإنفاق علي الجواز، و لعلّ المراد من إرادة الإصلاح عدم إرادة الاعتداء لبعد الواسطة بل عدمه- كما لا يخفي-.

ثم ان للمطلّقات في أيام القروء الثلاثة الإحسان و المعروف و الخير مثل الذي عليهنّ فانّهنّ في تلك الأيام بحكم الزوجة فلهنّ النفقة و المسكن، و عليهنّ حفظ النفس و مال الزوج و عدم الخروج من بيته بغير إذنه، و عليهما مراعاة الكرامة و الفضيلة و إن كان في ذلك كلّه للرجال عليهنّ درجة من القوام و الفضل، فعليهم مراعاة جانبهنّ أكثر- كما تعلم- و اللّه عزيز حكيم.

احصاء العدّة

الثالثة- قوله تعالي:

وَ اللّٰائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسٰائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلٰاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللّٰائِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولٰاتُ الْأَحْمٰالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً. (الطلاق [65] الآية 4)

التقييد بالارتياب يفيد

أن ما عرفت من الاعتداد بثلاثة قروء كانت بحسب الزمان و لم يكن في المعلوم حيضها غير المرتابة، و أما مع الارتياب بانقطاع الحيض و احتمال اليأس لكبر أو عارض كاللاتي لم يحضن و هنّ في سنّ من يحضن فعليهنّ التربّص بثلاثة أشهر فحسب بحسب الزمان، و أما أولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 74

حملهنّ سواء كان بعد الطلاق بشهور أو شهر أو أقل.

و أما اللاتي يئسن من المحيض و الارتياب فلا عدّة عليهن كالصغيرة، و إن ذهب الي ثبوتها لهما بعض الأصحاب تبعا للعامة، و نفي عنه البعد المحقق الأردبيلي (رضوان اللّه عليه) في كتابه: زبدة البيان/ ص 595 أولا ثم نفي باعتبار السنّة المباركة، و قد عرفت أن الآية الكريمة بنفسها تفيد ما أفادته السنّة المباركة.

الرابعة- قوله تعالي:

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لٰا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولٰاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّٰي يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعٰاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْريٰ.

(الطلاق [65] الآية 6)

الآية الكريمة برجوع ضميرها الي المطلّقات تدلّ علي أن لهنّ السكني (السكن) من مساكن أزواجهنّ حسب الوجدان و الإمكان، و ظاهر الإنفاق الأعم من المسكن مثل ما كان لهنّ قبل الطلاق- كما عرفت- من قوله تعالي: وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، فليس للأزواج التضييق عليهنّ باخراجهنّ من البيوت و ترك الإنفاق عليهنّ، و الأمر في الرجعيات منهنّ قبل انقضاء العدّة ظاهر فانهنّ زوجات و أولات حمل تابعات الي أن يضعن حملهنّ، فعليهنّ مراعاة ما علي الزوجات و لهنّ ما لهنّ من عدم الخروج من البيت بغير إذن أزواجهنّ و استحقاق النفقة لنفسها أو بملاك

الولد، و الإطلاق و ان كان يشمل البائنة أيضا إلّا أن الملاك هو التبعية لا يشملها فتخصص بالآية الكريمة كما صرّحت به السنّة المباركة أيضا.

ثم إن أرضعن لكم زوجاتكم المطلّقات أولادكم بعد وضع حملهنّ فعليكم عندئذ إعطاء أجورهنّ حسب المتعارف و هو أقرب للحق الطبيعي للولد و الأم معا، و كما عرفت من قبل من آثار خاصة في لبن الأم، و إن لم يقبلن بدءا، أو يفرض مبلغا خاصا لذلك، و قد تعاسرتم في الحل فأتمروا في ذلك بتشاور و تبادل في الرأي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 75

و النظر يؤدّي الي قبول الأم إرضاع ولدها و آخر الطريق فسترضع له أخري، و لا بأس و إن كان ذلك لا يساعد طبع الولد بل الأم.

و مما لا بدّ لنا أن ننتبه إليه في الضمن أنه ورد الأمر بالائتمار و تبادل النظر و تعاون الفكر في كلّ مسألة جزئية حقوقية و غير حقوقية حتي تنتهي الي الحق أو قريبا منه، فكيف في مهام الأمور و كلياتها التي لا ائتمار فيها و لا رعاية للحدود و الأحكام؟ و هذه المؤتمرات هي التي لا بدّ منها في الحكومة الاسلامية أيضا.

المتوفّي عنها زوجها

الخامسة- قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. (البقرة [2] الآية 234)

توجب الآية الكريمة- بلسان الإخبار- تربّص أربعة أشهر و عشرا لمن توفّي عنها زوجها، فلا يجوز لها قبل انقضاء المدة و الأجل أن تتزيّن أو تتبرّج، و إن كان لا بأس بالخطبة و بما تكنّ في نفسها من علاقة و ذكر بعدها ما لم يكن

تواعد في السرّ إلا بالمعروف من مقاولة و غيرها- كما وضّح من قبل-، فاذا بلغن أجلهنّ بانقضاء الشهور و الأيام فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ و عليهنّ فيما فعلتم و فعلن بالمعروف المشروع، و المدة المذكورة بمثابة الحداد الذي قد أفتي بوجوبه المشهور من ترك التزيّن و التبرّج و كل ما تفعله صاحبة زوج لزوجها قبل الأجل.

و لكن لا يبعد استفادة كراهة التزيّن و التبرّج و الحداد مع بقاء التزوّج علي الحرمة بحكم الفرق بين مفاد الحرف: «في» و الحرف: «باء» من غير لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معني علي ما فيه من كلام بتقريب أن مفهوم نفي الجناح بعد الأجل وجوده قبله مطلقا فيما يفعلن في أنفسهنّ أو بأنفسهنّ فيعمّ التزيّن و التزوّج، و لكن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 76

منطوق الصدر قيّد التربّص في المدة بما يفعلن بأنفسهنّ الظاهر في التزوّج و عند نفي الجناح بما يفعلن في أنفسهنّ الظاهر في التزيّن، فالجناح الثابت قبل الأجل يحمل علي الكراهة في غير التزوّج و الحرمة فيه و المعني المستعمل فيه الجناح واحد، و إن كان مقتضي الحكمة الأصلية و هو احترام المؤمن الاجتناب، فالحكم هو الكراهة الشديدة. ألا تري أن ذلك التربّص لا يختص بالمدخول بها، بل كل من توفّي عنها زوجها.

كل ذلك في غير أولات الأحمال، و أما هنّ فأجلهنّ أن يضعن حملهنّ سواء كان قبل انتهاء أربعة أشهر و عشر أو بعدها، و حينئذ فان كان قبلها لا سيّما في القليل منها فهل عليهنّ التربّص بأنفسهنّ الي انتهاء المدة المذكورة بمقتضي الإطلاق و الحكمة، أو لا بتقييد الإطلاق بعموم قوله تعالي: وَ أُولٰاتُ الْأَحْمٰالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، أو أبعد الأجلين من وضع الحمل

و انقضاء الشهور و الأيام بمقتضي الجمع بين الإطلاق و العموم و حفظ مقتضي الحكمة؟ فالأخير هو الحق لأن الجمع مهما أمكن أولي مع التصريح به في السنّة المباركة.

ثم إن أولات الأحمال المتوفّي عنهنّ أزواجهنّ لهنّ حق السكني و النفقة في أيام الاعتداد في نصيبهنّ و نصيب حملهنّ، و علي الورثة ذلك إن لم يكف نصيبهما، و لهنّ أيضا بعد وضع حملهنّ أجرة الرضاع في نصيبه، ثم علي الورثة لإطلاق قوله تعالي: وَ إِنْ كُنَّ أُولٰاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّٰي يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.

السادسة- قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوٰاجِهِمْ مَتٰاعاً إِلَي الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرٰاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِي مٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* وَ لِلْمُطَلَّقٰاتِ مَتٰاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي الْمُتَّقِينَ.

(البقرة [2] الآيتان 240- 241)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 77

الآيتان الكريمتان تدلان علي أن الكرامة و روح الفضيلة تقتضي الوصية للزوجة زائدا علي مهرها و نصيبها من الإرث- بالمئونة المتناسبة من المسكن و غيره الي الحول ما لم تخرج من بيت زوجها حسب رغبتها، فهي التي تستّرت علي نفسها لزوجها خلال حياته، فلها ذلك الحق بعد العدّة ما دامت تراعي حقه الي الحول، و أما إن خرجن و لم يبقين علي وضعهنّ السابق بعد الأجل فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التبعّل و التزوّج بالمعروف؛ هذا في المتوفّي عنها زوجها، و كذلك الأثر في المطلّقات فلهنّ متاع بالمعروف زائدا علي حقوقهنّ الواجبة من المفروض أو نصفه أو المثل، فانهنّ كنّ أزواجا معاشرات متحمّلات لمشاقّ العيش، فتركهنّ اكتفاء علي الحقوق المقررة قانونا خلاف للفضيلة و الكرامة التي تكون حقا علي

المتقين، فذلك علي المتّقين بالحق في أزواجهم.

[النتائج]

نتيجة البحث الأول

فروع، هي:

الأول: لا يجوز عضل النساء و تركهنّ في المضاجع ذهابا بصداقهنّ كلا أو بعضا فلا تحلّ أموالهنّ لغيرهنّ كرها.

الثاني: يجب معاشرة الزوجة بالمعروف من أداء حقوقها الواجبة إليها بل المندوبة أيضا ثم بالكرامة و الفضيلة.

الثالث: يستحب للزوج و الزوجة تحمّل الكراهة و المشقّة في مورد الاختلاف في الأمور العائلية العادية دون التي تعني أحكام اللّه تعالي، ليجعل اللّه لهما خيرا.

الرابع: كما يحرم أخذ شي ء من صداق و أموال الزوجة بالتضييق عليها كذلك يحرم البهتان عليها بفاحشة، فانه إثم مبين و أكل بالباطل.

الخامس: الطلاق مبغوض مكروه، و انه أبغض الحلال.

السادس: يستحب الطلاق فيما اذا أتت الزوجة بفاحشة مبيّنة، بل في مطلق

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 78

ترك الواجب، و فعل الحرام اذا لم تنته بعد مراتبه المقررة.

السابع: لا يجوز الميل و الانحراف عن الحق في حقوقه بتركها معلّقة لا هي ذات بعل و لا هي مطلّقة حتي تتبعّل، فلا بدّ من الإصلاح و العفو في موارد الاختلاف علي مقتضي التقوي و مخافة اللّه تعالي، و الطلاق آخر الدواء.

الثامن: يجوز الطلاق بعد العقد، و حتي قبل المسّ و الدخول، فلا بدّ من ردّ نصف المفروض إن كان قبله، و تمامه إن كان بعده، و إن لم يكن في البين فرض مفروض، فلا بدّ من تمتيعهنّ بشي ء علي الموسع قدره و علي المقتر قدره أي مهر المثل، و مقتضي الكراهة اعطاؤهن شيئا اذا عفون عن حقّهنّ.

نتيجة البحث الثاني

فروع أيضا، هي:

الأول: الطلاق إيقاع، أمره بيد من أخذ بالساق و لا بدّ فيه من العزم و القصد، فلا يصحّ من غير القاصد كالساهي و الغالط و المجنون، و من لا قصد له شرعا و إن قصد كالمكره و الهازل و الغضبان

و غير البالغ.

الثاني: يجوز التوكيل في الطلاق كما في سائر العقود و الإيقاعات، فللوكيل ذلك مع بقاء حق الموكّل و حكومته عليه، كما هو مقتضي الوكالة، فله العمل أيضا علي وفاقه أو خلافه و الواقع المتقدّم منهما كما فصّل في محلّه.

فلا يصح توكيل الزوجة في تطليق نفسها حيث شاءت، أو اذا أمرت المحكمة العرفية علي وجه لم يبق للزوج حق عزل و تقدّم، فان ذلك خلاف حكم اللّه تعالي و شرعه لا خلاف الحق الذي جعل له، حتي يجوز له تركه لغيره، كما ان تقييد عقد النكاح بذلك أيضا غير صحيح و ان وقع المقيّد دون قيده.

و العجب كل العجب ممّن صحح ذلك توجيها، و لعلّه خوفا من السلطة القاهرة المبدعة في الاسلام الجائرة في المسلمين اللاعبة بأحكام اللّه تعالي و بحقوق

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 79

الناس بعنوان تحرير النساء و لو كان ذلك ما حقا للفقه الاسلامي الحنيف «1».

الثالث: الطلاق الجائز فيه الرجوع في العدّة أو التزوّج بعقد جديد بعدها مرّتان، فلا تحلّ المطلّقة ثلاثا إلّا أن ينكحها زوج آخر، ثم يطلّقها قاصدا الطلاق من حين النكاح أولا، فلا بأس عندئذ أن يتراجعا إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه، فلا ينبغي نكاح المطلّقة ثلاثا بعد ما طلّقها المحلل مع ظنّ بقاء الحالة السابقة بينهما فان ذلك ملعبة لا نكاح و طلاق.

الرابع: لا يقع الطلاق المتعدد بذكر العدد في جلسة واحدة من دون تخلل الرجوع أو العقد من غير فرق بين ما اذا واقعها بعد كل رجوع أو عقد أو لا بعد تحقق شروط الطلاق.

الخامس: لا جناح علي المرأة فيما افتدت به لزوجها حتي يطلّقها و يخلع عن نفسه لباس نكاحها فيما تخاف أن لا

تقيم حدود اللّه، كما لا جناح علي الزوج في أخذ ذلك و طلاقها، سواء كان الأمر من جانبه أيضا كذلك أو لا، فلا ينبغي ذلك دون وجه وجيه، و لا رجوع للزوجة إلا أن ترجع الزوجة في فديتها.

نتيجة البحث الثالث

فروع أيضا، و هي:

الأول: يشترط في صحة طلاق المدخول بها أن تكون في طهر غير طهر المواقعة بأن تطهر بعد الطمث و لو قبل الغسل.

الثاني: المطلّقة الرجعية زوجة ما دامت في العدّة، فلها النفقة و السكن و سائر الأحكام التي تخصّها، فلا يجوز إخراجها من البيت إلا أن تأتي بفاحشة مبيّنة توجب

______________________________

(1)- و لقد كافح أعاظم علماء الاسلام (رضي اللّه عنهم) سالفا و (أدام اللّه بقاءهم) حاضرا و في طليعتهم استاذنا الأفخم كهف الاسلام و ملاذ المسلمين آية اللّه العظمي الإمام الحاج السيّد روح اللّه الموسوي الخميني (أدام اللّه تعالي ظلّه الوارف علي رءوس المسلمين) فانه كافح البدع و المقررات المخالفة للدين مهما كانت و في أيّ طريق و زمان، فراجع تاريخ زماننا و حوادثه الهائلة المؤلفة تجده مخبرا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 80

الحدّ لا مطلق ارتكابها الحرام أو تركها الواجب.

الثالث: يجب إشهاد ذوي عدل حال الطلاق، فلا يصح بدونهما، و يحرم نكاح المطلّقة كذلك، فانها ذات بعل، فيجب الفراق و الانفصال لو انكشف الحال من عدمهما أو عدم عدالتهما.

الرابع: يجب علي الشهود بعد تحمّلهما الشهادة الأداء لدي الحاجة عند الحاكم الشرعي.

الخامس: يحرم إيذاء النساء بتركهنّ معلّقات، فإما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

السادس: المطلّقة بعد انقضاء العدّة أجنبيّة لا بدّ في نكاحها من عقد جديد، و أزواجهنّ أحقّ بردّهنّ، فيحرم منعها عن الزوج مع زوجها الأول بعد توافقهما.

نتيجة البحث الرابع
اشارة

فروع أيضا، هي:

الأول: لا عدّة لغير المدخولة، و بملاكها الصغيرة و اليائسة، فله طلاقها حيث يشاء، و لها التزوّج بغيره بعده حيث تشاء.

الثاني: علي المطلّقات بعد المسّ و الدخول تربّص ثلاثة قروء، فلا يجوز لهنّ قبل انقضائها النكاح من زوج آخر.

الثالث: لا يحلّ علي المطلّقات أن يكتمن

ما خلق اللّه في أرحامهنّ فيجب عليهنّ الإظهار ثم التربّص الي أن يضعن حملهنّ و لو بعد الطلاق بقليل، و بعولتهنّ أحقّ بردّهنّ إن أراد إصلاحا، و لا بدّ لكل منهما رعاية حقوق الآخر، و للرجال عليهنّ درجة برعايتها و رعايته أكثر.

الرابع: يجب علي المطلّقة المرتابة التي يئست من المحيض و هي في سنّ من تحيض، تربّص ثلاثة أشهر بحسب الزمان، فلا عدّة لليائسة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 81

الخامس: أولات الأحمال عدّتهنّ أن يضعن حملهنّ مطلقا.

السادس: يجب علي الزوج سكني المطلّقة و مئونتها ما دامت في العدّة، رجعية كانت أو ذات حمل من جهة نفسها أو ولدها.

السابع: عدّة المتوفّي عنها زوجها تربّص أربعة أشهر و عشرا من حين العلم بالوفاة، فلا يجوز لها التزوّج قبل الانقضاء، و يكره التزين و التطيّب و ما تفعله الزوجات لأزواجهنّ عرفا دون النظافة المتعارفة.

الثامن: أولات الأحمال المتوفّي عنهنّ أزواجهنّ عدّتهنّ أبعد الأجلين من أربعة أشهر و عشرا و من وضع الحمل، و سكناهنّ علي الورثة إن لم يكف نصيبها، كما ان عليهم أجرة رضاعها للولد إن لم يكف نصيبه، و إن لم يرضعن لكم فالتآمر و التشاور لدي الإعسار فسترضع له اخري، و علي المؤمنين الإنفاق و أداء الأجرة ثم علي بيت المال، فيحرم التضييق عليهنّ بترك ذلك.

التاسع: تستحب الوصية بتمتيع الزوجة من السكني و المئونة الي الحول إن لم تخرج عن بيت زوجها، أي بقيت علي حالها من دون تزوّج، و ذلك زائدا علي نصيبها المفروض، كما يستحب تمتيع المطلّقة بشي ء زائدا علي حقها من المهر أو نصفه أو المثل، فان ذلك كرامة و حق علي المتّقين.

وهم و دفع

تنبيه:

قد يتوهّم ان مقتضي الجمع بين الآيات الناهية عن الإضرار بهنّ

مؤكّدا و مكررا مع الأمر ببعث الحكم من الطرفين «1» للإصلاح؛ جواز تطليق القاضي الزوجة بدون

______________________________

(1)- كقوله تعالي: «فَلٰا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ» (النساء [4] الآية 129)، و قوله: «تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ فَلٰا تَعْتَدُوهٰا» بعد قوله: «فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ» (البقرة [2] الآية 229)، و قوله: «وَ لٰا تُمْسِكُوهُنَّ-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 82

رضا زوجها في موارد منها إضراره إيّاها كالضرب و السبّ و ترك النفقة، أو اعتياده بما لا يناسب شأن الرجل من حرام و غيره، أو غيبوبته و حبسه زمنا لا يحتمل عادة «1».

و قد أوضحنا من قبل ان النكاح ميثاق غليظ و عهد وثيق، لا ينتقض بسهولة، و لا يخلّ بشي ء من العناء و المشقّة، و ذلك عهد بينهما و لهما و عليهما، و لا يمكن أن يشعر و يحسّ غيرهما ما يشعران هما من خصوص عهدهما، فلا معني لجعل أمرهما بيد غيرهما، كما انه لا وجه لجعل أمره بيد امرأة كلّا أو بعضا.. التي تضطرب بشي ء و تسكن بشي ء آخر، تحسّ سريعا و تعقل بطيئا، فانه خلاف مصلحتها و مصلحة العائلة و المجتمع، و قد جعل اللّه تعالي أمرها بيد زوجها كما عرفت من ضمائر الآيات، و ذلك حكم من أحكامه تعالي لا أنه حق حتي يصح تفويضه أو إلقاؤه.

مع ان اختيار الحكمين في الآية الكريمة لم يتجاوز عن الإصلاح بينهما و ليس لهما أو لأحدهما الطلاق علي فرض عدم الاصلاح، فكيف الحاكم؟!

نعم قد أفتي الأصحاب فيمن غاب عنها زوجها و لم تعلم به و انقطع خبره بعد رفع أمرها الي الحاكم و ضرب الأجل بأربع سنوات و التفحّص في الجهات خلال المدة المذكورة، فيطلّقها الحاكم و تعتدّ عدّة

الوفاة مع حفظ حق تقدّم الزوج لوجودها في العدّة، كل ذلك اذا لم يكن للغائب ولي يخلفه في أمور أو كان و امتنع عن طلاقها.

و كذلك أفتوا في المظاهر عليها التي لا يطلّقها زوجها و لا يرجع إليها بالتكفير

______________________________

- ضِرٰاراً لِتَعْتَدُوا» (البقرة 2 الآية 231)، و قوله: «وَ لٰا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» (الطلاق [56] الآية 6).

و قوله تعالي: «وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقٰاقَ بَيْنِهِمٰا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا إِنْ يُرِيدٰا إِصْلٰاحاً يُوَفِّقِ اللّٰهُ بَيْنَهُمٰا». (النساء [4] الآية 35)

(1)- مما أبدعته الحكومة البهلوية الجائرة ضمن بدع اخري بعنوان التحرير و حماية الأسر ممّا أدي الي حدوث ثورة و كفاح انتهي الي مصائب هائلة للاسلام و المسلمين كما تعلم.

ثم ان صاحب كتاب: (فقه السنّة) قد فصّل بعض تلك الموارد و قبلها معلّلا بتيسير الناس و التمشي مع روح الاسلام السمحاء/ ج 2/ ص 287، و نعوذ باللّه من القياس في الأحكام.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 83

فاذا رفعت أمرها الي الحاكم ينظره ثلاثة أشهر، فان لم يختر أحد الأمرين يحبسه و يضيّق عليه في المطعم و المشرب حتي يختار حلا واحدا من دون إجبار و لا يطلّق عنه، و كذلك في الإيلاء مع تفاوت في المدة التي تضرب من أربعة أشهر.

فتري من تلك الموارد شدّة رعاية الاحتياط، فلا بدّ من ذلك في أحكام الفروج و الدماء، و حينئذ كيف يمكن الحكم بجواز ذلك للحاكم في موارد العلم بحياة الزوج، بل مع إمكان مكالمته أو مكاتبته مع تعذّره من الاستمتاع مدّة كالحبس و الأسر بل السفر، فكيف في مثل الإضرار بالضرب و الشتم و ترك النفقة و غيرها، فان طريق منعه عن ذلك و تكليفه بأداء

الحقوق هو غير الطلاق من قبله.

هذا و مع ذلك كلّه لا ننسي الولاية العامة للحاكم الشرعي في بعض الموارد الخاصة التي انتهي الأمر الي الضرر و الحرج المنفيين و خيف من وقوعهما أو وقوعها في الحرام من الفحشاء فلا يقيما حدود اللّه، و علم بذلك كلّه الحاكم فله ذلك لحكومة أدلّتها علي الأدلّة الأولية علي الكلام في شمولها لمثل المقام. فليس الطريق مقطوعا مسدودا مطلقا و لا السبيل مفتوحا سهل العبور مطلقا أيضا. و علي الحاكم بعد رعاية جانب الاحتياط دفع الضرر عنها.

تكملة في ما يشبه بالطلاق:

الإظهار و الإيلاء
اشارة

انك إن كنت متزوجا متأهّلا تعرف- قطعا- ما يطرأ بين الزوجين حسب اختلافهما و لو في الجملة طول حياتهما المشتركة- علي أساس استمتاع كل واحد بالآخر- مما ينتهي الي التقاول فالتشاجر ثم التباغض أحيانا إن لم يغمض أحدهما و يعفو، و الأولي به هو الرجل فانه الذي عليه الكرامة و له القوام.

و عندئذ يتعرّض لهما الشيطان ليوقع بينهما العداوة و البغضاء، فيحاول كل واحد منهما الإضرار بالآخر مهما أمكن، سواء كان مشروعا أو غير مشروع، أعاذنا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 84

اللّه تعالي منه، فكان الرجل يشبّه زوجه بأمّه ظهرا حتي تصير عليه حراما لا يطأها إضرارا بها، و لم تكن مطلّقة مسرّحة، و الظهر كناية عمّا يركب عليه، أو كأن يولّي و يقسم و يحلف باسم اللّه تعالي علي تركها معلّقة فلا يطأها إضرارا بها و لا يطلّقها حتي تملك نفسها، فالأول يسمّي: «إظهارا» و الثاني يسمّي: «إيلاء»، فأنزل اللّه تعالي في المقام آيات تعديلا لهما.

الظّهار

ففي الأول، قوله تعالي:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* قَدْ سَمِعَ اللّٰهُ قَوْلَ الَّتِي تُجٰادِلُكَ فِي زَوْجِهٰا وَ تَشْتَكِي إِلَي اللّٰهِ وَ اللّٰهُ يَسْمَعُ تَحٰاوُرَكُمٰا إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ* الَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسٰائِهِمْ مٰا هُنَّ أُمَّهٰاتِهِمْ إِنْ أُمَّهٰاتُهُمْ إِلَّا اللّٰائِي وَلَدْنَهُمْ «1» وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللّٰهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ* وَ الَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمٰا قٰالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا ذٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعٰامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ وَ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰابٌ أَلِيمٌ.

(المجادلة [58] الآيات 1-

4)

الآيات المباركة تحكي سماع اللّه تعالي تحاور رسوله مع التي كانت تشتكي من زوجها في الإضرار بها بمثل الظهار، و كان النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) حسب الظاهر- يوصيها بالصبر و التحمّل ليعفو عنها فتجادله في زوجها، فأنزل اللّه تعالي: الَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسٰائِهِمْ.. فيقولون لهنّ: ظهرك عليّ كظهر أمّي إضرارا بهنّ، لا يحرمن بهذا القول عليهم كحرمة أمهاتهم عليهم. أمّا يعتقدون أنّ أمهاتهم هنّ اللائي

______________________________

(1)- و فيه أيضا قوله تعالي: «.. وَ مٰا جَعَلَ أَزْوٰاجَكُمُ اللّٰائِي تُظٰاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهٰاتِكُمْ..» (الاحزاب [33] الآية 4)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 85

ولدنهم، فالقول هذا منكر و زور لا يناسب شأنكم، يعفو اللّه تعالي عن قائله اذا تاب و عاد الي حياته الهنيئة، فان اللّه عفوّ عن الخطيئات غفور رحيم.

نعم علي المظاهر كفّارة تحرير رقبة قبال تحبيسه في الجملة، و ليذوق طعم التحرير و يري آثاره في المحرر، فتنبعث روحه علي الخير و ينزجر هو عن الشرّ، و إن لم يقدر علي الكفّارة فصيام شهرين متتابعين لذلك أيضا، و إن لم يستطع فإطعام ستّين مسكينا، كل ذلك قبل التماس و الدخول، فعليه التكفير ثم الرجوع حتي يتّعظ، و اللّه تعالي بما تعملون خبير، و ذلك من حدود اللّه فمن كفر بها و تجاوز عنها فله عذاب أليم.

فيجب علي المظاهر العود و الكفّارة أو الطلاق لقوله تعالي: وَ لٰا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً فان عاد أو صبرت هي حتي يعود بنفسه فبها و نعمت، و إلا رفع أمرها الي الحام فيلزمه علي واجبه بمراتبه حتي يصل الي الحبس و التضييق حتي يختار أحدهما، و ليس له طلاقها بدون إذنه، و لا وجه لضرب الأجل من قبل الحاكم إلّا

اذا لم تنقض مدّة يجب عليه التماسّ و الدخول شرعا و الأجل المضروب علي الفرض يستغرق مدّة ذلك الواجب من زمن ترك الوصي الي أربعة أشهر.

ثم إن الظاهر من كلمة: «أمّ» هو أن التشبيه بغيرها لا يوجب الحرمة «1»، و ان أوجبها تشبيه غير الظهر بالأم بقصد التحريم دون التعظيم، كما ان الظاهر من قوله تعالي: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا بعد إيجاب الكفّارة جواز غير الدخول من الاستمتاعات بلا كفّارة و عدم تكرره به. و رعاية الترتيب في الكفّارة ظاهر. و الظاهر من: «نسائهم» ثبوت الحكم في المطلّقة الرجعية أيضا ما دامت في العدّة، و عليه الكفّارة إن أراد الرجوع بالدخول بعد الظهار، دون المنكوحة بعقد جديد بعد انقضاء العدّة، و بذلك الاحتيال يتخلّص عن الكفّارة فيطلّقها ثم ينكحها بعقد جديد بعد

______________________________

(1)- و ان أفتي بها بعض الأصحاب في خصوص الظهر، و الآخر مطلقا اذا قصد التحريم و هو مشكل بعد توقيفيّة عوامل الفراق، و ان كان الحكم بالتأثير احتياطا خلاف الاحتياط و أشكل أيضا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 86

انقضاء العدّة مع تقبل خطر احتمال عدم قبول الزوجة.

الإيلاء

و في الثاني، قوله تعالي:

نِسٰاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰي شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلٰاقُوهُ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ* وَ لٰا تَجْعَلُوا اللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النّٰاسِ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* لٰا يُؤٰاخِذُكُمُ اللّٰهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمٰانِكُمْ وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ* لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فٰاؤُ فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (البقرة [2] الآيات 223- 226)

الآيات المباركة بعد ما تشير الي العلّة الأصلية و الغاية الأساسية لبناء

صرح الزواج، و أنّه بقاء النسل و تكثير النوع الانساني الي ما شاء اللّه الذي يصوّره تعالي في الأرحام كيف يشاء، فان النساء حرث لكم فأتوهنّ من حيث أمركم اللّه به بعد الاعتزال عنهنّ أيام المحيض طهارة للحرث و النسل، و بعد تأكيد الآيات الكريمة الأمر و مراعاتهنّ لتقوي اللّه تعالي و الاعتقاد بيوم القيامة و لقاء اللّه، تنهي عن اليمين و القسم باسم اللّه تعالي مطلقا، ف لٰا تَجْعَلُوا اللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ بين الناس و بين أنفسكم لا سيّما في الأمور العائلية و بين الزوجين، فان البرّ و التقوي و الإصلاح بلا قسم و يمين خير.

ثم تشير الآيات الكريمة الي الفرق بين الجدّ و الهزل، و ان الموضوع للحكم و المنهيّ عنه المؤاخذ عليه هو الجدّ المكسوب بالقلب دون الهزل و المزاح.

و حينئذ فان حلف أحدكم عن جدّ علي ترك وطي زوجته إضرارا بها فلا يكون

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 87

الأمر باختياره مثل سائر الموارد، و الكفّارة عند حنثه بمشيّته، بل عليه أحد الأمرين:

فإما الحنث و الكفّارة و إما الطلاق، و يضرب لاختياره أربعة أشهر و هي المدّة التي يجب عليه بعدها المباشرة، و ذلك بعد رفع أمرها الي الحاكم، و أما الكفّارة فكما يأتي بحثها في بابها إن شاء اللّه في كتاب العهود و الايمان عند قوله تعالي:

لٰا يُؤٰاخِذُكُمُ اللّٰهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمٰانِكُمْ وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمٰانَ فَكَفّٰارَتُهُ إِطْعٰامُ عَشَرَةِ مَسٰاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مٰا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ ثَلٰاثَةِ أَيّٰامٍ.. (المائدة [5] الآية 89)، و الأمر في اختيار الحاكم- كما في الظهار- عليه إجباره بمراتبه دون الطلاق من قبله.

نتيجة البحث

فرع التكملة:

الأول: الظهار هو أن

يقول الزوج لزوجته: «أنت عليّ كظهر أمّي» مثلا إضرارا بها بقصد تحريم الوطء، و هو نوع طلاق يشترط فيه شروطه الخاصة به، لكنها لا تحرم بذلك عليه حرمة مؤبدة كأمّه، فله أن يعود إليها كالرجوع إليها من جديد، بل عليه ذلك بعد الكفّارة، فتحرم عليه قبلها، و كفّارته تحرير رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستّين مسكينا- علي الترتيب، و لا تتكرر الكفّارة بالدخول قبله، و لا بأس بالاستمتاع بغير الدخول قبل التكفير.

الثاني: لا يتحقق الظهار بالتشبيه بغير الأم من المحارم النسبية، و إن كان الاحتياط في ذكر خصوص الظهار بقصد التحريم مراعي كما في ذكر غير الظهر في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 88

التشبيه بالأم بقصد التحريم لا التعظيم، و الأقرب التحقيق.

الثالث: لا يتغيّر الحكم بتطليقها رجعيا ما دامت في العدّة. نعم بعد انقضائها و لو بالبائن ينقطع أثر الظهار، و له التزوّج بعقد جديد.

الرابع: يجب علي المظاهر أحد الأمرين؛ فإما العود و الكفّارة و إما الطلاق، فان تركهما يجبره الحاكم علي واجبه بمراتب الإجبار الي الحبس و التضييق حتي يختار واحدا منها، دون التعيين له أو التطليق بغير إذنه و رضاه، و ذلك بعد ان ترفع أمرها الي الحاكم.

الخامس: ان القسم و جعل اسم اللّه تعالي عرضة للأيمان جدّا لا هزلا، و لا سيما في الاختلافات العائلية بين الزوجين، مبغوض منهيّ عنه، مؤاخذ عليه.

السادس: القسم علي ترك وطء الزوجة إضرارا بها محرّم تكليفيا مؤاخذ عليه، يجب حنثه كذلك ثم الكفّارة أيضا.

السابع: للذين يؤلون من نسائهم و يحلفون علي ترك وطئهنّ، تربّص أربعة أشهر ثم أحد الأمرين: حنث اليمين و كفّارته، أو الطلاق، و اختيار الحاكم بعد رفع أمرها إليه كما في الظهار.

الثامن: كفّارة

حنث اليمين كما في بابه: إطعام عشرة مساكين أو تحرير رقبة أو صيام ثلاثة أيام علي المراتب.

التاسع: لا بأس بالقسم علي ترك وطي الزوجة مدّة لمصلحتها من تقوية مزاجها أو إصلاح لبنها أو غير ذلك فانه ليس بإضرار.

الي هنا أختتم بما يرتبط بالعهد الوثيق «الزواج» في ما يتعلّق في تحقيقه و حلّه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 89

و قطعه و ما يترتّب عليه من ثمار و آثار.. و الحمد لله أولا و آخرا و نسأله تعالي التوفيق «1».

______________________________

(1)- و في الأصل: الي هنا تمّ كتاب التسريح و الظهار و الإيلاء و الحمد للّه و له الشكر أولا و آخرا، و الساعة الآن هي عشرة دقائق بقين الي الظهر من اليوم الرابع و العشرين من شهر جمادي الأولي لسنة 1394 ه. ق.

و قد انتهينا الي أواخر كتاب التسريح، فأحضرنا من ميناء (بوشهر) الي عاصمة البلد (طهران) من قبل وزارة العدل- و أين العدل من هذه المحاكم؟- باسم المحاكمة- و أيّ محاكمة؟- و قد أعلمنا بكتابة شي ء بعنوان الدفاع عن أنفسنا من غير مشافهة مع الحاكم و المحكمة و لا مجاوبة في العلّة، و أكثر منه: تمكينهم إيّانا لرؤية السّجلات التي حكم عليها بإقصاء كل من ورد اسمه فيها من أولئك الأفاضل، و هو سجّل مهين سخيف لا يخفي علي أهله، و ليس هنا محل ذكره، و خلال نظرتنا للسجل حكي أحد القضاة قصّة أبي حنيفة مع الحاكم إشارة الي موضعه و موضعنا من أنّه و رئيسه في المحكمة و مشاوريه مع كل المنظّمة القضائية المستقلّة ظاهرا لا يكون إلّا لعبة في أيدي المنظّمة الخاصة باسم الأمن العام المستخدمة لجميع المنظّمات الظالمة علي عموم الطبقات الحافظة للاستبداد العريق

من قبل العميل الخائن محمد رضا بهلوي في سبيل حكومته و مصالح أسياده المعاونين له، ثم أعلمنا بلا مجاوبة شفاهية و لا كتبية لما كتبنا بتغيير محل الإقصاء، و ان علينا البقاء في بلدة (رودبار)، و لا أعلم أنه متي و أين حدث ذلك، فقلت لحاكم قم تلفونيا: و حيث ان المدّعي و الشاهد و القاضي واحد فبيّن لنا أين ذلك المحل و أنت تعلم انه قريب من بلدة رشت التي هي علي ساحل النهر الأبيض الجاري من سدّ منجيل، و ممّا أعجبني و يعجب كل ناظر لهذه البلدة أنها تقع علي ساحل نهر و هي مضيقة من ماء الشرب المصفّي بالإضافة الي عدم وجود مستشفي فيها، و هذه النواقص و الاحتياجات لهذه البلدة تضاف الي ما كان يعانيه المجتمع الايراني المسلم آنذاك، و في كثير من انحاء البلاد أيضا. و أعتذر لخروج القلم عن مسيره الأصلي في الرسالة، و إنما أتيت بهذه السطور في المقام تحفّظا عليها و علي نظم الكتاب، و إنما أشكو بثّي و حزني الي اللّه و أدعوه أن يقطع أيدي الظلمة عن الحوزات العلمية و يردّ كيدهم في نحورهم و ينصر الاسلام و المسلمين و يوفّقنا لمراضيه في مختلف الظروف حتي لا ننساه و أوامره أيضا، نعوذ به من ذلك في المكاره فان الإنسان خلق ضعيفا، و به نستعين.

الي هنا تمّ ما في الأصل. و بمراجعة التاريخ يتّضح ما أصيب به الاسلام في بلادنا و لا سيّما في الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة بواسطة أيادي تلك الحكومة الجائرة من شنّ غارات وحشية مكررة علي المدارس العلمية و بيوت العلماء و استخدام الضرب و الجرح و القتل مرارا في الطلّاب

و الكسبة و الزوّار ثم إقصاء الأساتذة و العلماء و المراجع العظام و جمع من التجّار ثم إيجاد الإرهاب و التخويف بأشكاله السبعية توهّما منهم أن هذا هو طريق استسلام الثوّار المسلمين، المجاهدين في طريق الحق و إحياء الدين و دفع البدع حتي النصر الكامل الشامل المورث و المحقق للحكومة الاسلامية الحقّة لئلا تكون فتنة و ليكون الدين كلّه للّه. و بقيت الثورة الاسلامية دائبة في تكامل مسيرتها بقيادة العلماء و رئاسة الأعلم الأعرف الأتقي كهف الاسلام و ملاذ المسلمين أستاذنا الأعظم آية اللّه العظمي الامام الحاج السيد روح اللّه الموسوي الخميني (أدام اللّه ظلّه علي رءوس المسلمين)، و قد بلغت مراحلها العالية، نرجو من اللّه التوفيق الكامل بأيدي المؤمنين إن شاء اللّه تعالي، و أنا الآن في (قرية) قرب مدينة كرمانشاه تحت إشراف المنظّمات الدولية منتقلا من ميناء الفجة و ذلك في جمادي الثانية 1398 ه. ق.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 91

كتاب التجارة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 93

التجارة

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ وَ لٰا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً. (النساء [4] الآية 29)

كرامة الانسان عند اللّه

اشارة

الانسان بطبعه المحبّ لذاته و لجميع شئون حياته، لا بدّ له من أكل يصلح به بدنه و يسدّ به جوعه، و شرب ينفعه و يروي عطشه، و بالجملة يسكن به غرائزه و يلبّي مطالبها، و اللّه تعالي خلق له ما في الأرض جميعا «1»، و خلقه و ما خلق له فهو لنفسه تعالي «2».

فالإنسان بفطرته يتصرّف في البحار و الأنهار، فيشرب منها اذا كان عذبا فراتا «3»، و يتطهّر بها تنظيفا من الأقذار و من رجز الشيطان «4»، و يصطاد فيها فيأكل منها لحما طريّا و يلبس منها زينة و حلية «5»، و يجري فيها الفلك ابتغاء فضل اللّه تعالي من

______________________________

(1)- كقوله تعالي: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً..». (البقرة [2] الآية 29)

(2)- و في الحديث القدسي: «خلقت الأشياء لأجلك و خلقتك لأجلي».

(3)- كقوله تعالي: «هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هٰذٰا عَذْبٌ فُرٰاتٌ وَ هٰذٰا مِلْحٌ أُجٰاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُمٰا بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً» (الفرقان [25] الآية 53)، و قوله: «وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ شٰامِخٰاتٍ وَ أَسْقَيْنٰاكُمْ مٰاءً فُرٰاتاً» (المرسلات [77] الآية 27).

(4)- كقوله تعالي: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعٰاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ وَ لِيَرْبِطَ عَليٰ قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدٰامَ». (الأنفال [8] الآية 11)

(5)- كقوله تعالي: «وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهٰا وَ تَرَي الْفُلْكَ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 94

نعمه المتنوّعة

في الأقطار المختلفة، و حمل الأمتعة و يسقي منها الحرث و الزرع و الشجر، و هذا كلّه حق طبيعي له بنوعه من غير تقدّم لأحد علي آخر.

و كذلك يتصرّف في الجبال و الآجام و الأودية و ما يدبّ عليها و ما ينبت فيها باتخاذ البيوت و استخراج المعادن و الزرع و الغرس و صيد الدوابّ و تسخيرها، فقد جعل اللّه تعالي له و لكل دابّة في الأرض معايش «1»، فذلك أيضا حق طبيعي له من غير تقدّم لأحد علي أحد، فان البحار و الأنهار و الجبال و الآجام و الأودية و غيرها..

من الأموال العامة التي فيها حق العموم، ينتفع بها علي نظام خاص فصّل في بحث موضوع الأنفال و موضوع الحكومة.

ثم انّه تصرّف بالفطرة و الطبيعة أيضا فيما تملّكه و اختصّه بنفسه فغيّر فيه و صنع منه من مزج و تركيب، و من طبخ في المأكل و المشرب و نسج في الملبس، و من مسكن و مركب و سائر وسائل الحياة؛ و بتصرّفه هذا و عمله و صنعه ترتفع ماليّته لارتفاع الرغبة فيه.

و بهذا التملّك و التصرّف و العمل تتحقّق رغبة و علاقة اعتبارية بينه و بين الشي ء تسمّي بالملكية، فما يستنقذه الإنسان من الطبيعة المحيطة به فهو له سواء كان بالاصطياد أو الاحتطاب أو الإحياء و حتي التحجير، و ليس لغيره أخذه منه بدون رضاه، و له منع غيره من التصرّف فيه.

و لعلّ الاختصاص الحاصل بهذا التصرّف الأولي بل الثانوي المعبّر عنه بالملكية أمر طبيعيّ لا يختصّ بالإنسان فقط بل نراه في الحيوانات بطبقاتها.

فالملكية هذه هي الرابطة الاعتبارية المتحققة بين الإنسان و ما فيه المنفعة المرغوب فيها حسب الخواص الطبيعية في الشي ء أو في

ما يحصل من العمل،

______________________________

- مَوٰاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». (النحل [16] الآية 14)

(1)- كقوله تعالي: «وَ لَقَدْ مَكَّنّٰاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنٰا لَكُمْ فِيهٰا مَعٰايِشَ قَلِيلًا مٰا تَشْكُرُونَ». (الاعراف [7] الآية 20) و قوله تعالي: «وَ جَعَلْنٰا لَكُمْ فِيهٰا مَعٰايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرٰازِقِينَ». (الحجر [15] الآية 20)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 95

و تتحقق هذه الرابطة في اعتبار العقلاء بأحد الأسباب المملكة سواء كانت الأولوية أو الثانوية عندهم من الحيازة و الإحياء و الاصطياد و أمثالها، أي ما لم يسبق علي المملوك ملك و يد و شراء و استيجار و إرث و أمثالها، و قد أمضي الشارع المقدّس أو أنه لم يردع عنه إلّا في بعض الموارد كالخمر و الخنزير و أشباهها.

و أما ما يتوهّم من بعض المباني الاقتصادية الشيوعية المأخوذة من ماركس و انجلز- و قد سبقهما بعض المتقدّمين اليونانيين- من أن كل ما يتموّل هو مال للشعب، بل انهم يقولون: الإنسان بطبيعته السارية، له الانتفاع من المجموع من دون اختصاص شي ء بفرد دون فرد آخر حتي الدول و الحكّام و إنما عليهم الإشراف علي الانتفاع دفعا للفساد و التجاوز، فلا ملكيّة في البين أصلا، و الذي هو الواقع جواز الانتفاع و إباحته علي التناسب العقلائي، كالضيوف في مأدبة المضيّف الجائز لهم الأكل و الشرب و لا ملكية … الخ، فتوهّم فاسد أجبنا عنه في محلّه، مع أن حفظ التناسب و حق التقدّم بمستوي العمل الابتدائي أو علي شي ء و مقداره علي اختلاف الاستعدادات و درجة الفعالية الموجبة لتفاوت الرغبة في المال و العمل و تفاوت قيمته حسب أثره في الحياة مما لا كلام فيه لديهم أيضا، و كأنّ

البحث في شي ء منه يرجع الي اللفظ و اختلاف التعبير، فان الاختصاص بهذا الوجه لا يبعد عن اعتبار الملكية، و التفصيل خارج عن وضع الرسالة، و سيأتي شي ء من الكلام فيه في مسألة الرزق في القرآن الكريم في آخر كتاب الأطعمة و الأشربة إن شاء اللّه تعالي.

و كيف كان، فحيث ان كل فرد من نوع الإنسان لا يتمكّن من تأمين جميع ما يفتقر إليه في حياته، فانه يتعاون مع غيره بطبعه المدني و يتبادل بما زاد عن مختصاته ببعض مختصات غيره الزائدة لديه تأمينا للكل كل ما يؤمّنهم، و كان هذا التبادل أوّلا بنفس الأعيان أو الأعمال ثم علي مقياس معيّن بعد اختلاف الرغبات في الأشياء الناشئة عن خواصّها أو خواصّ الأعمال المقوّمة و بالتدريج جعل المقياس أعلي الأشياء و أعزّها و هو الذهب و الفضّة، فتحقق معني الثمن و مقابلة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 96

الشي ء المثمّن ثم الأوراق المجعولة من الحكومات و العملة الدولية.. تسهيلا.

و من ذلك يتمّ تقسيم المالية و القيمة كما ذكره أهل الفن بالذات و المبادلة، فان مالية الدرهم و الدينار مبادلة تختلف بالاعتبار دون نفس الأشياء القائمة قيمتها بخواصها الذاتية التي لا تنالها يد الاعتبار و الجعل.

ثم انه لا إشكال في تحقق الملكية بما عرفت من الأسباب للمؤمن باللّه تعالي، فله التصرّف في ملكه كيف يشاء و منع غيره، و لا يجوز للغير التصرّف فيه بغير إذنه و رضاه، إلّا أن الكلام في شمول ذلك لغير المؤمن أيضا، فقد يقال بالاختصاص و ان المؤمن باللّه تعالي هو الذي يملك دون غيره، و حاصل ما يمكن أن يستدلّ به قوله تعالي:

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ

الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا خٰالِصَةً يَوْمَ الْقِيٰامَةِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (الأعراف [7] الآية 32)، بتقريب صراحتها في اختصاص ما أخرج اللّه تعالي زينة و ما خلق من طيّبات الرزق لعباده المؤمنين، و من أنكره و لم يؤمن به فهو دابّة علي اللّه رزقها يعلم مستقرّها و مستودعها، لا بل هو شرّ الدوابّ، قال تعالي:

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لٰا يَعْقِلُونَ (الأنفال [8] الآية 22)، و قال أيضا: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لٰا يُؤْمِنُونَ (الأنفال [8] الآية 55)، و قال أيضا: رُبَمٰا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كٰانُوا مُسْلِمِينَ* ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (الحجر [15] الآية 2- 3)، و قال أيضا:.. يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَمٰا تَأْكُلُ الْأَنْعٰامُ (محمّد [47] الآية 12).

فكما أن تصرّف الأنعام و تمتّعهم مما خلق اللّه تعالي تصرّف إباحة لا ملك، فكذلك الذين كفروا، و ما خلق اللّه تعالي من طيّبات الرزق و ما أخرج من زينة فهو للمؤمنين خالصا في الحياة الدنيا.

و عليه فلا بأس بتصرّف المؤمن فيما احتازه الكافر بغير إذنه و رضاه لو لم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 97

يترتّب عليه مفسدة، و لم ينطبق عليه عنوان محرّم آخر.

و يمكن تأييد ذلك بفلسفة الخلقة و علّة الحياة من ظهور الحق و سلطة التوحيد و صيرورة الدين كلّه تعالي، فكل شي ء و كذا الإنسان اذا كان سيره و سلوكه في سبيل الحق فهو علي حق و هدي، و اذا خرج عنه و اتّجه الي غير اللّه تعالي فهو- بالطبع و حسب اللوازم الطبيعية لنظام الفطرة- باطل و ضلال؛ و الإنسان الموحّد المؤمن باللّه تعالي سالك

علي طريق يملك هذه القاعدة، و غيره خارج عنه لا يملكها، و هذا غاية التقريب.

و الحق في الجواب إن الملكية اعتبار عقلائيّ لا يختصّ بشرع و ملّة، و قد أمضاه الشارع أو لم يردع عنه، و الآية الكريمة بعد انها في مقام بيان ردّ التحريم و أنه:

لٰا تُحَرِّمُوا طَيِّبٰاتِ مٰا أَحَلَّ اللّٰهُ لَكُمْ و لا تنتفعون من طيّبات ما خلق اللّه لكم و أنتم أحق بالانتفاع بها من غيركم فانكم بنوعكم و أعلي صفتكم و أكمل فردكم الغرض في مجموع الخلقة و لكم خلق ما خلق، و أخرج ما أخرج، لا ترتبط بمقام بيان الملكية و حدود المالك حتي تفيد الاختصاص بالمؤمن- هذا أوّلا-.

ثم لو سلّم أنها تكون في ذلك المقام، فالآية الكريمة قد أثبتت و أكّدت اعتبار العقلاء من المؤمنين، و لم تردع في غيرهم، و تخطئة العقلاء في اعتباراتهم العامة يحتاج الي صراحة و نصّ من الشارع المقدّس و لا يكتفي بمثل ذلك حيث لا منطوق و لا مفهوم للوصف من ان إطلاق العباد يشمل غير المؤمنين من الناس كما في موارد كثيرة «1».

مع انه ينطبق عليه غالبا العناوين المحرّمة الثانوية بحيث يشكل تصوّره بدونها إلّا قليلا كالتصرّف في أمواله من جهة المعاملة ظاهرا و كان واقعا تصرّفا غير معاملي

______________________________

(1)- مثل قوله تعالي في الشيطان: «لَعَنَهُ اللّٰهُ وَ قٰالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبٰادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً». (النساء [4] الآية 118) و قوله تعالي: «قُلِ اللّٰهُمَّ فٰاطِرَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ عٰالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهٰادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبٰادِكَ فِي مٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ». (الزمر [39] الآية 46) و غيرهما.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 98

اذا جعله مختارا مثلا.

و أما سلب احترام مال المرتد بارتداده فهو بدليل آخر

لا يرتبط بالمقام و لا يشمل أمواله المكتسبة بعد ارتداده.

ثم بعد ما عرفت من صحة تملّك المؤمن و الكافر في اعتبار العقلاء و عدم ردع الشارع المقدّس عنه إلّا في بعض الموارد الخاصة فهل يختص التملّك بالحرّ أو يشمل العبد و المملوك أيضا؟ و هل يفترق اعتبار العقلاء في ذلك مع اعتبار الشرع علي أساس افتراق اعتبار ملكية الإنسان للإنسان؟

الاسترقاق!

الظاهر من اعتبار العقلاء في ماهيّة الملكية بالنسبة الي العبيد و الإماء هو عدم الفرق معها في غيرهم، فان معني الملكية عندهم بالنسبة إليهم كمعناها بالنسبة الي العقار و السلعة و المتاع من جواز التصرّف كيف يشاء حتي الضرب و القتل كما كان قبل الاسلام فكانوا يستعبدون الضعفاء و يسترقّونهم بالقهر ظلما من غير وجه ثم يبيعونهم في الأسواق، كما كانوا يحتطبون أو يصيدون ثم يبيعونه في الأسواق أيضا، و كما نري ذلك في عصرنا هذا بشكل آخر من استرقاق البلاد و الدول المستضعفة فيبيعونهم بثمن بخس مع ما في بلادهم و أراضيهم من النعم الإلهية التي خلقها اللّه تعالي لهم، و هذا من حبّ الرئاسة و الحكومة بالرغم من ادّعائهم إلغاء تملّك إنسان لإنسان آخر، و كان ذلك ملغي في الاسلام من أول الأمر بأيّ شكل و وجه كان، فلا يجوز استرقاق إنسان بالقهر و الظلم و جعله متاعا و سلعة يستمتع به، فان اللّه تعالي خلق الإنسان حرّا و نهاه من أن يجعل نفسه عبدا لغيره.

و كيف كان، فعلي اعتبارهم ذلك لا معني لملكية العبد شيئا، فان السلعة و المتاع لا معني لاعتبار ملكيّتهما، فيختصّ التملّك بالحرّ عندهم، و أما عند الشرع المقدّس فقد أبطل مبني العقلاء في تملّكهم للانسان، و حرّم الاسترقاق

و الاستعباد

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 99

الذي كان عندهم، فلم ينقرض استرقاق القويّ الضعيف بظلم و عنف فردا و جمعا بأيّ شكل كان من صوره القديمة أو الحديثة المستورة بعنوان الاستعمار.

و الذي أمضاه الشرع المقدّس و اعتبره هو أمر آخر لا يكون بحقيقته الملكية و لا يشابه ماهيّة اعتباره الملكية العقلائية بل يرجع الي نوع إشراف و نحو ولاية مع حفظ حقوق الانسان الأولية لمن وقع تحت ذلك الإشراف كما في سائر موارد الولايات، و هو علي الإجمال أن أسري الكفّار المحاربين للمسلمين لا معني لتحريرهم من غير وجه بعد فتح الاسلام و أسرهم، فإمّا منّا و إما فداء من اشتراء أنفسهم، و إما حفظهم في المجتمع الاسلامي بتقسيمهم بين المسلمين لئلا يضرّوا الاسلام و المسلمين و ليكونوا في مأمن من فتنهم أو يذوبوا متدرّجين فيهم، فيتصدّي المسلم تكفّله من الرزق و التربية و تبليغه الاسلام، و يعمل ذلك الأسير له أيضا قبال معاشه تحت إشراف المسلم و ولايته، و ليس للمسلم ضربه أو قتله أو مثلته أو إيذاؤه بلا وجه شرعي، فهو إنسان يعيش مع إنسان آخر تحت ولايته، ثم انه يتمسّك بأشياء لتحريره بعد الأمن من خطره بأن يصير مسلما واقعا، أو تغيّرت الشروط فيه فيصير كالآخرين، و ليست هي تلك الملكية الواقعية، بل هي شبه ملك عبّر عنه بها، و تفصيل الكلام في محلّه.

و علي ما عرفت من الاعتبار لا يختصّ التملّك بالحرّ و يصحّ اعتبار تملّك العبد أيضا و لو في طول ملك مالكه أو باذنه كما في كل مالك بالنسبة الي وليّه و الي مالك الملوك كما هو ظاهر.

هذا و لكن قد يستدلّ لعدم تملّك العبد بقوله تعالي:

ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا

عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَليٰ شَيْ ءٍ.. (النحل [16] الآية 75) بتقريب توصيف اللّه تعالي العبد بأنه لا يقدر علي شي ء فلا يصحّ بيعه و شراؤه و إجارته من قبل نفسه فكيف احتطابه و اصطياده و إحياؤه الأرض فلا يملك شيئا و لو كان مؤمنا، و المانع كونه مملوكا فلا فرق بين العبد و الأمة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 100

لكنك تعلم ان الآية الكريمة في ظرفها الخاص من البحث العريق تدور حول إثبات القيّوم في الطبيعة، و انه تعالي هو الذي أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها.. و ان في ذلك لآية لقوم يتفكّرون، و كذلك تشير الآيات الكريمة الي مظاهر أخري و علائم و آيات بيّنات من تنظيم نظام الطبيعة و مواد ارتزاق الانسان من ألبان الأنعام و سكّر ثمرت النخيل و الأعناب و شراب النحل المختلف الألوان، و كيفية الحياة كتوفّي البعض، و ردّ الآخر الي أرذل العمر و التفاضل في الرزق و التوالد و انتاج بنين و حفدة …

و بعد ذلك كلّه من وضوح الآيات المباركة، أ فبالباطل يؤمنون و بنعمة اللّه يكفرون؟ و يعبدون من دون اللّه ما لا يملك لهم رزقا من السماوات الأرض و لا يستطيعون شيئا؟!

ففي مثل هذا المقام لتبيين البحث و إعلان الفرق بوضوح تجاه كل أحد، بيّن اللّه تعالي قدرته و خالقيّته و انه القادر المتعال السارية إفاضاته في كل الوجود و في الطبائع أيضا، و بيّن تعالي الأصنام التي كانوا يعبدونها من دونه شركا به، فهي التي لا تقدر علي شي ء في الأرض فكيف بها في السماوات.

ففي مثل هذا المقام لتبيين الفرق يضرب اللّه تعالي مثلين:

الأول: رجلان أحدهما: أبكم؛ أخرس أمّيّ لا يقدر

علي النطق وَ هُوَ كَلٌّ عَليٰ مَوْلٰاهُ أينما يوجّهه لا يأت بخير، و ثانيهما: ناطق قادر يأمر بالعدل و هو علي صراط مستقيم، فهل يستويان؟!

فكما أن وجدان كل أحد و عقله لا يقضيان في تساوي هذين المثلين، و يحكمان بتقدّم القادر المتصرّف الناطق، كذلك لا يستوي اللّه تعالي القادر علي كلّ شي ء مع غيره و لا يقاس مع الأصنام العجزة الجامدة أيضا، و المعبود حقّا و عدلا هو اللّه القادر المتعال.

و عليه فلا تكون الآية الكريمة في مقام بيان شي ء من صحة تملّك العبد

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 101

و عدمه حتي يستند إليها لعدم تملّكه و عدم صحّة نكاحه و طلاقه و غير ذلك مما ذكره الأصحاب في محلّه، مع انه لا فرق بين قوله تعالي: لٰا يَقْدِرُ عَليٰ شَيْ ءٍ في الجملتين، و الأبكم يقدر علي التكسّب و التملّك و التصرّف، فلو لا السنّة المباركة لم يتمّ استنادهم الي الآية الكريمة لعدم صحة ما ذكر و لا تعارض بين كونه مملوكا و مالكا طولا- كما عرفت-.

و الحاصل: إن اعتبار العقلاء الملكية لا يختصّ بفرد دون فرد، و نوع دون نوع مؤمنا كان أو كافرا حرّا كان أو عبدا فله التصرّف في ملكه كيف يشاء ثم تبادله مع الآخرين علي ضوابط خاصة.

ثم ان التجارة ليست إلّا تبادل عقلائي عرفي بين ما زاد عن احتياجات شخص مع آخر، فهي تبديل مال بمال، و ذلك بطبعه قسمان قد يقع عن تراض و توافق بينهما و قد يقع بغيرهما، و الأول هو الحق المرضيّ لدي العقلاء، و الثاني هو الباطل المردود لديهم، و قد أمضي الشرع المقدّس ذلك في طرفيه و قال: لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ

تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ.

و تقابل التجارة مع الباطل يفيد أن الصحيح منها المتّفق عليه المستثني من الباطل هو حقّ عقلائي لم يردع عنه الشارع المقدّس مطلقا، لا خصوص عنوان التجارة المنطبق علي البيع غالبا، فيشمل كل مبادلة عقلائية تعدّ حقّا لديهم، و لو لم ينطبق عليه عنوان خاص من البيع و الصلح و الإجارة و غيرها، و لو كان مستحدثا و غير مسبق في مثل ما هو المعروف في زماننا ب: «التأمين» و أقسامها، فلا احتياج الي الاحتيال فيها و التكلّف لتطبيق أحد العناوين عليه. و عليه كلّما لم يكن عند العرف تجارة و حقّا مثل السرقة و القمار، و ما هو المسمّي في بلادنا ب: «إعانة ملّي» «1» أي

______________________________

(1)- و قد استبدلوا اسمه السابق: «بخت آزمائي» إليه إغراء للناس، و المسمّي واحد و هو اصطياد الناس و أخذ أموالهم قبال ورقة باسم الجائزة علي القرعة ثم صرف سهم منها في الجوائز تشديدا للإغراء، و جزء منها في-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 102

المعونة الشعبية، و في بعض البلاد ب: «اليانصيب» أو لم يكن تجارة عند الشرع كالربا و بيع الخمر و أكل لحم الخنزير، أو انه تجارة شرعا و عرفا و لكن لم يكن عن تراض بل عن إكراه أو قهر عليه، فهو باطل غير واقع و لا يترتّب عليه آثار النقل و الانتقال في الملك كما هو ظاهر، فالآية المباركة بكلّيتها ترشد الي ما هو مؤيّد لدي العقلاء.

و الحاصل: ان في المقام أصلا أوليّا هو المرجع في الكتاب الحكيم، و هو أن كل مبادلة و معاملة تعدّ حقّا لدي العرف و العقلاء ما لم يردع عنه الشارع المقدّس يحلّ أكل المال بها، و غيره

باطل غير واقع يحرم أكل المال به و بعنوان بيان المصداق، قال تعالي: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا (البقرة [2] الآية 275)، كما سيأتي بحثه إن شاء اللّه تعالي في محلّه.

و يؤيّد الأصل قوله تعالي ذمّا للأحبار و الرهبان الذين هم علماء اليهود و النصاري الذين كانوا يأكلون أموال الناس بالباطل، فيقول:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبٰارِ وَ الرُّهْبٰانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لٰا يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ (التوبة [9] الآية 34)، و كذلك قوله تعالي:

وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَي الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.. (البقرة [2] الآية 188)، فان عنوان الباطل المذكور كلّي ينطبق علي الموارد و يقابله الحقّ، و الانطباق عرفيّ إلّا مع ردع الشرع المقدّس.

أركان المعاملة:

ثم إنّك بالتأمّل و الدقّة في ما أرشدت إليه الآيات الكريمة السالفة الذكر تعرف

______________________________

- بعض وجوه الخير بنظرهم إغراء أيضا و تملّك الباقي و صرفه في مشتهياتهم و حيث لا يعطي المال من يأخذ الورقة تعاونا علي الخير و لا يصرف فيه نصفه بل عشره أيضا فهو أكل بالباطل عرفا و شرعا لا يعدّ تجارة و كسبا لا لمن نصيبه القرعة و لا للآخذين باسمها فهو حرام لهما معا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 103

ان التجارة- بمعني التبادل في الأموال- تتوقّف علي أربعة أركان، هي مالكان و مالان، فمالكان يتصرّفان في أموالهما بالتبديل سواء كان بأنفسهما مباشرة أو بواسطة وليّهما أو وكيلهما أو الأجنبيّ الفضولي، ثم إجازتهما ذلك التصرّف في الطرفين أو في أحدهما، و مالان يقع التبادل بهما،

و لا تبادل في المالكين حتي في الاعتبار.

ثم إنّ المالين إن كانا عينين أو منفعتين أو مختلفين فبيع و شراء، و إن كان انتفاعا في طرف من ثمر أو دار سكني أو عمل فاجارة، و المقياس هنا بين المالين هو الثمن، فان وقع التبديل به فينحصر البائع أو المؤجر بصاحب السلعة أو المنفعة، و صاحب الثمن هو المشتري أو المستأجر، و إلا فكل من صاحبي السلعة أو المنفعة موجب و قابل، بائع و مشتري، نعم في تبادل السلعة و الانتفاع، المؤجر و الأجير هو صاحب المنفعة، و صاحب السلعة هو القابل المستأجر.

ثم ان طرفي المبادلة أي السلعتين أو الثمن و المثمن إن كانا حاضرين يسمّي نقدا و إلّا فان كان بعد مضيّ زمان فان كان في طرف الثمن يسمّي نسيئة، و إن كان في طرف المثمن يسمّي سلفا «1»، و فيهما بيع الكلّي بالكلّي الذي تتحقق الذمّة فيه بنفس ذلك البيع فهو غير مكيل بمكيال أي بيع الدين و الذمّة المتحقق قبلا بسببه بدين آخر كذلك حتي تكون مالا موجودا في الجملة، و يصدق تبديل مال بمال و لا مال في الكلّي قبل البيع و حاله أيضا، و يوجد به ممن كان لذمّته اعتبار عرفا.

و لعلّ فيما ذكرنا اجتمع جميع أقسام المعاملات البيعية بعد إضافة وجود الربح أو النقص أو عدمهما «2» فيصحّ كل ما كان عند العرف حقّا، و يبطل غيره الباطل

______________________________

(1)- و من الشروط كما تعطيه العبارة قبض الثمن في المجلس، و لو وقع البعض فعن الشهيد (ره) البطلان في الكل، و عن الآخرين في المؤجّل فقط، فيصحّ في الحال، و لا نفهم لتطبيق ما ذكروه، وجها للبطلان من بيع الدين بالدين علي

المقام فانه لا يشمل الدين الحاصل من نفس البيع.

(2)- المسمّي بالمرابحة و المواضعة و التولية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 104

عنده أو عند الشرع المقدّس لنفي المالية لديه، كما في بيع الخمر و الخنزير، أو نوع المعاملة كما في الربا و بيع مكيل بمكيل، و الأقوي تقييد البطلان بما اذا كان الدّين في الطرفين مؤجّلا لعدم مال بالفعل، و رعاية الاحتياط في الحال، كما عن الأستاذ الأعظم مدّ ظلّه في حاشيته علي الوسيلة.

و من المعلوم أن عمل التبديل في المالية بالبيع أو الإجارة بل في كل معاملة لا يتحقق بنفسه جزافا أيضا، بل يحتاج الي مظهر من لفظ أو عمل بأخذ و عطاء، فان تحقق بالأول فهو عقد، و بالثاني المعاطاة، و كلاهما متعارفان، و قد أمضاهما الشارع المقدّس، و كأن العرف لا يكتفي في مهام الأمور إلا بلفظ صريح أو سند قاطع تضمنه المحاكم، و الأمر في الشرع كذلك، قال تعالي: وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ- الي قوله- إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً حٰاضِرَةً تُدِيرُونَهٰا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَلّٰا تَكْتُبُوهٰا (البقرة [2] الآية 282)، كما سيأتي الكلام عنه إن شاء اللّه.

فالمعاطاة أي التجارة الحاضرة الدائرة بينهما (البائع و المشتري) بالتقابض لا بأس بها من دون سند و كتابة أو لفظ و عقد، فان اليد من أدلّة المالكية ظاهرا لدي العرف و العقلاء، و بعد الاستلام يتحقق لكل منها دليل علي مالكية ما في يده، و لا دليل بدونه، فاذا لم تكن حاضرة دائرة بأن كانت نسيئة أو سلفا أو غير مأخوذ و مقبوض، فلا تتحقق بدون تصريح من عقد بلفظ، فان وجوب الوفاء كما سيأتي بحثه إن شاء اللّه متعلّق بكل عقد و عهد، فلا

بدّ في كل معاملة من عقد لا سيّما في البيع و الإجارة الكثير الابتلاء بهما كما لا يخفي.

و من توجيه التكليف يستنبط أن طرفي المعاملة و هما المتعاملان حين إيجادهما التبادل عن تراض بل كل معاملة بعقد أو قبض لا بدّ و أن يكونا بالغين عاقلين ليصحّ نهيهما عن أكل المال بالباطل كما يستفاد اشتراط حق التصرّف بالتبديل بأن يكونا مالكين أو وليين أو وكيلين عنهما أو بالاختلاف.

أما الفضولي الأجنبيّ فيقع عقده معلّقا حتي يلحقه إذن المالك، فيرتبط به

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 105

و التصرّف تصرّفه و يتنجّز، و قد أمضاه الشرع المقدّس بما عرفت من إطلاق التجارة عن تراض، و الإذن يحقق التراضي فيصير تجارة عن تراض و قد صرّحت به السنّة المباركة حيث قال رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لعروة «1»: «بارك اللّه في صفقة يمينك»، و تفصيل ذلك كلّه في المفصّلات.

و الذي علينا في المقام حسب وضع الرسالة تحقيق موارد ردع الشارع المقدّس لها بعد ما عرفت ان الصحة العقلائية كافية من دون افتقار الي إمضاء، و قبل ذلك نستفسر ما يرتبط بمطلق التجارة أو خصوص البيع.

قال تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ إِلّٰا مٰا يُتْليٰ عَلَيْكُمْ. (المائدة [5] الآية 1)

تأمر الآية الكريمة صريحا بالوفاء بالعقود، و مقتضاها أمرا وجوبيا علي ظهوره؛ و للتوضيح في المقام نقول:

العقود جمع عقد، و هو إيجاد ربط بين شيئين ليصيرا شيئا واحدا بعد ما لم يكونا كذلك، كالعقد بين خيطين، ثم استعمل العقد في إيجاد العلقة و الربط بين شخصين كعقد النكاح، و استعمل العقد في العلقة بين شخص و مال كعقد الصلح و الهبة، و استعمل العقد

أيضا في إيجاد ذلك الربط متقابلا بتبديل مال بمال، فيؤخذ ربطا مكان ربط كعقد البيع و الإجارة، ثم انه استعمل في كل ربط اعتباريّ كالضمان و تعاهد العمل و الشرط خلال عقد آخر.

و عليه فتشمل كلمة جميع العهود و العقود بين الناس بعضهم مع بعض بل

______________________________

(1)- الفضولي في طرف واحد مع مالك السلعة أو الثمن أو وليّه أو وكيله لعلّه يعدّ عقلائيا لا سيّما مع احتمال إجازة الآخر، و عروة بما هو من العقلاء عمل ذلك قبل إمضاء الشرع فأمضاه رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و يستفاد منه إمضاء مطلق الفضولي و منه المورد، و أما في الطرفين بأن يبيع أجنبيّ مال الغير بأجنبيّ آخر و يشتريه هو أيضا ففي كون ذلك عملا سفهيّا أو معاملة عقلائية تتم صحتها بعد الردع بعد لحوق الإجازة تأمّل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 106

بينهم و بين اللّه تعالي كالنذر و العهد و اليمين «1» فيجب الوفاء بمقتضي كلّيته لزوما و جوازا المستفاد من ماهيّة العقد علي اختلافها في مقتضياتها و في الجواز و اللزوم عرفا و عقلا، و قد أمضاها الشارع المقدّس أو تصرّف في بعضها علي تفصيل في محلّه.

و أما الإيجادات الاعتبارية التي ليس فيها إلا طرف واحد كالعتق و الطلاق و الهبة في بعض صورها و كذا الوقف علي الجهات العامة كالمسجد، فان في بعضه فكّ الملك و في غيره تحبيس العين و تسبيل الثمرة «2» لانتفاع الغير، فليست هي بعقد، و يسمّي اصطلاحا ايقاعا كما لا يخفي.

و نتيجة التأمّل فيما ذكرنا أن وجوب الوفاء الشامل للشرط و هو الالتزام المرتبط بالآخر مختصّ بما لم يكن مخالفا لمقتضي العقد و الالتزام الأول، فيصح

البيع مثلا بشرط أن يعمل له الخياطة دون أن لا ينتفع من المبيع أو عدم القبض و الإقباض، و لذلك يقع العقد الأول صحيحا و يلغي الشرط الفاسد الثاني لتعلّقه

______________________________

(1)- الظاهر ان العهد و النذر و اليمين من الإنشاءات التي لا يتوقّف تحققها علي القبول بل يوجد بايجادها مع شروطها من رجحان المتعلّق دينيا و دنيويا، كما سيأتي بحثه إن شاء اللّه، و اذا كان العقد عهدا، يشمله جميع أدلّة وجوب الوفاء بالعهد علي ما سيأتي بحثه في كتاب العهود و الأيمان إن شاء اللّه.

(2)- من المعلوم ان الماهيّات المخترعة الاعتبارية شرعا أو عرفا يعلم حدودها من الآثار و الأحكام المترتّبة عليها، و الموقوف كأنه ليس بمهيّة واحدة بل هو إنشاء و إيقاع في بعض موارده بمعني عدم توقّف تحققه علي القبول كما في الموقوفات العامة مثل الحمامات و المدارس و الطرق، و هو عقد في الآخر أي لا يتمّ إلا بالقبول كالوقف للمسجد و قبوله الصلاة فيه أو للأولاد أو العناوين مثل الفقراء و قبوله تصرّف طبقة الموجودين أو وليّ الفقراء.

ثم انهم عبّروا في المسجد بفكّ الملك و في غيره عامّا كان أو خاصّا بدليل و جواز بيع غيره في موارد خاصة كما في المفصّلات كذلك.

و الأقرب أن ماهيّة الوقف في المسجد تغايرها في غيره حتي في المصالح العامة كالمدارس و الطرق، ففي الأول إنشاء و إيقاع بفكّ الملك كالعتق و لا يتوقّف علي قبول، فلا مالك له إلّا مالك الملوك، و في غيره عقد حقيقة الإيقاف في الملكية لئلا تقع التقلّبات الناقلة ممن له الانتفاع و يتوقّف تحققه علي القبول و هو في العامة تصرّف بعض المؤمنين و في الخاصة قبول طبقة الموجودين

و الملكية تتعلّق بالمسلمين في العامة يتصرّف فيه وليّهم لدي الضرورة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 107

بالحرام مثلا أو لكونه خلاف مقتضي العقد، و وجه الاختصاص ان وجوب الوفاء متعلّق بالعقد و لكل عقد مقتضي خاص، و الالتزام المعلّق به لو لم يساعده فهو غير عقلائي كالنكاح بشرط عدم الاستمتاع فلا تحقق له حقيقة ليسري إليه وجوب الوفاء.

و لا يصغي الي ما قيل من أن الالتزام الأول العقد بدون ذلك الشرط غير مقصود و المقصود غير واقع فلا بدّ من فسادهما دون البعض فان لكل منهما مفادا مستقلا مقصودا و الارتباط مطلوب ثان فيبقي الأول بعد زوال الثاني.

العوضان

ثم ان المال المتبادل في التقلّبات العرفية و التصرّفات العقلائية لا بدّ و أن يكون معلوما محددا بوجه، ثمنا كان أو مثمنا، في البيع و علي الاطلاق العوضان في كل معاملة و معاوضة، فان المجهول المطلق حتي بمشاهدة نموذج منه، لا يعامل عليه عرفا و لا عقلائيّا و لو في طرف واحد «1»، و من ذلك يبدو الافتقار الي الوزن و العدّ، و يتحقق الربح و الخسران، فان العوضين هما الملاك في تحققهما عرفا.

و من المعلوم ان التبديل بين شيئين متساويين من جميع الجهات جنسا و نوعا و صنفا و وزنا أو عدّا في زمان واحد غير عقلائي إلّا ما شذّ و ندر، كما اذا كانت المصلحة في نفس المبادلة و لا بأس به مع إختلاف الزمان.

و اما مع التفاوت، ففي المكيل و الموزون و المعدود مع اتحاد الجنس و الزيادة (بشرط الزيادة) ربا باطل و ان كان عقلائيا فانهم يقولون: إنما البيع مثل الربا، و انه منه، أو البيع مثله، و ليس هو مثل البيع، و قد

أحلّ اللّه البيع الذي يدور عليه الاقتصاد المتكامل الصحيح الشامل، و حرّم الربا المترتّب عليه الانحراف الاقتصادي و التمركز

______________________________

(1)- و لعلّ المراد من بيع الغرر المنهيّ عنه- في ما نسب الي النبي (صلّي اللّه عليه و آله) أنه نهي عن بيع الغرر- هذا المجهول المطلق، لا خصوص التغرير و لا فيما اذا كان الجهل بحيث لا يرده العقل أحيانا، كما اذا كانت المبادلة بثمن يربح كائنا ما كان المثمن بعد المشاهدة كبيع الصبرة بما فيه إلّا أنه ليس بمجهول مطلق مع ان ذلك أيضا غير عقلائي عندنا بمعني ان المتعارف بينهم غير ذلك و ان أمضوا مثل ذلك أحيانا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 108

في ناحية من غير عمل، و سنشير إليه في بحث الربا إن شاء اللّه.

و مع اختلاف الجنس مطلقا- سواء كان التبادل بالتساوي أو مع التفاوت بالأكثر، و هو الغالب لدي العقلاء، المتعلّق به أغراضهم اليومية في معيشتهم العادية الفردية و الاجتماعية المعمول بينهم بمقياس و ميزان، أو بالأقل لغرض- فلا بأس به.

تعادل الميزان

و عندئذ فلا بدّ من رعاية القسط في الميزان، و العدل في المقياس الذي يوزن به أو يعدّ، و التخسير فيه التطفيف أكل للمال بالباطل و نوع سرقة لدي العقلاء و تصرّف في مال الغير بغير رضاه، فان الزائد المأخوذ أو الخاسر الباقي غير المردود، هو مال الغير، و أكله فجور باطل. و الميزان الذي يتعادل به حق الطرفين حتي لا يتعدّي بأحدهما ضروريّ لازم عقلائيا و شرعا حتي لقد قارن اللّه تعالي وضعه مع رفع السماء، و كأن بقاء الأرض علي ما هي عليها يرتبط بتعديل معيشة الناس، فإنّ رفع السماء المرتبط بوضع الأرض لا يتمّ إلّا بنصب الميزان

و جعله المقياس العادل في الأمور مطلقا، و في المباراة بالأخص؛ و لذلك نهي اللّه تعالي عن الطغيان في الميزان أو التخسير فيه و أمر باقامته بالقسط، قال تعالي:

وَ السَّمٰاءَ رَفَعَهٰا وَ وَضَعَ الْمِيزٰانَ* أَلّٰا تَطْغَوْا فِي الْمِيزٰانِ* وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تُخْسِرُوا الْمِيزٰانَ. (الرحمن [55] الآيات 7- 9)

ثم أكّد ذلك و أوعد المطففين بالعذاب و هم الَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَي النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ منهم و يأخذون تمام الحدّ و كمال الحق، وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ و ينقصون حقّهم، فيعطونهم أقلّ من مالهم و يتركون شيئا منه، فيظنّ القابض تمام الكيل و الوزن و يعتقد انه أخذ حقّه، و يظهر له ذلك الخسران عند ارتفاع الحجاب و انكشاف الحق يوم تبلي السرائر، و الربح حينئذ للخاسر في الدنيا، أَ لٰا يَظُنُّ أُولٰئِكَ الذين يطففون أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النّٰاسُ بأجمعهم: الخاسر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 109

و الرابح، البائع و المشتري، المعطي و القابض، و من بيده الميزان و المقياس و من يأخذ بهما لربّ العالمين الحاكم بالعدل بينهم؟!، و من آمن بذلك اليوم و البعث فيه بل من ظنّ به يترك التطفيف فكيف اذا علم و تيقّن «1» مع بقاء الكلمة علي ظاهرها، قال تعالي:

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَي النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَ لٰا يَظُنُّ أُولٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النّٰاسُ لِرَبِّ الْعٰالَمِينَ. (المطففين [82] الآيات 1- 6)

و قال تعالي:

.. وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ لٰا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلّٰا وُسْعَهٰا.

(الأنعام [6] الآية 152)

فان دلالة الآيات الكريمة علي وجوب إيفاء الكيل و الوزن و أداء حق طرف المعاملة، بايعا كان أو مشتريا،

في الثمن أو المثمن، و علي الإطلاق في العوضين، مطلقا ظاهر، كما لا يخفي.

و حيث ان هذا أمر فطريّ عقلائي يوجد في سائر الشرائع، فقد حكي اللّه تعالي عن نبيّه شعيب (عليه السّلام) حينما نصح قومه، و جعل ذلك في سياق عبادة اللّه تعالي و أنّ المؤمن به تعالي يراعي الحق، فقال: يٰا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ وَ لٰا تَنْقُصُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ إِنِّي أَرٰاكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ* وَ يٰا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. (هود [11] الآية 84- 85)

فيحرم إذن البخس و التطفيف.

______________________________

(1)- و لا يبعد أن يكون المراد من الميزان ما يعرف به الحق الخالق الفاطر للنظام العلوي أي السماء و ما فيها، و السفلي أي الأرض و من عليها بملاحظة السياق.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 110

البيع

اشارة

و هو مبادلة مال بمال آخر بتمليكه- عينا كان أو منفعة- و هو الأكثر تداولا بين الناس من أقسام التجارة، و قد عرفت أن الأصل إباحته بجميع أقسامه التي هي النقد و النسيئة و السلف، و الأول بأقسامه التي هي المساومة و المرابحة و المواضعة و التولية «1»، و قد أشرنا من قبل ان في نوع من المرابحة مع اتحاد الجنس ردعا شديدا و منعا أكيدا، فانه ربا محرّم.

الرّبا

و فيه آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لٰا يَقُومُونَ إِلّٰا كَمٰا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ مِنَ الْمَسِّ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قٰالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبٰا وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا فَمَنْ جٰاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهيٰ فَلَهُ مٰا سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَي اللّٰهِ وَ مَنْ عٰادَ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ* يَمْحَقُ اللّٰهُ الرِّبٰا وَ يُرْبِي الصَّدَقٰاتِ وَ اللّٰهُ لٰا يُحِبُّ كُلَّ كَفّٰارٍ أَثِيمٍ.

(البقرة [2] الآية 275- 276)

مثّلت الآية الكريمة الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا بالذي يتخبّطه الشيطان من المسّ فلا يشعر شيئا و لا يقوم علي قدميه مستويا، بل يهوي الي يمينه و شماله ليسقط، فكلّما يريد أن يقوم يهوي الي طرف آخر فيمشي غير مستو فينظر إليه كل عابر و يراه متزلزلا.

و الحق: ان من يأكل الربا، كذلك حاله في الدنيا و الآخرة لا في القيامة فقط، و العلّة الأصلية لذلك التخبّط و المرض هي توهّمهم بأن البيع مثل الربا و انهما متساويان علي حدّ يكون الربا أظهر و البيع مثله لا أنه مثل البيع، و قد أحلّ اللّه البيع

______________________________

(1)- المساومة و هو أفضل الأفراد من تعيين الثمن و المثمن بدون ذكر رأس المال و مع ذكره الأقسام الأخري من: المساواة فالتولية أو

الزيادة فالمرابحة أو النقيصة فالمواضعة كما لا يخفي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 111

علي الإطلاق بجميع أقسامه و حرّم الربا تحريما أكيدا، و بعد ذلك التحريم الصريح و المنع الأكيد، فمن جاءه حكم اللّه و حدّه و عرف الأمر و سمع الوعظ فانتهي لنهي اللّه و حكمه و أطاع أمره، فلسوف يعفو اللّه تعالي ما قبله من أكل الربا قبل الاسلام أو قبل علمه بالحكم و هو في الاسلام، و أما من عاد فينتقم اللّه منه، و هو من أصحاب النار الخالدين فيها، فان اللّه تعالي يمحق الربا و يسحقه و يعدمه، و يربي الصدقات و يزيد في ثمراتها في الدنيا و الآخرة.

و أنت تعلم دلالة الآية الكريمة علي حرمة الربا بأصرح من كل صراحة و بأشدّ لحن و أقوي بيان، و الإطلاق يعطي الحرمة في عمله فالمعطي و القابض و الواسطة بينهما و الكاتب لهما و الشاهد عليهما شركاء في الإثم.

الثانية- قوله تعالي:

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هٰادُوا حَرَّمْنٰا عَلَيْهِمْ طَيِّبٰاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ كَثِيراً* وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ وَ أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ مِنْهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً. (النساء [4] الآية 160- 161)

الآية الكريمة تدلّ علي ان الربا كان محرّما علي الذين هادوا، و أنهم نهوا عنه، و قد عصوا و ظلموا بأكلهم الربا و صدّهم عن سبيل اللّه و أكلهم أموال الناس بالباطل فحرّم اللّه عليهم طيّبات كانت محللة لهم، و هيّأ للكافرين منهم عذابا أليما، و نقل هذا في السياق يفيد بقاء الحرمة في الاسلام أيضا كحرمة سائر المذكورات و لا سيما مع بيان ان الراسخين المؤمنين منهم يؤمنون بما أنزل الي رسول اللّه (صلّي اللّه

عليه و آله و سلّم) و ما أنزل من قبله، فان ذلك صريح في بقاء الحرمة في الاسلام.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَ ذَرُوا مٰا بَقِيَ مِنَ الرِّبٰا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوٰالِكُمْ لٰا تَظْلِمُونَ وَ لٰا تُظْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 278- 279)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 112

تأمر الآية المباركة بترك ما بقي من الربا بعد الأمر بتقوي اللّه تعالي، و تؤكّد هذا الأمر باشتراط الايمان فتقول: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فان عدم إطاعة اللّه تعالي يوجب الخروج عن الايمان، و تؤكّد الآية ثانية بأن العصيان في المقام هو إعلان الحرب علي اللّه تعالي و رسوله، فتدلّ بأشدّ بيان و بأغلظ مراتب الحرمة بالنسبة الي أصل الربا، نعم تفيد الآية الكريمة أيضا بعدم اليأس بما أخذ قبل الاسلام أو قبل العلم بالحكم في الجملة.

الرابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعٰافاً مُضٰاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (آل عمران [3] الآية 130)

الآية الكريمة- كما تراها- و ان كانت راجعة الي النهي عن التضاعف في أخذ الربا من محاسبة ربح الربح، إلّا أن دلالتها علي حرمة الربا ممّا لا يخفي من فرضها مفروغا عنها.

و من المعلوم ان الإطلاق في الآيات يقتضي جريان الربا في جميع المعاملات و المفاوضات و العهود المالية بيعا كان أو قرضا أو غيرهما، إلّا أنه لا يساعده طبع العقد و العهد كالصلح و الهبة مثلا و إن قيل بجريانه فيهما أيضا اذا كانا معوضين.

كما انه يقتضي الحرمة بين الأب و الابن أو الزوج و الزوجة أيضا، إلا ان السنّة المباركة المبيّنة استثنت ذلك كاستثنائها بين

السيّد و العبد أو المسلم و الحربي من أخذ المسلم منه.

و لكن بالتأمّل في خصوصيات الموارد يعلم أنّه لا استثناء حقيقة، فان الأمر صورته ربا و سيرته خروج المال من كيسه الي كيسه الآخر في غير الأخير و فيه اصطياد و إخراج مال ممن يجوز تملّك ماله. ألا تري أنهم يثبتونه في المسلم و الذمّي كما هو ظاهر.

و أما التقييد بالمكيل و الموزون و اختصاص الربا بهما دون ما يعامل بالعدّ أو

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 113

المشاهدة فمستفاد من الغلبة و الانصراف إليهما بكثرة الوجود، و الشكّ في غيرهما يوجب توقيف سراية الحرمة التي علي خلاف الأصل، و لكن السنّة المباركة- بحمد اللّه- أوضحت الأمر في الاطلاق و التقييد و ان كان لا يبعد الإرشاد فيها عندنا.

ثم ان الناظر في الآيات المحرّمة للربا بلحنها الشديد لا سيما بعد النظر الي تعبيرات السنّة المباركة أيضا، يتساءل عن سرّ ذلك و دليله، و انه كيف يمكن ان يكون درهم ربا يساوي سبعين زنية بذات محرم في بيت اللّه الحرام، كما عن الامام الصادق (عليه السّلام)؟!، ثم كيف يمكن تحليل مثل ذلك الحرام المشدد بحيل مدرسية لا يعرفها العرف بل يصعب تصوير بعض صورها علي أهل الفن فكيف المتعاملين علي تعارفاتهم العادية.

فالعجب من أصل التحريم بهذه الشدّة أوّلا مع ان ظاهره كالبيع، و الأعجب منه تحليل ذلك الحرام بحيل مختلفة كما عن أكثر المتأخّرين مستندين الي قواعد و روايات، إلا ان التأمّل في المقامين يكشف عن وجه الحقيقة، و الربا أقوي العوامل في طريق استغلال الثروة و استعباد الناس من دون عمل و كدح، ينتهي الي شقاق و عداوة، اذ يؤدّي المدين أضعافا مضاعفة من دينه و يبقي

مدينا رغم نشاطه و عمله.

و الدائن عاطل مماطل، فينبثق من ذلك: الاختلاف و العداوة و البغضاء مضافا الي تخفيف بل تعطيل في عوامل الانتاج و ركود في موارد التزايد و أصوله، كما حقق في محلّه عند بيان المسائل الاقتصادية علي ضوء الاسلام، فهو من أشدّ الذنوب ضررا في الامور الاقتصادية، اضافة الي تولّي الكفّار أعظمها في الأمور السياسية- كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه في كتاب المحرّمات- و استقلال كل أمّة و ملّة قائم علي الاستقلال السياسي و الاقتصادي- كما تعلم-.

و أما تحليل ذلك الحرام بالحيل المختلفة فلا نقول به بوجه من الوجوه أصلا فان الحيلة حيلة، و البيع و الصلح بيع و صلح، و المباحث المدرسية غير ما يعمل به في العرف المتعارف، و الروايات علي الرأس و العين في مواردها، و لم ترد لتحليل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 114

الحرام بل لبيان ماهيّتي الحلال و الحرام فيها، و إمكان قلب الماهيّة في الأمور الاعتبارية بسهولة غير تحليل الحرام مع حفظ الماهيّة، و تمام الكلام في رسالتنا «مباحثات فقهية».

خاتمة في بحث البيع:

ثم انك عرفت من قبل ان العوضين في المعاملات لا بدّ و أن يكونا مالين علي الاطلاق ليصحّ التبادل بهما، و حينئذ فان كان ذلك المال علي وجه له ماليّة عند بعض دون بعض لحكم شرعيّ كالخمر و الخنزير أو لاختلاف رغبات العرف حسب اختلاف المناطق أو انه يصحّ تملّكه لبعض دون بعض لذلك أيضا- كالمصحف الشريف و المملوك المسلم لا يملكه كافر، فيختلّ ركن المعاملة و يبطل في المورد، فان المملوك المسلم لا يملكه كافر، فيختلّ ركن المعاملة و يبطل في المورد، فان المملوك المسلم يصحّ بيعه بمسلم دون الكافر لحرمة تسليطه عليه، وَ لَنْ

يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا «1»، كما ان بيع الخمر و الخنزير المملوك للكافر يصحّ بالكافر دون المسلم فيملك الكافر ثمنه و يجوز للمسلم تملّك ذلك الثمن بأسباب الانتقال.

الإجارة

الإجارة بعد البيع هي أكثر شيوعا للمعاوضات المالية و أشدّ المعاملات التجارية رواجا و ألزمها، و هي- بماهيّتها- غير البيع عرفا و عقلائيا و كذلك شرعا، فان الأول (البيع) تبديل مال بمال بتمليكه- عينا كان أو منفعة «2» - المستلزم لوجود

______________________________

(1)- (النساء [4] الآية 141)، و قد استنبطوا من ذلك ان الكافر اذا أسلم عبده قهر علي بيعه لمسلم و إلا باعه الحاكم و سلّم إليه الثمن، و كذلك جواز بيع أمّ ولده اذا أسلمت و أشباه ذلك، و الحق أنها تدلّ علي عدم جواز كل ما يورث تسلّط الكافر علي المسلم في مطلق الروابط الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و الثقافية و الصناعية و غيرها.. دون خصوص العهود و المعاملات لا سيما مع التوجّه الي صدر الآية الكريمة- كما لا يخفي-.

(2)- كبيع ثمار الأشجار قبل أوانها و بعد بدو صلاحها المتداول في كل زمان، فان الذي يشتري ثمار بستان-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 115

العوضين في الخارج حقيقة أو اعتبارا أو في الذمّة «1» أو بالتفريق بحيث يوجب تغيير محل الملك و المال بعد عقد التمليك و تحقيق التبديل في عالم الاعتبار فيتحصّل الزائد النامي في ملك المالك الجديد و يتقابض كل من المتعاملين ملكه عن الآخر.

و أما الثاني (أي الإجارة) فهي تفويض حق الانتفاع و تمليكه بعوض معيّن في مدة معيّنة، فيجعل المؤجر العين المستأجرة تحت تصرف المستأجر حتي يستوفي حقّه منها و ينتفع بها تدريجيا مع بقاء العين في ملك مالكها مطلقا، و

المستأجر يملك الانتفاع لا المنفعة، و لذلك تتوقّف علي ذكر الأجل و معلوميّته في الجملة، علي وجه يرتفع به الغرر، و بدونه باطل غير متحقق بماهيّتها، كما ان الترديد أيضا بمقدار يبقي معه الغرر ينافي تحقق تلك الماهيّة، فان المفوّض و هو حق الانتفاع و المتعلّق و هو العين المنتفع بها أو العامل المنتفع بعمله «2» لا بدّ و أن يكون مشخّصا محدودا يرتفع به الغرر؛ و لذلك أيضا لا يلزم أن تكون المنفعة موجودة بالفعل، بل اللازم فعليّة قابليّة الانتفاع سواء كانت المنفعة بأجمعها أو شي ء منها متحصلة أو لا، فلا نحتاج إذن الي توجيهات صاحب الحاشية المحقق الأصبهاني (ره) من تعلّق الإجارة بالاجتناء في استئجار البستان، و بالحلب في استئجار البقر و الغنم لبنها و هكذا في إجارة البئر.

فما هو المتعارف إذن في استئجار مثل السيارات في كل ساعة بكذا مقدار أو الي البلدة الفلانية بكذا مقدار، أو في استئجار الحجرات و الغرفات في الفنادق لكل ليلة بكذا مقدار من غير تعيين الزمان، فهو إجارة أيضا عندنا لعدم الغرر، و توافق

______________________________

- بأنواعها أو نوع واحد سواء كان تفّاحا أو سفرجلا أو عنبا أو زيتونا أو برتقالا أو موزا أو غيرها بعد بدو أوانها فهو مشتر لها و يملك منفعتها و تتحصل في ملكه، و مالك الأشجار بائع الثمرة، و الثمر هو المبيع، و بدو الصلاح شرط لإمكان تحديده في الجملة، و هي منفعة لا عين، و العقد بيع لا إجارة.

(1)- و قد عرفت ان بيع الدين بالدين اذا كان حاصلا بسبب آخر قبله و كان غير مؤجّل أو حلّ أجله فلا بأس به كالحاصل بنفس البيع مطلقا، و الباطل هو بيع الدين بالدين

الحاصل بسبب آخر قبل البيع و كان مؤجّلا لم يحل أجله لعدم المالية في الحال بوجه و في الحال علي الاحتياط.

(2)- و لو كان من الواجبات الكفائية و لا بأس بالأجرة علي الواجب و لو كان عينيا علي ما أثبتناه في محلّه بعد إمكان قصد القربة- فراجع رسالتنا: «القضاء في الاسلام» / ص 50 الي 65.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 116

و تعاط عند الأصحاب لا استيجار و إجارة ليترتّب عليها آثارها من جواز تفويض حق الانتقاع بالغير اذا لم تتقيّد الإجارة بانتفاع نفسها، و غيره من الآثار، مع انه لا بأس بالترتّب فيها.

و التعريف المشهور بتمليك المنفعة بعوض- كتعريفهم البيع بتمليك العين بعوض- لا يخلو من تسامح.

و كيف كان، فان تعارف الإجارة و شيوعها بل توقّف قسم من المعيشة الاجتماعية عليها و عدم وجود ردع من الشارع المقدّس لا يتوقّف إثبات شرعيتها علي قصة موسي و شعيب (علي نبيّنا و آله و عليهم السلام) التي حكاها اللّه تعالي الي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) نقلا عن ابنة شعيب، فقال تعالي:

قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا يٰا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ* قٰالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَي ابْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ عَليٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمٰانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ … (القصص [28] الآية 26- 27)

ثم التكلّف بالاستمداد من الأصل و الاستصحاب أو عدم نسخها لبقائها في شريعتنا؛ فان الأصل في المعاوضات بل المعاهدات العقلائية- كما عرفت- الجواز ما لم يردعه الشارع المقدّس، مع ان الآية الكريمة لا تعطي أصل المشروعية في الشريعة السابقة بل انها تحكي عملا بعد الفراغ من ذلك الأصل بدليل آخر و هو بناء العقلاء، فلا يخلو ما استدلّ به

الفاضل المقداد (رضوان اللّه عليه في كنزه) «1» و استدلاله من نظر، كما أشار إليه المحقق الأردبيلي (رضوان اللّه عليه) في ص 463، و ان كان تصديقه دلالة الآية علي أصل الأمر في غير محلّه- كما عرفت-.

و كذلك الأمر في سائر المعاوضات العقلائية و ما يلحق بها من الشركة و المضاربة الي الوكالة و القرض و كل قرار و عهد يتناوله العقلاء بما هم كذلك و إن

______________________________

(1)- المجلد الثاني: ص 73.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 117

أمكن استئناس بعضها من بعض الآيات الكريمة.

الدين و الرهن و الضمان

اشارة

ثم بعد تحقق البيع أو الإجارة بل كل معاوضة مالية و بعد تملّك كل ما كان ملكا للآخر قبله، فان تحقق التقابض و وقعت المبادلة بينهما فتكون حينئذ التجارة حاضرة و يتمّ الأمر، و إلا فيبقي مال كل واحد من المتبايعين في عهدة الآخر و يجب عندئذ أداؤه، و تشتغل ذمّته بأداء مشخصه إن كان مشخّصا حسب الصدق العرفي أو الكلي إن لم يكن، و كذلك اذا تحقق التقابض من طرف دون آخر فيبقي في ذمّته فقط، و بذلك يتحصّل الدين و اشتغال الذمّة و يصبح أحدهما مديونا و الآخر دائنا بالمعني الأعم، و ان كان أكثر موارده الكلية بحيث صار معناه الأخص ذلك.

و عندئذ فقد يؤخذ الزمان في الردّ و أداء الدين حسب توافقهما فلا يجب الأداء و لا القبول قبل انقضائه، و بدونه يجب ذلك عند الردّ و المطالبة.

الكتابة:

و حيث ان الأجل و الزمان لا يخلو من تغيير و حدث في طرفي التبادل (المالكين) و ما يطرأ عليهما من موت أو نسيان أو جحود، أو في طرفي التبديل (المالين) و كيفيتهما من التلف و النقص و اختلاف القيمة السوقية حتي في الكلّي الذمّي كاختلاف العرض بين البلاد و الممالك الموجب لاختلاف قيمة الأثمان الرائجة حسب المعاملات العامة علي المستوي العالمي، فالحكم العقلائي و الأدب الاجتماعي و التعارف العملي يستدعي الاطمئنان و الوثوق علي تحفّظ كل أحد لماله قبال الحوادث من إيجاد سند قاطع و كتابة رسمية تعرفه المحاكم، أو تضمين ظاهر برهان مقبوضة أو ضمان و تعهّد مشهود عليه حتي يستند الي الكتاب في المحكمة أو يستوفي من مال الرهان أو يطالب من الضامن اذا لزم.

و قد أمضي الشارع المقدّس ذلك كلّه

و أرشد إليه في آيات مباركة، قال تعالي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 118

في الأول:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِليٰ أَجَلٍ مُسَمًّي فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ … (البقرة [2] الآية 282)

أمر اللّه تعالي صريحا بالكتابة لدي التداين الحاصل من أيّ معاملة مالية و معاوضة تجارية أو قرار و تعاهد أيضا مثل القرض فان الملاك وجود الأجل لأخذ المال حسب التوافق و القرار و ثبوته في العهدة بأيّ سبب، و الأمر ذلك إرشادي مثل عدالة الكاتب و الشهادة علي الكتابة كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه في الشهادات و الأساس إمكان الاستيفاء في المحاكم الشرعية.

الرهن:

و في الثاني؛ قال تعالي:

وَ إِنْ كُنْتُمْ عَليٰ سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كٰاتِباً فَرِهٰانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمٰانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 283)

فان الرهن أخذ الوثيقة لكسب الاطمئنان حتي يستردّ المال و يستوفي الحق بعد انقضاء الأجل، و يردّ مال الرهان بعد الاستيفاء و لا دخل للسفر و عدم الكاتب، و القيد وارد في مورد الغالب كما هو ظاهر، و لا رهان و لا وثيقة بعد الوثوق و الاطمئنان، و قد أمر اللّه تعالي بردّ الأمانة الي صاحبها. و من المعلوم أن الاستشهاد علي المعاملة أو الكتابة و وجوب أداء الشهادة و حرمة الكتمان.. كل ذلك للاطمئنان.

و أنت تعلم ان الوثيقة ملك للراهن و أمانة لدي المرتهن لا يضمنه إلّا بالتفريط دون التلف كنفس العوض المشخّص بعد العقد و قبل التقابض، فانه أمانة أيضا لدي البائع أو المشتري.

الضمان:

قد يفهم الضمان من قوله تعالي: وَ لِمَنْ جٰاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 119

زَعِيمٌ (يوسف [12] الآية 72)، و من قوله تعالي: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذٰلِكَ زَعِيمٌ (القلم [68] الآية 40) أيضا، و انت تعلم أنهما تخبران عن كون الضمان أمرا عقلائيا معمولا به، أي من قبول ضامن الدين، و تعهّده بأداء المال لو لم يؤدّه المدين أيضا، و للدائن الرجوع إليه عند عدم ردّه لا في عرضه فانه هو الذي اشتغلت ذمّته أولا دون الضامن، و كذلك الأمر في الكفالة.

الكفالة و الوكالة و الأمانة

الكفالة:

و هو تضمين احضار من عليه الدين في وقت معيّن لأداء الدين أو غيره، فله الرجوع الي المكفول عنه أولا ثم الي الكفيل علي شروط و حدود متعارفة لدي العقلاء.

الوكالة:

و قريب من ذلك الوكالة التي هي استنابة الغير لإنفاذ أمر علي حدود مشخّصة علي ما هو المتعارف بين العقلاء مع بقاء سلطة الموكل و تقدّم حقّه علي ذلك الأمر، و قس علي ذلك في سائر العقود و العهود المتداولة بينهم، و لم يردع عنها الشارع المقدّس، سواء لم يبحث عنها في القرآن الكريم أو أشير إليها فيه بنحو مثل الأمانة.

الأمانة:

قال تعالي:.. فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمٰانَتَهُ. (البقرة [2] الآية 283)

فان مال الغير المودع لدي الانسان سواء كان للوثاقة و الاطمئنان، أو حصل لديه بدون علم مالكه، فهو أمانة شرعية أو عقلائية عنده، لا بدّ من ردّه الي مالكه و يضمنه اذا اتلف. قال تعالي:

إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِليٰ أَهْلِهٰا. (النساء [4] الآية 58)

و الأمر هنا يعطي الوجوب، و قال تعالي في ذمّ بعض أهل الكتاب:.. وَ مِنْهُمْ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 120

مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينٰارٍ لٰا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلّٰا مٰا دُمْتَ عَلَيْهِ قٰائِماً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قٰالُوا لَيْسَ عَلَيْنٰا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَي اللّٰهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ. (آل عمران [3] الآية 75)

و النهي هنا يدل علي حرمة عدم الردّ و الخيانة، و الذمّ لا يختص بهم بعد ذكر الملاك و انهم يكذبون و هم يعلمون، فلا بدّ من احترام مال المؤمن و ترك التصرّف فيه بغير رضاه، بَليٰ مَنْ أَوْفيٰ بِعَهْدِهِ وَ اتَّقيٰ فَإِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، فاذا أودع شخص ماله لدي غيره فهو أمانة عنده يجب ردّه عند المطالبة، و يضمنه بالإتلاف فانه تصرّف فيه بغير رضاه دون التلف بعدم الانتساب إليه، و أما المصالحة فقد مرّ الكلام عنها في آخر بحث القضاء.

[النتائج]

تتميم في نتيجة الأبحاث؛ و فيه أمور:

الأول: كل ما يرغب فيه العقلاء لمنفعة أو لخاصيّة و لو كان للتزين به فهو مال يبذل بإزاء مال آخر.

الثاني: من حاز شيئا أو اصطاد حيوانا من برّ أو بحر فهو له أو كالذي أحيي أرضا فهي له، و له الدفاع عنه و منع غيره عن التصرّف فيه.

الثالث: كل تبديل في الأموال مع التراضي جائز لا بأس به، كتجارة عن تراض، سواء صدق عليها أحد العناوين المتعارفة

أم لم يصدق.

الرابع: البيع هو تمليك مال بمال، و الإجارة في تفويض حق الانتفاع في مدة معيّنة و تمليكه فيها بعوض معيّن.

الخامس: كل معاملة يعدّها العقلاء صحيحة تكون كذلك شرعا ما لم يردع عنها، كما ان كل ما يكون باطلا لديهم كالقمار و السرقة أو منعه الشرع بنوعه كالربا أو نفي ماليّته العوض كالخمر و الخنزير فهو باطل و غير واقع شرعا أيضا.

السادس: كل مبادلة مالية تقوم علي أربعة أسس و هي: مالان و مالكان، و لا بدّ فيها من مظهر سواء كان لفظي العقد أو عملي الأخذ، و الإعطاء المسمّي بالمعاطاة هو تجارة حاضرة تديرونها، و يشترط في طرفي المعاملة البلوغ و العقل. و حق

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 121

التصرّف- أصالة أو ولاية أو وكالة أو نيابة- و اشتراط المالية في العوضين ظاهر بيّن.

السابع: بيع الفضولي و شراؤه بل كل عقد منه مع المالك يقع صحيحا و يتم باجازة المالك الآخر و لا يبعد صحته في طرفيه.

الثامن: يجب الوفاء بمقتضي كل عهد و عقد بين الناس بعضهم مع بعض في المعاملات و الشروط بل مع اللّه تعالي كالنذر و العهد و اليمين و الوقف و السكن و الصدقة، و أما اللزوم أو الجواز في العقد فمستفاد من ماهيّة العقود العقلائية و حدودها لديهم بعد عدم ردع الشارع المقدّس عنها، و أما الشرط في ضمن العقد فيجب الوفاء به ما لم يناف مقتضي العقد حسب ماهيّته.

التاسع: الشرط المخالف لمقتضي العقد أو الفاسد بطبعه كالمتعلّق بالحرام فاسد غير واقع دون العقد المرتبط به.

نتيجة بحث الربا؛ امور هي:

الأول: يحرم الربا و هو الزيادة في تبادل المالين مع اتحاد الجنس المكيل أو الموزون حرمة شديدة و هو من الكبائر و قد

أوعد اللّه تعالي عليه النار.

الثاني: آخذ الربا و معطيه و الواسطة بينهما و الشاهد عليه و الكاتب لهما شركاء في الوزر.

الثالث: التحيّل في تحليل الربا حيلة شيطانية، فهو حرام، و البيع و الصلح و أمثالهما حقيقة لا حيلة حلال واقع.

نتيجة بحث الدين و غيره؛ امور هي:

الأول: الدين و هو مال شخص في ذمّة شخص آخر يجب عليه أداؤه مهما أمكن إن لم يكن له أجل، و بعد انقضائه إن كان، و يجب علي صاحب المال القبض.

الثاني: لا بدّ من كتابة بين المتعاملين تحفّظا علي المال اذا لم تكن التجارة حاضرة دائرة و ليكتب الكاتب بالعدل.

الثالث: يجوز الرهان و جعل الوثيقة لدي الدائن ليطمئن علي ماله و يتمكّن من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 122

استيفائه اذا لزم، و الوثيقة ملك للراهن و أمانة لدي المرتهن لا يضمنه إلا بالتفريط و الإتلاف.

الرابع: لا بأس بالضمان و قبول عهدة الغير في اداء مال أو إتيان عمل بعمل فيرجع الي المضمون عنه أولا ثم الي الضامن ثانيا، كما في الكفالة فيرجع الي المكفول عنه أولا ثم الي الكفيل.

الخامس: اذا حصل مال الغير لديه بايداع أو غيره فهو أمانة شرعية أو عقلائية عنده لا بدّ من ردّه و يضمنه بالإتلاف دون التلف.

الي هنا انتهي كتاب التجارة، و يتلوه كتاب القرض- حسب ترتيبنا- إن شاء اللّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 123

كتاب القرض

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 125

القرض

القرض ضرب من القطع، فيطلق علي ما يدفع من مال الي انسان ما لينتفع به مدّة ثم يردّه بعينه أو بدله إليه سواء كان القطع عن مال أو حق تصرّف مؤقّتا، و قد يطلق علي ما يردّ عينه «عارية» اصطلاحا، فماهيّتها واحدة في جعل مال أو عين في استمتاع شخص مؤقّتا مضمونا سواء صدق عليه التملّك المضمون كما عن الأصحاب، أو لا.

أصل القرض و مشروعيّته أمر عقلائي لا يحتاج الي تأسيس، و لم يردع عنه الشرع المقدّس بل انه رغّب إليه- كما عرفت في مقدمة التجارة.

و الإنسان الذي يعيش- بتعاونه مع

بني نوعه- في مكان من قرية أو مدينة أو بلد، قد يفتقر الي شي ء في زمان ما.. الي مال أو متاع فيجده اخاه المؤمن فيستمدّ منه العون و يستقرض منه، أي يطلب منه أن يجعل العين أو المال في استمتاعه مؤقّتا (مما تبقي عينه محفوظة) فيردّها بعد زمان، أو لا بأن يردّ ماليّته بالمثل أو القيمة بعده؛ فان أجابه و جعله في راحة فقد أعانه علي الخير و أحسن إليه، و استقرّ بذلك علي ذمّته دين، و المستقرض بعد انقضاء حاجته و التمكّن من الأداء يردّ علي المقرض أو المعير ماله، و ان شاء أحسن إليه هو أيضا بشي ء من زيادة فيصبح القرض مفتاح الأخوّة و المودّة لا مقراض العلاقة و المحبة، و ذلك ظاهر جار بين كل قوم و أمّة؛ و لذلك لا يتوقّف تحقّقه علي عقد خاص بل ينعقد بكل ما تعطي تلك الماهيّة من لفظ أو عمل.

و يدل علي ذلك في الاسلام أيضا- بعد الأدلة العامة من التعاون علي البرّ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 126

و التقوي و التسابق الي الخير و الإحسان و غيرها ممّا ستعرفه في موضوع: (المجتمع و الآداب) إن شاء اللّه- من أدلة خاصة بهذا الشأن من الآيات المباركة نشير إليها:

الأولي- قوله تعالي:

إِنْ تُقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً يُضٰاعِفْهُ لَكُمْ … (التغابن [64] الآية 17)

تخبر الآية الكريمة- ترغيبا علي هذا الخير (الإقراض)- عن واقعية شرطيّة من أنكم إن تقرضوا اللّه و تعطوه ممّا عندكم شيئا يضاعفه لكم إن كان حسنا سليما من غير إيذاء و منّة من المقرض علي المستقرض.

و عندنا: إنّ السياق الباحث عن الأموال و الأولاد الحاكم بأنهما فتنة و ان الإنفاق خير، و لا سيما مع الترغيب

الي شحّ النفس، يشخّص ان القرض هذا هو في الأموال بين العباد بعضهم مع بعض لوجه اللّه تعالي و للخير و الإحسان لا لغرض مالي، و ما يقال «1» من أن الذي يقرضونه- في الآية الكريمة- أو يستقرضونه- كما ورد في آية مباركة أخري- هو اللّه تعالي، فيرجع الأمر الي إخلاص العمل للّه تعالي في العبادات حتي يضاعفه أجرا و ثوابا، فان الاستقراض و الإقراض يطلق فيما يكون القطع هذا عن مال ليستمتع به المستقرض الفاقد له، المحتاج إليه.

أما العمل الذي للّه تعالي في إطاعة الواجبات و ترك المحرّمات و جزاء اللّه تعالي و ثوابه- علي ما فصّل في محلّه- فلا يرتبط بباب المقابلة و الأخذ و العطاء أصلا و لا يناسب الباب بوجه، فان من أخلص للّه عملا فقد قرّب نفسه إليه تعالي و استمتع برضاه و استراح في بحبوحات نعمه من جنانه و رضوانه، كل ذلك جار و ماض في قواعد و قوانين خاصة من غير أن يرجع العمل الي اللّه تعالي أو يأخذه فيجازي قبال ذلك، و نتائج الأعمال لا ترجع إلا الي العبد العامل نفسه.

و أما وجه إطلاق إقراض اللّه تعالي و استقراضه علي إقراض عبد عبدا آخر فهو

______________________________

(1)- كما عن الفاضل المقداد (رحمه اللّه) في كنزه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 127

ظاهر، فان الإحسان الي عباد اللّه تعالي لا لنفع ماديّ هو عبادة للّه تعالي اذا كان عن قربة كما هو ظاهر.

و مما ذكرنا يعلم معني باقي الآيات الكريمة الواقعة في سياق بحث الأموال من الزكاة الواجبة أو الصدقات المتطوّعة أو غيرها من أنها راجعة الي ترغيب المتمكّن و حثّه علي إقراض المحتاجين قربة للّه تعالي، المتداول بين عباد اللّه الصالحين

المسمّي بقرض الحسنة لا الربح المحرّم الذي هو: قرض السيئة الربوي، من غير ارتباط باطاعة اللّه تعالي في الأوامر و النواهي، و ثوابه تعالي لعباده كما تري.

الثانية- قوله تعالي:

.. وَ أَقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّٰهِ … (المزمّل [73] الآية 20)

الأمر لا سيما في سياق الصلاة و الزكاة ظاهر في الوجوب؛ و عندنا يرجع ذلك الوجوب الي القيد و ان القرض لا بدّ و ان يكون حسنا بمعني عرفته آنفا.

الثالثة- قوله تعالي:

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ.

(الحديد [57] الآية 11)

و قوله أيضا:

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ أَضْعٰافاً كَثِيرَةً وَ اللّٰهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. (البقرة [2] الآية 245)

من المعلوم أن استقراض اللّه تعالي و هو الغنيّ الحميد لا يكون إلّا ترغيبا للواجدين بأن يقرضوا الفاقدين قربة للّه تعالي، و هم بعد ما يأخذون أموالهم سيؤجرون من عند اللّه تعالي أجرا حسنا فيضاعف لهم بذلك أموالهم لاستفادتهم منها بوجهين؛ و يؤيّد ذلك آخر الآية الكريمة الثانية من أن اللّه تعالي هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء، فيتمكّن الانسان المتمكّن من رفع حاجة إخوانه و لو بالإقراض،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 128

و يقبض عمّن يشاء؛ فيتراجع الواجد للمال المبسوط له، و يمتحن اللّه تعالي بذلك كليهما من إقراضه (المحتاج) قرضا حسنا بلا إيذاء و منّة متذكّرا أن للّه تعالي جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ و بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ، و هو الذي يرزق من يشاء، و الناس هم الفقراء الي اللّه و اللّه هو الغنيّ الحميد، أو إقراضه من إيذاء و منّة علي توان و صعوبة بعد التجاء

المستقرض و التماسه أو مع الربا أحيانا، و كذلك كيفية مراجعة المستقرض من توجّهه الي أن اللّه تعالي هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، و ان صاحب المال من جنود اللّه تعالي و أياديه بلا استقلال أو غفلة عن اللّه تعالي و ذلّة أو كفر أحيانا نعوذ باللّه منه. اللّهم أغننا عن الناس بغناك و لا تبتلنا بالاستقراض و لا سيما من السفلة.. آمّين.

و قد ظهر مما ذكر معني قوله تعالي:

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقٰاتِ وَ أَقْرَضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً يُضٰاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ. (الحديد [57] الآية 18)

الرابعة- قوله تعالي:

وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِليٰ مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 28)

الآية الكريمة واقعة في سياق آيات الربا و لزوم ترك الباقي و عدم أخذه، و ان خلاف ذلك بحكم الحرب مع اللّه تعالي فمن تاب عن ذلك الذنب العظيم ليس له إلا رأس ماله يأخذه إن كان المقترض ذا ميسرة، و نظرة الي ميسرة إن كان ذا عسرة، و التصدّق بابراء ذمّته و إراحته خير له إن كان يعلم أجر الصدقة و الخدمة «1»، و المسألة بالملاك لا تختص بالمورد بل الأمر جار في كل دين و قرض لا بدّ من النظرة الي الميسرة، و الصدقة خير فهي تجعل المدين في راحة.

______________________________

(1)- و لعل ذلك هو الأصل لما هو المتداول بين التجّار و الكسبة من تقسيم الباقي من أموال المفلّس بين الدائنين بعد استثناء ضرورياته في المعيشة بنسبة أقل كما تعلم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 129

نتيجة البحث

الأول: القرض هو جعل مال أو عين في استمتاع المفتقر إليه مؤقّتا حتي يردّه إليه بعد زمان بعينه أو بماليّته أو

قيمته، و هو أمر عقلائي رغّب إليه الشرع المقدّس فانه برّ و إحسان و مستحب و أجره مضاعف.

الثاني: علي المقرض إمهال المقترض المعسر الي يسره، و أفضل منه إبراؤه بالتصدّق عليه فإنّ أجر الصدقة أعظم.

انتهي كتاب القرض و الحمد للّه و يتلوه كتاب العهود و الأيمان إن شاء اللّه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 131

كتاب العهود و الايمان

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 133

العهود و الأيمان

العهد هو تثبيت أمر و تحكيمه، قال تعالي: وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِليٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (طه [20] الآية 115)، و قال أيضا: وَ عَهِدْنٰا إِليٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ الْعٰاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (البقرة [2] الآية 125).

فاذا تعهّد الانسان أمرا و تقبّله فكأنما أحكمه في ذمّته و حققه في عهدته، و قد أطلق العهد علي كل مبادلة يستلزم عهده الفيض و الإقباض دائرة أو بعد أجل، ثم علي كل ما يقتضي العهدة علي أمر من أداء مال أو إتيان عمل للغير أو للّه تعالي كما في النذر و اليمين، فان النذر تعهّد أيضا علي إتيان أمر ما أو تركه، و اليمين المأخوذ من تصافح الأيدي اليمني لدي تحكيم المعاملات و التعهّدات لإبرامه هو تقبّل أمر ثم تثبيته بذكر اسم اللّه تعالي. و عليه فماهيّة كل من العهد و النذر و اليمين واحدة و هي أن يتخذ العبد في عهدته للّه تعالي بأن يأتي بشي ء راجح ديني أو دنيوي أو بترك مرجوحا كذلك، و يستحكم ذلك بذكر اسم اللّه تعالي فقط دون الآباء و الأولاد و النفس بل دون سائر الأسماء و الأوصاف للّه تعالي تشديدا للاستحكام، فيقول: (للّه عليّ كذا، أو: نذرت للّه كذا،

أو: باللّه لأفعلنّ كذا أو: أترك كذا..) مطلقا أو مشروطا بحصول أمر كشفاء مريض أو قدوم مسافر أو رفع حاجة؛ كل ذلك تقرّبا إليه تعالي بعد تعيين مورد التعهّد نوعا و زمانا، و الإطلاق في الأخير ينصرف الي ما دام العمر.

و مما ذكرنا تعرف شمول العهود جوهريا لإنشاءات أخري قربي كالوقف و السكن و الصدقة و الهبة غير المعوضة و ما شابهها بل يشمل الإيقاعات أيضا فان كل عقد عهد و لا عكس.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 134

ثم المتعهّد لا سيما اذا كان للّه تعالي قد جعل نفسه في خوف من تركه و حنثه، و النذر و هو قسم من العهد مأخوذ من الإنذار و التخويف أن عليه الجبر و التكفير اذا حنث ليستريح من ذنب اقترفه أو عهد نقضه، و الأمر كذلك شرعا، و قد جعل اللّه تعالي لحنث العهد بأقسامه الثلاثة كفّارة كما سيأتي بحثه إن شاء اللّه.

و كيف كان ففي المقام آيات:

الأولي- قوله تعالي:

إِذْ قٰالَتِ امْرَأَتُ عِمْرٰانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مٰا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* فَلَمّٰا وَضَعَتْهٰا قٰالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهٰا أُنْثيٰ وَ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثيٰ وَ إِنِّي سَمَّيْتُهٰا مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُهٰا بِكَ وَ ذُرِّيَّتَهٰا مِنَ الشَّيْطٰانِ الرَّجِيمِ* فَتَقَبَّلَهٰا رَبُّهٰا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهٰا نَبٰاتاً حَسَناً …

(آل عمران [3] الآيات 35- 37)

الآية الكريمة- كما تري- تدلّ علي أصل مشروعية النذر لدي الأمم السالفة و الشرائع السابقة بحكايتها عن نذر امرأة عمران ما في بطنها محررا لبيت المقدس و خدمته له، و قبول اللّه تعالي نذرها حتي مع عدم التناسب الكامل لكونها أنثي، و ليس الذكر كالأنثي، فان أصل الجواز و

المشروعية كان مفروغا عنه و لم يردع عنه الشارع المقدّس بل انه أمضاه بالعمل و أمر بالوفاء به كما في الآيات الكريمة التالية، و هي:

الثانية- قوله تعالي:

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخٰافُونَ يَوْماً كٰانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَ يُطْعِمُونَ الطَّعٰامَ عَليٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً. (الدهر [76] الآية 7- 8)

تعطي الآية الكريمة أنهم (عليهم السّلام) كانوا ينذرون و يوفون بنذورهم، و ان الوفاء في المحبوبية علي حدّ يخاف من تركه العقاب يوم القيامة، فارغا عن أصل الجواز،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 135

و لعلّها تشعر بوجوب الوفاء، فان المباح و الراجح لا يخاف علي تركه، و قد مدحهم اللّه تعالي عليه و علي الإنفاق و التصدّق علي حبّ اللّه تعالي دون رئاء الناس لا يريدون بذلك جزاء و لا شكورا.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُهُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ. (البقرة [2] الآية 270)

الآية المباركة بصراحتها تدلّ علي أن اللّه تعالي يعلم الإنفاق العلني و الخفي، و النذور التي تنعقد بين الانسان و ربه، كما انه يعلم الوفاء و الحنث و كل عمل صالح، و كذلك يعلم الإنفاقات التي تكون رئاء الناس أو إرادة الخير و الشكور، و النذور التي تحنثونها، فلا أجر و لا ثواب فيها بل هي عقاب لو لم تنجبر بكفّارة، فمن ترك الوفاء و الكفّارة فقد ظلم نفسه وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ.

هذا، و لكن الآية الكريمة لا ترتبط بمقام التشريع و بيان مشروعية النذر و جوازه، أو استحباب التصدّق و رجحانه، و ان كانت لا تخلو عن إشعار لزوم الوفاء، و ان تاركه ظالم، و أما أن ذلك علي حدّ الرجحان أو الوجوب فلا.

نعم إن العهد و ماهيّته بنفسه يدعو الي الوفاء و يقتضيه علي حدّ يعدّ من المكارم لدي العرف و العقلاء و كذلك الشرع المقدّس، و نقضه من الرذائل و النواقص لديهم و لديه، و لقد مدح اللّه تعالي به أهل بيت العصمة و الطهارة آل رسول اللّه (عليه و عليهم سلام اللّه).

و الذي يسهل الخطب صراحة الآيات الكريمة و الأمر فيها بالوفاء- كما تري-.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ … (الحج [22] الآية 29)

الأمر بالوفاء بالنذر و العمل به في سياق الطواف الواجب يعطي الوجوب حتي في غير أيام الحج، فان المورد لا يخصص مع ما عرفت من شمول قوله تعالي:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ في كل عهد.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 136

الخامسة- قوله تعالي:

.. وَ بِعَهْدِ اللّٰهِ أَوْفُوا ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. (الانعام [6] الآية 152) الأمر أيضا في سياق النهي عن المحرّمات القطعية مثل الشرك باللّه تعالي و قتل الأولاد خشية الإملاق، بل مطلق قتل النفس، بل الفواحش علي الإطلاق أيضا- ما ظهر منها و ما بطن، و في سياق الأمر أيضا بأمور من إيفاء الكيل و العدل في القول؛ و هذا يعطي الوجوب كالأمر في قوله تعالي:.. وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا (الإسراء [17] الآية 34)، الواقع في سياق عدّة من الواجبات و المحرّمات، و المتعلّق في الآيتين مطلق العهد مع اللّه تعالي، فيشمل العهود الثلاثة، بل الوقف و السكن و الصدقة و الهبة غير المعوضة للّه تعالي، بل مع الناس كالعهود في معاملاتهم و معاشراتهم. و عندنا لا يبعد شمول الأحكام المذكورة قبله و بعده من الحلال و الحرام بل مطلق الأحكام، فانها عهود من اللّه تعالي علي

عباده، و هم قد تعهّدوا طاعته و عبوديته في أوامره و نواهيه لما كانوا له عبادا و له مسلمين، فقالوا:

بلي أنت ربّنا و نحن لك مسلمون، و هذا هو المناسب لذكر الوفاء بالعهد بعد نقل عدّة من الأحكام، و قد أشرنا من قبل الي أن ذلك بنفسه هو المناسب و الرابط بين قوله تعالي: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و قوله تعالي: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ.

و أما وجوه الدلالة فظاهرة، فان الأمر بالوفاء و ان المكلف مسئول عنه، مع انه لا يسأل عن غير الواجب و الحرام، مؤاخذة صريحة في الوجوب، مثل وصيّة اللّه تعالي بعباده خلال الأوامر و النواهي.

السادسة- قوله تعالي بعد الأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربي و النهي عن الفحشاء و المنكر و البغي:

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّٰهِ إِذٰا عٰاهَدْتُمْ وَ لٰا تَنْقُضُوا الْأَيْمٰانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهٰا وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللّٰهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا تَفْعَلُونَ* وَ لٰا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهٰا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكٰاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمٰانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ. (النحل [16] الآية 191- 192)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 137

الآية الكريمة تأمر بالوفاء بعهد اللّه تعالي و تنهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها بذكر اسم اللّه تعالي، و لتشديد الأمر و بيان عظمته، توضّح الآية الكريمة الحال بقوله تعالي: وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللّٰهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا، و هو يعلم ما تفعلون، وفاء و حنثا، فلا تكونوا كالّتي نقضت غزلها من بعد قوّة. و قد يستدل بذكر لفظ الجلالة علي عدم انعقاد العهود الثلاثة إلّا به، و حينئذ فمن لم يف بعهد اللّه و نقض حكما من أحكامه فكأنه نقض غزل الأيمان القوي بعد ما أبرمه و قوّاه بالامتثال و الإطاعة فيه و في غيره

من الأحكام، و مع ذلك تؤكّد الأمر الآية التالية بأن الحانث الناقض ليمينه اتّخذ أمره دخلا و قد نهي عنه.

السابعة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَتَّخِذُوا أَيْمٰانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهٰا وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِمٰا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ لَكُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ* وَ لٰا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللّٰهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّمٰا عِنْدَ اللّٰهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. (النمل [16] الآية 94- 95)

تنهي الآية الكريمة عن اتخاذ الأيمان دخلا بالخدعة، فانه مأخوذ من الدخول في نسب الغير حيلة، و اللحوق بقبيلة غيلة. فان قدم الايمان و عرق الاسلام و التوحيد تزل بالخدعة في اليمين، و الحيلة مع الحق بعد الثبوت، فينتهي الي العذاب و ذوق السوء، فان ذلك صدّ عن سبيل اللّه، و شراء بعهد اللّه ثمنا قليلا، مع ان ما عند اللّه من أثر الوفاء و ثمر الإطاعة و مراعاة الحدود الشرعية خير لكم مما تطلبونه عن طريق النقض و الخدعة؛ و عليه فلا تختص الآية الكريمة باليمين الغموس و الكذب كونها تغمس صاحبها في النار، بل ان الكذب في اليمين قسم منه.

و كيف كان فالخدعة و الدخل في اليمين بالكذب أو العمل بخلافه تأويلا منهيّ عنه و هو حرام، و مزلّ للأقدام، و الصدق و الوفاء لازم و واجب عقلا، و لا تلازم شرعا، فان الحكم دائر مدار اعتباره.

نعم في المقام: الأمر متعلّق بالوفاء بالعهد، و النهي متعلّق بنقض الأيمان،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 138

و الظاهر أنهما واحد بلسانين، و الأمر بما نهي عن تركه، و النهي عن ترك ما أمر بفعله، فتدلّ زائدا علي وجوب الوفاء علي أن العهد و اليمين واحد، كما أنهما من النذر واحد ماهيّة، و إن كان

الأخير أكثر مصاديقه مشروطا و الأوليين مطلقا حسب الوقوع الخارجي.

و لا يصغي الي ما أشرنا إليه من ان المأمور به غير المنهيّ عنه عنوانا و لسانا، و كذلك المنهيّ عنه غير المأمور به كذلك، فان التأكيد و التثبيت في لسان الآية الكريمة يتمّ الأمر كما هو ظاهر.

نقض العهد

الثامنة- قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّٰارِ. (الرعد [13] الآية 25)

صراحة الآية الكريمة: إن الذين ينقضون عهد اللّه فيحنثونه- سواء كان من العهود الثلاثة أو من غيرها- لهم اللعنة و لهم سوء الدار، و ذلك لا يكون إلّا جزاء وفاقا لارتكاب محرّم، و ترك واجب، و لا سيما بعد عدّ ذلك في سياق الذين يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، المحرّم قطعا، فتدلّ علي وجوب الوفاء بالملازمة و إن كان اعتبار ذلك غير حرمة النقض. و قد لعن اللّه تعالي بني إسرائيل أيضا بنقضهم أيمانهم، فجعل قلوبهم قاسية. و لا يكون البعد عن رحمة اللّه تعالي الموجب لقسوة القلب إلّا لأثر العصيان و ارتكاب المحرّم، قال تعالي:

فَبِمٰا نَقْضِهِمْ مِيثٰاقَهُمْ لَعَنّٰاهُمْ وَ جَعَلْنٰا قُلُوبَهُمْ قٰاسِيَةً. (المائدة [5] الآية 13)

التاسعة- قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ وَ أَيْمٰانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولٰئِكَ لٰا خَلٰاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لٰا يُكَلِّمُهُمُ اللّٰهُ وَ لٰا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ لٰا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 139

أَلِيمٌ. (آل عمران [3] الآية 77)

من المعلوم ان ظاهر الاشتراء بعهد اللّه ثمنا قليلا حنثه و تخلّفه بشي ء قليل، و إطلاق العهد يشمل المبحوث عنه حتي النذر،

و الحكم علي المتخلّف الحانث بذلك العذاب الأليم صريح في الحرمة المستلزم لوجوب الوفاء، و إن كان كل واحد منهما غير الآخر في الاعتبار، و لا ينصرف الي الأصول الاعتقادية من التوحيد الي الشرك مثلا كما تؤيده التزكية و أن اللّه تعالي لا يزكّيهم مع ذكر الايمان بعد العهد الموجب للظهور في العهود الثلاثة و ما يقرّبها.

و يؤيّد ما ذكر الآيات المباركة الصريحة بهذا الشأن التي عدّت الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ وَ لٰا يَنْقُضُونَ الْمِيثٰاقَ، من أولي الألباب، الَّذِينَ يَصِلُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخٰافُونَ سُوءَ الْحِسٰابِ، و جعلتهم مع الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغٰاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَي الدّٰارِ جَنّٰاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهٰا (الرعد [13] الآيات 20- 23).

و كذلك الآيات الكريمة التي عدّت الوفاء بالعهد و مراعاته من أوصاف المؤمنين المفلحين الذين هم في جنّات مكرمون في قوله تعالي: وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمٰانٰاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رٰاعُونَ (المؤمنون [33] الآية 9) و (المعارج [70] الآية 32)، و جعلت الموفون بعهدهم اذا عاهدوا من أهل البرّ أيضا … وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ … وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذٰا عٰاهَدُوا … (البقرة [2] الآية 177).

و بعد ذلك كلّه فلا افتقار لإثبات الوجوب الي استدلال مقحم بقوله تعالي:

وَ قٰالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّٰارُ إِلّٰا أَيّٰاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّٰهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّٰهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَي اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 80)

بتقريب أنه تعالي جعل قبال دعواهم اتخاذ العهد، القول بغير علم، و ترتّب علي الأول أنه تعالي لن يخلف عهده علي الإطلاق من غير تقييد

و تقسيم، و ذلك و إن كان إخبارا عن حقيقة و هو أن اللّه تعالي لن يخلف العهد و الميعاد، إلّا انه يدلّ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 140

علي حرمة التخلّف لعدم التقييد.

و قد عرفت وجوب الوفاء و حرمة التخلّف بأدلة أصرح، و العجب كلّه- بعد ما عرفت- من عدم وجوب الوفاء بالوعد و هو عهد مع ثبوت الأهم- أعاذنا اللّه من القول بغير علم.

شروط العهود و كفارة الحنث

ثم انك تعلم أن وجوب الوفاء و حرمة النقض و الحنث لا يكون إلا بعد تحقق العقد و العهد و اليمين علي متعلّق راجح عن إرادة و قصد، فانه مع عدم الرجحان لا ينعقد رأسا، فلا يتعلّق بترك المباح تضييقا علي النفس من دون غرض عقلائي، كما لا ينعقد اذا لم يكن عن صميم القلب و مركز الإرادة الجدّية، بأن كان عن هزل أو لقلقة لسان أو عن غضب و طغيان، فانه لا وقع له و لا أثر، وفاء و حنثا، بل قد يجب حلّه و لا حنث فيه، ففي الأول (اشتراط الرجحان)، قال تعالي:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مٰا أَحَلَّ اللّٰهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضٰاتَ أَزْوٰاجِكَ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* قَدْ فَرَضَ اللّٰهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمٰانِكُمْ وَ اللّٰهُ مَوْلٰاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.

(التحريم [66] الآية 2- 3)

فقد أوجب اللّه تعالي علي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) تحليل يمينه و فكّه عن عهدته بلا حنث و تخلّف لمرجوحيّة المتعلّق و هو ابتغاء مرضاة الأزواج بالنسبة الي نفسه الشريفة، و ذلك إكرام من اللّه تعالي لرسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) توسعة عليه، و رفعا لكل مضيقة عنه، و إلا فأصل الامتناع و التحرّز عن مباشرة بعض الأزواج

فيما دون حقه ابتغاء مرضاة البعض الآخر منهنّ مع حفظ حقوقهما غير مرجوح لا بأس به، فلا يتوهّم أنه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أقسم علي مرجوح لا عن علم، و هو و أهل بيته المعصومون (عليهم السّلام) يعلمون كل شي ء بعلم اللّه، و هم النور الواحد الذي كان من اللّه تعالي حيث لم يكن معه أحد لا نبيّ مرسل و لا ملك مقرّب، فخلق اللّه الأشياء كلّها ثم أنهي علم ذلك كلّه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 141

إليهم «1».

و من المعلوم انه اذا كان حلّ العهد واجبا له (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لمرجوحية بالنسبة إليه، فكيف اذا كان الأمر مرجوحا في نفسه، فانه لا ينعقد رأسا مع أنه غير عقلائي بعد كفاية مرجوحيّة الشي ء في تركه.

و أما اشتراط الجدّ و الإرادة العقلائية الواقعية مع وضوح لزوم ذلك، كما في كل عقد بل كل أمر عقلائي فيدلّ عليه قوله تعالي:

لٰا يُؤٰاخِذُكُمُ اللّٰهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمٰانِكُمْ وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 225)

تصرّح الآية الكريمة بأن اللّه تعالي لا يؤاخذ عباده بترك الوفاء و العمل بالأيمان اللاغية، فان كل أمر و عقد يؤخذ به و يترتّب عليه أثر اذا كان عن قصد و عمد و إرادة و تصميم في القلب، فيشترط في التحقيق و الانعقاد ذلك حتي تترتّب عليه آثاره.

و كذلك يدلّ عليه ما ورد في ذيل الآية الآتية من التكفير باحدي الخصال الثلاث، كما يأتي بيانه (المائدة [5] الآية 89)

ثم بعد التحقيق و الانعقاد و وجوب الوفاء، فان عمل ما بعهدته و وفي به فهو و لو بأخفّ مصاديقه و أقلّها، و إلا فان

تخلّف و حنث فعليه الكفّارة و الجبران، قال تعالي في الأول أي في تحقق العمل و الوفاء بأقل المصاديق الموجب للصدق تعليما لعبده أيّوب (علي نبيّنا و آله و عليه السلام):

وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لٰا تَحْنَثْ إِنّٰا وَجَدْنٰاهُ صٰابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّٰابٌ. (ص [38] الآية 44)

و الآيات تعني يمينه و قسمه علي أن يضرب زوجته مائة ضربة جزاء لها بنظره، و القصة مذكورة و مشهورة في كتب التفاسير، و بعد انكشاف الحق له- أي بعد

______________________________

(1)- مأخوذ من رواية شريفة ذكرها ثقة الاسلام الكليني (رضوان اللّه عليه) في كتابه الشريف: (الكافي) في باب ميلاد النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 142

قسمه و يمينه- فقد أمر بالوفاء به بأن يأخذ ضغثا و يضرب به امرأته مرّة واحدة حتي يخرج هو عن يمينه و قسمه المذكور، من غير حنث لصدق المائة مرّة فيه بتعدد قطعاته و أغصانه.

و قال تعالي في الثاني أي في وجوب الجبران و التكفير لو حنث:

لٰا يُؤٰاخِذُكُمُ اللّٰهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمٰانِكُمْ وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمٰانَ فَكَفّٰارَتُهُ إِطْعٰامُ عَشَرَةِ مَسٰاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مٰا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ ثَلٰاثَةِ أَيّٰامٍ ذٰلِكَ كَفّٰارَةُ أَيْمٰانِكُمْ إِذٰا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمٰانَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللّٰهُ لَكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. (المائدة [5] الآية 89)

و الآية الكريمة- كما تراها- بعد تعيين الموضوع و أنه الأيمان و العهود المنعقدة حقيقة من غير لغو و هزل.. بعد هذا تبيّن الآية الكريمة جبر المتخلّف و كفّارة حنثه و أنه إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم بأوسط الأطعمة أو الكسوة المتعارفة التي تطعمون و تكسون منها أهليكم أو تحرير

رقبة، و إن لم يتمكّن من ذلك و لم يجد ما ينفق في سبيل ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام.

و بعبارة أخري: علي الواجد إحدي الأمور تخييرا: الإطعام أو الإكساء أو تحرير رقبة، و علي الفاقد صيام ثلاثة أيام تعيينا، و أخيرا توصي الآية الكريمة المتعهّد بالتحفّظ علي عهده و الوفاء به مهما أمكن لئلا يلزمه التكفير و الجبران شكرا لنعمة اللّه تعالي و هي القدرة علي الوفاء و التمكّن من الإطاعة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 3، ص: 143

خاتمة المطاف

قال تعالي:

وَ لٰا تَجْعَلُوا اللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النّٰاسِ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 224)

قد ذكرنا من قبل ان العهود الثلاثة أي العهد الخاص و النذر و اليمين لا تنعقد ما لم تكن مؤكّدة بذكر اسم اللّه تعالي، و لا تكفي بالوصف بل لا تنعقد بغير اسمه المطلق اسم الجلالة «اللّه» من الأسماء الحسني، و لكن الأدب الاسلامي يقتضي ترك ذلك مهما أمكن تعظيما له تعالي و تفخيما للفظ الجلالة، فلا تجعلوا اللّه عرضة للأيمان في كل أمر حقير أو خطير، و لا يقسم باللّه تعالي في كل يوم مرارا و أعشارا توهّما أن ذلك برّ و تقوي أو إصلاح بين الناس إلا في مهام الأمور، بل ان أصل العهد و النذر يكتفي بهما بتصميم و عزم و بقوّة الإرادة و التسلّط علي النفس إلا في المهام.

و ما يقال من ان النذر عبادة لفظية لا يكتفي بها بالقصد، لا يخلو من تسامح، فانه كأخويه اذا تعلّق بالعبادة، فالوفاء و العمل بمقتضاه عبادة لا مطلقا، نعم عدم انعقاده، بنفس القصد من دون اللفظ تمام.

نتيجة البحث

الأول: العهود الثلاثة هي: النذر و العهد و اليمين، واحدة ماهيّتها.

الثاني: لا بدّ في تحقق تلك العهود من الرجحان- في الجملة- دينيا أو دنيويا، و من الجد، فلا تنعقد في المرجوح أو بالهزل أو حال الغضب.

الثالث: لا بدّ في الوقوع من اللفظ و العقد في العهود الثلاثة إيقاعا بلفظ الجلالة، فلا تنعقد بنفس القصد و النيّة أو بذكر سائر الأسماء و الصفات.

الرابع: يجب الوفاء بتلك العهود الثلاثة و يحرم الحنث تكليفا.

الخامس: يكفي في الوفاء الإتيان بأقلّ المصاديق لعنوان المتعلّق كما في كل

فقه القرآن (لليزدي)،

ج 3، ص: 144

امتثال أمر أو نهي تعلّق بعنوان و ماهيّته علي الإطلاق.

السادس: الأدب الاسلامي يحكم بترك اليمين ما أمكن، و لا يجعل اللّه عرضة للأيمان و لا سيما الكذب الغموس الذي يغمس مقترفه في النار.

السابع: كفّارة الحنث علي الواجد إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة تخييرا، و علي الفاقد صيام ثلاثة أيام.

الي هنا تمّ- و الحمد للّه- كتاب العهود و الأيمان، كما تمّ الجزء الثالث حسب تجزيئنا، و يتلوه الجزء الرابع و هو آخر الأجزاء مبدوءا بكتاب المحرّمات إن شاء اللّه تعالي «1».

______________________________

(1)- و اليوم هو السابع عشر من شهر شعبان المعظّم سنة أربع و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة علي مهاجرها ألف تحيّة، و كنت مقصيا في منطقة (رودبار) مع جمع من الأفاضل الذين هم من بلاد شتّي.

الجزء الرابع من فقه القرآن «الاجتماعيات»

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 147

محتويات الجزء الرابع من كتاب فقه القرآن

المقدمة 151

كتاب المحرمات 153

الفصل الأول: الكليات 156

الفصل الثاني: أنواع الذنوب 158

تنبيه و توجيه 161

الفصل الثالث: في بيان الذنوب و تعدادها 163

الارتداد 164

النفاق 169

الافتراء علي اللّه تعالي 170

تولّي الكفّار 182

حرمة تولّي أهل الكتاب 191

المنافق الذي لم يحكم بكفره 199

تنبيه 205

خاتمة المطاف 209

قتل النفس المحترمة 212

قتل الأولاد 213

الوأد- الاسقاط 214

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 148

قتل المؤمن 215

نذر عبد المطلب 216

الزّنا 218

اللواط 220

الخمر و الميسر 221

التطفيف 224

الرشوة 229

أكل مال اليتيم 232

الفتنة 234

الغيبة 235

التهمة 236

الكذب 237

السب 238

فصل من التوبة و الاستغفار 239

تذييل في خلاصة الابحاث 245

الاعذار 250

التوسل و الاستشفاع 256

كتاب الأطعمة و الأشربة 263

الفصل الأول: الاطلاقات 266

الفصل الثاني: خصوصيات المطعوم 271

الفصل الثالث: المحرمات 278

خاتمة فيها مسائل 284

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 149

الاسراف 287

الرزق 289

ختام في بحث الرزق 297

تذييل في فروع الكتاب 298

كتاب المجتمع و الآداب 301

الفصل الأول: المؤمن و والديه 303

الفصل الثاني: المؤمن و أسرته 307

الفصل الثالث: المؤمن و عشيرته 310

الفصل الرابع: المؤمن و شعبه

أ- الأمير و المؤمنين 314

ب- المؤمنين و أميرهم 317

ج- المؤمنات و المؤمنين و بالعكس 323

د- المؤمنين بعضهم مع بعض 330

ه- في خصائص الشعب المؤمن 338

نتيجة الأبحاث 345

كتاب الوصيّة 353

تذييل في نتيجة الأبحاث 360

كتاب الإرث 361

خاتمة في العول و التعصيب 374

تذييل في نتيجة الأبحاث 375

كتاب الدعاء و الابتهال 379

الدعاء و الابتهال في القرآن 381

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 150

الأمر الأول- في أصل رجحان الدعاء 382

الأمر الثاني- في كيفية الدعاء 383

الأمر الثالث- فيما ينبغي ان يدعي به اللّه من الاسماء 386

الأمر الرابع- فيما ينبغي ان يطلبه الداعي من اللّه 388

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 151

المقدمة:

نشرع في تنظيم الجزء الرابع و استنساخه من هذا الجهد «فقه القرآن» بعون اللّه الملك العلّام بعد نجاح الثورة الاسلامية العظيمة في

تاريخ الاسلام بقيادة الإمام الأعظم جامع المعقول و المنقول مفخر الاسلام و ملجأ المسلمين و مبدأ توجيه حركة تاريخ الاسلام الي الأمام و محيي روح القرآن و المعارف الإلهية في جسم الناس و الزمان أستاذنا الأعظم آية اللّه العظمي الحاج السيد روح اللّه الموسوي الخميني (دام ظلّه الوارف علي رءوس المسلمين) و نحن الآن محتفلون في مجلس الخبراء الاسلامي لترتيب و تأليف و تنظيم دستور الجمهورية الاسلامية الايرانية، و ذلك في شهر شوال لسنة تسع و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة المباركة 1399.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 153

كتاب المحرّمات

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 155

المحرّمات

لا اشكال في اشتمال أحكام اللّه تعالي علي منهيّات و محذورات كاشتمالها علي مأمورات و مطلوبات، و من المعلوم ان اعتبار كلّ غير الآخر، فان الطلب ان كان تعلق بالفعل فهو مطلوب وجوبا أو استحبابا حسب شدّة الإرادة و ضعفها؛ و بعبارة اخري أدقّ و أصحّ في معناها حسب كثرة المصلحة و قلّتها في المتعلّق، و ان تعلق بالترك فهو محذور حرمة أو كراهة حسب درجة المفسدة في وجود المتعلّق، و ليس من المحرّمات الشرعية ترك الواجب فان المصلحة في وجوده تفوت بتركه و لا مفسدة في تركه غير فوت المصلحة كما انه ليس من الواجبات الشرعيّة ترك المحرّمات فان المفسدة في وجودها و لا مصلحة في تركها غير ترك المفسدة فهما متغايران جوهرا لا اعتبارا فقط و ان صح اطلاق الواجب علي ترك الحرام و الحرام علي ترك الواجب عقلا.

و حيث ان ترك المشتهيات أشقّ علي النفوس و أسرع في تقريب العبد الي المولي تري الآيات في الذكر الحكيم تعني به عناية خاصة، فإن أزهد الناس من ترك المحرّمات،

كما في الحديث، و لذلك عقدنا لها كتابا. و من المعلوم انّ الحرمة التكليفية الكاشفة عن الكراهة لوجود المفسدة في التحقق هي المبحوث عنها في المقام دون الوضعية بمعني عدم الصحة أو عدم الوقوع كما في المعاملات.

و في الكتاب فصول:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 156

الفصل الأول: الكليات

و فيه آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلّٰا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً وَ لٰا تَقْتُلُوا أَوْلٰادَكُمْ مِنْ إِمْلٰاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ وَ لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ لٰا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ إِلّٰا بِالْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.

(الانعام [6] الآية 151)

ان اللّه تعالي يأمر نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بدعوة الذين لا يؤمنون بالآخرة و هم بربهم يعدلون الأصنام، لبيان المحرّمات عليهم في الجملة أي المحرّمات التي علي كل انسان ان يتركها بما هو انسان و ان لم يكن منتحلا بدين؛ منها الشرك باللّه العزيز، و قتل الأولاد خشية املاق، و قتل النفس؛ و بالجملة: اجتناب القبائح و الفواحش ما ظهر منها و ما بطن.

و من المعلوم ان المقام ليس لبيان جميع المحرّمات لتنحصر في المذكورات بل عدّ بعض مهامها في الجملة و أشار الي الباقي بالجملة؛ فالآية تدلّ علي وجود محرّمات لا بدّ من تركها علي كل مؤمن باللّه و اليوم الآخر أيضا.

الثانية- قوله تعالي:

وَ ذَرُوا ظٰاهِرَ الْإِثْمِ وَ بٰاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمٰا كٰانُوا يَقْتَرِفُونَ. (الانعام [6] الآية 120)

تأمر الآية بترك المحرّمات و الآثام ظاهريّة و باطنية و تبين ان الذين يقترفون الذنوب سيجزون بما كانوا يكسبون حسب مراتب سيئاتهم فتدلّ علي ان هناك محرّمات منهيات و انها

قسمان ظاهريّة و باطنية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 157

الثالثة- قوله تعالي:

قُلْ إِنَّمٰا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَي اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ.

(الاعراف [7] الآية 33)

الآية بعد الردّ علي من حرّم زينة اللّه و انها للذين آمنوا في الحياة الدنيا، بيّنت ان الحرام هو الفاحش القبيح ما ظهر منها و ما بطن و الاثم و البغي و الشرك و القول بغير العلم فتدلّ علي ان هناك فواحش حرّمها اللّه تعالي و انّها قسمان ظاهريّة و باطنية و ذكر لكل منهما مثالا من الشرك باللّه للثاني و البغي للأول و ليس في مقام بيان الجميع.

الرابعة- قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ. (النور [24] الآية 19)

الآية تفيد ان هناك محرما مبغوضا غير نفس الفحشاء و المنكر و هو حبّ اشاعتهما بين المؤمنين حتّي يصيرا أمرا عاديّا متعارفا، فينقلب المنكر معروفا و المعروف منكرا، و من المعلوم ان نفس حبّ ذلك لو لم يظهره ليس بذنب، نعم يكشف عن كيفية تفكير المحب الذي يبعثه نحو العمل و تسبيب ما ينتج الشيوع و السريان، من القول و الكتابة و العمل، و بذلك لهم عذاب أليم في الدنيا لتحصّل آثار أعمالهم في معاشهم، و في الآخرة لاقترافهم السيئات و قذفهم النواهي وراء الظهور و تجسّم الاعمال في دار القرار.

و أنت تعلم ان مقترف الذنب زائدا علي ابتلائه بآثار عمله و نتائج فعله في الدارين، يتباعد عن المولي بنفس العصيان و ترك

الاعتناء به و التوجّه إليه و عدم التحفظ علي مقامه و حقوقه؛ و أشد العذاب و أحرق النار البعد عن الربّ المحبوب أعاذنا اللّه منه و من شرور أنفسنا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 158

فالآية تدلّ علي ان نفس الفحشاء محرم مبغوض، و شيوعه و كثرته في الناس أبغض. فهناك محرمات إجمالا لا بدّ من تركها و ترك كل ما يوجب اشاعتها من ذكر أو كتابة أو تصوير، و بكل مظاهر الحياة، فلا بد من التستر علي الذنب لا التجلي بكل بكل شعائرها كما هو كذلك في بلاد الكفر و- مع الأسف- في كثير من بلاد الاسلام لغلبتهم بأيادي خدّام و غلمان لا يعرفون إلا التسليم و القبول مقابل الاحتفاظ بمناصبهم و حكوماتهم الجائرة قطع اللّه أياديهم عن الاسلام و المسلمين ان شاء اللّه.

الفصل الثاني: أنواع الذنوب

اشارة

ان الذنوب كبائر و صغائر تشير إليها آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً. (النساء [4] الآية 31)

تهدف الآية الكريمة بيان حال مقترف الذنب و مرتكبه و أنّ الصغائر من الذنوب و السيئات أمرها أسهل، و اللّه تعالي يكفّرها و يغفرها بشرط الاجتناب و التحرّز عن ارتكاب الكبائر.

و نفس الانسان اذا اقترفت صغيرة ستدرج- إن لم تتب- الي أكبر منها و هكذا حتي تنتهي الي أكبر الكبائر و هو الشرك باللّه تعالي و الكفر به أعاذنا اللّه من ذلك.

قال تعالي: ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا السُّوايٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ كٰانُوا بِهٰا يَسْتَهْزِؤُنَ (الروم [30] الآية 10)، و قال أيضا:

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لٰا يَعْلَمُونَ.

(الاعراف [7] الآية 182)

و قال أيضا: فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ

فقه

القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 159

لٰا يَعْلَمُونَ. (القلم [8] الآية 646)

و عليه فالذنب كبير مهما كان صغيرا، و ذلك لتلويثه النفس الزكية و إدراجها في طريق ينتهي الي أكبر الكبائر إن لم يتب صاحبه، و المتطهّر من الذنب بعد التوبة غير الطاهر من بادئ الأمر، و إن كان التائب من الذنب كمن لا ذنب له حكما لا موضوعا، نعم من تاب و آمن و عمل صالحا فله أجره عند ربه، فان التجنّب عن الكبائر و اعتياد النفس بالتحذير منها يستدرج ترك الصغائر أيضا و يستكملها الي تكفير السيئات الواقعة أحيانا؛ و بهذا يدخل الانسان مدخلا كريما من الجنّة و رضوان من اللّه تعالي، و العاقبة للمتقين.

و ظاهر الآية الكريمة ان اجتناب الكبائر بنفسها يوجب تكفير الصغائر من الذنوب أيضا من غير افتقار الي التوبة، و الذنوب مطلقا تكفّر بها، و تقسيم ما تنهون عنه الي الكبائر و الصغائر مفروغ عنه، و لا يقال: إن السيئات المكفّرة باجتناب الكبائر غير الذنوب و هو أعمّ منها، فلا دلالة علي غفران الصغائر من الذنوب، فانه يقال:

التقابل يعطي ان المراد منها الذنوب فان غيرها من السيئات لا يحتاج الي التكفير لا سيما بمثل العامل، اجتناب الكبائر.

الثانية- قال تعالي:

.. وَ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ وَ أَبْقيٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ وَ إِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ.

(الشوري [42] الآية 36- 37)

تخبر الآية المباركة عن واقعية تكوينية و هي أن الدنيا- و ما فيها- فان، لا يبقي شرّها و لا خيرها، و ما عند اللّه خير و أبقي للذين آمنوا و علي ربّهم يتوكّلون، فانهم بايمانهم يعملون الصالحات و يطيعون اللّه تعالي فيعبدونه و

يسارعون في الخيرات و يتركون المحرّمات و بتوكّلهم علي اللّه تعالي يدخلون في كل خير و يخرجون من كل شرّ، فيتركون كثيرا ممّا ظاهره الخير الفاني و باطنه الشرّ الباقي، و هم يعترفون بأن اللّه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 160

تعالي هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، فيجتنبون كبائر الإثم و الفواحش في حقوق اللّه تعالي من الشرك و الارتداد و غيرها.. و في حقوق الناس من أكل مال اليتيم و الوقف و غيرها أيضا، و اذا ما غضبوا و خرجوا عن الاعتدال و اقترفوا ما لم يكن من شأنهم فهم يستغفرون علي الفور و يسترون علي ذلك كلّه بحبسه من الجبر و التدارك في حق الناس، و التوبة في حق اللّه تعالي، و ما عند اللّه أبقي للذين آمنوا و علي ربهم يتوكّلون وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ وَ إِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، و الآية الكريمة عند بيانها هذه الحقيقة لم تتعرّض لمسألة الذنوب و أنها كبائر و صغائر، و فرض ذلك أمرا مسلّما مفروغا، فتدلّ علي المطلوب بالملازمة.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا بِمٰا عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَي* الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وٰاسِعُ الْمَغْفِرَةِ … (النجم [53] الآية 31- 32)

الآية الكريمة تفيد حقيقة اخري أيضا هي أحقّ الحقائق و أجلاها و هي أن للّه ما في السماوات و ما في الأرض، ألا له الخلق و الأمر بملكيّة حقيقية لا اعتبارية، و علي أساس ثابت و نظام ينتهي الي غاية الآمال و منتهاها، فهو يجزي الذين أساءوا بما عملوا، فان جزاء سيّئة سيئة مثلها، و يجزي الذين

أحسنوا بالحسني، و الذين اجتنبوا كبائر الإثم و الفواحش يغفر اللّه تعالي لهم صغائر ذنوبهم و لممها «1» اذا اقترفوا أو اقتربوا منها أحيانا.

فدلالة الآية الكريمة خلال بيان ذلك الأمر علي أن الذنوب و الفواحش قسمان، هي: كبائر و صغائر، كدلالتها علي أن أمر القسم الثاني سهل يمكن غفرانه باجتناب القسم الأول، و هو ظاهر لا كلام فيه.

______________________________

(1)- اللمم: هو مقاربة المعصية، و تكنّي من صغائرها- المفردات-.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 161

تنبيه و توجيه:

الآثام و الفواحش و إن كان يمكن تقسيمها الي أقسام كثيرة إلا أن الآيات الكريمة- كما تراها- لا تقسمها إلا الي قسمين علي ملاك فيها، و هي:

الأول: تقسيمها الي ذنوب ظاهرية و ذنوب باطنية- كما عرفتها في الفصل الأول علي ملاك أن المؤمن لا يترك الذنوب إلا خشية من اللّه تعالي الذي هو علّام الغيوب و الذي لا يخفي عليه شي ء في الأرض و لا في السماء، فيذر الإثم ظاهره و باطنه لا خوفا من الناس و رئائهم حتي يذر الذنوب الظاهرية فيها فقط، و بذلك يعلم أن ملاك التقسيم هذا هو مراعاة الناس و اطلاعهم.

و لعلّ ذلك هو المراد مما ذكره كاشف الغطاء (رحمه اللّه) من تقسيم الذنوب الي ما يتعلّق بالنفس التي تصدر منها من دون وساطة الجوارح و ما يتعلّق بها بوساطتها.

و إلا فلا ملاك في ظاهر كلامه من التقسيم، و قد صرّح بنفسه علي أن المؤاخذة في القسم الثاني تتوقّف علي الإظهار «1»، و أنت تعلم ان الملاك لا بدّ و ان يكون في العامل أو في الأثر، من ان ما لا يترتّب عليه العقاب إلا بعد الإظهار لا يكون ذنبا قبله، و ان كان سيّئة خلقيّا مثل الكبر

و العجب و الحسد و غيرها..

الثاني: تقسيمها الي صغيرة و كبيرة- كما عرفت من آيات الفصل- و ان الأمر الأول أسهل من الثاني، و يغفر اللّه تعالي الصغائر باجتناب الكبائر، و التقسيم علي ملاك الأثر.

و عندنا مقياس الكبر و الصغر توصيف الذنب به في الكتاب من قوله: عظيم أو كبير كما في الشرك، قال تعالي: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، و في أكل مال اليتيم:

إِنَّهُ كٰانَ حُوباً كَبِيراً، أو توصيف مرتكبه بما يجعله في حدّ غير المسلم كما في تولّي الكفّار و الافتراء علي اللّه في الدين، فقال: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ،

______________________________

(1)- كشف الغطاء/ كتاب الجهاد المبحث الثاني.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 162

و قال أيضا: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ.. أو توصيف أثره من العذاب بالشدّة و العظمة كما في القتل و الزنا علي ما سيأتي الكلام عنه إن شاء اللّه.

و الذي يدلّ علي المقياس أنه لا طريق الي اكتشاف شدّة الكراهة و درجة مبغوضية الشي ء لدي المولي إلا ما ذكر، و غير المكشوف ملحق بالصغائر في الظاهر، و عليه فالاختلاف في الذنوب حقيقي ماهويّ، لا أن ذلك أمر نسبيّ و ان كل ذنب صغير بالنسبة الي فرد كبير بالنسبة الي فرد آخر، فان ملاك التقسيم و غفران قسم باجتناب الآخر؛ و ظاهر الآيات الكريمة اتصاف كل ذنب بوصف لا يساعد النسبية و اتصاف كل ذنب بوصفين بالنسبة الي المقترف أو الي ذنب آخر.

و الحاصل: إن الكبائر معدودة مضبوطة علي ملاك خاص، و لا يتمّ ما ورد عن كاشف الغطاء (رحمه اللّه تعالي) من انها غير معدودة، و الملاك صدق الوصف لدي العرف الشرعي الحاصل بالممارسة، كما لا يتم تقسيم

الواجبات و المستحبات بل و حتي المكروهات الي صغير و كبير بارجاع الواجب الي حدّ يوجب تركه الكفر فهو كبير و إلا فصغير «1»، و قد عرفت أن الوجوب و الحرمة لهما اعتباران لا يرجع كل منهما الي الآخر شرعا مع عدم التوصيف بل عدم الإشعار بالوصف في شي ء من أدلّة الواجبات.

______________________________

(1)- و كذا الذي يصف به القرآن الكريم أَصْحٰابُ الشِّمٰالِ الذين هم فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ من إِنَّهُمْ كٰانُوا قَبْلَ ذٰلِكَ مُتْرَفِينَ وَ كٰانُوا يُصِرُّونَ عَلَي الْحِنْثِ الْعَظِيمِ. (الواقعة [56] الآية 45- 56)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 163

الفصل الثالث: في بيان الذنوب و تعدادها

[الاول: الشرك بالله تعالي]

الأول: أكبر الكبائر الشرك باللّه و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ مَنْ يُشٰاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُديٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰي وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً* إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلٰالًا بَعِيداً. (النساء [4] الآية 115- 116)

تحكم الآيتان الكريمتان علي من يشاقق الرسول و يخالفه بعد ما تبيّن له الحق من الباطل، و الرشد من الضّلال فاتبع سبيلا غير سبيل المؤمنين و ضلّ عن الصراط المستقيم بأنه سيصلي نار جهنّم و سيكون مأواه السعير و بئس المصير، فان اللّه لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك، و شقاق الرسول مع تبيّن الحق شرك، و الشرك ظلم عظيم لا يغفر، فهو من أعظم الآثام و أكبر الكبائر و دونه تمكن المغفرة لمن آمن باللّه و رسوله و اتبع سبيل الحق بعد ما تبيّن له الهدي.

الثانية- قوله تعالي:

وَ إِذْ قٰالَ لُقْمٰانُ لِابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يٰا بُنَيَّ لٰا تُشْرِكْ بِاللّٰهِ إِنَّ الشِّرْكَ

لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. (لقمان [31] الآية 13)

تنهي الآية الكريمة عن الشرك باللّه معلّلة بأنه ظلم عظيم لتقريرها بنقل ما نهي لقمان ابنه- خلال نصائحه له- عن الشرك و استدلاله له بذلك.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ قٰالَ الْمَسِيحُ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اعْبُدُوا اللّٰهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّٰهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْوٰاهُ النّٰارُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ. (المائدة [5] الآية 72)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 164

الآية الكريمة بعد بيان قول المسيح لبني إسرائيل و ذكر ما فعلوا بأنبيائهم من تكذيب و قتل نفيا للفتنة بزعمهم فعموا و صمّوا، بعد ذلك حكمت الآية الكريمة بكفر من قال: إنّ اللّه هو المسيح، فهو (عليه السّلام) يخاطب بني إسرائيل بقوله: اعبدوا اللّه ربّي و ربّكم و من يشرك باللّه فقد حرّم اللّه عليه الجنّة و مأواه النار، و الشرك ظلم عظيم وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ، و ذلك الحكم و البيان أدلّ من كل دليل علي أن الشرك من أكبر الكبائر، أعاذنا اللّه منه.

الرابعة- قوله تعالي:

.. وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَي اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ. (الاعراف [7] الآية 33)

الآية الكريمة و إن عدّت الشرك باللّه العظيم و كذلك القول عليه تعالي بغير علم كالافتراء عليه في أحكامه و غيره ضمن المحرّمات التي أمر اللّه تعالي نبيّه أن يبيّنها، لكنها لا تدلّ علي انهما من الكبائر و إن كانا محرّمين و من القبائح- كما لا يخفي-.

[الثاني:] الارتداد

الثاني: من الكبائر التي تأتي بعد الشرك الذي هو أعظم الذنوب، هو الارتداد، و الكفر بعد الإيمان. و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

كَيْفَ يَهْدِي اللّٰهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمٰانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ

وَ جٰاءَهُمُ الْبَيِّنٰاتُ وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ* أُولٰئِكَ جَزٰاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّٰهِ وَ الْمَلٰائِكَةِ وَ النّٰاسِ أَجْمَعِينَ* خٰالِدِينَ فِيهٰا لٰا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذٰابُ وَ لٰا هُمْ يُنْظَرُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمٰانِهِمْ ثُمَّ ازْدٰادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الضّٰالُّونَ. (آل عمران [3] الآيات 86- 90)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 165

الآيات الكريمة- بعد ما صرّحت بأن غير الاسلام لا يقبل دينا، و أنّ غير المسلم خاسر في الآخرة «1» - تحكم علي من كفر باللّه و رسوله من بعد ما آمن باللّه من قبل و شهد أن الرسول حق بما رأي من الآيات و البيّنات.. تحكم الآية الكريمة عليه بأنه من الظالمين الذين لا يهديهم اللّه، و بكفره هذا قد تباعد عن رحمة اللّه و عناية الملائكة و توجّه الناس، و هو خالد في نار جهنّم لا يخفف عنه العذاب و لا ينظر إليه إلا أن يتوب و يرجع باصلاح عقيدته و إيمانه و يعمل صالحا فينجو بذلك من الخلود في نار جهنّم و العذاب الأليم و إن اللّه لغفور رحيم.

و إن بقي علي ارتداده بعد ما استتيب فهو في ازدياد من الكفر، فكلّما طال عليه الزمان زاد في كفره، فلن تقبل توبته و هو من الضالّين الخالدين في عذاب جهنّم، و حاصل ما تدلّ عليه الآيات المباركة أمران:

الأول: إن الارتداد و الكفر بعد الإيمان ذنب يصلي مقترفه النار و يخلده فيها، فهو من الكبائر لشدّة أثره الذي هو الخلود من غير تخفيف و نظر.

الثاني: إن المرتدّ لن تقبل توبته إن كان في ازدياد من الكفر و عناد

مع الإيمان بعد تبيّن الحق له اذا استتيب فمات و هو كافر، و أما إن تاب و أصلح من غير عناد بأن كان ارتداده لشبهة حصلت له، فاذا جاءته البيّنة و رأي أن الرسول حق زالت شبهته، أو استتيب فان تاب مع بقاء شبهته تقبل توبته فان اللّه غفور رحيم، و ذلك صريح

______________________________

(1)- و لا ينافي ذلك نجاة المستضعفين من غير المسلمين من العذاب بل توفّيهم أجورهم أعمالهم الصالحة بعد ما كانوا مؤمنين باللّه و اليوم الآخر، فان اللّه تعالي لا يضيّع أجر من أحسن عملا، و إن لم ينالوا مراتب عليا في الجنة.

و أنت تعلم ان شرط النجاح و دخول الجنّة هو العمل الصالح و الإيمان باللّه تعالي و اليوم الآخر معا، و لا يكفي العمل بلا إيمان و كذا العكس، و ان الانسان لفي خسر إلّا الذين آمنوا و عملوا الصالحات، و قال تعالي: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمٰالُهُمْ كَرَمٰادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عٰاصِفٍ لٰا يَقْدِرُونَ مِمّٰا كَسَبُوا عَليٰ شَيْ ءٍ ذٰلِكَ هُوَ الضَّلٰالُ الْبَعِيدُ» (إبراهيم [14] الآية 18)، و الكافر أجره (في ما عمله من خير و صلاح) هو ما ناله من شهرة أو مال في الدنيا، و في الآخرة لعلّه يكون تخفيفا له في العذاب في بعض الموارد، و قد أشبعنا الكلام في ذلك في مقدمة رسالتنا: «أسس الايمان في القرآن» بعد ذكر آيات الباب فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 166

الآيات و ظاهر قوله تعالي في آية أخري:.. وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كٰافِرٌ فَأُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (البقرة [2] الآية 217)، فان التقييد بقوله: فَيَمُتْ

وَ هُوَ كٰافِرٌ يفيد نفي النار و الخلود إن تاب و آمن فمات و هو مؤمن أي تقبل توبته.

و احتمال ان الجملة إخبار بأنه يموت و هو كافر فلا تقبل توبته مطلقا لأنه محكوم بالكفر شرعا و إن تاب، مع انه خلاف الظاهر و بعيد عن مذاق الاسلام، معارض حينئذ من صريح الاستثناء في قوله تعالي: إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ في الآية المبحوث عنها تعارض النص و الظاهر و لا إشكال في تقدّم الأول.

و عليه فلا بدّ من القول بقبول توبة المرتدّ لظاهر ما عرفت من الآيات المباركة و صريح قوله تعالي:

يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ مٰا قٰالُوا وَ لَقَدْ قٰالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلٰامِهِمْ- الي قوله تعالي: - فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ … (التوبة [9] الآية 74)

إلا أن المشهور عن الأصحاب أنهم أفتوا في الرجل المرتد الفطري بعدم قبول توبته و أنه يقتل و تقسم أمواله و تبان منه زوجته فتعتدّ عدّة الوفاة استنادا الي روايات صريحة تخصص أو تقيّد «1» بها الآيات.

و مع ذلك فقد أفتي البعض بالقبول، و ان المرتدّ قسم واحد، يستتاب فان تاب فبها و إلا يقتل، كابن جنيد و الاسكافي (رحمهما اللّه).

نعم لا تقتل المرأة بارتدادها بل تحبس، و مال الي ذلك صاحب

______________________________

(1)-.. و في صحيح علي بن جعفر (عليه السّلام) سأل أخاه عن مسلم ارتدّ؟ قال: يقتل و لا يستتاب، قال: فنصرانيّ أسلم ثم ارتدّ عن الاسلام؟ قال: يستتاب فان رجع و إلا قتل.

و في موثق الساباطي عن الصادق (عليه السّلام): كل مسلم بين المسلمين ارتدّ عن الاسلام و جحد محمدا (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) نبوّته و كذّبه فان دمه مباح لكل من

سمع منه، و امرأته بائنة منه يوم ارتدّ فلا تقرب إليه، و يقسم ماله علي ورثته و تعتدّ امرأته عدّة المتوفّي عنها زوجها و علي الإمام الشرعي أن يقتله و لا يستتيبه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 167

المسالك (رحمه اللّه) «1» و صاحب الجواهر أيضا و كذلك الشهرة «2» فهي مستندة و لا تعدّ مانعا.

و العمدة هي روايات الباب، لا بدّ من ملاحظتها، و انها تكون علي حدّ تخصص بها صراحة الآيات أولا، و أنت تعلم ان طرح هذه المسألة أمر مشكل و التخصيص بها أشكل، و للجمع بالعمل بها في الأمور الثلاثة التي هي: القتل، و تقسيم الأموال، و انفصال الزوجة، فقط دون غيرها حتي تقبل توبته إن لم يقتل في زمن ردّته لعدم الثبوت لدي الحاكم أو لعدم بسط يده، لذلك كلّه وجه يؤيده مقتضي السياسة الحكومية و المذاق المعنوي للاسلام، و يمكن تأييده بقوله تعالي في آخر بيان حكم المحارب:

إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(المائدة [5] الآية 34)

و لا نري وجها لأصل عدم القبول عند الشك كما عن صاحب الجواهر (رحمه اللّه) فانه قد أبعد التعارض و التساقط، فالقبول طبيعي في التوبة دون عدمه فان الأصل علي الإصلاح يرجع الي المانع عن تأثير التوبة، و الأصل عدمه كما ان الأصل عدم مانعيّة الارتداد أو الفطرية عن القبول حتي يثبت خلافه.

الثانية- قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدٰادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللّٰهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لٰا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. (النساء [4] الآية 137)

الآية الكريمة تدلّ علي أن ازدياد الكفر بعد الايمان فيما اذا كان مسبوقا بالكفر

______________________________

(1)- فانه (رحمه اللّه) بعد نقل فتوي ابن

جنيد، قال: و عموم الأدلة المعتبرة تدلّ عليه، و تخصيص عمومها أو تقييد مطلقها برواية عمّار لا يخلو من إشكال. و رواية علي بن جعفر ليست صريحة في التفصيل إلا أن المشهور بل المذهب هو التفصيل المذكور (انتهي). و المستفاد من نقله الطرفين من غير اختيار في ذلك الطرف أو تمايله إليه.

(2)- كتاب الجواهر/ كتاب الحدود.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 168

اللاحق للايمان يهبط بالانسان الي حدّ لا يهتدي سبيلا، و لن يغفر اللّه له، فإن كان يمكن أن يغفر له بعد ما تاب و آمن و عمل صالحا إلا أنه بعد التكرر و ازدياد الكفر كالمستهزئ بالأمر و حاله بعدم المبالاة أشبه من طلب طريق الحق و سبيل الرشد، فلا غفران له و لا يهتدي الي سبيل.

فالآية الكريمة بالإضافة الي ما أفادت الآية الكريمة السابقة تعطي عدم قبول توبة المرتدّ حتي في الملّي مطلقا اذا تكرر الارتداد بعد التوبة و ازداد كفرا.

الثالثة- قوله تعالي:

مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ. (النحل [16] الآية 106)

تخبر الآية الكريمة أيضا بأن الارتداد و الكفر بعد الايمان يورث عظيم العذاب و غضب الرحمن لا مطلقا، بل يشمل من صار مشروح الصدر للكفر، و قد أظهره عن جدّ و واقع لا عن هزل أو تورية أو تقيّة، و ازداد بعدم التوبة، فأولئك الذين طبع اللّه علي قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و أولئك هم الغافلون، لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون. راجع (سورة النحل [16] الآيات 107- 109)

و أما الذين أكرهوا علي الكفر فأظهروه بألسنتهم، و قلوبهم مطمئنة بالإيمان

فهم الذين صبروا علي ما فتنوا ثم جاهدوا في سبيل اللّه و طريق الحق بما كان في قلوبهم من الإيمان، فلا شي ء عليهم بما أظهروه و اللّه هو الغفور الرحيم، فان إظهار الكفر في مثل المقام علي الحقيقة هو إبقاء للحق و تحفّظ عليه و ليس بكفر و لا باطل.

و أنت تعلم أن ذلك أمر عقلائي و أصل كلّي في حياة كل مجتمع و فرد سائر في سبيل التعالي و التقدّم، معتن بالتستّر علي الأسرار، مبتغ للرقيّ و المعالي و لا سيما في الموارد التي تتعلق بالكيان و الاعتبار فهي من أعظم أركان الحياة و لا سيما الأمور الاجتماعية منها، و ذلك ضروري ظاهر حتي بالتظاهر علي خلاف الواقع فيما لو توقّف العبور عليه باغفال الخصم و إعمال الحيلة، و لا سيما فيما اذا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 169

أوجب التسامح فساد الأساس و هدم البنيان، و لا معني للتقيّة التي هي دين إمامنا الصادق (عليه السّلام) و دين آبائه المعصومين (عليهم السّلام) غير هذا المعني، فان ذلك من طرق المكافحة بل من أصول المحاربة و أسرار التوفيق و علل التقدّم، لا كما يتوهّم البعض من عوامل الانحطاط و جراثيم التوقّف؛ و الشاهد البالغ هو المورد و عمل عمّار (رضوان اللّه عليه)، و قد أشبعنا الكلام في ذلك تحت عنوان: رسالة في الخباء و الاختباء) فراجع.

[الثالث:] النفاق

الثالث: ثم بعد الارتداد يأتي النفاق و هو ذنب كبير. قال تعالي:

بَشِّرِ الْمُنٰافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً. (النساء [4] الآية 138)

فان المنافق يتظاهر بالاسلام و حدوده و لا يطمئن به قلبه، فيقول بما لا يعمل و يعمل بغير ما يقول، و هو لا يضرّ بنفسه فقط بل انّه يضرّ بالاسلام

و المسلمين و بالشريعة الإلهية و الدين الحنيف و لا سيما اذا كان يرتقي المناصب و مهام الأمور، كما يشير إليه مورد الآيات و سياقها في اتخاذ الكفّار أولياء من دون المؤمنين و سيأتي البحث عنه إن شاء اللّه، فان المنافقين هم الذين يتّخذون الكفّار أولياء من دون المؤمنين يبتغون عندهم العزّة، و لا يعلمون أن العزّة للّه جميعا، و هم الذين يُخٰادِعُونَ اللّٰهَ وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ، وَ إِذٰا قٰامُوا إِلَي الصَّلٰاةِ قٰامُوا كُسٰاليٰ، يُرٰاؤُنَ النّٰاسَ، وَ لٰا يَذْكُرُونَ اللّٰهَ إِلّٰا قَلِيلًا، فلا يكونون مع المؤمنين و لا في طريقتهم حتي يطمئنوا بما اطمأنوا، و لا مع الكفّار و سبيلهم ليكونوا مع الخوالف، بل هم مذبذبين بين ذلك لا الي هؤلاء و لا الي هؤلاء، و من يضلّ اللّه فلن تجد له سبيلا، و بذلك استحقوا أليم العذاب فان اللّٰهَ جٰامِعُ الْمُنٰافِقِينَ وَ الْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً، و هم في الدرك الأسفل من النار و لن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 170

تجد لهم نصيرا «1».

و من المعلوم أن الذنب الذي يجمع المذنب مع الكافر في جهنّم و في الدرك الأسفل من النار ذنب كبير بلا إشكال، إلا أن يتوب و يصلح نفسه و يعتصم باللّه و يخلص دينه له، فيكون عندها مع المؤمنين، و سوف يؤتي اللّه المؤمنين أجرا عظيما، و اللّه هو الغفور الرحيم.

و ظاهر الآيات الكريمة ان النفاق بنفسه ذنب لا ان المنافق يذنب و يعصي اللّه تعالي باتخاذه الكفّار أولياء أو الخدعة مع اللّه تعالي.. بل انه بنفاقه يصلي جهنّم و يجمع مع الكفار في الدرك الأسفل من النار لا بذنوبه التي يقترفها فحسب.

و لا ينافي ذلك ما ذكرناه من أن الذنوب النفسية

(النوايا السيئة) لا تعدّ ذنبا فقهيّا ما لم تظهر بعمل، فان النفاق حالة تعرّض النفس لعلل ليس هذا محل ذكرها- كالشرك و الارتداد، فكما أن المشرك بشركه و المرتد بارتداده قد أذنبا فاستحقا النار لا بخصوص قول أو فعل أظهراه، فكذلك المنافق بنفاقه استحق أليم العذاب؛ و تلك الأمور ذنوب نفسية تقترفها نفس المذنب و لها مظهر.

[الرابع:] الافتراء علي اللّه تعالي
اشارة

الرابع: ثم بعد ذلك يأتي الافتراء علي اللّه تعالي و هو من أكبر الكبائر بمراتبه من ادعاء الرسالة و النبوّة بعد خاتم الأنبياء (صلوات اللّه و سلامه عليه و علي أهل بيته الطاهرين) أو مقام آخر ديني بغير حق من إمامة أو نيابة أو قضاء.

أو إيجاد بدعة في دين اللّه تعالي من إدخال ما ليس منه فيه، أو إخراج ما فيه عنه باسم الدين و الانتساب إليه، فان ذلك كلّه ذنب كبير يصلي مقترفه النار.

و من المعلوم ان الافتراء هو نسبة فعل أو قول الي شخص كذبا، فماهيّته غير

______________________________

(1)- اقتباس من آيات سورة (النساء [4] الآيات 138- 146).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 172

تفصيلا علي الإطلاق، فالأظلم منهما بل من كل ظالم هو المفتري علي اللّه، و ذنبه الموجب لعدم الفلاح هو حيثيّة الافتراء في مقام الإنكار و ردّ الآيات و البيّنات دون نفس الظلم حتي يستلزمه في صورة الجهل و العجز عن الدرك أو الترديد و ليس كذلك فانه يفلح اذا قدر و علم.

الثانية- قوله تعالي:

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيٰاتِهِ أُولٰئِكَ يَنٰالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتٰابِ حَتّٰي إِذٰا جٰاءَتْهُمْ رُسُلُنٰا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قٰالُوا أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ قٰالُوا ضَلُّوا عَنّٰا وَ شَهِدُوا عَليٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كٰانُوا كٰافِرِينَ. (الأعراف [7] الآية 37)

الآية المباركة

كسابقتها تحكم- بلسان تقرير الاستفهام- علي المفترين علي اللّه كذبا بأنهم أظلم من كل ظالم، و كذلك علي المكذّبين بآيات اللّه الذين يستكبرون عنها و هم أصحاب النار خالدين فيها، فانهم بعد استيفائهم ما كتب لهم من الحياة الدنيا و نعيمها و نيلهم نصيبهم منها، اذا جاءهم رسل اللّه ليتوفّوهم قالوا لهم: أين ما كنتم تدعون من دون اللّه مع أنه تعالي أرسل إليكم الرسل و أنزل معهم الآيات البيّنات؟ قالوا- في جوابهم-: قد ضلّوا عنّا. و اعترفوا بذنوبهم و شهدوا علي أنفسهم أنهم كانوا كافرين، فيقال لهم: ادخلوا في نار جهنم مع أمم قد خلت من قبلكم؛ و عندئذ كل أمّة تحمّل أوزارها علي الأخري و تقول: ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذابا ضعفا من النار، قال: لكل ضعف من غير فرق و لكن لا تعلمون.

و التقريب في الآية الكريمة أظهر في كون المفتري علي اللّه أظلم بعد ذكر المكذّب بآيات اللّه بقوله تعالي: وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْهٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ، ثم العطف بذكر الآية المبحوث عنها، و لا أفعل تفضيل علي الإطلاق إلا في مصداق، و دلالتها علي أن الافتراء علي اللّه ذنب كبير ظاهر.

الثالثة- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 173

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً أَوْ قٰالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ وَ مَنْ قٰالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لَوْ تَريٰ إِذِ الظّٰالِمُونَ فِي غَمَرٰاتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلٰائِكَةُ بٰاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذٰابَ الْهُونِ بِمٰا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَي اللّٰهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آيٰاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ. (الأنعام [6] الآية 93)

الآية المباركة- كما تراها- في سياق آيات تقصّ حال

المؤمنين بالرسل و طريقتهم، و المكذّبين إياهم الذين ما قدروا اللّه حق قدره و قالوا: ما نزّل اللّه علي بشر من شي ء، فأمر اللّه تعالي نبيه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أن يقول لهم ردّا علي نفيهم لدعوته و كتابه: لو كان الأمر كما تزعمون فمن أنزل الكتاب الذي جاء به موسي نورا و هدي للناس تجعلونه قراطيس تبدونها و هو عندكم كتاب ملموس تسمّونه بكتاب اللّه و تخفون كثيرا مما فيه من الآيات البيّنات التي تظهر الحق لكم في المقام، و تثبت لكم ما دعوتكم إليه، و قد علّمكم اللّه تعالي من هذا الكتاب ما لم تكونوا تعلمون أنتم و لا آباؤكم، أ لم يكن ذلك من عند اللّه تعالي، و هو الذي نزّل الفرقان علي عبده ليكون للعالمين نذيرا.

و لكن مع ذلك كلّه لا يؤمنون بك- يا رسول اللّه- و لا يستمعون الي قولك، فذرهم في خوضهم يلعبون، و هذا القرآن كتاب أنزلناه أليك مبارك و هو من عندنا مصدّق لما بين يديه من التوراة لتنذر به الناس و تبتدئ دعوتك من أم القري الذي هو مسجد التوحيد و مدحي الأرض، ثم تنشر شيئا فشيئا الي حولها منبسطا الي أقطار الأرض حتي يكون الدين كلّه للّه، و لئلا تكون فتنة، فانا أرسلناك كافّة للناس، و طبع دعوتك أن المؤمنين باللّه و اليوم الآخر الذين أدركوا وجود المبدأ و المعاد يؤمنون بها و بكتابك و رسالتك و هم علي خشوعهم و صلاتهم و عبادتهم يحافظون.

فانت نبيّنا و الكتاب كتابنا، و من أظلم ممّن افتري علي اللّه كذبا و قال: ما أنزل اللّه علي بشر من شي ء، ردّا علي كتابك و رسالتك، أو

قال: أوحي إليّ و لم يوح إليه شي ء فادّعي نبوّة بغير حق ردّا علي خاتميّتك، أو قال: سأنزل مثل ما أنزل اللّه في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 174

مقام الإنكار علي نزول القرآن الكريم، فهؤلاء هم الظالمون الذين لا أظلم منهم و لو تراهم في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم (يأمرونهم): اخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون علي اللّه غير الحق و كنتم عن آياته تستكبرون.

فالآية الكريمة بصراحتها تفيد ان الافتراء علي اللّه بالردّ علي آياته، و أنها من عند غيره، أو أن دعوي الرسالة التي من قبله هي بغير الحق، أو ادعاء إنزال الكتاب مثل ما أنزل اللّه كل واحد منه ذنب كبير يوجب عذاب الهون.

و عندنا: تدلّ الآية الكريمة بوضوح علي حرمة ادّعاء كل منصب إلهي بغير حق حتي النيابة و القضاء و الإجازة بالتصرّف في الأمور، فان ذلك كلّه افتراء علي اللّه و ذنب كبير، كما تدلّ علي أن الإفتاء بما لم يعلم المفتي و ليس له حجة كذلك محرّم و ينشأ منه وجوب التجنّب عن إظهار الرأي و الفتوي قبل تمام الحجة الشرعية أو العقلية، و له العمل رجاء أو الاحتياط في الرأي، أو العمل علي ما تراه في كلمات الأصحاب (رضوان اللّه عليهم).

و إنما بسطنا الكلام في المقام مع وضوح ما أفادت الآية الكريمة دفعا لما قد يتوهّم من أن الآية الكريمة واقعة مقام تأكيد نبوّة النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بملاحظة قوله تعالي: هٰذٰا كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ مُبٰارَكٌ، و ان المفتري علي اللّه في دعوي الرسالة و الوحي نزول الكتاب أظلم من كل ظالم، فكيف بالنبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يدّعيه

افتراء عليه تعالي، بل دعواه حق و صدق، فان ذلك الاحتمال و ان كان يسبق الي الذهن بداية، لكنّه مع ملاحظة الآيات السابقة و اللاحقة بهذا الشأن في سياق غير منقطع يرتفع الوهم و يظهر أن الآية الكريمة كما ذكرنا في مقام ردّ المخالفين المنكرين الذين يردّون علي النبيّ الكريم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بنفي رسالته مدّعين أن ذلك أمر عاديّ قائلين: إننا نتمكّن منه أيضا، و أنه يوحي إلينا، و أنه نزل علينا مثل ما نزل عليك، فردّت عليهم الآية الكريمة بقوله تعالي: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ …

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 175

كما ان احتمال تعيين مصداق خاص من الافتراء و ان حرف: «أو» في قوله تعالي: أَوْ قٰالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بمعني: «الواو»، و يكون المراد منه نسبة ايحاء اللّه تعالي إليه و لم يوح إليه.. ان ذلك ضعيف غاية الضعف لا سيما بعد عطف اللاحق بالواو في قوله تعالي: وَ مَنْ قٰالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ.

كما ان ذلك الاحتمال في الآيات الكريمة السابقة أيضا بجعل الذين كذّبوا بآيات اللّه مصداقا للموصول مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ بالتقريب ضعيف لا نعبأ به.

الرابعة- قوله تعالي:

.. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النّٰاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ. (الأنعام [6] الآية 144)

الآية الكريمة بسياقها في ذكر شطر من الحلال و الحرام تعدّ الافتراء علي اللّه في دينه ظلما، و ذلك قائل: هذا حلال و هذا حرام بغير علم بل من قبل نفسه ليضلّ الناس عن طريق المحرّمات، فان ذلك هو الابتداع في الدين سواء كان إثباتا أو نفيا بأن يقول: ليس

هذا من دين اللّه، بل كان من آداب العصور السابقة و تقاليد الناس كما يتوهّمه المبدعون في مثل الحجاب و بعض الحدود مع انها من ضروريات الاسلام، فان ذلك حرام و هو ظلم علي الناس.

و لنوضّح ذلك بشي ء يسير من ان الدين هو القيامة الأصلية؛ و ملاك تديّن الانسان به هو انتسابه الي اللّه تعالي؛ فانه هو الطريق الوحيد الذي يصحّ الاعتماد عليه و الاطمئنان به في مقام التحفّظ علي مصالح الحياة و التجنّب عن مضار الحياة الانسانية المرتبطة بالعالم، المؤثّر فيها الانسان، المتأثر بها، فانه جزء من نتائج العالم بل أشرف محصول للوجود، يرتبط بالعالم الأكبر خيراته و شروره، و لا يمكن العلم بكل صلاحه و فساده بدون العلم بالعالم بأجمعه، و ليس ذلك إلا لفاطر السماوات و الأرض و جاعل الانسان خليفة فيها.

و أما ما يدركه الانسان في الجملة مع تأثّره بشروط حياته الخاصة به و مختلف

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 176

تفكّراته و ان كان يمكنه ان يتجنب شيئا من المفاسد و يدرك شيئا من صلاحه إلا انه ليس علي كمال و قطع و اطمئنان؛ و لا سيما ان الانسان لم يكن يولد و يعيش ثم يموت و يفني فحسب، و انما هو بين ولادة و تكاثر و دوام في العالمين، و علم الانسان مهما ارتفع مستواه فلن يبلغ مستوي الكمال و القطع و الاطمئنان: وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّٰا قَلِيلًا، فكيف يليق به التشريع و يناسبه التقنين أو يمكنه ذلك؟

و من هنا تختلف نظرة الأنبياء و المؤمنين بهم عن نظرة المصلحين من غير المؤمنين باللّه و بهم و باليوم الآخر؛ فان مصالح الانسان بين الميلاد و الموت غير التي بين الميلاد

و الأبدية، و ربّ صلاح له في الأول فساد له في الثاني كما هو ظاهر.

و الحاصل: ان التصرّف في الدين نفيا و إثباتا بلا ضمان إلهي بعد عدم الاطمئنان به هو ظلم عقلا، و خيانة بالانسان و كيانه، و افتراء علي اللّه بالانتساب إليه تعالي، و هو ذنب كبير لا يغفر إلا بعد ارتداعه عن البدع و إرشاده الذين ضلّوا بضلالته- أعاذنا اللّه منه-.

الخامسة- قوله تعالي:

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيٰاتِهِ إِنَّهُ لٰا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ. (يونس [10] الآية 17)

الآية الكريمة في سياق بيان حال الذين لا يرجون لقاء اللّه، و الذين اذا تتلي عليهم آياته قالوا للرسول إنكارا و ردّا عليه: ائت بقرآن غير هذا أو بدّله، و هم الذين يعبدون من دون اللّه ما لا يضرّهم و لا ينفعهم من الأصنام و يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه، و أجابهم الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بأمر اللّه تعالي بقوله: مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقٰاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلّٰا مٰا يُوحيٰ إِلَيَّ … و … قُلْ لَوْ شٰاءَ اللّٰهُ مٰا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لٰا أَدْرٰاكُمْ بِهِ، و اللّه تعالي بعثني نبيّا و أرسلني إليكم بآياته البيّنات، و من أظلم ممن افتري علي اللّه كذبا و قال: تلك أساطير الأولين، أو انها من عند غير اللّه أو كذّب بآياته، و إن لم يغيّر شيئا، فان ذلك كلّه ظلم و جرم و لا يفلح المجرمون.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 177

و من المعلوم ان الإطلاق في التفصيل لا يصحّ إلا في واحد، فالمفتري أظلم من غيره ثم المكذّب و كل منهما مقترف الكبيرة.

السادسة- قوله تعالي:

قٰالُوا اتَّخَذَ اللّٰهُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ هُوَ

الْغَنِيُّ لَهُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ بِهٰذٰا أَ تَقُولُونَ عَلَي اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ* قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَي اللّٰهِ الْكَذِبَ لٰا يُفْلِحُونَ* مَتٰاعٌ فِي الدُّنْيٰا ثُمَّ إِلَيْنٰا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذٰابَ الشَّدِيدَ بِمٰا كٰانُوا يَكْفُرُونَ. (يونس [10] الآيات 68- 70)

تردّ الآية الكريمة علي الذين يقولون في اللّه و في دينه بغير حق من غير علم و لا سلطان و لا دليل من اتخاذه ولدا مع أنه له ما في السماوات و ما في الأرض و من فيهما و هو الغنيّ، و كذلك الذين يفترون عليه الكذب في دينه و شرائعه و تحكم عليهم الآية الكريمة بأن لهم عذابا شديدا بكفرهم بالحق و افترائهم عليه و أنهم لا يفلحون، فتدلّ صراحة علي حرمة الافتراء و ان مقترفه لا فلاح له و له عذاب شديد، و ليس ذلك إلا للكبيرة من الذنب.

السابعة- قوله تعالي:

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً أُولٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَليٰ رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الْأَشْهٰادُ هٰؤُلٰاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَليٰ رَبِّهِمْ أَلٰا لَعْنَةُ اللّٰهِ عَلَي الظّٰالِمِينَ* الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ يَبْغُونَهٰا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ. (هود [11] الآية 18- 19)

الآية الكريمة أيضا في سياق دعوة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و مناظراته مع مخالفيه في الآيات التي فصّلت من لدن حكيم خبير، فانهم كانوا يقولون: لَوْ لٰا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جٰاءَ مَعَهُ مَلَكٌ و أشباه ذلك، فضاق صدر الرسول من ذلك، و قد شرح اللّه تعالي صدره بقوله: مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقيٰ و ما أرسلناك لتكون في حرج من عصيان الناس و كفرهم، و ما عليك إلا البلاغ

فان اللّه يضلّ من يشاء و يهدي إليه من يشاء، و إنما أنت نذير و بشير و اللّه علي كل شي ء وكيل، فقل لهم جوابا عن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 178

افترائهم في آيات اللّه: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيٰاتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ فان لم يستجيبوا و لن يستجيبوا فقل لهم: أَنَّمٰا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّٰهِ وَ أَنْ لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ و الذين لا يؤمنون بك و بالهك بعد ذلك، و يريدون الحياة الدنيا و زينتها فليس لهم في الآخرة إلا النار، و حبط ما صنعوه في الدنيا، و باطل ما كانوا يعملون.

فان من كان علي بيّنة من ربه و يتلوه شاهد منه، فيشهد له تلو شهادة اللّه، و من قبله، يشهد له كتاب موسي، الذي كان إماما و رحمة، لا يكون هو و تابعه في مرية، و يعلم أنه الحق، و من كفر بعد ذلك من الأحزاب فالنار موعده و عندئذ فمن أظلم ممن افتري علي اللّه كذبا و قال: ليس الرسول من اللّه، و ان آياته من عنده، نعم، لا أظلم من هذا المفتري، و هم يعرضون علي ربهم يوم القيامة، و يقول الأشهاد الذين عرفتهم «1»: هؤلاء الذين كذبوا علي ربهم ألا لعنة اللّه علي الظالمين، الذين يصدّون عن سبيل اللّه و يبغونها عوجا و هم بالآخرة هم كافرون.

فالآية بصراحتها تدلّ علي حرمة الافتراء علي اللّه و القول فيه و في شئونه و شرائعه بغير علم و غير حق، و ان المتصرّف في أحكامه كذلك، فهو الذي يصدّ عن سبيله و يبتغي الاعوجاج في طريقه، و هو ظالم له، عليه لعنة اللّه، و

هو كافر بالآخرة، فتدلّ علي كبر الذنب- أعاذنا اللّه منه و من شرّ النفس.

الثامنة- قوله تعالي:

______________________________

(1)- الآية الكريمة التي اقتبسنا منها المفهوم هي: «أَ فَمَنْ كٰانَ عَليٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شٰاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتٰابُ مُوسيٰ إِمٰاماً وَ رَحْمَةً» (هود [11] الآية 17)، مما وردت في شأن أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) بل هي أفضل آية وردت في شأنه (عليه السّلام) كما يشير الي ذلك قبل الرواية، فان الشاهد الذي يصحّ أن يطلق عليه أنه منه أي من الرسول علي الإطلاق و الحقيقة دون التنزيل هو عليّ (عليه السّلام) فانه من أهل بيته و الشاهد الذي يتلوه أي يتلو الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) إن عاد الضمير إليه، أو يتلو القرآن إن عاد الي البيّنة، فهو لا ينطبق إلا عليه (عليه السّلام) فانه من أهل بيته و يتلو الرسول كما تدلّ عليه آية المباهلة و كلمة: «أنفسنا» أو القرآن كما يدلّ عليه حديث الثقلين، و في الاحتجاج: سئل عن أفضل منقبة له؟ فتلا هذه الآية، و قال: أنا الشاهد من رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، كما حكاه الصافي أيضا، و للتفصيل راجع كتاب: (الولاية في القرآن).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 179

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْويً لِلْكٰافِرِينَ. (العنكبوت [29] الآية 68)

الآية الكريمة في مقام البحث عن الحق و إثبات بارئ العالمين و ربّها في كل آن، مع ردّ الذين يؤمنون بالباطل من الشرك و الوثنية، و بنعمة اللّه يكفرون، من الحق و التوحيد و الدعوة إليهما، و الآيات لهما، فمن أظلم ممن افتري

علي اللّه كذبا بانتساب الخلق الي غيره أو تصوير شريك له في نظام الكون، و كذلك من كذّب بالحقّ بعد ما جاءه و عرفه، أ ليس في جهنّم مثوي للكافرين الذين يسترون الحق و يكفرون به، نعم لا مثوي لهم إلا النار.

و من المعلوم أن الكفر في النفس من دون إظهار لا يعدّ ذنبا- فقهيا-، و المظهر في المقام الافتراء أو التكذيب.

التاسعة- قوله تعالي:

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَي اللّٰهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جٰاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْويً لِلْكٰافِرِينَ. (الزمر [39] الآية 32)

الآية المباركة و إن كانت تحكي حال الكفّار و المكذّبين و أنّ مثواهم النار، و تبيّن مقام المؤمنين و المتقين و إنّ جزاءهم ما يشاءون عند ربّهم من جنّات و أنهار و نعيم، و ان الآية الكريمة لم تذكر شيئا عن الافتراء، إلا انها تبيّن ان الكذب علي اللّه تعالي هو افتراء عليه، و تكذيب الصدق هو تكذيب الحق كما مرّ في الآية المباركة السابقة، فان الحق هو تعالي و آياته البيّنات، فتدلّ الآية الكريمة إذن- كسابقتها- علي حرمة الافتراء علي اللّه و القول فيه و في شئونه و دينه بغير علم كما تدلّ علي أنه ذنب كبير.

العاشرة- قوله تعالي:

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ* يَسْمَعُ آيٰاتِ اللّٰهِ تُتْليٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهٰا فَبَشِّرْهُ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ. (الجاثية [45] الآية 7- 8)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 180

تهدّد الآية الكريمة كل منحرف عن الحق و لا سيما الأفّاك الأثيم الذي يسمع آيات اللّه تتلي عليه ثم يستكبر عنها كأن لم يسمعها و يصرّ علي استكباره.. تهدده بالعذاب الأليم. و من المعلوم ان الافتراء علي اللّه تعالي و علي دينه و شرائعه هو من

أجلي مصاديق الافك و الافتراء و الانحراف.

فتدلّ الآية الكريمة علي حرمة ادّعاء كل منصب إلهيّ أو التصرّف في الأمور الشرعية بغير الحق، و في دين اللّه بأيّ وجه كان أيضا، فان ذلك كلّه افتراء علي اللّه تعالي و انحراف عن الحق و إنكار لآيات اللّه و استكبار عنها و صدّ عن سبيله و منع مساجده، و قد قال تعالي: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسٰاجِدَ اللّٰهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعيٰ فِي خَرٰابِهٰا فان تحريف دين اللّه عن وجهه سعي في خراب المسجد و منع عن سبيله و هو سبيل اللّه، و المسجد هو المكان الذي يعبد اللّه تعالي فيه و تقام به شرائعه، حتي يقوم به دين اللّه علي صلبه، لا ما يتظاهر فيه بأمور و أسس في تحكيم أساس الظلمة و حكّام الجور، و الذي أحقّ أن تقام فيه لمسجد أسس علي التقوي «1».

ان الانحراف و الإثم بلا استكبار بل من غلبة النفس لا تشمله الآية الكريمة، و اللّه غفور رحيم.

الحادية عشرة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقُولُوا لِمٰا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هٰذٰا حَلٰالٌ وَ هٰذٰا حَرٰامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَي

______________________________

(1)- و قد كنّا نعيش في برهة من الزمان يتظاهر بها بالاسلام و الدين الحنيف من ناحية الحكّام الظلمة مثل طبع كتاب اللّه العزيز و كتب الزيارات و بعض المقالات و غيرها.. و يقدمون من جهة اخري علي هدم اصول الاسلام و آيات القرآن و منعهم عن نشر الدين بسجن المؤمنين و نفيهم و غيرهما.. نعوذ باللّه من شرّهم و شرّ الزمان و غيره علي الاسلام و القرآن و المسلمين و الحوزات العلمية …

و نحن الآن مشغولون- و الحمد للّه- في استنساخ و تنظيم الدستور الاسلامي

للجمهورية الاسلامية الايرانية بعد نجاحها و انتصارها علي النظام الطاغوتي اللاإسلامي، و لقد أنعم اللّه تعالي عليّ بأن أدرك هذه المهمّة و تعيين المجلس الاسلامي و أعضائه كذلك، و ذلك بإطاعة أمر زعيم الثورة الاسلامية الإمام الخميني (حفظه اللّه و رعاه)، فأنا الآن مشغول بطهران كنائب عن أهالي مدينة قم المقدسة في مجلس الشوري الاسلامي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 181

اللّٰهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَي اللّٰهِ الْكَذِبَ لٰا يُفْلِحُونَ* مَتٰاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ. (النحل [16] الآية 116- 117)

تنهي الآية الشريفة بعد ذكر شطر من حلال اللّه و حرامه عن القول بأن: هذا حلال و هذا حرام- كذبا و افتراء علي اللّه بغير علم- فان الذين يفترون علي اللّه الكذب لا يفلحون، و ما ينالون نيلة أو يتوهّمون بعملهم هذا انه من زخرف الدنيا فهو متاع قليل و لهم في الآخرة عذاب أليم.

فالتصرّف في دين اللّه تعالي و الحكم بأن هذا حلال و هذا حرام من غير حجّة منهيّ عنه و محرّم، ثم انه افتراء، و لا فلاح للمفتري علي اللّه تعالي، فانه خيانة للّه و لرسوله، و قد قال تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَخُونُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ … (الأنفال [8] الآية 28)، و أنه قول بغير علم، و قد قال تعالي: وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَي اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ (الأعراف [7] الآية 33)، و أنه افتراء عليه، و قد قال تعالي: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرٰاماً وَ حَلٰالًا قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللّٰهِ تَفْتَرُونَ (يونس [10] الآية 59).

الثانية عشرة- قوله تعالي:

.. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً. (الكهف [18] الآية 15)

الآية

المباركة تقصّ قصّة أصحاب الكهف و قومهم فتقول: إنهم قاموا و قالوا:

رَبُّنٰا رَبُّ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلٰهاً لَقَدْ قُلْنٰا إِذاً شَطَطاً، هٰؤُلٰاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لٰا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطٰانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً (الآيات من نفس السورة- الكهف-)، فكما ان الطعن في وحدانيّته تعالي بغير سلطان بيّن، افتراء و تسلّط، و القول بإله دونه قول بغير علم، فكذلك الأمر في ما يرتبط بدين اللّه و شريعته، فانه افتراء اذا كان بغير علم.

تنبيه:

إنك تعلم أن الآيات الكريمة التي أشرنا إليها في الباب، كثيرا ما كانت أصرحها

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 182

في المطلوب، و في أكثرها عطف التكذيب علي الافتراء بحيث قد يتوهّم أنه بيان للمصداق، مع ما عرفت من تعددها ماهيّة حسب ضرورة وجود النسبة في الافتراء دون الكذب مع انه خلاف ظاهر العطف ب «أو»، و إطلاق أفعل التفضيل ينطبق علي المفتري أولا ثم علي المكذّب، و يشير الي ما ذكرنا قوله تعالي: … فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ صَدَفَ عَنْهٰا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيٰاتِنٰا سُوءَ الْعَذٰابِ بِمٰا كٰانُوا يَصْدِفُونَ (الأنعام [6] الآية 157)، و لم يذكر عن الافتراء و ما في معناه شي ء.

و الحاصل: إن ما تلوناه عليك من الآيات البيّنات يفيد حرمة الافتراء علي اللّه تعالي و أسمائه و صفاته و دينه و شريعته «1»، كما تدلّ علي أن ذلك ذنب كبير لا يفلح مقترفه.

و أما الافتراء علي غير اللّه تعالي من الناس في ما لم يرجع الي اللّه تعالي و رسوله بوجه من الوجوه فلا تدلّ عليه تلك الآيات، و ان كان محرّما بأدلّة تذكر في محلّها،

فلا يتوهّم أنها تعطي حرمة الافتراء علي الإطلاق و منه الافتراء علي اللّه، فانها- كما تراها- أضافت الافتراء الي اللّه تعالي علي أساس إضلال الناس و الصدّ عن سبيل اللّه و ابتغاء الاعوجاج فيه، فان مفسدة ذلك علي حدّ يستقلّ العقل في الحكم فيه و بيان الحرمة، و تمام الكلام في محلّه.

[الخامس:] تولّي الكفّار
اشارة

الخامس: ثم بعد الافتراء علي اللّه تعالي الذي هو من أكبر الكبائر يأتي تولّي الكفّار و اتخاذهم بطانة، بجعل البعيد الأجنبي و من هو من غير المسلمين- سواء كان من أهل الكتاب أو من غيرهم- قريبا و بطانة «2»، حتي يتمكّن من المعيشة بين

______________________________

(1)- «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّٰهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلًا* أُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ عَذٰاباً مُهِيناً».

(النساء [4] الآية 150- 151)

(2)- تستعار البطانة لمن تخصّه بالاطلاع علي باطن أمرك. (المفردات).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 183

المسلمين علي وجه يطّلع به علي أسرار مجتمعهم و عوامل نجاحهم و هو لا يألوهم خبالا، يودّ عناء المؤمنين و بلاءهم، و يفرح أن تصيبهم سيّئة، و الكفّار قد بدت البغضاء من أفواههم و خلال كلماتهم و ما تخفي صدورهم أكبر، يريدون أن يثقفوا و يدركوا المؤمنين ليبسطوا إليهم أيديهم و ألسنتهم بالسوء ودّوا لو يكفرون.

و من المعلوم ان ذلك أشدّ غارة تشنّ علي المسلمين، فانه تسليط للكفّار علي الاسلام و كيان المسلمين و جعل سبيل لهم عليهم، و طبع ذلك ينادي بالحرمة تحفّظا علي أساس الاسلام، و مراقبة أصوله و عروق الحياة الطيبة للمسلمين.

و في الباب آيات، هي:

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا

تَتَّخِذُوا بِطٰانَةً مِنْ دُونِكُمْ لٰا يَأْلُونَكُمْ خَبٰالًا وَدُّوا مٰا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضٰاءُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ وَ مٰا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنّٰا لَكُمُ الْآيٰاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. (آل عمران [3] الآية 118)

تخاطب الآية الكريمة المؤمنين و تنهاهم عن اتخاذ كل من هو من غيرهم و دونهم بطانة يطّلع علي أسرارهم، و تشير الي سرّ ذلك و الفساد المترتّب عليه، بأنهم لا يألونكم خبالا و ودّوا عناءكم و بلاءكم، و أنتم تعلمون ما بدا من البغضاء من كلماتهم من المؤمنين، و ما تخفي صدورهم أكبر و أكثر، فهم أعداء لا بدّ من التحرّز منهم و دفع شرّهم. و من المعلوم أن دلالة النهي مع التعليل علي الحرمة أصرح من النهي لوحده.

الثانية- قوله تعالي:

بَشِّرِ الْمُنٰافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً* الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّٰهِ جَمِيعاً.

(النساء [4] الآية 138- 139)

تنذر الآية المباركة المنافقين الذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 184

بأن لهم عذابا أليما من النار، و توبّخهم بما يبتغون من أوليائهم من: ثروة و شهرة و سلطة و عزّة، من ان العزّة للّه و لرسوله و للمؤمنين، و أنّ بيد اللّه تعالي كل ذلك، فانه مالك الملك، يعطي الملك من يشاء و ينزع الملك ممّن يشاء، و يعزّ من يشاء، و يذلّ من يشاء بيده الخير و هو علي كل شي ء قدير.

و المؤمن باللّه و باليوم الآخر- بما انه مؤمن- لا يوالي الكافر المنكر للّه و اليوم الآخر بوجه من الوجوه، فانه في خطأ و غلط، و كيف يبتغي المؤمن العزّة من الكافرين و هم الذين يستهزءون بآيات اللّه اذا سمعوها، و لذلك نهي

اللّه تعالي المؤمنين عن مجالستهم، فأمرهم ان لا يقعدوا معهم و لا يؤانسوهم حتي يخوضوا في حديث غيره، فان المجالسة مؤثّرة، و أنتم بمجالستكم هذه و مخالطتكم لهم تكونون معهم و منهم و مثلهم، و اللّٰهَ جٰامِعُ الْمُنٰافِقِينَ وَ الْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً.

نعم، لا بأس بمخالطتهم في غير شئون الدين و بلا تولّ لهم إرشادا في الدين أو استخداما في الدنيا- كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه-.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّٰهِ عَلَيْكُمْ سُلْطٰاناً مُبِيناً* إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّٰارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. (النساء [4] الآية 144- 145)

الآية الكريمة تخاطب المؤمنين و تنهاهم عن اتخاذ الكفّار أولياء من دون المؤمنين، مشيرة الي أن ذلك نفاق منهم و ذنب كبير لا عذر فيه، و للّه عليهم فيه الحجة و السلطان، فيؤاخذهم اللّه به، و لا حجة لهم في ذلك يوم القيامة. فالذين يتخذونهم أولياء نفاقا و خدعة، في الدرك الأسفل من النار، فان ذلك خيانة للّه و رسوله و المؤمنين، و مكر و خديعة علي الاسلام و المسلمين، و اللّه تعالي هو خادعهم و هو خير الماكرين، و لن تجد لهم نصيرا، إلّا الذين تابوا و أصلحوا و اعتصموا باللّه و أخلصوا للّه دينهم (أي تركوا المشركين و الكفّار) فأولئك مع

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 185

المؤمنين و سوف يؤت اللّه المؤمنين أجرا عظيما.

فلا كلام في دلالة الآية الكريمة علي أن تولّي الكفّار ذنب كبير، كما لا كلام في دلالتها علي قبول توبة المنافقين بعد اعتصامهم باللّه تعالي و إخلاصهم له، كما سيأتي بحثه إن شاء اللّه في بحث التوبة في

نهاية الكتاب.

الرابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا آبٰاءَكُمْ وَ إِخْوٰانَكُمْ أَوْلِيٰاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَي الْإِيمٰانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ. (التوبة [9] الآية 23)

الآية المباركة في سياق آيات الجهاد و بيان فضله و فضل المجاهدين بأموالهم و أنفسهم بأنّ لهم درجة عند اللّه و أولئك هو الفائزون، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوٰانٍ وَ جَنّٰاتٍ لَهُمْ فِيهٰا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً إِنَّ اللّٰهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ، و الآية في مقام تشنيع الفاسقين أيضا، و تحديد الذين يتظاهرون بالايمان بأنهم ما آمنت قلوبهم طرفة عين و هم مع الكفّار و علي أهوائهم من الدنيا و حطامها، فتخاطبهم الآية الكريمة قائلة: إِنْ كٰانَ آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ وَ إِخْوٰانُكُمْ وَ أَزْوٰاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوٰالٌ اقْتَرَفْتُمُوهٰا وَ تِجٰارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسٰادَهٰا وَ مَسٰاكِنُ تَرْضَوْنَهٰا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهٰادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّٰي يَأْتِيَ اللّٰهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ. (التوبة [9] الآية 24)

ثم تنهاهم عن اتخاذ الوليّ ممن أحبّ الكفر علي الايمان و لو كان أقرب الأقرباء كآبائهم و إخوانهم، و تحكم علي من فعل ذلك بأنه من الظالمين.

و كأن الآيات الكريمة تقول ان الايمان ليس ايمانا حقا ما لم يبلغ الحدّ الأوفي عند المؤمن بأن يكون حاكما علي كل علاقاته العائلية و القومية و حتي الاجتماعية و الاقتصادية، و إنما هو درجة و تظاهر بكمال، و اللّه لا يهدي القوم الفاسقين.

و من المعلوم ان تولّي الكفّار علي أساس الحب بإحدي الأمور المذكورة يورث سلطة الكفّار و المنافقين علي الاسلام و المسلمين بعد اطلاعهم علي الأسرار

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 186

و الرموز التي هي في عروق حياتهم

الفردية و الاجتماعية، و ما يورث من ذلك لا يساعد بقاء الايمان باللّه و اليوم الآخر أبدا.

كما ان من المعلوم أن النهي معللا يوجب دوران الحكم مدار العلّة لانشقاق الكفر عن الايمان و هو ظاهر، و العدوّ عدوّ كيف ما كان.

الخامسة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ ثُمَّ لٰا تُنْصَرُونَ. (هود [11] الآية 113)

الآية المباركة بعد الأمر بالاستقامة في الدين و تحمّل المشاكل تنهي عن الركون الي الذين ظلموا معللة بأن ذلك يوجب النار، و يوجب أن يكون الراكن إليهم منهم، و من أظلم ممن كفر بآيات اللّه و كذّب بها؟! و لا وليّ للمؤمن إلا اللّه تعالي، فهو وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الي النور و ما لكم من دون اللّه أولياء، و تولية الكافر و تمكينه من التصرّف في امور المسلمين من أشنع مصاديق الركون، و المفسدة الأصلية فيه أكثر كما هو ظاهر، فتدلّ الآية الكريمة علي حرمة تولّي الكفّار بوجه أصرح.

السادسة- قوله تعالي:

لٰا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوٰادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كٰانُوا آبٰاءَهُمْ أَوْ أَبْنٰاءَهُمْ أَوْ إِخْوٰانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمٰانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولٰئِكَ حِزْبُ اللّٰهِ أَلٰا إِنَّ حِزْبَ اللّٰهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

(المجادلة [58] الآية 22)

تخبر الآية الكريمة عن ديدن المؤمنين باللّه و باليوم الآخر و طبيعتهم، و تصفهم بأن لا تجد أحدا منهم يوادّ من حادّ اللّه و رسوله و لو كان أقرب أقربائه من أب أو ابن أو عشيرة، فان الايمان باللّه

تعالي و اليوم الآخر و حبّ اللّه تعالي لا يجتمع معه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 187

حبّ من يخالفه و يعانده، و المؤمن اذا كمل ايمانه الي حدّ فهو لا يوادّ به من حادّ اللّه و رسوله بل انه يعانده و لو كان أباه، لأنّ الايمان قد ترسّخ في قلبه، و اطمأن بحبّ الرحمن، عند ذلك يكون مؤيّدا بروح قدسيّة مباركة و سيدخل الجنّات مرضيّا عنه و هو راض، و أولئك هم المفلحون.

و عندنا: إن هذا التعبير أصرح و أبلغ في بيان حرمة تولّي الكفّار، فان حقيقة المعني: إن المؤمن حقّا لا بدّ و أن يكون كذلك، و كلّما بعد عن الايمان بالنسبة، و اذا كان الودّ مع الذين يحادّون اللّه لا يتفق مع الايمان و لا ينسجم معه، فكيف الولاء لهم الذي هو من أعلي مراتب الود. و أما الذين لم يحادّوا اللّه و رسوله من غير المؤمنين فمودتهم- و هي دون حدّ الولاء- لا بأس بها علي أن تكون وفق اصول إسلامية عامة و إنسانية عقلائية، و أما أن يكون علي حدّ الولاء فلا يجوز أيضا لتحقّق المحادّة منهم للّه- في الجملة- فانّ من لم يؤمن باللّه سبحانه فقد حادّه بطبعه، و الكفر ملّة واحدة، و العدوّ عدوّ يتحرّز منه كائنا من كان.

السابعة- قوله تعالي: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِمٰا جٰاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيّٰاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهٰاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمٰا أَخْفَيْتُمْ وَ مٰا أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوٰاءَ

السَّبِيلِ* إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدٰاءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ. (الممتحنة [60] الآية 1- 2)

الآيات المباركة تخاطب المؤمنين و تنهاهم صريحا عن تولّي أعداء اللّه تعالي و أعداء المؤمنين، الذين هم كفّار بما جاء به النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من الحق، و الكفّار طبعهم إظهار الولاء حتي يطّلعوا علي أسرار المؤمنين فيتمكّنوا منهم، فيثقفوهم و يبسطوا إليهم أيديهم و ألسنتهم بالسوء في سبيل السلطة و الاستعلاء، فيبلّغون

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 189

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمٰا يَئِسَ الْكُفّٰارُ مِنْ أَصْحٰابِ الْقُبُورِ. (الممتحنة [60] الآية 13)

الآية الكريمة تنهي صريحا عن تولّي المغضوب عليهم الذين يئسوا من الآخرة يأس الكفّار من أهل القبور، فان الذين لا يؤمنون بالآخرة و لا يظنون أنهم مبعوثون، لا يبالون بما يقولون و لا يعتنون بما يفعلون في سبيل مبتغياتهم الشيطانية و النفسانية، و بهذا يخرجون عن الصراط المستقيم، و قد غضب اللّه عليهم.

فاذا اتخذوا أولياء، يسعون في الأرض فسادا، و يبتغون للدين زوالا، سواء كانوا من المشركين أو من المنافقين.

و كل ما مضي فهي آيات تنهي عن تولّي غير المؤمن بمعناه الخاص، كائنا من كان، من أهل الكتاب و غيرهم، و هناك آيات تنهي عن تولّي خصوص أهل الكتاب و اتخاذهم أولياء و بطانة، من باب ذكر الخاص بعد العام، علي ملاك التأكيد، و دفعا لتوهّم كفاية الاشتراك في بعض الأصول كالمبدإ و المعاد لجواز التولّي بتقريب أنهم حيث يعتقدون باللّه تعالي و اليوم الآخر فهم منّا و ليسوا من غيرنا حتي يحرم تولّيهم، و قد قال تعالي فيهم: يٰا

أَهْلَ الْكِتٰابِ تَعٰالَوْا إِليٰ كَلِمَةٍ سَوٰاءٍ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمْ أَلّٰا نَعْبُدَ إِلَّا اللّٰهَ. (آل عمران [3] الآية 64)

فانهم و ان كانوا كذلك إلا أنه وَدَّتْ طٰائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ (آل عمران [3] الآية 69)، و لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّٰاسِ عَدٰاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ (المائدة [5] الآية 82)، و الأساس هو لزوم التحرّز عن إضرار العدوّ.

و في الباب آيات، هي:

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصٰاريٰ أَوْلِيٰاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ* فَتَرَي الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسٰارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشيٰ أَنْ تُصِيبَنٰا دٰائِرَةٌ فَعَسَي اللّٰهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 190

عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَليٰ مٰا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نٰادِمِينَ. (المائدة [5] الآية 51- 52)

الآيات المباركة تنهي المؤمنين عن اتخاذ اليهود و النصاري أولياء، ثم تبيّن شدّة الحرمة الي حدّ تحكم علي من يتولّاهم بأنه منهم، و يخرج بذلك عن صفّ المسلمين، و يصبح في مجتمع أهل الخلاف. و من فعل ذلك فقد ظلم نفسه، و اللّه لا يهدي القوم الظالمين. فان الذين في قلوبهم مرض الوحشة و الاضطراب و لم تطمئن قلوبهم لذكر اللّه تعالي و عناياته، يسارعون فيهم و يتولّونهم خشية أن تصيبهم دائرة توهّما منهم أن أهل الكتاب يتمكّنون من دفع البلاء عنهم و دفع الدائرة أيضا، فيتركون الجهاد في سبيل اللّه، و عسي اللّه أن يأتي بالفتح بأيدي المؤمنين المجاهدين، أو بأمر من عنده فيصبح الذين تركوا الجهاد علي ما أسرّوا في أنفسهم نادمين، و لكن لا ينفعهم الندم بعد ما فعلوه و أسرّوه في أنفسهم نفاقا فأصبحوا خاسرين، و سوف يأتي اللّه

بقوم يحبهم و يحبونه يجاهدون في سبيله و لا يخافون لومة لائم و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و اللّه واسع عليم، و النهي بهذا اللسان مع التعليل يفيد الحرمة المؤكّدة- كما تري-.

الثانية- قوله تعالي:

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّٰاسِ عَدٰاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قٰالُوا إِنّٰا نَصٰاريٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبٰاناً وَ أَنَّهُمْ لٰا يَسْتَكْبِرُونَ. (المائدة [5] الآية 82)

و لقد أخبر اللّه تعالي رسوله بأمر واقع بين الذين لم يؤمنوا به من الأقوام، و بين المؤمنين، ليكون علي بصيرة في مكافحتهم، حيث انك لتجد أشدّ الناس عداوة و أكثرهم خصومة للمؤمنين اليهود و المشركين، و الكفر و إن كان ملّة واحدة لكن الذين قالوا: إنّا نصاري، بما أن منهم قسّيسين و منهم رهبانا لتجدنّهم أقرب مودّة للمؤمنين و ذلك لا بمعني جواز تولّيهم و اتخاذهم بطانة، بل هم أقرب مودّة قبال شدّة عداوة اليهود و الكفّار و المشركين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 191

و يشهد لذلك ما فعله اليهود فانهم قد ضلّوا من قبل و أضلّوا عن سواء السبيل و لعنوا علي لسان داود و عيسي بن مريم (عليهما السّلام) ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون، و كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، و تري كثيرا منهم (يا رسول اللّه) حتي في عصرك- يتولّون الذين كفروا و يراودونهم فيجعلونهم بطانة أمورهم في مخالفتهم إيّاك، و لو كانوا يؤمنون باللّه و النبيّ و ما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء، و لكن كثيرا منهم فاسقون، فاليهود بما أنهم كانوا كذلك من قبل و يكونون كذلك من بعد أيضا، فبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط اللّه عليهم و

هم في العذاب خالدون.

فاليهود إذا كانوا شديدي العداوة للمؤمنين، و قد قال تعالي: لٰا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ، فلا يجوز تولّيهم علي ملاك ما، و أما النصاري و ان لم يكونوا مثل اليهود و لكنّهم لم و لن يكونوا علي حدّ يتّخذهم المؤمنون أولياء، فانهم أيضا من دون المؤمنين، و قال تعالي: لٰا تَتَّخِذُوا بِطٰانَةً مِنْ دُونِكُمْ فان غير المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كما ان المؤمنين بعضهم أولياء بعض، و لا ولاية علي المؤمن من غيره.

حرمة تولّي أهل الكتاب

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفّٰارَ أَوْلِيٰاءَ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

(المائدة [5] الآية 57)

لقد خاطب اللّه المؤمنين و نهاهم عن تولّي الذين يستهزءون بالمؤمنين و يتخذونهم دينهم لعبا و هزوا، الذين هم أهل الكتاب و الكفّار، نهاهم عن اتخاذ الذين اذا نودي الي الصلاة- التي هي عمود الدين و ركنه الوثيق- يتخذونها هزوا و لعبا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 192

أولياء، فانهم قوم لا يعقلون «1».

ثم إن الآيات الكريمة تذكر كثيرا من مساوئ أهل الكتاب من مسارعتهم في الإثم و العدوان و أكلهم السحت و قولهم: يَدُ اللّٰهِ مَغْلُولَةٌ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا و قد جعل اللّه منهم القردة و الخنازير، و أولئك هم شرّ مكانا و أضلّ سبيلا.

و الذين هذه شيمتهم كيف يتّخذون أولياء؟ فيطّلعون علي الأسرار و يعملون في المسلمين بفسقهم ليطفئوا نور اللّه بعملهم هذا و يحكموا علي شرائع اللّه بأهوائهم، و اللّه أعلم بما يعملون.

و من المعلوم أن النهي في مثل السياق و بيان خصوصيات أهل الكتاب و صفاتهم أصرح في الحرمة و لزوم التحرّز

و الاجتناب عنهم كما هو ظاهر.

و ما تلوناه من الآيات البيّنات الي هنا كانت تدلّ علي حرمة تولّي الكفّار و أهل الكتاب و المشركين الذين هم غير المؤمنين بحيث يتمكّنون من الحياة و المعيشة بين المسلمين مختلطين معهم كاختلاط أنفسهم بعضهم مع بعض- علي تفصيل وضّح من قبل- مما يخلفه فساد مترتّب، و مكر علي المسلمين و مؤامرة عليهم، و ينتهي ذلك الي الذلّ و الخسران في الدنيا و عذاب النار في الآخرة.

و محصّل ذلك كلّه ينتهي الي توصية المؤمنين باللّه و رسوله، و لا سيما الذين بيدهم مجاري الأمور و العلماء و الحكّام بحفظ الاستقلال و الاستقرار و الشخصيّة الاسلامية، فانهم هم المسئولون أولا عن شئون الاسلام و المسلمين، و عن تركهم الاعتراض علي الحكّام الفجرة و عن سكوتهم قبال أعمال الجبابرة، و عليهم مراقبة ثغور الاسلام و بلاد المسلمين لئلا ينفذ العدوّ الخادع المتظاهر بالخير و الصلاح في ثقافتهم و صناعتهم، و بالجملة في كليّاتهم و في معاهدهم و بيوتهم و مزارعهم و حتي في المؤتمرات و المنظّمات الاسلامية العائدة لهم.

______________________________

(1)- و لقد مضي شي ء من الكلام فيه في كتاب الصلاة عن الكلام في النداء الي الصلاة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 194

الماكرة بتسليط أهل الكتاب الذين قالوا: يَدُ اللّٰهِ مَغْلُولَةٌ، غلّت أيديهم و هم الذين أشدّ الناس عداوة للمسلمين و الذين منهم قسّيسين و رهبان من غربيين و شرقيين صان اللّه تعالي الاسلام و المسلمين و بلادهم من شرور الكفّار و أهل الكتاب.

فصل في موارد جواز توظيف العدوّ و فيه آيات:
اشارة

الأولي- قوله تعالي:

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنٰافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لٰا يُجٰاوِرُونَكَ فِيهٰا إِلّٰا قَلِيلًا* مَلْعُونِينَ أَيْنَمٰا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا.

(الأحزاب [33] الآية 60- 61)

الآية الكريمة- كما تراها- تحكم علي المنافقين الذين لم ينتهوا عمّا نهوا عنه و استمرّوا علي ما كانوا عليه بأنهم يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ و المؤمنين و المؤمنات بمثل القذف و غيره بغير ما اكتسبوا و السعي ضد الاسلام و المسلمين بكل طاقاتهم لما في قلوبهم من مرض، فهم الملعونون المبعدون يجب قتلهم أينما ثقفوا.

و حيث ان معاونة الأعداء يعتبر إيذاء للّه و لرسوله و للمؤمنين، بل هو أشدّ إيذاء من غيره، فلا وجه لاختصاص ذلك بالقذف، فإنّ حدّ القاذف لا يكون قتلا، قال تعالي: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ … فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً مضافا الي ان السياق لا يساعد الانحصار و ان كان إيذاء المؤمن و لو بالقذف يؤذي اللّه تعالي و رسوله أيضا.

نعم هناك قسم من المنافقين لا يجوز قتلهم و لا يحكم بكفرهم و إن كانوا من أصحاب الجحيم أو أن اللّه تعالي قد أوعدهم بالنار، و سيأتي الكلام عنهم، و ان الذي لا يجوز تولّيه و هو بحكم الكفّار غير الذي لم يحكم بكفره، و يجوز استخدامه و الانتفاع من قوّته من غير تولّيه.

الثانية- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 196

و مراودتهم مع الكفّار و تعاونهم علي الإثم و العدوان فخذوهم و اقتلوهم حيث وجدتموهم من غير ملاحظة في كونهم في حلّ أو حرم، و لا تتخذوا حينئذ منهم وليّا و لا نصيرا.

نعم انهم إن استجاروا بقوم كان بينهم و بينكم ميثاق و لجئوا إليهم فانهم بوصولهم إليهم يترك قتالهم، و ذروهم في خوضهم يلعبون، و لا جواز في تولّيهم و اتخاذهم بطانة، فان الاستثناء راجع الي الأمر بالقتل لا النهي عن اتخاذهم وليّا، فانه لا يعقل تولّي

العدوّ اللاجئ الي عدوّ آخر هو في أمن مؤقتا حسب الميثاق مع المؤمنين.

و احتمال رجوعه الي التولّي و التناصر معا حتي يجوز اتخاذهم نصيرا في الكفاح مع سائر الأعداء ضعيف للغاية و ان كان يجوز ذلك بدليل آخر ذكر في محلّه.

و الحاصل: إن المنافقين الذين يراودون الكفّار و يعاونونهم علي الاسلام حكمهم حكم الكفّار، لا يجوز تولّيهم بل يجب مقاتلتهم أيّا كانوا و في أيّ مقام و بأيّ منصب، فلا بدّ من أخذهم و قتالهم حتي يهاجروا في سبيل اللّه.

و حيث ان هذا الحكم لا يكون في حق كل منافق، لذا لا بدّ أن نذكر في المقام ملاك الكفر و الاسلام، و نبيّن أقسام النفاق و حكمها و إن كان يأتي أصل الحكم في الآيات الأخري أيضا، فنقول ملخّصا:

لا إشكال في أن الأساس في الاسلام هو الايمان بالمبدإ و المعاد، أي الايمان باللّه و باليوم الآخر، و بأصل الرسالة التي هي الوساطة بين الخالق و المخلوق، أي النبوّة و أن محمدا (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) خاتم النبيين «1»، فكل من آمن و اعترف بهذه الأصول الثلاثة فهو مسلم يمتاز عن الكافر و المشرك النجس، قال تعالي: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، و لا يجوز قتل المسلم، قال تعالي: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ..

______________________________

(1)- قال تعالي: «مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اللّٰهِ وَ خٰاتَمَ النَّبِيِّينَ». (الأحزاب [23] الآية 40)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 197

، و لا بأس بتولّيه و معاشرته و مودته، فان المؤمنين بعضهم أولياء بعض، و له ما لكل مسلم من الأحكام الشاملة للمسلمين في حياتهم و معاشهم في المعاملات و الحدود و الديات دون الفلاح

و النجاح و ثواب الأعمال المتوقّف علي العمل الصالح و الخشوع في الصلاة و غيرها مما ذكر في الآيات الكريمة من سورة «المؤمنون» و غيرها.

و من المعلوم ان المراد من الايمان معناه الأعم الشامل للاسلام و هو ما يقابل الكفر، دون الخاص المبتني علي أصلين آخرين، هما العدالة و الولاية زائدا علي الأصول الثلاثة علي التفصيل المذكور في المفصّلات «1» و لا كلام فيما ذكر.

انما الكلام في كيفية تحقق الايمان بتلك الأصول الثلاثة في الاسلام أو الخمسة فيه، و في الايمان بمعناه الأخص و أنه هل يكفي في تحققه الإقرار باللسان أو أنه يتوقّف علي الاطمئنان بالجنان و القلب أو علي العمل بالأركان، أو علي النهاية لا بدّ من ارتباط كل بالآخر حتي يكون الإقرار بل العمل منبثقا من القلب معلولا عن اعتقاده بحيث يكون أمرا واحدا.

و الحق ما علي النهاية، قال علي (عليه السّلام): «الايمان معرفة بالقلب و إقرار باللسان و عمل بالأركان» (نهج البلاغة/ كلمة 227)، و المؤمن من صدّق قوله فعله، فلا كلام في اسلامه و ايمانه و له ما للمسلمين و عليه ما عليهم، و أما اذا لم يقرّ قلبه و اكتفي بالعمل بالجوارح فقط فهو عاص فاسق يعامل حسب فسقه، و أما اذا انفصل عنه الاعتقاد بالقلب و الاطمئنان بأن خالفه و نافق فيه و كان قلبه وراء لسانه، فان كان ذلك التفارق غير معلوم، فهو محكوم بالاسلام و الايمان سواء كان مظنونا أو مشكوكا فكيف اذا كان موهوما، و أما مع العلم بالفرق بين القلب و اللسان و اليقين بكذبه، و إن

______________________________

(1)- و قد كتبنا في سالف الزمان رسالة باللغة الفارسية طبعت مرارا باسم «گمشده شما» و بعدها بفترة

كتبنا رسالة أخري في التوحيد و العدل، باسلوب الحوار و باسم: «خدا و پيغمبر»، و ثالثة كتبناها تحت عنوان:

«بحث حول الولاية» تشتمل علي آيات الباب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 198

إقراره و عمله قد اتخذهما جنّة لكفره و حقنا لدمه و حفظا لعرضه و ماله و أن أعماله لا تكون إلا رئاء للناس يمكر بها المؤمنين، فهذا هو المنافق بعينه الذي قادنا البحث الي الكلام عنه و هذا هو الذي لا بدّ من محاربته و مقاتلته علي حدّ الكفّار كما في بعض الآيات الكريمة «1» بل انه حكم بكفره كما في الأخري «2» و نهي عن إطاعته و تولّيه و الانتصار به كما في الثالثة «3»، و إن لم يحكم بكفره عند بيان حاله في مقامات أخري، لا بدّ من الجمع بينها فنقول:

المنافق الذي أمرنا بمقاتلته و جعله رديف الكفّار و حكم بكفره و نهي عن إطاعته و تولّيه و الانتصار به هو الذي يراود الكفّار و أعداء الاسلام و يشاركهم في الحيل و الخدعة علي الاسلام و المسلمين و يعاضدهم بأيّ وجه من الوجوه الماكرة سواء كانت اقتصادية أو صناعية أو بالتجسس و التعرّض لهم، سواء كان في دار الاسلام و بلاد المسلمين بأن يعاشرهم في كل مرحلة و مقام، أو في بلاد الكفر و دار الحرب.

و أما المنافق الذي أوعده اللّه تعالي بالنار و عذاب الجحيم من دون أن يحكم بكفره و مقاتلته فهو الذي لا يراود الأعداء و لا يعاونهم في مخالفتهم للاسلام و المسلمين؛ و حيث انه لا يعتقد بأصول الاسلام و لم يطمئن بها قلبه بل اتخذ الايمان و الإقرار جنّة لعرضه و ماله و دمه، و في لقائه مع المؤمنين

يقول و يعترف بايمانه تظاهرا و رئاء للناس، فهو لم يحكم بكفره لعلّه يتدرّج الي درك الحق لكونه في جوّ إسلاميّ جاذب و هو العامل المؤثّر بهذا الصدد من وجود المسجد و السوق

______________________________

(1)- قال تعالي: «يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ جٰاهِدِ الْكُفّٰارَ وَ الْمُنٰافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ …» (البراءة [9] الآية 73)، و الآية المبحوث عنها هي في (المائدة [5] الآية 57) و غيرهما.

(2)- قال تعالي: «أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ مٰا هُمْ مِنْكُمْ» (المجادلة [58] الآية 14)، و الآية المبحوث عنها هي في سورة (النساء [4] الآيات 88- 91) و غيرهما.

(3)- قال تعالي: «يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّٰهَ وَ لٰا تُطِعِ الْكٰافِرِينَ وَ الْمُنٰافِقِينَ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً».

(الأحزاب [33] الآية 1).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 199

الاسلامي فان ذلك من أجلي خواص بلاد المسلمين و قد أشير الي ذلك بقوله تعالي:

لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فان اهتدوا و تابوا و أصلحوا فلهم أجرهم عند ربّهم و إن ماتوا علي نفاقهم فلهم عذاب أليم في الآخرة.

و الدليل علي هذا الجمع- بعد ما عرفت الآيات الدالة علي كفرهم و وجوب مقاتلتهم- يظهر من التأمل في الآيات الدالة علي إسلامهم في الظاهر نذكر بعضها و نشير الي الأخري:

المنافق الذي لم يحكم بكفره

الأولي- قوله تعالي:

وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ- الي قوله تعالي- إِنَّ اللّٰهَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ. (البقرة [2] الآيات 18- 20)

الآيات الكريمة- كما تراها- تبيّن حال المنافقين بعد ذكر المؤمنين و أوصافهم و الكفّار و حالاتهم بأن المنافقين في قلوبهم مرض يقولون بألسنتهم: آمنّا باللّه و باليوم الآخر و لم تؤمن قلوبهم، و لهذا اذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا

و اذا خلوا الي شياطينهم و أخلّائهم قالوا: إنّا معكم في العقيدة و التفكير، لا مع المؤمنين إنّما نحن مستهزءون.

و في ظنّهم أنهم يخادعون اللّه و المؤمنين مع انهم في الحقيقة لا يخدعون إلّا أنفسهم، فانه من الواضح أنهم في ضلالتهم التي اشتروها بالهدي قد خسروها و ما ربحت تجارتهم فهم في ظلمات لا يبصرون، و مثلهم في هذا كمن استوقد نارا يستضي ء بها و يهتدي الي طريقه فذهب اللّه بنوره و ناره و تركه في ظلمات لا يهتدي الي سبيل.

أولئك الذين قالوا آمنّا بألسنتهم و لم تؤمن قلوبهم، لم يحكم بكفرهم في الظاهر إلا أن يأتوا بما يوجب كفرهم من العمل أو الإنكار لدي المؤمنين و ارتكاب ما يخالف مصالح الاسلام و المسلمين بمعاونة الكفّار و المشركين الأعداء فيلحقون بهم في الحكم لا في الموضوع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 201

العادية، و لهم عذاب أليم و عذاب السعير بكفرهم باطنا، و أما تولّيهم في الأمور فلا بدّ من ملاحظة المصالح العامة للاسلام و المسلمين.

و كذلك يدل علي ما ذكرنا من حكم الايمان علي قسم من المنافقين في الظاهر لضعفهم و هم كفّار باطنا آيات كثيرة واضحة الدلالة «1» و صريحة الشاهد، و سيأتي الكلام فيها عند قوله تعالي: لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ (الممتحنة [60] الآية 8).

و مما يؤيد ذلك بل يدل عليه السيرة القطعية النبويّة و عمل أصحابه و آله الطاهرين من المعصومين (عليهم الصلاة و السلام) فانه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لم يحارب المنافقين في المدينة إلّا عند ما خرجوا علي الاسلام و لو بتعاونهم مع الكفّار في الحرب، و قد حارب المنافقين الذين كانوا مع

المشركين في مكّة لمراودتهم الكفّار و سعيهم ضدّ الاسلام.

و محصّل الكلام: إن الذين يراودون الكفّار و يعاونونهم علي هدم الاسلام و تخريبه من المنافقين فهم كفّار في الحكم لا يجوز تولّيهم، و لا بدّ من محاربتهم كمحاربة الكفّار أيضا علي الشروط المذكورة؛ و من ذلك حرب الامام عليّ (عليه السّلام) مع الناكثين و القاسطين و المارقين.

أما المنافقين الذين اتخذوا أيمانهم جنّة و حقنا لدمائهم و حفظا لأعراضهم

______________________________

(1)- سورة البقرة [2] الآيات 204- 206.

سورة النساء [4] الآيات 1 و 139 و 142- 145.

سورة النور [24] الآيات 47- 50.

سورة محمد صلّي اللّه عليه و آله [47] الآية 61.

سورة المجادلة [58] الآيات 14- 21.

سورة آل عمران [3] الآيات 72- 73.

سورة التوبة [9] الآيات 42- 48 و 61- 68 و 101.

سورة الأحزاب [33] الآية 72.

سورة الحشر [59] الآيات 11- 15.

فانك بنفسك اذا راجعت تلك الآيات الكريمة تراها واضحة الدلالة علي ما ذكرنا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 203

فهم بحكم المؤمنين في الظاهر لهم ما لهم و عليهم ما عليهم، و لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ … (الممتحنة [60] الآيتان 8- 9)، و سيأتي الكلام عنه إن شاء اللّه.

الثانية- قوله تعالي:

لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّٰهُ نَفْسَهُ وَ إِلَي اللّٰهِ الْمَصِيرُ* قُلْ إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّٰهُ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ اللّٰهُ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.

(آل عمران [3] الآيتان 28- 29)

الآية الكريمة تنهي- بلسان الإخبار- عن اتّخاذ الكفّار أولياء من دون المؤمنين، و تؤكّد الأمر بأن المتخلّف عنه ليس من اللّه في شي ء بفعله ذلك، فكأنه يسقط عن نظر المسلمين و مرامهم، فهم الذين ينظرون بنور اللّه تعالي و عينه و يتّبعون رضاه، فمن اتّخذ من الكافرين وليّا فقد خرج عن رضا اللّه تعالي و رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فليس من اللّه في شي ء عند ذلك.

ثم استثني من ذلك بقوله تعالي: إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً و تتحرّزوا منهم عن الإفساد و التخريب فلا بأس بالوداد و التولّي ظاهريا و ذلك مع التحفّظ علي الأسرار، فان اللّه تعالي يحذّركم نفسه فلا بدّ من مراعاة حدوده و الخوف من تعدّيها فلا تعتدوا حدود اللّه بشي ء من الخوف و الجوع فتتبعوا أعداء اللّه و أعداءكم و تلحقوا بهم فتتركوا كيانكم في أيديهم باسم الاتقاء، فان التحرّز عن خطر الأعداء من التحفّظ علي الأساس و الكيان ضرورة عقلية و عقلائية.

فعند ما يتوقّف حفظ كيان الاسلام و الحياة الدينية علي التعارف و التواصل مع الكفّار لقلّة عدد المسلمين و ضعف عدّتهم أو لقوّة سلطان الكفّار و أجهزتهم الحربية و الصناعية فلا بأس به مع التستّر علي الأسرار و السعي في إعداد القوي و تهيئة كل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 204

بآيات اللّه.. بعد هذا تنهي الآية الكريمة عن مجالسة المنافقين و الخوض معهم في أحاديث تنافي الاسلام، ثم تشدّد النهي و تؤكّد بأن من جالسهم فهو منهم و بحكمهم، و اللّٰهَ جٰامِعُ الْمُنٰافِقِينَ وَ الْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً، و من بحكمهم كذلك، فانهم يتربّصون بالمؤمنين، فان كان لهم فتح من اللّه

قالوا: أ لم نكن معكم؟ و نحن شركاؤكم فيما لكم، و أما إن كان للكافرين نصيب من الفتح قالوا: أ لم نستحوذ عليكم و نمنعكم من المؤمنين؟، و اللّه يحكم بينهم يوم القيامة، وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.

نعم لا بأس بمجالسة المنافقين اذا خاضوا في حديث غير حديث الإساءة للدين و آيات اللّه و أسرار المؤمنين، فعندئذ يجوز مواصلتهم و استخدامهم، فلا بدّ من التحفّظ عندئذ علي الأسرار و الأصول الاسلامية مع الانتفاع عن اطّلاعهم و عن كل ما ينتفع منهم في ذلك.

الرابعة- قوله تعالي:

لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَليٰ إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ. (الممتحنة [60] الآيتان 8- 9)

الآيات الكريمة- كما تراها- في سياق النهي الأكيد عن اتّخاذ أعداء اللّه و أعداء المؤمنين أولياء، الأعداء الذين يلقون الي المسلمين بالمودّة و قد كفروا بما جاء به الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) باطنا مع توضيح سرّ ذلك بآيات مشروحة، و التمثيل بقصّة إبراهيم (عليه السّلام) و الذين معه، فانهم قالوا لقومهم: إنّا برآء منكم، و قد مرّ البحث فيها مفصّلا، و دعوا ربهم بدعوات.

فالآية الكريمة توضّح مورد النهي و تشير إليه مشخّصا بأن اللّه تعالي لا ينهاكم عن الأعداء و المنافقين الذين لم يقاتلوكم و لم يكافحوكم في الدين و لم تكن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 206

و السلام) و نوّابهم الخواصّ و عامّة العلماء و الفقهاء العاملين (رضوان اللّه تعالي عليهم)، و غيرهم

غاصبون ظالمون.. تصرّفاتهم غير مشروعة إلا بتنفيذ الفقهاء و إجازتهم أو في ما لا يرضي الشارع بتركه من غير دخل للمباشر من الأمور الحسبية.

ثم علمنا في المقام أن تولّي الكفّار و قبول تصدّيهم للأمور هو من كبائر الذنوب، و كذلك تولّي المشركين و أهل الكتاب و الفسقة و المنافقين من المؤمنين الذين يسعون في الأرض فسادا.

و من المعلوم ان أجلي مصاديق الأخير هو حكّام الجور و أعوان الظلمة، و من ذلك ينبثق في النفس سؤال يصعب جوابه في ظاهر الأمر، و هو ما عمل به بعض أصحابنا الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) مع حكّام الجور و سلاطين الظلم في عصرهم، و عمّال زمانهم الظلمة و أعوانهم من مرافقة و معاشرة بل مدح و مجاملة، و في بعض الأحيان معاونة و مزاملة و هم يتذاكرون عن تحريم معاونتهم و يبحثون في حرمة تقويتهم بأيّ وجه و يروون عن الامام (عليه السّلام) جوابه لأحد الظلمة حيث قال: إنّك بنفسك منهم و الذين يلين ليّة دواتك هو المعاون لهم، و ينقلون الحديث النبويّ أيضا عن رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) حيث قال: «الفقهاء أمناء اللّه ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل:

و ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتّباع السلطان، فاذا فعلوا ذلك فاحذروهم علي دينكم» «1».

و محصّل السؤال هذا: إنّ الأمر إن كان كما ذكروه في كتبهم الفقهية و مصادرها الروائية و عمل به أكثر الأصحاب الأعلام من الانقطاع عن حكّام الجور و عمّالهم بل الردّ عليهم لا بل الكفاح و الجدال حتي مجاهدتهم، فما وجه ما عمل به الآخرون من الأصحاب؟!

و إن كان الحق فيما كانوا يعملون به ذلك البعض، فما تأويل تلك الأحاديث

______________________________

(1)- الكافي/

باب المستأكل بعلمه/ ج 1 ص 46.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 208

ذلك كانوا يردّون عليهم بدعهم و منكراتهم الشنيعة بلا تأييد لهم أو إعانة.

إلا أن الحكّام كانوا سائسين ماكرين مستفيدين من سماحات العلماء و مواقعهم في الأمّة الاسلامية بتظاهرات و حيل فكانوا يمكرون بهم و بالمؤمنين لتقوية قوائم عروشهم الظالمة، و الناس همج رعاع يميلون مع كل ريح، فالأمر يرجع الي اختلاف تطلّع الفقهاء (رضي اللّه عنهم) علي الحوادث الواقعة و المسائل الاجتماعية و السياسية اللازمة الرجوع فيها الي الحاكم و حيث كان أكثرهم قليل الباع في تلك المسائل، كان يخدعهم الساسة الماكرون- عليهم ما عليهم-، و مع ذلك كان الأمر علي وجه اللازم من ناحية بعض الفقهاء في كل زمان علي مرّ التاريخ.

و الحاصل: إنّ الفقهاء العظام هم النوّاب العامّون علي أساس دوران الأمر بين المهم و الأهم، فهم كانوا و لا يزالون يعملون بوظائفهم فيما وكّلوا فيه من تصدّي الحكومة و التصرّف في أمور المسلمين و حفظ الشريعة و نشر الأحكام و إجراء الحدود علي اختلاف شروط الزمان و استنباطاتهم في الأمور و اطلاعاتهم علي الحوادث الواقعة و المسائل المستحدثة من غير تقصير أو إقدام علي خلاف مصالح الاسلام و المسلمين عمدا و علما- نعوذ باللّه من ذلك- إلا أن حكّام الجور و أعداء الاسلام كانوا أدهي و أسيس و لم يتقوا في شي ء، فانتهي الأمر الي ما تري؛ و عن عليّ (عليه السّلام) في ما عمله معاوية من مكر و خداع: «لو لا التقي لكنت أدهي العرب».

و لذلك ثمة فرض علي الفقهاء العظام و النوّاب الكرام- زائدا علي معرفة الحلال و الحرام- معرفة الزمان و شروطه و لوازمه و إمكاناته حتي تسمح

لهم المقدّرات الإلهية بإقامة الأحكام و الحدود الاسلامية و إعلاء كلمة اللّه تعالي في أرضه، كما ورد في روايات الباب- جعلنا اللّه من ناصري شريعة سيّد المرسلين إن شاء اللّه، و خذل اللّه الغاصبين الذين يبتغون في سبيل اللّه عوجا- آمين ربّ العالمين «1».

______________________________

(1)- و الحمد للّه و له الشكر علي ما أنعم علينا من توفيق قائدنا الأعظم الإمام الخميني (أدام اللّه ظلّه) لإقامة-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 209

خاتمة المطاف:

و لا بدّ لنا في ختام مسألة تولّي الكفّار من ذكر قوله تعالي:

مٰا كٰانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كٰانُوا أُولِي قُرْبيٰ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ الْجَحِيمِ* وَ مٰا كٰانَ اسْتِغْفٰارُ إِبْرٰاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلّٰا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّٰهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ لَأَوّٰاهٌ حَلِيمٌ.

(التوبة [9] الآية 113- 114)

فلقد نهي اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و المؤمنين بلسان النفي عن الاستغفار و الدعاء للمشركين بعد ما تبيّن لهم أنهم أصحاب الجحيم أيّا كانوا سواء من أولي قرباهم من الآباء و الأبناء و غيرهم أو من غيرهم، فلا يجوز إذن دعاء الخير لأعداء الدين من الكفّار و المشركين و الفسّاق الذين يسعون في الأرض فسادا و يبتغون في دين اللّه عوجا، فان اللّه تعالي جامع الكفّار و المنافقين في جهنّم جميعا. و أجلي المصاديق لهذا المفهوم هو حكّام الجور و الملوك الظلمة و موظفوهم أيضا، و لعلّه لهذا أفتي الزعيم الأكبر، الأستاذ الأعظم، العلّامة المجاهد، المنافح عن حريم الاسلام، المكافح لأعداء الدين لا سيما الصهاينة الأعداء، آية اللّه العظمي الإمام الحاج السيّد روح اللّه الموسوي الخميني (أدام اللّه ظلّه علي

رءوس المسلمين) أفتي بحرمة التأييد للمنظّمات الحكومية الجائرة بأي وجه من الوجوه و الدعاء لهم و الحضور في المجالس التي تعقد للدعاء لهم، و كذلك عدم جواز الخطابة و الإرشاد الاسلامي اذا تقيّد بالدعاء لهم، فان الضرر الحاصل من تأييدهم و تقويتهم أكثر من نفع الإرشادات الكذائية- كما تعلم-.

و اذا كان الأمر كذلك- كأنه يسأل عن دعاء إبراهيم (عليه السّلام) و استغفاره لأبيه آزر

______________________________

- الحكومة الاسلامية في الجمهورية الاسلامية الايرانية، و الحمد للّه- معاودين و مكررين- علي ما وفّقنا للعيش في زمن هذا القائد اليقظ و المدير المدبّر و في زمن هذه الجمهورية الاسلامية الحيّة- وفّقنا اللّه جميعا لنصرة الحق و الحقيقة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 211

و قد كان مشركا- و أجيب بأنه ما كان إلا عن موعدة وعدها إيّاه و لم يف بذلك حيث تبيّن له أنه عدوّ للّه فتبرأ منه و اعتزل عنه، كما تقصّه الآيات الكريمة في سورة مريم ([19] الآيات 41- 50)، إذ يقول تعالي: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتٰابِ إِبْرٰاهِيمَ … إِذْ قٰالَ لِأَبِيهِ يٰا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مٰا لٰا يَسْمَعُ وَ لٰا يُبْصِرُ وَ لٰا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً* يٰا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جٰاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مٰا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرٰاطاً سَوِيًّا* يٰا أَبَتِ لٰا تَعْبُدِ الشَّيْطٰانَ إِنَّ الشَّيْطٰانَ كٰانَ لِلرَّحْمٰنِ عَصِيًّا* يٰا أَبَتِ إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذٰابٌ مِنَ الرَّحْمٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطٰانِ وَلِيًّا، فأجاب آزر ابراهيم وحده في قوله: قٰالَ أَ رٰاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يٰا إِبْرٰاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا قال إبراهيم (عليه السّلام):

سَلٰامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كٰانَ بِي حَفِيًّا.

فقد وعد إبراهيم (عليه السّلام) آزر أن يستغفر له فيما فعل، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ

يَخْشيٰ، فلمّا تبيّن له أنه عدوّ للّه اعتزله و قومه و ما كانوا يعبدون من دون اللّه و تبرّأ منهم و هجرهم هجرا جميلا. و الآيات الكريمة في المقامين- كما تري- لا تدلّ علي أن ابراهيم (عليه السّلام) دعا لآزر أو أنه استغفر له، بل أنه وعده أن يستغفر له و لم يف له بذلك، و ان كان ظاهر صدر الآية الكريمة في المقام أنه دعا و استغفر له، بل أنه وعده أن يستغفر له كما يستظهر من قوله تعالي: وَ مٰا كٰانَ اسْتِغْفٰارُ إِبْرٰاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلّٰا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ (التوبة [9] الآية 114)، إلا أن آخر الآية و كلمة: مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ، و جملة: فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّٰهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ يوجب الانصراف عن ذلك الظهور، فلا إشكال إذن.

إن قلت: ظاهر خطابات النبي إبراهيم (عليه السّلام) و حكايات القرآن عنه «1» أن آزر

______________________________

(1)- قال تعالي: «وَ اذْكُرْ فِي الْكِتٰابِ إِبْرٰاهِيمَ إِنَّهُ كٰانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* إِذْ قٰالَ لِأَبِيهِ يٰا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مٰا لٰا يَسْمَعُ وَ لٰا يُبْصِرُ وَ لٰا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً* يٰا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جٰاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مٰا لَمْ يَأْتِكَ … يٰا أَبَتِ لٰا تَعْبُدِ الشَّيْطٰانَ … يٰا أَبَتِ إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذٰابٌ مِنَ الرَّحْمٰنِ … قٰالَ أَ رٰاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يٰا إِبْرٰاهِيمُ …» (مريم [19] الآية 41- 50)، و لم يقل: يا بنيّ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 212

[السادس:] قتل النفس المحترمة
اشارة

السادس: من الكبائر الموبقة بعد تولّي الكفّار قتل النفس المحترمة، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

… وَ لٰا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً. (النساء [4] الآية 29)

الآية الكريمة تنهي المؤمنين أن يقتلوا أنفسهم، بأن يقتل بعضهم بعضا أو

يقتل نفسه انتحارا، فلا يجوز ذلك بغير الحق في غيره و نفسه بحال، و المؤمن باللّه تعالي و اليوم الآخر يعلم أن اللّه تعالي بيده ملكوت كل شي ء و له جنود السماوات و الأرض، فهو علي يقين بأن ما يصيبه بعد عدم تقصيره فيما يرتبط باختياره هو خير له و إن كان مكروها، و عسي أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم. و من كان هذا اعتقاده فلن ينقدح في نفسه القتل و عوامله فكيف بارتكابه و عمله.

حرمة الانتحار

فرع:

اذا دار الأمر بين انتحار شخص واحد و قتل نفوس متعددة محترمة مع هتك أعراض و نفوس أو بدونهما فيما اذا ابتلي المكافح بالأسر بأيدي الأعداء و هم يستخبرونه عن الأسرار و الأمور المنظّمة فيندفع الشرّ عن الآخرين بقتل نفسه، فهل يجوز ذلك علي أساس دوران الأمر بين الأهم و المهم و حكم العقلاء، أو لا تمسّكا بإطلاق النهي من غير تقييد؟

فالظاهر الجواز بعد إحراز الموضوع و انصراف الإطلاق عن مثل الموارد، و لا سيما بعد ملاحظة آخر الآية الكريمة: إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً، فان مقتضي الرحمة علي الجمع ذلك، كما ان الأمر كذلك في الاعتصامات و الاضرابات و كثير مما لا بدّ من العمل به في المقاومة و المكافحة السياسية و الاجتماعية ضد الطغاة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 213

و أعداء الدين بالنسبة الي أدلّة حرمة الإضرار بالنفس كما لا يخفي، و المرجع في المقامات بعد الفراغ عن إحراز الموضوع قاعدة الأهم و تقدّمه علي المهم عقلا و شرعا.

قتل الأولاد

الثانية- قوله تعالي:

قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلّٰا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً وَ لٰا تَقْتُلُوا أَوْلٰادَكُمْ مِنْ إِمْلٰاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ وَ لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ لٰا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ إِلّٰا بِالْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. (الأنعام [6] الآية 151)

الآية الكريمة- كما تراها- بصراحتها في صدد تعداد المحرّمات التي يتلوها النبيّ الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فهي تعدّ قتل الأولاد خشية إملاق منها، و اللّه تعالي هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، و هو الذي يرزقكم و أولادكم، وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلّٰا عَلَي اللّٰهِ رِزْقُهٰا وَ

يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهٰا وَ مُسْتَوْدَعَهٰا. و من المعلوم ان الحرمة لا تختص بذلك، و هو الداعي غالبا لمن لا يؤمن باللّه فلا تقييد بذكر الغالب، كما عدّت منها قتل النفس المحترمة بغير حق، فلا إشكال في دلالتها علي حرمة قتل النفس، سواء كان أولاده أو غيرهم أو نفسه بالانتحار أو غيره و ذلك خشية الإملاق أو غيره، فان ذلك كلّه اذا كان بغير الحق فهو ظلم.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْتُلُوا أَوْلٰادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلٰاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّٰاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كٰانَ خِطْأً كَبِيراً … وَ لٰا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ إِلّٰا بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلٰا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً. (الإسراء [17] الآيات 31- 33)

الآيات الكريمة تنهي أيضا عن قتل الأولاد خلال النهي عن المحرّمات

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 214

و القبائح الأخري، و تردّ علي الوهم من خوف الفقر الموجب لذلك أحيانا، بأن اللّه تعالي يرزق العباد و يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر، إنّه كان بعباده خبيرا بصيرا؛ و المؤمن بذلك و بأن اللّه تعالي بيده الخير و هو علي كل شي ء قدير، و أنه الذي بيده الملك و يحيي و يميت و هو القاهر فوق عباده، يعزّ من يشاء و يذلّ من يشاء، لا يتصوّر القتل لذلك فكيف الانبعاث و العمل. ألا تري الي ما عند الغربيين المتّجهين بكلّهم الي المادة و مظاهرها الغافلين عن اللّه تعالي الخالق المتعال؛ من كثرة الانتحار و القتل و إسقاط الجنين، و لا يوجد ذلك بين المؤمنين.

الوأد

الرابعة- قوله تعالي:

وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ. (التكوير [81] الآية 8- 9)

دلالة الآية الكريمة علي حرمة قتل الولد، و هي أصرح من

الآيات السابقة، فان ما يسأل عنه يوم القيامة هو الوأد و أنّه بأيّ دليل، و أيّ ذنب أوجب ذلك. ثم إن السؤال عن كل عمل خلال وقوع مقدّمات الساعة و قبل قيام الساعة، كما هو ظاهر الآيات الكريمة فهو بحث تفسيري خارج عن هذا المجال، و إن كان لا يبعد تقدّم الظاهر و لعلّه لتجسّم الأعمال و تصوّرها عند بروز العلائم الموجبة للاضطراب فيسأل عن نفسه، و الجرائم حينئذ تتقدّم في ذلك، فكلّما كان الذنب أقبح كان أقدم، و لا ينافي ذلك أصل تجسّم الأعمال و تحققها و وقوع السؤال يوم القيامة.

إسقاط الجنين
اشارة

يحرم إسقاط الجنين سواء ولج فيه الروح أو لا، فانه بعد استقرار النطفة «1» في الرحم لا يجوز إسقاطه و إخراجه بحجة تقليل العائلة أو تسهيل العيش و ترفيهه،

______________________________

(1)- أثبت العلم الحديث أنّ الحيا من كائنات حيّة و هي التي تشكّل النطفة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 215

و لصدق قتل الولد، المنهيّ عنه، يشترك في جريمته هذه الطبيب «1» و الأم معا سواء كان بالعمل أو التداوي و عليهما الدية حسب اختلاف المدّة علي ما في كتاب الحدود. نعم لا بأس بالمنع عن ورود النطفة و استقرارها في الرحم بالعزل و غيره، فان قلّة العيال أحد اليسارين، و ان ورد في الحديث الشريف: «إنّي أباهي بكم الأمم و لو بالسقط»، و لا نعلم وجها لتقييد ذلك برضاء الزوجة فان حقّها أصل المباشرة و ان كان الطبيعي منها أجلي الأفراد، و الأكثر أنه مقتضي الاحتياط.

فرع:

اذا دار الأمر بين إسقاط الجنين و موت أمّه علي القطع، لا يبعد الجواز، علي أساس دوران الأمر بين الضررين فيقدّم الأقل، و لا سيما اذا كان الأمر بوجه ينتهي الي موتهما بترك الإسقاط كما هو ظاهر.

قتل المؤمن
اشارة

الخامسة- قوله تعالي:

وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلّٰا خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِليٰ أَهْلِهِ إِلّٰا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كٰانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كٰانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِليٰ أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّٰهِ وَ كٰانَ اللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا وَ غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذٰاباً عَظِيماً. (النساء [4] الآية 92- 93)

صراحة الآية الكريمة تنادي بتنافي الايمان و قتل المؤمن إلا خطأ، فانه لضعف الايمان أو لتغلّب الشيطان اما لو قتل مؤمنا متعمّدا فجزاؤه جهنّم خالدا فيها و ذلك بغضب من اللّه تعالي و عذابه و لعنته، فالآية الكريمة تدلّ علي أن القتل محرّم

______________________________

(1)- و مما أبدعته الحكومة الجائرة البهلوية هو جواز ذلك مطلقا.. خذلهم اللّه و من تبعهم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 216

و ذنب كبير بلا إشكال، و أما حدّ الخطأ منه ففي كتاب الحدود.

السادسة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ إِلّٰا بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلٰا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً. (الإسراء [17] الآية 33)

تدلّ الآية الكريمة علي حرمة قتل النفس المحترمة، و لا فرق في أن يقتل نفسه أو غيره، و تنهي الآية الكريمة

بنهي صريح عن ذلك و عن كونه مؤمنا أو غير مؤمن، فان الذميّ محترمة نفسه كاحترام عرضه و ماله و غيره أيضا، فان كان متعاهدا مع المسلمين و في حال الهدنة فهو أيضا كذلك، و أما غير المحترم أي المهدور دمه فهو علي شروط من أمر الحاكم و من بيده الأمر أو في الحرب من غير حرج و جزاف حتي يجوز قتله لكل أحد بأيّ وجه، إلا أن يكون محكوما بذلك.

و أما من قتل مظلوما بغير حق فلوليّه سلطان و اختيار من القصاص أو الدية، و المظلوم منصور بسنّة اللّه تعالي التي لا تبديل لها.

تنبيه:
اشارة

لا يخفي ان القتل مما استقلّ العقل في الحكم بقبحه الذاتي، و كل من سلمت فطرته يدرك ذلك بعقله و يتنفّر بطبعه منه، و قد أرشد إليه الشارع المقدّس بتحريمه و تحريم الانتحار بقتل النفس و تحريم قتل الولد، و ما هذا شأنه لا يمكن التقرّب به الي اللّه تعالي فان المبعّد بذاته لا يكون مقربا.

و هذا سؤال كان يختلج بالبال في سابق الأحوال و لم ينحل بأصله الي الآن مع المباحثة مرارا عند أهل الفن:

موضوع نذر عبد المطّلب

و هو أنه: ما معني نذر عبد المطّلب في ذبح ولده إن رزق كذا و كذا، فكان عبد اللّه الذي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 217

هو أبّ لرسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و كلّما همّ بالوفاء بنذره منعوه حتي انتهي رأيه و أمره لأن يفديه بالإبل علي رأي الكاهنة علي ما في السير، و أيّدوا ذلك بما روي عن النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بأنه قال: «أنا ابن الذّبيحين» أراد بهما: إسماعيل و عبد اللّه؟

و كلامنا في الناذر و قد كان مسلّما لدين الحق في زمانه مستنا بسنّة إبراهيم (عليه السّلام)، و القبائح العقلية ممنوعة محرّمة في كل شريعة إلهية فكيف أنه نذر و يتقرّب به.

و لا تقاس هذه القصّة بقصّة إبراهيم خليل الرحمن (عليه السّلام) فان الأمر في الأخيرة من قبل اللّه تعالي و هو يكشف عن وجود مصلحة غالبة فلا بدّ من الإطاعة الكاملة حيث هي قضية تعبّدية مع انه انكشف أن الأمر كان صوريا امتحانيّا، فانه لو كان عالما بذلك من أول الأمر لم يكن الانبعاث كاشفا عن إخلاصه و خلّته، كما لا يقاس بما أمر اللّه تعالي به بني

إسرائيل في قوله تعالي: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» عند استتابتهم، فان الأمر أيضا يكشف عن المصلحة الغالبة في خصوص المورد.

و أما ما يقال من أن ذلك أقوي دليل علي كمال العبودية و التسليم و ان تقديم أعزّ الأشياء و أحبّ الأمور لأجل المولي و المعبود دليل علي كمال الاخلاص، فان هذا غير تام أيضا، لأن ذلك يمكن.. حينما يكون الشي ء و الأمر له و باختياره بحيث يتمكّن من التصرّف فيه كيف يشاء، و الانسان لا يملك نفسه فكيف بولده؟ و يحرم عليه التصرّف فيه بالإعدام و الانتحار.

فلم يبق لنا إلا التشكيك في أصل القصّة و ردّ الحديث الي أهله لو تم السند.

______________________________

(1)- قال تعالي: «وَ إِذْ قٰالَ مُوسيٰ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخٰاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِليٰ بٰارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بٰارِئِكُمْ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ». (البقرة [2] الآية 54)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 218

[السابع:] الزنا

السابع: من الكبائر الموبقة بعد القتل: الزنا، و هو موضوعا: وطء المرأة المحرّمة مطلقا، و لعل ذلك مراد صاحب المفردات في تفسيره بوطء المرأة من غير عقد شرعيّ إن كان المراد من العدم ما يشمل عدم الموضوع كما في المحرّمات النسبية، و لا اشكال في حرمته حكما بل أصل الحرمة من ضروريات الدين مع انه مما يمنعه العقلاء بما هم كذلك، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْرَبُوا الزِّنيٰ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَ سٰاءَ سَبِيلًا. (الاسراء [17] الآية 32)

الآية الكريمة تنهي عن الدنوّ و التقرّب من الزنا بتصوّره و تخيّله و سائر مقدّماته المقرّبة إليه، فكيف بالارتكاب و العمل، فانه فاحشة قبيحة، و معصية كبيرة، و سبيل منحرف عن الفطرة و الطبيعة السليمة من تحديد

الغرائز بحدود، و تقييدها بشروط و ظروف، و لا سيما مثل تلك التي عليها بقاء الانسان و طهارته- كما عرفت ذلك تفصيلا في كتاب النكاح-.

و أنت تعلم ان لسان الآية الكريمة- زائدا علي أصل الحرمة- يفيد أنه من الكبائر الكبيرة.

و قد أشرنا الي أنه أمر قبيح يمنعه العقلاء عن كل قوم و ملّة و يعدّونه سفاحا، و هو مردود قبال النكاح المقبول، و لكل قوم نكاح فانه الطريق السويّ الطبيعي لحفظ النسل و صلاحه و ستحفظ الفرد و المجتمع عن كثير من المفاسد، و قد جعل الشرع الاسلامي لمرتكبه المذنب حدّا لا بدّ من إجرائه تشديدا و تحكيما للأمر- كما مرّ في الحدود.

الثانية- قوله تعالي:

الزّٰانِي لٰا يَنْكِحُ إِلّٰا زٰانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزّٰانِيَةُ لٰا يَنْكِحُهٰا إِلّٰا زٰانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ. (النور [24] الآية 3)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 219

تخبر الآية الكريمة بأن الرجل الزاني لا ينكح إلا امرأة زانية أو مشركة، مع انه ينكح غيرهما و يصحّ نكاحه بلا إشكال، و كذلك المرأة الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك مع انها تنكح من قبل غيرهما و يصحّ نكاحها إن كان المراد من النكاح العقد و قرار النكاح و تعاهدهما دون الوطء فانه بعيد لا يناسب المقام، و الخبر هذا يكون بقصد الإنشاء، و قد قال تعالي: وَ لٰا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكٰاتِ حَتّٰي يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لٰا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّٰي يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ … (البقرة [2] الآية 221).

فليس للمؤمن أن ينكح مشركة و لا للمؤمنة أن تتزوج مشركا و لو مع الإعجاب بالحسن الظاهري، و الزاني و

الزانية- بعد ملاحظة الآيتين- ليس لكل منهما أن ينكح الآخر حتي مع الإعجاب. و تنزيل الزاني و الزانية منزلة المشرك أبلغ من التصريح بالحرمة الشديدة، فان الزنا يجعلهما بمنزلة الشرك، و الشرك ظلم عظيم، و الزنا ذنب كبير، فان الفاحشة التي تهوي بمقترفها الي الشرك و تجعله في سلك المشركين و بحكمهم لهي أفحش عصيان و أقبح ذنب، يورث بعد العبد عن المولي الي ذلك الحد «1».

الثالثة- قوله تعالي:

قٰالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلّٰا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجٰاهِلِينَ. (يوسف [12] الآية 33)

القرآن الكريم حينما يقصّ أحسن القصص- الشاملة علي مباحث كثيرة و مسائل مختلفة- فهو يحكي مقالة يوسف الصدّيق (علي نبيّنا و آله و عليه السلام) بعد اعتراف امرأة عزيز مصر بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، و تهديدها إيّاه بقولها:

لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مٰا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصّٰاغِرِينَ بقوله: رَبِّ السِّجْنُ

______________________________

(1)- و قد مرّ البحث عنه إجمالا في كتاب النكاح.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 220

الذي توعّدوني به أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من الانحراف و ارتكاب ما لا ينبغي.

و من المعلوم أن تفضيله السجن كان لشدّة حرمة ما كانت امرأة العزيز تدعوه إليه شرعا، مع مناسبة الشروط التي كانت فيها طبعا. لقد كان الصدّيق علي حدّ من الطهارة و العبودية لم يكن التهديد ليؤثر فيه، بل صرّح باختيار العذاب الدنيوي فرارا عن معصية اللّه تعالي و عذاب الآخرة، كما هو ظاهر.

فالقصّة تدلّ علي الحرمة الشديدة لديه، و انه كان متشرّعا بملّة إبراهيم الحنيف المسلم «1»، و ان كان الأمر كما قلنا من الحرمة العقلائية بل هي عقلية أرشد إليها الشارع المقدس، فالأمر واضح مع انه

الآية الكريمة ترشد الي أمر آخر أزيد من الحرمة و هو أن الإرهاب و التهديد حتي مع العلم بالعمل لا يحلل حراما و لا يحرّم حلالا بل الأمر يدور مدار مسألة الأهم في نظر الشرع المقدّس و عينه الباصرة- كما هو ظاهر-.

[الثامن:] اللواط

الثامن: بعد الزنا يأتي اللواط الذي هو من الذنوب الشنيعة و الجرائم الفظيعة و المعاصي الكبيرة، و هو مثل الزنا، فهو انحراف عن الطبيعة في أعمال الغريزة الجنسية، و كل انحراف مفسدة. و كلّما ازداد ازدادت المفسدة. و اللفظ مأخوذ من اسم النبي «لوط» الذي كان ينهي بشدّة قومه عن ذلك العمل المنحرف الشنيع المتداول لديهم، و في اللغة هو بمعني اللصوق، و في البحث آية، هي:

قال تعالي:

وَ لُوطاً إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفٰاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ* أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ

______________________________

(1)- «مٰا كٰانَ إِبْرٰاهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لٰا نَصْرٰانِيًّا وَ لٰكِنْ كٰانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مٰا كٰانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

(آل عمران [3] الآية 67)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 221

الرِّجٰالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسٰاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. (النمل [27] الآية 54 و 55)

تحكي الآية الكريمة مقالة النبيّ لوط (علي نبينا و آله و عليه السلام) لقومه في مقام تقبيحهم أعمالهم و الإنكار عليهم بقوله: أَ تَأْتُونَ الْفٰاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ بعدها عن الطهارة و الفضيلة؟ و كيف تأتون الرجال شهوة مع أن الخلقة و الطبيعة يشهدان خلاف ذلك، و اللّه تعالي خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، فأنتم إذن قوم تجهلون.

ثم تحكي الآيات الكريمة- غير التي ذكرت آنفا- جواب قوم لوط (عليه السّلام) بعد حكمهم بإخراج آل لوط من قريتهم اعترافا منهم بأن آل لوط أناس يتطهّرون و هذا اعتراف و إقرار منهم أيضا

علي أنفسهم بأنهم أناس ملوّثون و انهم في رجس و انحراف، و لعل ذلك أمر عقلائي يستقبحه كل قوم و ملّة ابتداء، فهو فحشاء ملموسة و رجس و لوث قد انتهي الي دمار القوم و بلادهم فكانوا من الغابرين حيث قد أمطر عليهم مطر السوء.. مطر المنذرين.

و حكاية القصّة في القرآن الكريم و اختتامها بقوله تعالي: قُلِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ وَ سَلٰامٌ عَليٰ عِبٰادِهِ الَّذِينَ اصْطَفيٰ آللّٰهُ خَيْرٌ أَمّٰا يُشْرِكُونَ تعطي الحرمة في الاسلام أيضا مع ما في السنّة المباركة من تشديد العذاب.

و حدّ المقترف كما في الحدود، و ما يترتّب عليه من الأحكام من حرمة أمّ المفعول و أخته و بنته علي الفاعل تنزيلا منزلة الزوجة المحرّمة أمّها و أختها و بنتها علي الزوج كما في كتاب النكاح و المحرّمات السببية، فالتفصيل في السنّة المباركة في مقامه.

[التاسع و العاشر:] الخمر و الميسر

التاسع و العاشر: شرب الخمر و عمل الميسر، فهما من الكبائر المهلكة للفرد و للمجتمع، و في البحث آيات:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 222

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ عَنِ الصَّلٰاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. (المائدة [5] الآية 90- 91)

الآية الكريمة- كما تري- تخاطب المؤمنين و تشرح لهم حقيقة خارجية و واقعية طبيعية من أن الخمر فيه كل التقلّبات و كل الخيانات، و كذلك في صنعه و حفظه و بيعه و شرائه و شربه و كل ما يتعلّق به، و كذلك الميسر و آلاته، و الأنصاب و الأزلام أيضا، فكل هذا رجس، و هو من

عمل الشيطان حقيقة لا جعلا و تنزيلا، و لذلك تأمر الآية الكريمة بالاجتناب عنها من أجل الوصول الي الفلاح، فانه لا يمكن الفلاح من دون الاجتناب عن ذلك كلّه.

ثم تشير الآية الكريمة الي حكمة الأمر من ان الشيطان يريد أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء فيأمركم بشرب الخمر و ارتكاب الميسر و نوع منه الأزلام و كذلك الأنصاب فانه شرك باللّه تعالي. و الانسان السكران المضطرب يميل الي الغلبة في الميسر و ينتهي الأمر الي التعادي و التباغض و التضارب، فيبتعد عن اللّه تعالي و ذكره و عن الصلاة و عن كل عمل صالح، فينحرف بذلك عن سبيل اللّه، فهو متّجه الي سبيل الشيطان و طريقه، و ذلك هو الخسران المبين.

و كيف ما كان، فلا إشكال في دلالة الآية الكريمة علي حرمة الخمر و الميسر، و من المعلوم أن عمل الشرب و الاشتغال بعمل الميسر محرّم قبل سائر الأمور المربوطة بهما، و لحن الآية و شدّة الحرمة يفيدان أنهما من الكبائر- كما لا يخفي.

الثانية- قوله تعالي:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا … (البقرة [2] الآية 219)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 223

فقد أمر اللّه تعالي رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)- بهذه الآية الكريمة- بأن يجيب عن السؤال حول حكم الخمر و الميسر بأن فيهما اثما كبيرا و منافع للناس إلا أنّ إثمهما أكبر من نفعهما. و من المعلوم حرمة ما يكون فساده أكثر و أكبر من صلاحه، إلا أن يستعمل في جهة الصلاح. و توصيف الإثم بالكبير و ظهور المسئول عنه في شرب الخمر و عمل الميسر تصريح بأنهما من الكبائر و

إن لم يكن كل التقلّبات فيهما كذلك.

و نفع الخمر في التداوي من غير الشرب و في الصنائع المتداولة في قسم منه شديد الإسكار الي حدّ السم القاتل، و كذا نفع الميسر في اشتغال الفكر و تقويته تمرينا أقلّ قليل قبال المفاسد الكثيرة الحاصلة عن شرب الخمر و عمل الميسر في الفرد و المجتمع، كما صرّح بها قوله تعالي قبل هذا.

و من المعلوم أيضا أن ما ذكر في الخمر لا يكون إلّا لإسكاره، فالحكم يسري الي كل مسكر مائعا كان أو غيره استعمل بأيّة طريقة كانت كما في المسحوقات المتنوّعة في زماننا هذا، فان ذلك كلّه حرام شربه و تدخينه و استعماله.

و أما ما توهّم من أن إطلاق الرجس علي الخمر و الأمر بالاجتناب عنه مطلقا لا يفيد إلّا أنه نجس مجتنب، ففيه ما لا يخفي بعد توصيفه بأنه من عمل الشيطان، و عطف الميسر و غيره عليه بحيث لا يناسب إلا الحرمة.

الكبائر التي عددناها الي الآن كانت ترتبط بحياة الفرد و تأثيرها في خسرانه و شقائه أكثر مما تؤثّر في المجتمع مع ان كل فرد اذا هوي و فسد، فقد فسد الجمع بكلّه.

[المحرمات التي تفسد المجتمع اكثر من فساد الفرد]
اشارة

ثم نذكر هنا في المقام ذنوبا و كبائر تفسد المجتمع أكثر من فساد الفرد و إن كان الفرد أيضا يتأثّر في مجتمعه و يتلوّن بلونه في الجملة، و الكلام فيها علي منطق القرآن؛ و الذنوب هي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 224

1- التطفيف
اشارة

و هو التقليل في المكيال و الميزان و تنقيص حق الغير عند أدائه في المعاملات و المبادلات، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَي النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَ لٰا يَظُنُّ أُولٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. (المطففين [83] الآيات 1- 5)

الآيات الكريمة تنذر و تحذّر المطففين الَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَي النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ بأن لهم الويل و العذاب. و لسان الآيات الكريمة فيهم أنهم لا يعتقدون بيوم القيامة و البعث و الحساب و الكتاب، و كذلك الجنّة و النار، مع ان ذلك كلّه حق واقع، و الذين يفجرون و يتجاوزون حدود اللّه تعالي و يتصرّفون في حقوق الناس بغير حق مأواهم السجّين و ما أدراك ما سجّين، و المطفف بفجوره هذا كأنه مكذّب بيوم الدين و هو المعتدي الأثيم.

و من المعلوم أن الذنب الذي يعدّ مقترفه كالمكذّب بيوم الدين و يطلق علي مرتكبه الأثيم فهو من الكبائر و هو ذنب عظيم.

الثانية- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰي يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ لٰا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلّٰا وُسْعَهٰا وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبيٰ وَ بِعَهْدِ اللّٰهِ أَوْفُوا ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. (الأنعام [6] الآية 152)

نهي اللّه تعالي في هذه الآية الكريمة عن التقرّب من مال اليتيم،

فكيف التصرّف فيه إلا بالتي هي أحسن الوجوه من تأمين مصالحه المادية و المعنوية الحالية و المستقبلية حتي يبلغ أشدّه و ينتهي الي رشده و معرفة مصالحه و مضارّه بنفسه فليسترد عندئذ أمواله بتمامها من غير نقص.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 225

ثم أمر تعالي بايفاء الكيل و إتمامه، و رعاية القسط في الميزان من غير زيادة و نقصان، و عند القول بشي ء من ذكر الحق، و العدل عند بيان أمر و وصف شي ء، سواء كان حال المعاملة و المعاوضة أو لا، و سواء كان الآخر من ذوي القربي أو لا.

ثم الأمر بالوفاء بعهد اللّه تعالي و التأكيد بأن ما ذكر من الأمر و النهي هو ممّا وصّاكم به اللّه تعالي لعلّكم تذكّرون و تعملون بها فتهتدوا، و تفلحوا.

و من المعلوم أن ذكر تلك الأوامر و النواهي في سياق واحد يفيد حرمة التطفيف، سواء كان في اداء مال اليتيم أو غيره، و سواء كان من الأقرباء أو من غيرهم، و يجب الوفاء بالعهود و العقود في المعاملات و غيرها و إيفاء الكيل مطلقا فيها، أو في اداء مال اليتيم، فان التطفيف و تنقيص حق الغير في الاداء سرقة محرّمة وضعا و تكليفا، فان الحرمة التكليفية المعاقب عليها في الآخرة غير اشتغال الذمّة بمال الغير و حقّه مع ان تحريم التطفيف و التخسير غير ايجاب التتميم و الوزن بالقسط بحسب الاعتبار إثباتا و نفيا، إلا أن مرجعهما واحد لمقام الوضع بعد التكليف مع الغمض عن تبعيّة أحدهما للآخر علي ما في الأصول.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذٰا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطٰاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا. (الإسراء [17] الآية 35)

الآية الكريمة تأمر بايفاء الكيل و إتمامه

و إكماله، كما تأمر بالوزن بالقسطاس المستقيم الذي لا يحيف مال الغير و لا يزيد بل يعدل بالحق من غير زيادة و نقصان، و الأمر صريح في الوجوب.

و من المعلوم أن تكميل الكيل و الوزن بميزان مستقيم لا يكون إلا لأداء مال الغير و حقّه تماما من غير نقيصة و زيادة مع ان اعتبار الوجوب غير الحرمة، و انتزاع حرمة التطفيف و التنقيص في أموال الغير من ذلك الأمر كانتزاع وجوب أداء مال الغير من وجوب الوزن بالقسطاس المستقيم. و كيف كان، فالوضع غير التكليف،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 226

و المستفاد من ذلك: الوجوب بعد الحرمة التكليفية لتطفيف الوضع و اشتغال الذمّة بمال الغير و حقّه، كما كان الأمر كذلك في الأمر السابق في الآية الكريمة السابقة و فيما يلي من قوله تعالي بهذا الشأن:

الرابعة- قوله تعالي:

أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لٰا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَ زِنُوا بِالْقِسْطٰاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.

(الشعراء [26] الآيات 181- 183)

فان دلالة الأمر في الوفاء و الوزن واحد، و لكن النهي عن التبخيس في الأشياء و العمل بوجه يعدّ من المخسرين و المفسدين يفيد حرمة التطفيف و التنقيص في أداء مال الغير و حقّه.

تنبيه:

إنّك تجد في الآيات الكريمة أن المسألة لم تكن وضعيّة فقط بحيث كان المطفف مديونا لصاحب المال حتي تفرع ذمّته بأدائه بعينه اذا كان مشخّصا أو بمثله و قيمته اذا لم يكن، بل العمل بنفسه محرّم أيضا، فان المطفف كأنه مكذّب بيوم الدين و هو معتد أثيم و من أصحاب السجّين، و عليه التوبة من الذنب بعد افراغ الذمّة و تحصيل رضا اللّه تعالي و غفرانه بعد رضا صاحب المال.

مع

إنك قد عرفت سابقا أن إطاعة المولي و امتثال أوامره و نواهيه- حتي الإرشادية منها- في الوضع و التكليف- يورث فضيلة للعبد و تقرّبا من المولي و استحقاقا له زائدا علي مقتضيات الأوامر و النواهي من المصالح و المفاسد، كما ان ترك أوامره أو ارتكاب نواهيه الإرشادية أيضا يورث الظلمة و البعد عن مقامه، غير تحمّل مفسدة العصيان أو العذاب، فان مراعاة مقام المولي و رعاية عناياته بما هو، أمر آخر غير الإطاعة و العصيان و ما يترتّب عليهما.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 227

الخامسة- قوله تعالي:

وَ السَّمٰاءَ رَفَعَهٰا وَ وَضَعَ الْمِيزٰانَ* أَلّٰا تَطْغَوْا فِي الْمِيزٰانِ* وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تُخْسِرُوا الْمِيزٰانَ. (الرحمن [55] الآيات 7- 9)

الآيات الكريمة- كما تراها- جعلت النهي عن الطغيان في الميزان و الأمر بالقسط فيه و التحرّز عن الخسران، بين رفع السماء و وضع الميزان في رفعه و وضع الأرض للأنام.

و بهذا فقد أشار قوله تعالي الي لزوم رعاية الميزان بالقسط و تحقق العدل في الميزان عند أداء حقوق الناس و أموالهم علي حدّ الميزان و القسط الذي يكون في نظام السماوات و الأرض من الشمس و القمر في السماء و النجم و الشجر في الأرض بحيث ينتهي التخلّف في هذا النظام المنظّم الي الفساد و الخراب في الطبع و الخلق، كذلك الطغيان و الخسران في ميزان أموال الناس و حقوقهم سيخلف الفساد في حياتهم الاجتماعية و في علاقاتهم الانسانية.

هذا، و ان كان قد يحتمل أن يكون المراد من الميزان المأمور باقامة القسط فيه هو ميزان معرفة الخالق الرافع للسماوات و الواضع للأرض، الذي هو العقل و التفكّر، فان الخسران و الطغيان فيه ينتهي الي الكفر و فساد أصل

الانسان و ايمانه، و الغرض الأساس من خلقه و هو معرفة الربّ، و ان كان تفسير الطغيان في ذلك البيان لا يخلو من تكلّف.

و كيف ما كان، فالأمر خطير حسب معادلته مع نظام الموجودات في خلق السماوات و الأرض. فان كان المراد هو الأول فتدلّ الآية الكريمة علي أن التنقيص و الطغيان عن الحدّ عند الأخذ و الإعطاء ذنب كبير.

و الذي تجدر الاشارة إليه في ختام هذا البحث هو أن ملاكات الأحكام الشرعية و مقتضياتها لا تكون إلا منطقية مع التكوين و نظام السماوات و الأرض، و كأن نظام الشرع المقدّس في أحكامه الخمسة متّخذ من نظام الطبع بعلم اللّه تعالي الذي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 228

هو خالق الخلق و رازقهم و مشرّع الشرع لهم.

السادسة- قوله تعالي:

وَ إِليٰ مَدْيَنَ أَخٰاهُمْ شُعَيْباً قٰالَ يٰا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ وَ لٰا تَنْقُصُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ إِنِّي أَرٰاكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ* وَ يٰا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. (هود [11] الآية 84- 85)

القرآن الكريم يقصّ حياة أنبياء اللّه تعالي و رسله (عليهم السّلام) بأصول شرائعهم و مكالماتهم مع قومهم و أممهم في مقام الإرشاد و هداية الناس الي ربّ الأرباب حتي ينتهي الي بيان قصّة النبيّ شعيب (عليه السّلام) و ذلك في سورة هود «1»، فقال لقومه:

اعْبُدُوا اللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ و ذكر في سياق ذلك، الأصل العريق و أعمد الأركان في كل شريعة و هو قوله: وَ لٰا تَنْقُصُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ ثم أوعدهم بأني أَرٰاكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ.

يٰا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ من غير تخسير و تنقيص، ف لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ، فان ذلك ينتهي الي الفساد، وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.

و من المعلوم أن ذلك الوعظ و الأمر مع بيان ترتّب العذاب علي تركه في سياق أبسط الأصول الاعتقادية يدلّ علي حرمة التنقيص في المكيال و التطفيف في الميزان بأشدّ وجه.

و الحاصل: إن هذه الآيات تدلّ علي أن التطفيف في المكيال محرّم شرعا و تكليفا، زائدا علي الوضع و اشتغال الذمّة، علي ما في كتاب التجارة عند الكلام في العوضين.

______________________________

(1) و شطر من ذلك في سورة الأعراف.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 229

2- الرّشوة
اشارة

الثاني من المحرّمات التي تفسد المجتمع أكثر من الفرد الرشوة، و هي المال الذي يعطي و يؤخذ لا عن حق لتغيير الحق بالباطل، و تبديل الأمر الذي عليه و تحريفه الي غيره و عكسه، في حين لا بدّ من الحكم بالحقّ و جعل الأمر فيما لا بدّ أن يجعل فيه، مع علم الآخذ و المعطي أو أحدهما أو بدون العلم، فاذا علما الحق و لم يحكم به إلا بعد أخذ مال لا عن حقّ أو أخذ ليحكم بغير الحق، و كذلك فيما اذا علم الحاكم الحق فقط و أخذ شيئا ليحكم بالحق في تصوّر المعطي فحكم بالحق أو بالباطل، و الأمر كذلك في عكس ذلك فاذا علم المعطي الحق فأعطي ليحكم الآخذ حسب ظواهر الأمر مع أنها خلاف الحق فان ما يعطيه يعدّ رشوة و ما يأخذه سحتا «1».

و الحكم في ذلك كلّه ظاهر، حيث يحرم الأخذ و الإعطاء كما تحرم الدلالة و الوساطة فيها، و في المقام آيات، هي:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ

بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَي الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 188)

تنهي الآية صراحة عن أكل المال بالباطل أوّلا بأيّ وجه من الوجوه، سواء كان من بيت المال أو من أموال الناس، كأكل مال اليتيم بغير وجه شرعي أو غيره؛ و منه المال الذي يؤكل بحكم الحاكم بغير حق، و هو يعلم بذلك الحكم لأمر لم يتبيّن واقعه علي الحاكم و تبيّنه عنده أو لما تدلّي به إليه من إعطاء شي ء ليحكم له بما ليس له من مال الغير و فريق من أموال الناس.

و ثانيا: تنهي الآية الكريمة عن التدلّي الي الحكّام بالأموال و إعطاء شي ء لهم ليحكموا بغير الحق، و بهذا يأكلون فريقا من أموال الناس بالإثم، و النهي ظاهر بل

______________________________

(1) و لقد ذكرنا كلمات القوم و مواضع الآيات و روايات الباب بتفصيل في رسالتنا «القضاء في الاسلام» ص 113.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 230

صريح في الحرمة، و اذا كان التدلّي بها حراما، فلا فرق بين الأخذ و الإعطاء، فكما أن ذلك حرام علي المعطي المتدلّي فهو كذلك حرام علي الحاكم و القاضي الآخذ، و ليس ذلك إلا الرشوة الموجبة لانحراف الحق عن سبيله المنتهي الي الفساد المحرّم عقلا و شرعا. قال تعالي: وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.

الثانية- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبٰارِ وَ الرُّهْبٰانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ … (التوبة [9] الآية 34)

تذمّ الآية الكريمة كثيرا من علماء اليهود و النصاري لأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل و يصدّون عن سبيل اللّه، و من المعلوم أن الأموال التي كانوا يأكلونها بالباطل لم تكن في معاملاتهم التجارية فانهم

كانوا علماء لا تجّار، بل انهم كانوا في طريق صدّهم عن سبيل اللّه و تلبيسهم الحق بالباطل و حكمهم بغير الحق، و لا سيما في مسألة الاسلام و ظهور النبي الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فان اليهود و النصاري كانوا يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم و مع ذلك كانوا يعطون علماءهم المال ليحكموا بما يريدونه، و ليلبسوا الحق بالباطل. و كان علماؤهم يأكلون أموال الناس بالباطل و يصدّون عن سبيل اللّه و عن معرفة الحق و الاسلام.

و من المعلوم أن إثم العلماء و ذنبهم في تلبيسهم الحق بالباطل و أخذهم الأموال لذلك بالباطل تحفّظا علي رئاستهم الدنيوية و أكلا لأموالهم مع جهل الناس بذلك، كان أعظم، و لا ينافي عدم الحرمة علي المعطين فان ذلك نوع ارتشاء من القابل و ان لم يعلم المعطي كما أشير إليه في آخر الآية الكريمة السابقة: وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فان العلم بأن ذلك المال كان لإبطال الحق أو لإحقاق الباطل و للحكم بغير الحق و تلبيس الأمر يوجب أن يكون ذلك رشوة سواء كان ذلك العلم من الطرفين أو من طرف واحد.

الثالثة- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 231

سَمّٰاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جٰاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. (المائدة [5] الآية 42)

تقصّ الآية الكريمة أوصاف بعض الذين هادوا بأنهم يحرّفون الكلم عن مواضعه و يقولون هذا من عند اللّه- تبديلا للحق عمّا هو عليه، كما كانوا يقولون لأتباعهم إن أوتيتم هذا فخذوه و إلا فاحذروه تحفّظا علي تسلّطهم، أولئك الذين لم يرد اللّه أن يطهّر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي و لهم في الآخرة عذاب عظيم.

فانهم سمّاعون للكذب و أكّالون للسحت يقولون الخلاف و الباطل

و يستمعون إليه و يأكلون الأموال بتلك الأعمال الباطلة.

و مع ذلك كلّه، فالآية الكريمة تخاطب النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في شأنهم بأنهم إن جاءوك فاحكم بينهم بالحق أو أعرض عنهم، و كيف يرضون بحكمك و تحكيمك و عندهم التوراة ذلك الكتاب الذي يحكم بالحق و يحكم أنهم هم المنافقون و هم الذين لا يعرفون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، و لا يعلمون إلا التكالب علي الدنيا و حطامها و التظاهر بشئونها و ظواهرها.

و من المعلوم ان الآية الكريمة كسابقتها تدلّ علي حرمة المال المأكول من طريق إبطال الحق و الحكم بغير ما أنزل اللّه فانه سحت محرّم، و ذلك المال هو الرشوة كما أطلق عليه في الحديث الشريف، كما اشار إليه صاحب المفردات في قوله: و تسمّي الرشوة سحتا بعد تفسيره أصل السحت بالقشر الذي يستأصل (المفردات/ ص 215).

فرع:

الظاهر جواز إعطاء المال رشوة اذا توقّف عليه استيفاء الحق و إن حرّم أخذه، و الدلالة عليه علي أساس مسألة الأهم، و دوران الأمر بين الضررين.

و لا يجوز إعطاؤه أيضا اذا توقّف عليه تسريع ما علي الموظفين العاملين أداؤه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 232

فانه رشوة أيضا حيث لا يجوز له مع أنه إتلاف حق الغير غالبا في الأمور المتناوبة، نعم لا بأس بما هو متداول من الإهداء لهم قبال عنايتهم من غير تضييع حق الآخرين إن كان هدية واقعا بحيث لم يكن الأخذ و الإعطاء للعمل أو لتسريعه و لا مؤثّرا فيه بل علي أساس المجاملات في علاقاتهم العادية.

3- أكل مال اليتيم

الثالث مما يفسد المجتمع أكثر من فساد الفرد من المحرّمات هو أكل مال اليتيم، فانه من الكبائر التي يصلي مقترفه السعير و النار، و فيه آيات، هي:

الأولي- قوله تعالي:

وَ آتُوا الْيَتٰاميٰ أَمْوٰالَهُمْ وَ لٰا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَهُمْ إِليٰ أَمْوٰالِكُمْ إِنَّهُ كٰانَ حُوباً كَبِيراً. (النساء [4] الآية 2)

أمر اللّه تعالي بإيتاء أموال اليتامي و ردّها إليهم، و نهي عن تبديل الخبيث بالطيّب منها و أكل أموالهم مع أموال غيرهم، فان اختلاط مال اليتيم مع مال غيره بغير وجه شرعي هو اختلاط الحرام بالحلال، و المختلط كلّه حرام حتي يتميّز الخبيث من الطيّب و أكل ذلك المال الحرام هو الحوب الكبير.

نعم، ردّ أموالهم إليهم لا بدّ و أن يكون بعد الاختيار و الاستيناس فان الغرض الأصلي هو المحافظة علي أموال اليتامي و حقوقهم و المقصود منهم الذريّة الضعاف الذين تركوا بلا أب، فكما أن أكل أموالهم و التصرّف فيها بلا وجه شرعيّ و لا عن حق هو أكل للمال بالباطل، فان إيتاءهم أموالهم قبل

رشدهم و هم لا يعلمون صلاحهم و خيرهم و لا يميزون، فان ذلك تضييع لأموالهم و تفويت لحقّهم، و ذلك مع العلم محرّم بلا إشكال.

الثانية- قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰاميٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 233

وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. (النساء [4] الآية 10)

الآية الكريمة من جملة الآيات الباحثة حول موضوع الأموال و مراقبة حدودها و التصرّف فيها، و لا سيما من قبل الولاة المعاشرين المباشرين لها، التي منها أموال السفهاء و الصغار و الأيتام و الأوصياء و كالتصرّف في صدقات النساء فعليهم الدقّة و المراقبة، و اللّه تعالي ذو حساب دقيق و شديد و سريع، لا يخفي عليه الكثير و اليسير من درهم أو دينار، فمن اتقي حدود اللّه و لم يتجاوزها فسوف يحاسب حسابا يسيرا و بالعكس، و الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰاميٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً.

و من المعلوم دلالة الآية الكريمة علي حرمة أكل مال اليتيم، بل انها تدلّ علي أنه من الكبائر، فان أكل ذلك أكل للنار، نعم اذا لم يكن ذلك عن ظلم و تعدّ- كما اذا كان بعنوان حق التولية و كان معسرا- فلا بأس.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰي يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا. (الإسراء [17] الآية 34)

اذا كان الدنوّ و التقرّب الي أموال اليتامي منهيا عنه فكيف التصرّف فيها؟ فانه محرّم منهيّ عنه أشدّ من التقرّب إليها إلا اذا كان بوجه أحسن، كحفظ مصالح اليتامي اذا كان من طرف الوليّ و الوصي ما لم يبلغ اليتيم رشده و أشدّه، فانه بعد ذلك لا بدّ من ايتائهم أموالهم إليهم، و

الوفاء بالعهد، إنّ العهد كان مسئولا.

ثم إن ظاهر النهي هو الحرمة، و تناسب الحكم و الموضوع يقتضي أن يكون وضعيا فقط موجبا للظن، إلا ان السياق و ذكره خلال محرّمات أخري كالقتل و الزنا و التطفيف و غيرها يفيد الحرمة تكليفيا و يرشد الي ذلك بل يصرّح به قوله تعالي: إنه كان حوبا كبيرا الذي ورد في الآية الكريمة السابقة، و قريب مما ذكرنا قوله تعالي في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 234

سورة الأنعام/ الآية (152) «1» و التقريب هو التقريب.

4- الفتنة

الرابع من الكبائر التي تفسد المجتمع أكثر من الفرد هي الفتنة، أي البلاء و العذاب بين الناس و العمل بما ينتهي إليها، فانها أكبر من القتل و موجبة للكفر، و في المقام آيتان، هما:

الأولي- قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذٰابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذٰابُ الْحَرِيقِ. (البروج [85] الآية 10)

الآية الكريمة بصراحتها تدلّ علي أن الفتنة ذنب كبير أوعد مقترفها بالنار و العذاب الحريق، إلّا ان يتوب منها فان التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

الثانية- قوله تعالي:

… وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. (البقرة [2] الآية 191)

الجملة من الآية الكريمة في سياق الأمر بقتل الذين يقاتلون المسلمين و يحاربونهم بعد قوله تعالي: وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ بمعني ان ترك ذلك و المسامحة معهم فتنة لكم و عذاب، فانهم أعداؤكم يقاتلونكم الي أن يقتلوكم أو يخرجوكم من بلادكم فتكونوا لاجئين للاجانب و الكفّار، و أيّ فتنة و عذاب أشدّ و أعظم من هذا؟

و اللام إن كانت للعهد المستفاد من السياق فهو المطلوب بالملاك و يدلّ علي حرمة كل فتنة، و ان كان للجنس فالأمر ظاهر، و

لحن الآية الكريمة أصرح من سابقتها في بيان أنها كبيرة.

و لعلّ من الفتنة المحرم: السحر بما يفرقون بين المرء و زوجه و غيره و لا يبعد

______________________________

(1)- «وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰي يَبْلُغَ أَشُدَّهُ …».

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 235

استشعار حرمته من قوله تعالي في قصة فرعون و السحرة بعد ان آمنوا بربّ موسي؛ قالوا: إِنّٰا آمَنّٰا بِرَبِّنٰا لِيَغْفِرَ لَنٰا خَطٰايٰانٰا وَ مٰا أَكْرَهْتَنٰا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللّٰهُ خَيْرٌ وَ أَبْقيٰ. (طه [20] الآية 73)

5- عصيان اللسان
اشارة

الخامس: ثم بعد ذلك كلّه عصيان اللسان و اطلاقه فيما كان عليه ان يحتبسه و يمتنعه عن الكلام من الذنوب؛ و ما فهمنا من آيات الباب انه من الكبائر إلا علي ملاك النسبيّة في الكبر و قد عرفت في صدر البحث انّه غير تام، و يطلق عليه في ظروف و شرائط الغيبة و في الاخري التّهمة و الرّمي، و في الثالثة الكذب و رابعة السّبّ و الفحش، و كلّها في عنوان عرفت انه ذنب محرّم علي اختلاف مواقعها. و في البحث آيات.

الغيبة

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لٰا تَجَسَّسُوا وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ تَوّٰابٌ رَحِيمٌ. (الحجرات [49] الآية 12)

تخاطب الآية المؤمنين و تأمرهم باجتناب كثير من الظّن، و المعلوم انه الظنّ بالغير و شئونه بحكم السياق الباحث عن روابط المؤمنين و علاقاتهم بعضهم مع بعض و النهي عن سخرية قوم من قوم عسي ان يكونوا خيرا منهم، و عن التلميز و التنابز بالألقاب فان ذلك فسوق و اثم، و من لم يتب عنه فهو من الظالمين، ثم تنهي عن الظن بالغير بالتجسّس و الاستطلاع عن زوايا عيشة الناس و ما يعملونه علي خفاء و ستر، و التذكر لما يتستّرونه من الأعمال و الأوصاف في غيابهم، فان ذلك تقطيع المغتاب و جزّ قطعة من حيثيّة أخيه المؤمن و عرضه، و هو بمنزلة أكل لحمه ميتة،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 236

فاتقوا اللّه من الذنب و توبوا إليه. انّه هو التوّاب الرحيم. أعاذنا اللّه منه و من كل ذنب و غفر اللّه لنا

و لكم ان شاء اللّه. و دلالة الآية علي الحرمة و المبغوضية مع جهة الفساد ظاهر.

و عليه فالمنكرات التي يرتكبونها جهارا من غير تستّر لا يكون ذكرها حضورا و غيابا غيبة و حراما، نعم ذكر مساوئ الآخرين حتي مع تسترهم لا بأس به في مقام التظلم و منع الظالم عن سوء عمله كما قال تعالي:

لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ وَ كٰانَ اللّٰهُ سَمِيعاً عَلِيماً.

(النساء [4] الآية 148)

فان ذلك استمداد من المؤمنين علي الظالم عليه و هو حق طبيعي مشروع و ويل لمن سمع مؤمنا ينادي و يستنصر فلم يجبه.

و من ذلك كلّه نعلم ان ذكر المساوئ و اشاعة الفحشاء حتي في الألسن و الأذكار مبغوض يخالف مصلحة المجتمع الاسلامي كعملها فان اللّه تعالي يريد سماحة الامة الاسلامية و عظمتها و عزة المؤمنين بحياتهم الاجتماعية كما يحب ذلك في الفرد منهم فعليهم استتار العيوب و استصلاحها و ابراز المحاسن و استقوائها فذكر الخلاف خلاف حتي في مقام التظلم مع العلم بعدم الناصر و عدم التأثير في النصر و لو بالنسبة الي الآتي من الزمن، و يؤثر أولا في نفس المنتقد سوءا و مع التكرار و الاصرار من غير اثر اصلاحي مثبت يورث سوء الظن و علي التدريج بكل أمر و ينتهي نعوذ باللّه بظن السوء بالاخيار و شيئا فشيئا بالخلقة و بكل شي ء و عندئذ يصعب العلاج و بشكل الصلاح أعاذنا اللّه منه «1».

التهمة

الثانية- قوله تعالي:

______________________________

(1)- و ذلك غير ما يجب ذكره لاطلاع الأمر أو قيامهم للاصلاح مما له اثر ثبوتي أو اثباتي كما اشرنا إليه في موارد كثيرة في الكتاب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 237

وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ

الْمُؤْمِنٰاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً. (الأحزاب [33] الآية 58)

تحكم الآية علي الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بألسنتهم و يقولون فيهم ما لم يكتسبوا، بأنّهم احتملوا بهتانا مبينا، و ذلك اثم بيّن و ذنب ظاهر يحسّه كل أحد.

و الانسان كائنا من كان يتأذي من ان يقال فيه من السوء و الخلاف بخلاف الواقع بل مع الواقع متسترا. فمعه غيبة و بدونه تهمة؛ و ايذاء الغير مما يدرك العقل قبحه و يحكم الشرع بانه ذنب محرّم، و قسم منه و هو رمي المحصنات- زائدا علي حرمته- فيه حدّ قد مضي الكلام عنه في كتاب الحدود، و أشدّ قبحا ان يكتسب بنفسه ذنبا ثم يرم به بريئا، قال تعالي: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (النساء [4] الآية 112).

و من المعلوم ان البهتان نسبة غير الواقع من المساوئ و المحذورات الي الغير، لا مطلقا- حسنة كان أو سيئة، كما في الكذب- و كيف كان، فذكر خلاف الواقع خلاف في الواقع مطلق نسب الي أحد أو لا و ذلك هو قول الزور المائل عن جهة الحق، و هو ما أمر اللّه تعالي الاجتناب عنه في قوله تعالي:

وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. (الحج [22] الآية 30)

و قال تعالي: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ. (الجاثية [45] الآية 7)

الكذب

الثالثة- قوله تعالي:

إِنَّمٰا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْكٰاذِبُونَ.

(النحل [16] الآية 105)

تفيد الآية ان ملاك الكذب و القول بغير الحق عدم الايمان باللّه تعالي، فان المؤمن به تعالي يطمئن قلبه و لا يري وجها لأنّ يتفوّه بالخلاف كما هو ظاهر. و من لا يؤمن به

تعالي يظن اجتلاب المنفعة بذكر الخلاف فيكذب و يقول قولا زورا،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 238

و دلالة الآية علي أصل الحرمة و المبغوضيّة ظاهر.

السب

الرابعة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ فَيَسُبُّوا اللّٰهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذٰلِكَ زَيَّنّٰا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِليٰ رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ.

(الانعام [6] الآية 108)

الآية- كما تري- في سياق بحث التوحيد و بيان آيات اللّه و علائم وجوده و قدرته و عظمته تعالي؛ و بعد ذكر شطر منها يقول قد جاءكم بصائر من ربّكم فمن أبصر فلنفسه و من عمي فعليها. ثم أمر اللّه تعالي نبيّه باتباع ما أوحي إليه و الاعراض عن المشركين و لو شاء اللّه ما أشركوا و ما جعلناك عليهم وكيلا فانك رسول و ما علي الرسول الا البلاغ. و عندئذ و في مثل الظرف يقول لٰا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ فان ذلك ينتهي الي ان يسبوا اللّه عدوا بغير علم فكان ذلك من الذي سبّ أولا فكنتم تسبون اللّه و انتم لا تعلمون. و علة الأمر ان السبّ يحرّك العواطف و يورث الغضب، فيسبّ متقابلا محبوب السّاب عن غضب و عدو بغير علم و درك و توجه، لا ان ذلك ينتهي الي ان يبحثوا عن اللّه تعالي و يتكلموا فيه بما لا يليق بشأنه- كما عن الراغب- فان ذلك لا يساعد كلمة عدوا. و كذلك زيّنا لكل أمّة عملهم فيحسبون انهم يحسنون صنعا و الي ربهم مرجعهم فينبّئهم بما كانوا يعملون.

و كيف كان تنهي الآية عن السبّ و هو كل شتم وجيع و كلام فظيع يؤذي الغير كاللعن و الفحش «1» و السخرية. و لعلّه يستفاد منه حرمة

كل قول أو فعل يؤذي الغير بغير حق سيّما في الأمور الدينية و المباحث المذهبية، فان بيان الحق في بحث ديني و إيضاح الحقيقة في كل أمر مذهبي بل علمي أو اجتماعي هو غير التصادم و التضاد

______________________________

(1)- قال الراغب: الفحش و الفحشاء و الفاحشة ما عظم قبحه من الأقوال و الأفعال.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 239

العاطفي و العصبي. فاذا تبيّن الرشد من الغي و الحق من الباطل فلا اكراه في الدين و الاعتقاد، و هو الذي يهدي من يشاء و يضلّ من يشاء، و بيده الخير و هو علي كل شي ء قدير. و لا ينافي ذلك ما علي المحاكم و القضاة و ولاة الأمر من اجراء الحدود و تطبيق الأحكام في الخارج عملا، كما فصّلناه في بحث الحكومة. اللّهم اهدنا لما تحبّ و ترضي و اصرفنا عمّا لا تحبّ و اهدنا لما اختلف فيه من الحق باذنك آمين ربّ العالمين.

هذا تمام الكلام في الكبائر من الذنوب و المحرّمات. و أما الفرار من الزحف و ان كان من الكبائر إلا انه حيث تكلّمنا فيه في كتاب الجهاد لم نذكره هنا فرارا من التكرار، فراجع. و اما سائر المحرّمات سيّما في المأكل و المشرب فسيأتي الكلام فيها حسب مواضعها ان شاء اللّه تعالي، و لكن تكميل البحث يقتضي الكلام في مسألة التوبة و المغفرة علي لسان القرآن فلنشر إليها اجمالا بعون الملك الغفار الوهاب.

فصل في التّوبة و الاستغفار «1»

لا اشكال في ان الانسان كثيرا ما ينزلق علي جادّة الحياة، مع ايمانه باللّه تعالي و اليوم الآخر، فينجذب الي الهوي و يهوي حتي يرتكب ما تأمر به نفسه الأمّارة فيعصي اللّه تعالي و هو يعلم، و بعد الفراغ عمّا اقترف من الذنب

يندم و يلوم نفسه بنفسه اللوّامة فيعترف بالاساءة و يتوب الي اللّه تعالي و يعتذر و يعزم علي ترك المعاودة و استدراك ما يمكن استدراكه فيما فرّط، و هذا هو التائب من الذنب، و اللّه تعالي يقبل التوبة عن عباده فانه هو التوّاب الرحيم، قال تعالي:

______________________________

(1)- قال علي (عليه السّلام) لقائل قال بحضرته (استغفر اللّه): ثكلتك أمك أ تدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العليّين و هو اسم واقع علي ستّة معان؛ أولها الندم علي ما مضي و الثاني العزم علي ترك العود ابدا، الي آخر كلامه الشريف- نهج البلاغة/ 417. الظاهر في بيان مراتب التوبة و أكملها بجمع المراتب الستّة و يؤيد ذلك المرتبة السادسة من الاطاعة. و لعلّ الراغب أخذ تفسيره للتوبة في مفرداته من الكلام الشريف، فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 240

قُلْ يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَليٰ أَنْفُسِهِمْ لٰا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. (الزمر [39] الآية 53)

و ظاهر آيات الباب ان لكل ذنب «1» توبة إلا الشرك. و الانسان ما دام في الحياة، له ان يرجع الي اللّه و يستدرك ما فرّط في الكبائر، و في غيرها يغفر اللّه تعالي باجتنابها. قال تعالي:

إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ … (النساء [4] الآية 116) و قال تعالي: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً. (النساء [4] الآية 31)

و لقد كان من دعوات الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الناس الي خير المطلق و السعادة، دعوته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الي التوبة الي اللّه تعالي بالاستغفار كما في دعوات

سائر الأنبياء «2».

قال تعالي:

أَلّٰا تَعْبُدُوا إِلَّا اللّٰهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ* وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتٰاعاً حَسَناً. (هود [11] الآية 2- 3)

و قال أيضا: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَي اللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسيٰ رَبُّكُمْ أَنْ

______________________________

(1)- حتي الكفر لو قلنا انه ذنب اصطلاحا. قال تعالي: «أَ فَلٰا يَتُوبُونَ إِلَي اللّٰهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» بعد قوله تعالي: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اللّٰهَ ثٰالِثُ ثَلٰاثَةٍ..» الآية (سورة المائدة [5] الآية 73 و 74)، الا ان يقال ان ذلك هو الشرك الاصطلاحي و الكفر بالنسبة الي التوحيد و ليس أصل المبدأ تعالي و لتفصيل الكلام محل آخر.

(2)- علي حكاية القرآن الكريم: عن نوح النبي (عليه السّلام): «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً» (سورة نوح [71] الآية 10)، «وَ إِذْ قٰالَ مُوسيٰ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخٰاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِليٰ بٰارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بٰارِئِكُمْ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ» (البقرة [2] الآية 54).

و قال هود لقومه: «وَ يٰا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِليٰ قُوَّتِكُمْ وَ لٰا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» (سورة هود [11] الآية 52).

و قال صالح لقومه: «يٰا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّٰهَ … فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» (سورة هود [11] الآية 61)، و قال شعيب بعد نصائحه و وصاياه لقومه: «وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» (سورة هود [11] الآية 90) و هكذا غيرهم عليهم السّلام.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 241

يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ يَوْمَ لٰا يُخْزِي اللّٰهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ

آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعيٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمٰانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَتْمِمْ لَنٰا نُورَنٰا وَ اغْفِرْ لَنٰا إِنَّكَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (التحريم [66] الآية 8) و قال أيضا:

وَ تُوبُوا إِلَي اللّٰهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (النور [24] الآية 31)

و كيف كان ففي البحث آيات كثيرة نشير الي بعضها اجمالا «1».

الأولي- قوله تعالي:

وَ سٰارِعُوا إِليٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمٰاوٰاتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ … (آل عمران [3] الآية 133)

تأمر الآية بالتسريع الي غفران اللّه و الجنة التي عرضها كعرض السموات و الأرض.. الجنّة التي وعد اللّه المتقين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أموالهم فِي السَّرّٰاءِ وَ الضَّرّٰاءِ، وَ الْكٰاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعٰافِينَ عَنِ النّٰاسِ، وَ الَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً و عملوا قبيحة أو

______________________________

(1)- يمكن تنويع آيات الباب الي ثلاثة:

الأول: الآمرة بالتوبة و الناهية عن القنوط و اليأس. مثل قوله تعالي:

* قُلْ يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَليٰ أَنْفُسِهِمْ لٰا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. (الزمر [39] الآية 53)

* يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَي اللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً. (التحريم [66] الآية 8)

* وَ تُوبُوا إِلَي اللّٰهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (النور [24] الآية 21)

و آيات سورة هود [11] الآيات 3 و 61 و النساء [4] الآية 106 و الممتحنة [60] الآية 12 و غيرها.

الثاني: المخبرة عن توبة اللّه علي العباد و قبوله تعالي اعتذارهم و توبتهم إليه مثل قوله تعالي:

* وَ اللّٰهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ … (النساء [4] الآية 27)

* يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ … وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. (النساء [4] الآية 26)

* إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ

أَنَا التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ. (البقرة [2] الآية 160)

* وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّٰهَ يَجِدِ اللّٰهَ غَفُوراً رَحِيماً. (النساء [4] الآية 110)

* وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئٰاتِ ثُمَّ تٰابُوا مِنْ بَعْدِهٰا وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهٰا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. (الاعراف [7] الآية 153)

الثالث: ما يبين ان لا ملجأ الّا الي اللّه، و اللّه تعالي هو الذي يقبل التوبة عن عباده؛ مثل قوله تعالي:

* وَ الَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً … وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّٰهُ. (آل عمران [3] الآية 135)

* وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئٰاتِ. (الشوري [42] الآية 25)

* وَ إِنِّي لَغَفّٰارٌ لِمَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً ثُمَّ اهْتَديٰ. (طه [20] الآية 82)

و آيات سورة التوبة [9] الآية 104، و يوسف [12] و غيرها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 242

ظلموا أنفسهم باقتراف إثم و اكتساب ذنب ذكروا اللّه تعالي و لم ينسوا أنفسهم انهم عاصون فتابوا إليه و استغفروا لذنوبهم فعزموا علي ترك المعاودة وَ لَمْ يُصِرُّوا عَليٰ مٰا فَعَلُوا من خلاف وَ هُمْ يَعْلَمُونَ. و من يغفر الذنوب الّا اللّه أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم و جنات وَ إِنِّي لَغَفّٰارٌ لِمَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً ثُمَّ اهْتَديٰ (طه [20] الآية 82).

و من المعلوم ان اطلاق الآيات و ان كان يفيد ان لكل مؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يستغفر اللّه و يتوب إليه من كل ذنب و إثم، و هو الغافر للذنب، القابل للتوب، الرحمن الرحيم؛ إلا انّه يقيد بما عرفت من إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ؛ و استثناء الاصرار لرجوعه الي اللعب بأمر المولي و

لغويّة التوبة لا انه ذنب كبير لا يغفر، فان تكرار الذنب ليس إلا ذنب مكرر من غير زيادة علي أصل الذنب فانّ في ماهيّة التوبة عدم العود؛ و التائب عليه ان لا يعود و يعزم علي الترك ابدا، كما هو ظاهر.

الثانية- قوله تعالي:

وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلّٰا لِيُطٰاعَ بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّٰهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً. (النساء [4] الآية 64)

الآية بعد ذكر شطر من حالات المنافقين تقول لو انهم إذ ظلموا أنفسهم بارتكابهم تلك الأعمال جاءوك لتشفع لهم عند اللّه فاستغفروا اللّه و استغفر لهم الرسول لوجدوا اللّه توّابا رحيما. و اذا كان المنافقون باستغفارهم أو شفاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و استغفاره لهم واجدين قبول توبتهم عن التواب الرحيم فكيف بغيرهم؛ و قد مضي ان قسما منهم لا يقبل توبتهم و هم كافرون.

و انت تعلم ان الآية مضافا علي المسألة المبحوث عنها، تدلّ علي صحّة الشّفاعة «1» من مثل النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الأئمة المعصومين (عليهم الصلاة و السلام) كما

______________________________

(1)- و من المعلوم ان ذلك غير وساطتهم و شفاعتهم (عليهم السّلام) يوم القيامة بإذن اللّه تعالي و من ذا الذي يشفع عنده-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 243

تصرح بذلك الآية الاخري في قوله تعالي:

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّٰهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ. (المنافقون [63] الآية 5)

الثالثة- قوله تعالي:

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّٰهَ يَجِدِ اللّٰهَ غَفُوراً رَحِيماً.

(النساء [4] الآية 110)

بعد ما نهي اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)

عن المجادلة و الإصرار في القول و استتابة الذين يختانون أنفسهم و يستخفون ذنوبهم من الناس و لا يستخفون من اللّه مع انّه تعالي معهم اذ يبيتون ما لا يرضي من القول، و كان اللّه بما يعملون محيطا، و اللّه لا يحب من كان خوّانا أثيما.

بعد ذلك يقول من عمل سوءا من كل مكروه و قبيح يبعده عن الطهارة و السّماحة و عن اللّه تعالي- بالنهاية- أو ظلم نفسه بأن اقترف ذنبا و فرّط في إثم و لام نفسه و استغفر اللّه، يَجِدِ اللّٰهَ غَفُوراً رَحِيماً.

فالآية بصراحتها تحكم بقبول توبة من تاب و استغفر اللّه من كل ذنب و سوء.

نعم يقيد الاطلاق- كما عرفت- بقوله إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، بل الغفران لأهل الكبائر، و الصغائر تغفر باجتناب الكبائر و تكفّر برحمة اللّه و عفوه إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ و لكن اللّه يقبل التوبة عن عباده، أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقٰاتِ وَ أَنَّ اللّٰهَ هُوَ التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ (التوبة [9] الآية 104)، وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئٰاتِ وَ يَعْلَمُ مٰا تَفْعَلُونَ (الشوري [42] الآية 25).

______________________________

- إلا بإذنه، و محل الكلام فيه المعارف و الاعتقادات.

و أصرح من ذلك قوله تعالي خطابا لرسوله (صلّي اللّه عليه و آله): «وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» في ذيل الآية من 62 سورة النور [24]. و لتفصيل البحث مجال آخر سنشير الي اجماله بعد فصل التوبة ان شاء اللّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 244

فاللّه تعالي كما هو ذو الطول شديد العقاب كذلك هو الرحمن الرحيم الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غٰافِرِ

الذَّنْبِ وَ قٰابِلِ التَّوْبِ (المؤمن [40] الآية 2) وَ مٰا كٰانَ اللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (الانفال [8] الآية 33) وَ اللّٰهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ (النساء [4] الآية 27).

نعم، التوبة للذين يعملون السوء بجهالة من غير تفرج بذنب «1» و إصرار علي إثم و اساءة، حتي يأتيهم الموت من غير نفاق. قال تعالي:

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَي اللّٰهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولٰئِكَ يَتُوبُ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ كٰانَ اللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئٰاتِ حَتّٰي إِذٰا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قٰالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّٰارٌ أُولٰئِكَ أَعْتَدْنٰا لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً. (النساء [4] الآية 17- 18)

و قال تعالي:

وَ إِذٰا جٰاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِنٰا فَقُلْ سَلٰامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَليٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ تٰابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (الأنعام [6] الآية 54)

و قال تعالي:

سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ … الآيات.

(المنافقون [63] الآيات 5- 8)

و المستفاد ان أمر المتهاون بالتوبة أشد من الكافر باللّه تعالي فانه اذا أسلم و مات يغفر اللّه تعالي له ما سلف، و الاسلام يجبّ ما قبله، و لن تقبل توبة الذي عمل السيئات حتي اذا حضره الموت فقال اني تبت الآن فهو كالكافر الذي يموت و هو

______________________________

(1)- و الوجه ظاهر فان تسهيل الأمر علي النفس في الذنوب يستدرجها شيئا فشيئا الي ذنوب كبيرة حتي ينتهي الي الشرك و الكفر. قال تعالي: «ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا السُّوايٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ» و في الحديث التفرّج بالذنب أعظم منه لما عرفت. حفظنا اللّه و إياكم من كل

ذنب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 245

كافر لا توبة له، و كذلك المنافق المستكبر الصادّ عن سبيل اللّه بعمله، و من هذا فكرتهم و يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول اللّه حتي ينفضّوا الي آخر مقالاتهم الخائبة الخسيسة.

تذييل في خلاصة الأبحاث

فمن الفصل الأول فروع ثلاثة:

الأول: في الشرع محرّمات اقترافها إثم، و هي قسمان: ظاهرية و باطنية، لا بدّ من اجتنابها بقسميها.

الثاني: إشاعة الفحشاء كنفسها محرّمة مبغوضة بأيّ وجه كان تسبيبه: ذكرا و كتابة و نشرا بالصحف و الاذاعات المسموعة و المرئية. و ذلك كلّه من علل التكثر و الشيوع في الأمة، و محبّ الفحشاء له عذاب أليم اذا أظهر حبّه بوجه.

الثالث: مقترف الذنب يتباعد عن الربّ مضافا الي آثار عمله في الدنيا و الآخرة.

و من الفصل الثاني فرعان:

الأول: الذنوب كبائر و صغائر، و أمر الثاني أسهل، يغفر لمن اجتنب عن الأول.

الثاني: السيئات الخلقيّة لا تعدّ ذنبا في الفقه ما لم تظهر بوجه.

و من الفصل الثالث في كل واحد من الكبائر فروع:
1- فروع الشرك:

الأول: أكبر الكبائر الشرك باللّه تعالي لا يغفر بوجه.

الثاني: الارتداد بعد الشرك من أعظم الكبائر.

الثالث: المرتد لن تقبل توبته ان كان في ازدياد من الكفر. و بدونه، ففي غير الرّجل من الفطري تقبل و فيه يشكل و لا يبعد القبول.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 246

الرابع: المرتد الذي تقبل توبته أيضا اذا ارتد ثانيا ثم تاب و آمن ثم كفر و ازداد كفرا فلن تقبل توبته و لن يهدي الي سبيل الحق.

الخامس: اظهار الارتداد و العمل بما يوجب ذنب كبير ان كان عن جد و واقع، و اما تحفّظا علي الايمان و تقية فلا بأس به.

السادس: النفاق بنفسه ذنب و ان لم يكن ما يقترفه عنه ذنبا.

2- فروع الافتراء علي اللّه:

الأول: الافتراء علي اللّه ذنب كبير له مراتب بحسب المختلق و المتعلق من نفي آيات اللّه بإنسابها الي غيره و نفي الرسالة و القول بأنه يدّعي من قبل نفسه أو ادّعاء النبوّة و ان اللّه تعالي أوحي إليه بغير الحق، أو دعوي نزول الكتاب إليه بغير الحق، بل دعوي كل منصب إلهي من غير حق من الخلافة الي النيابة و الوكالة.

الثاني: القول في اللّه تعالي.. ذاته و صفاته من غير حجة منه افتراء عليه ذنب كبير.

الثالث: القول في أحكام اللّه- بغير علم- بأنّ هذا حلال و هذا حرام افتراء محرّم.

الرابع: كل تصرّف و تغيير في أحكام اللّه بلا حجة صادقة افتراء و صدّ عن سبيل اللّه و ابتغاء اعوجاج فيه و هو محرّم و ذنب كبير.

3- فروع تولّي الكفّار:

الأول: يحرم اتّخاذ البطانة من دون المؤمنين يطّلع علي خواصّ أمورهم و زوايا شئونهم كائنا من كان من الكفّار و المشركين أو أهل الكتاب بل المنافقين الذين يستهزءون بأمور الدّين، و ذلك ذنب كبير له عذاب أليم.

الثاني: لا يجوز الركون الي الظلمة و الوثوق بهم مطلقا.

الثالث: المؤمن بما هو مؤمن لا يوادّ من حادّ اللّه و خالفه بل يخالفه كائنا من كان و لو من أقربائه و فسّاق المؤمنين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 247

الرابع: حرمة تولي غير المؤمن و حرمة الوداد مع المخالفين للّه و رسوله و ان كان علي كل مؤمن و لكنه علي الزعماء و الحكّام الشرعيين و أولياء الأمور آكد و أشدّ، فان بيدهم مجاري الأمور و هم المسئولون عن شئون المجتمع الاسلامي- أولا و بالذات- ثم الناس و عموم المؤمنين- و هم المسئولون عن سكوتهم و ترك الاعتراض علي انتهاكات الحكّام.

الخامس: لا يجوز تولي الذين

غضب اللّه عليهم من المنحرفين.

السادس: اليهود من أهل الكتاب أشدّ عداوة للمؤمنين فلا يجوز توليهم بوجه.

السابع: محصل الحكم توصية العلماء الذين مجاري الأمور بيدهم و الحكّام و الأمراء بحفظ الاستقلال و الهوية الاسلامية.

الثامن: لا بأس بالعلاقات و المعاهدات و المعاملات اللازمة للتعايش الاجتماعي و العلائق المدنية مع الكفّار و المشركين مع التحفّظ علي الاستقلال في مختلف الشئون.

التاسع: المنافقون الذين اركسوا بما كسبوا لمعاضدتهم الكفّار و تواصلهم مع أعداء الدين لا يجوز توليهم و اتخاذهم بطانة بل يجب مقاتلتهم سواء كانوا بين الكفار أو بين المسلمين، فانهم بحكمهم حتي يهاجروا في سبيل اللّه.

العاشر: لا بأس بمعاشرة المنافقين الذين لا يراودون الكفار و لا يبتغون في دين اللّه عوجا مع التحفّظ علي الأساس و الأسرار.

الحادي عشر: لا بأس بتولّي من يحرم تولّيه اتقاء شرّه مع التحفّظ علي الكيان و الأسرار.

الثاني عشر: لا يجوز دعاء الخير و الاستغفار لأعداء الدين و حكّام الجور.

الثالث عشر: ملاك الاسلام في صدق الاعتقاد باللّه تعالي و باليوم الآخر و بالرسالة الخاتمة لنبيّنا محمّد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و في الايمان بالمعني الأخص فزائدا علي تلك الأصول: الاعتقاد بالعدل و الامامة علي التفاصيل المذكورة في الكتب

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 248

المختصة.

الرابع عشر: الاعتقاد بأصول الاسلام لا بدّ و ان ينضمّ إليه الاقرار باللسان و العمل بالجوارح، فالعمل بدونهما تظاهر و نفاق، كالاقرار بدون اخواته، و اما الاقرار و العمل الكاشف بظاهرهما عن الاعتقاد فهو كاف في الحكم بالاسلام ظاهرا ما لم يعلم بخلافه، و مع العلم بانتفاء الاعتقاد فنفاق أيضا.

4- فروع قتل النفس:

الأول: قتل النفس بالانتحار حرام مطلقا.

الثاني: اذا دار الأمر بين أن يقتل نفسه انتحارا أو يعمل بما يقتل نفوس كثيرة

و تهتك أعراض و تسلب أموال، فلا بأس به علي أساس مسألة الأهم.

الثالث: لا يجوز قتل الأولاد بوجه خشية املاق أو غيره.

الرابع: اسقاط الجنين قتل للأولاد محرّم يشترك في جريمته الام و الطبيب الذي يقوم بتلك العملية و عليها أو عليهما الدّية كما مرّ.

الخامس: اذا دار الأمر بين اسقاط الجنين و موت الام لا يبعد الجواز.

السادس: لا اشكال في جواز المنع عن استقرار النطفة في الرّحم بأيّ وسيلة.

السابع: لا يجوز قتل نفس محترمة، نفسه كانت أو غيرها، ولدا و غير ولد، مؤمنا و غير مؤمن إلّا بالحق كما في القصاص و الحدّ علي شرائطها.

الثامن: من قتل مظلوما و بغير حق فلوليّه سلطان في القصاص و الدية و العفو.

5- الزّنا ذنب كبير و فاحشة محرّمة مطلقا. له حدّ كما مضي في الحدود.

6- اللواط ذنب كبير و فاحشة فحشاء.

7- فروع شرب الخمر و عمل الميسر:

الأول: شرب الخمر و عمل الميسر محرّم مطلقا.

الثاني: شرب كل مسكر حتي المسحوق منه بالاستنشاق محرّم مطلقا.

الثالث: لا بأس باستعمال الخمر و كل مسكر في الصنائع و الطب في غير

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 249

الشرب.

8- فروع التطفيف:

الأول: يجب ايفاء الكيل، و التوزين بالقسطاس المستقيم.

الثاني: التطفيف في الكيل و الميزان ايفاء و استيفاء محرّم تكليفا، اضافة علي الحرمة الوضعية و اشتغال الذّمة.

الثالث: المطفف يضمن ما طفف من المال أو السلعة، و عليه الردّ الي صاحبه علي القواعد.

9- فروع الرشوة:

الأول: كل ما يؤخذ و يعطي لا عن حق لتغيير الحق بل لإيقاعه في غير محله محرّم أخذه و اعطاؤه و ذنب كبير تكليفي زائدا علي الوضع و اشتغال الذمّة.

الثاني: اذا توقف استيفاء الحق علي الرشوة لا بأس باعطائها علي أساس مسألة الأهم مع حرمة الأخذ.

الثالث: لا يجوز اعطاء الرشوة فيما اذا توقّف عليه تسريع الأمر من الموظفين دون أصل الحق.

10- فروع أكل مال اليتيم:

الأول: يجب التحفّظ علي أموال الايتام حتي يبلغوا أشدّهم و الرّد إليهم بعد الاستخبار و الابتلاء و الاطمئنان بالرشد.

الثاني: يحرم أكل أموال اليتامي بغير حق تكليفا و وضعا.

الثالث: لا بأس بأكل ما يؤخذ من أموال اليتامي بعنوان حق التولّي لأمورهم مع الافتقار بل لا معه فانه ليس بظلم.

11- عصيان اللسان و اطلاقه فيما كان عليه الامتناع و الاحتباس محرّم و لم نفهم انه كبيرة إلّا علي النسبية في الملاك فالغيبة و التهمة، و الفتنة، و الكذب، و السّب، و الفحش، و الرّمي محرمات أكيدة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 250

و يناسب في ختام كتاب المحرّمات ذكر مسألتين؛

الأولي: الأعذار:
اشارة

لا اشكال في ان المسئولية و التكليف المتعقب اطاعته و امتثاله بالثواب و معصيته و تخلّفه العقاب لا يكون إلّا بعد العقل و العلم به مع البلوغ الشرعي اذا كانت الاطاعة أو العصيان بإرادة و التفات و عن عمد. فلا شي ء عليه فيما يأتيه أو يتركه نسيانا أو خطأ أو اضطرارا أو عن حرج. و في المسألة آيات:

الأولي- قوله تعالي:

… وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ فِيمٰا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لٰكِنْ مٰا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً. (الاحزاب [33] الآية 5)

الآية و ان كانت في مسألة الظهار و نداء الأدعياء ابناء إلا انها كبري كليّة تشمل كل قول بل كل عمل، و القول بما انه عمل، و مٰا جَعَلَ اللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، فلا يتمكّن علي أمرين في حالة واحدة فيخطئ من شي ء الي آخر يتوجّه إليهما تصورا فيسبق بالقول في غير المطلوب، و ذلك قول بالأفواه لا يترتب عليه الأثر بلا قصد و نيّة و لكن الأثر علي ما تعمّدت و توجهت إليها القلوب فاتي به عن إرادة و قصد و كان اللّه

تعالي غفورا رحيما فيما ارتكبه العبد عن خطأ.

فتدلّ الآية علي نفي آثار ما يرتكبه الانسان عن خطأ مما كان يترتب عليه لو لا الخطأ في دائرة التشريع، و كذلك فيما يتركه بأن يأتي بالغير بدلا عنه خطأ فيقال تركه خطأ ثانيا، و بالعرض؛ و ان كان الانتساب الي ما فعل أولا فليس عليه شي ء حتي القضاء إلّا بدليل آخر كما في الصلاة.

الثانية: قوله تعالي:

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (في موارد ثلاثة: البقرة [2] الآية 173 و في سورة الانعام [6] الآية 145 بدون جملة فلا إثم عليه و بعبارة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و كذلك في سورة النحل [16] الآية 115 بلفظة فَإِنَّ اللّٰهَ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 251

غَفُورٌ رَحِيمٌ).

و الجملة في الآيات واردة بعد تحريم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل به لغير اللّه في سياق أصل تحليل الطيّبات من الرزق و تفيد ان الاضطرار يرفع الحرمة عن المذكورات و بالملاك عن الخبائث بل عن كل محرّم أكله و شربه بل أصل التكليف و فعليّته، و بعبارة اخري: الاضطرار يرتفع به ما كان علي الانسان لولاه من فعل أو ترك من وجوب أو حرمة أو سائر الأحكام و ما يترتب عليها في مقام الامتثال «1» لا مطلقا فان ذلك عذر في ترك ما هو واجب أو فعل ما هو حرام من غير حلية الحرام أو حرمة الحلال علي الاطلاق.

الثالثة- قوله تعالي:

… لَيْسَ عَلَي الْأَعْميٰ حَرَجٌ وَ لٰا عَلَي الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لٰا عَلَي الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَنْ يُطِعِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذٰاباً

أَلِيماً. (الفتح [48] الآية 17 و النور [24] الآية 61)

الآية كما تري في سياق الاشارة الي مراتب الايمان و قبول أوامر الجهاد و اتّباع الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو التخلّف عنه و الاعتذار و تفكير المخلفين و مقالتهم، و قول الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بانهم سيدعون عن قريب الي مقاتلة قوم أولي بأس شديد يقاتلونهم أو يسلمون، فان أطاعوا و جاهدوا و قاتلوهم فلهم أجر حسن بما صبروا علي معارك القتال و ان يتولوا كما تولوا من قبل عن مقاتلة الآخرين في الحروب السابقة فيعذبهم اللّه عذابا أليما.

ففي ذلك السياق و المقام يقول اللّه تعالي فيمن لا يتمكّن من القتال و لا يقتدر عليه بحسب بدنه لما فيه من العمي أو العرج أو المرض فلا يتمكن من النظر و العدو

______________________________

(1)- و لا ينافي ذلك بقاء الحكم علي العنوان الكلي في مقام الجعل و لا تقييد و لا تخصيص، و ذلك مع بقاء أصل الحكم حتي في المورد و رفع فعليته بحسب الاضطرار و لذلك تقدر بقدرها و التقييد بغير باغ و لا عاد، و يقال لا إثم عليه لا انه غير محرّم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 252

و الحركة اللازمة في المعارك أو بحسب السلاح و الوسيلة ان لا جناح عليه ما دام كذلك.

و عندنا التأمل في الآية يرشد الي رجوعها الي أمر واحد و هو اشتراط القدرة في التكليف كما هو كذلك عقلا. فمن لا يقدر علي الامتثال عقلائيا بحيث يكون التكليف عليه حرجيّا فليس عليه شي ء. نعم القدرة العقليّة في مقام الامتثال شرط امكان توجيه التكليف نحوه. فالآية بالملاك تفيد ان الحرج أيضا مما يرتفع به

التكليف بمعني عرفت من غير اختصاص بالجهاد و المقاتلة.

و لذلك جاز للأعمي و الأعرج و المريض الأكل من بيوت الآباء و الأمهات و الأخوة و الأخوات و الأعمام و العمات و الأخوال و الخالات من مراتب الرحم و من بيوت الأصدقاء و ما ملكوا مفاتحه بلا اذنهم مما لم يكن لهم ذلك بدونه لو لا العمي و العرج و المرض المانع من الاكتساب و العمل في الجملة.

و كيف كان فالآية في المقامين (الجهاد و الأكل من بيوت الأقوام) تفيد أنّ مثل العمي و العرج و المرض اذا كان بحد يوجب الضيق و الشدّة التي لا تتحمل عادة في مقام الامتثال و العمل بلا حرج، لا انهم فقط ليس عليهم التكليف أو ليس عليهم و لو لم يكن في البين حرج أو ان التكليف الحرجي ليس بمرفوع عن غيرهم، بل الملاك في النفي الحرج و هم أمثلة.

الرابعة- قوله تعالي:

لَيْسَ عَلَي الضُّعَفٰاءِ وَ لٰا عَلَي الْمَرْضيٰ وَ لٰا عَلَي الَّذِينَ لٰا يَجِدُونَ مٰا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذٰا نَصَحُوا لِلّٰهِ وَ رَسُولِهِ مٰا عَلَي الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَ لٰا عَلَي الَّذِينَ إِذٰا مٰا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لٰا أَجِدُ مٰا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ* تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّٰا يَجِدُوا مٰا يُنْفِقُونَ. (التوبة [9] الآية 91- 92)

الآية أيضا في سياق بحث الجهاد و تصرف الناس ازاءه، علي اختلاف مراتب الايمان، فيستأذن أولو الطول منهم و يقولون ذرنا نكن مع القاعدين؛ لشغفهم بحطام

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 253

الدنيا، و رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوٰالِفِ وَ طُبِعَ عَليٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لٰا يَفْقَهُونَ معني الحياة و حقيقتها، و لكن الرسول و الذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم و أنفسهم

و ايمانهم بحقيقة الأمر و ادراكهم موقعهم امام الخلقة و الخالق تعالي و في نظام الكون و روح الحياة، و جاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم و هم مشفقون.

و مع بيان مستوي الذين جاهدوا و أطاعوا اللّه و رسوله بأن لهم الخيرات و اولئك هم المفلحون و جزاء القاعدين الراضين ان يكونوا مع الخوالف بانه سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم دون المعذرين الذين لا يجدون ما ينفقون في ذلك السبيل و الضعفاء الذين لا يقتدرون علي شي ء من مشاقّ الجهاد و متاعبه، تحكم بأنه ليس علي الضعفاء و لا علي المرضي و لا علي الذين لا يجدون ما ينفقون حرج اذا نصحوا للّه و رسوله بأن كان بعضهم لبعض ناصحين للّه تعالي و رسوله لا للدنيا فكانوا من المحسنين و ليس عليهم من سبيل و اللّه غفور رحيم بالعباد و بهم.

فالآية تنفي الحرج في تركهم الجهاد بما انّهم ضعفاء أو مرضي بحسب البدل فلا يتمكنون من اداء وظائف الجهاد، أو الفقراء الذين لا يجدون مالا ينفقون في سبيل التسليح و اعداد القوي و هم راغبون في الشهادة حتي اذا قيل لهم لا أجد ما أحملكم عليه تولّوا و أعينهم تفيض من الدمع حزنا علي ذلك.

و تثبت السبيل و الحرج علي الذين ليس ببدنهم ضعف و مرض و هم متمكنون متاعا و أثاثا و مع ذلك يستأذنون أن يكونوا مع القاعدين و رضوا بأن يكونوا مع الخوالف فرارا من الموت و طلبا للراحة و طبع اللّه علي قلوبهم فهم لا يعلمون.

و الملاك كما يستظهر من الآية القدرة و الامكان نفيا و اثباتا، و الجهاد مثال مبحوث لا أنّ كل ضعيف أو مريض بأيّ درجة لا

حرج عليه في تركه التكليف و لو كان متمكّنا من الاتيان حتي في الجهاد ببعض شئونه أو ان التكليف الحرجي ليس بمرفوع عن غيرهما مع عدم القدرة بوجه آخر.

الخامسة- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 254

ذيل آية الطهارة و الوضوء و التيمم: مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. (المائدة [5] الآية 6)

و الجملة من الآية- كما تري- بعد بيان حكم الوضوء و بدله التيمم تشير الي قاعدة عامة و هي ان اللّه تعالي لا يريد في تشريعاته و أحكامه ان يجعل عليكم من حرج و ضيق بل يريد السّعة و الخير و الصلاح في كل حكم بحسبه من الطهارة في المقام و غيرها في غيره و في الكل من اتمام النعمة لعلّكم تشكرون. فليس علي العباد حرج من ناحية ما جعله اللّه علي العباد من الأحكام، اضافة الي مقتضي طبعها. فاذا كان في مقام الامتثال حسب شرائط العبد ضيق و حرج لا يتحمل عادة فلا يريده اللّه تعالي، فهو مرفوع عنه. فالآية أيضا تفيد انه ليس في دائرة المشروعات الالهيّة الحرج كما هو ظاهر.

السادسة- قوله تعالي:

وَ جٰاهِدُوا فِي اللّٰهِ حَقَّ جِهٰادِهِ هُوَ اجْتَبٰاكُمْ وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ هُوَ سَمّٰاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ. (الحج [22] الآية 78)

بعد الأمر بالجهاد حقّه و انه تعالي هو الذي اجتباكم يخبر عن قاعدة كليّة، و هي انه مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، فكل تكليف حرجي منفي عن مقام الجعل الشرعي و لا أثر له في مرحلة التشريع و جعل الحكم. فالآية تدلّ علي نفس الانشاء و التشريع بلسان الاخبار و

تدلّ علي المطلوب بأعمّ مفاد و أدلّ بيان و تؤكد العمومية بأن ذلك ملّة ابراهيم و شريعته السارية في تمام الشرائع و هو سمّاكم مسلمين من قبل.

و حاصل الآيات في الباب ان الخطأ و الاضطرار و الحرج- و بالملاك ما في طبع ذلك من النسيان و الضرر- منفي و مرفوع في الشرع أي غير مجعول، بمعني ان كل تكليف ثابت بدليله في موضعه و موضوعه مع عدم شي ء من ذلك، مرفوع بها علي قدرها؛ فان الضرورات تقدر بقدرها، فلم يشمل الجعل التكليفي ثبوتا مورد الحرج

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 255

في مقام الامتثال و العمل، و ان شمله الاطلاق أو العموم اثباتا، و تلك الأمور اعذار لا مقيدات أو مخصصات. و تفصيل ذلك كلّه في حديث الرفع المعروف في محله «1».

فروع الأعذار أربعة:

الأول: لا بأس بما يرتكبه الانسان أو يتركه خطأ بأن يأتي بشي ء آخر بدله، فلا يترتب عليه ما كان يترتب عليه لو لم يكن خطأ حتي القضاء الا بدليل آخر كما في الصلاة.

الثاني: الاضطرار الي ارتكاب ما لا بدّ من تركه و ترك ما لا بدّ من فعله، يرفع البأس فلا إثم عليه و هو غير باغ و لا عاد.

الثالث: اذا كان الامتثال و الإتيان بالتكليف حسب شرائط العبد حرجيا لا يتحمل عادة فهو مرفوع عنه بمعني انه غير مجعول عليه انطباقا، فان مقام جعل التكاليف علي العناوين غير مقام الامتثال كما فصل في محلّه.

الرابع: لا يجوز ارتكاب الأزيد مما يرتفع به الاضطرار و الحرج و غيرها، فان الضرورات تقدر بقدرها.

ختام: لا يخفي ان ظاهر الآيات من نفي الجناح في الخطأ و نفي الاثم في الاضطرار و نفي الحرج من ذوي الاعذار الضعفاء و المرضي

و من لا يجد سبيلا، و بالجملة نفي آثار التكليف في الخطأ و الاضطرار و الحرج و أمثالها اختصاصه بالأحكام المجعولة المولويّة دون ما يترتب عليه وضعا حسب الانتزاع العقلائي التي لا تنالها يد الجعل الّا بجعل منشأ انتزاعها، فعليه الضمان لو أتلف مال الغير خطأ أو

______________________________

(1)- و محصل الأمر كما عن الاستاذ الاعظم مد ظله العالي ان الاحكام الواقعية تدور مدار ملاكاتها في موضوعاتها و تنشأ عليها الأحكام المجعولة من غير تحديد بظروف الامتثال و كيفية العبد في القدرة علي الاتيان و عدمه لا دخل لها في ذلك فهو معذور عن عدم القدرة لا ان الملاك غير موجود. نعم لا يصح الطلب منه بتلك الخصوصية، و الاحكام في مقام جعلها غير ناظرة الي خصوصيات الموارد، فان مقام الامتثال غير مقام الجعل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 256

تصرّف فيه عن اضطرار، و هكذا فلا يرتفع ما يترتب عليها برفعها بل عدم جعلها في الموارد.

و علّة ذلك- كما أشرنا إليه- ان مقام جعل الأحكام غير مقام الامتثال و العمل؛ ففي الأول ليس إلا العناوين الشاملة و الكليات الصادقة علي موارد تلك الاعذار و غيرها. و في الثاني: مقام المصاديق و الجزئيات غير منظور إليها من ناحية المولي، فالقتل الخطأ مثلا محرّم يعاقب عليه حسب مقام الجعل لصدق القتل عليه كغيره إلّا ان القاتل معذور بخطئه فلا يعاقب عليه فإنّه مصداق لعنوان الخاطئ المنطبق عليه قاعدة «ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به»، فذلك مقتضي اجتماع العنوانين القتل الصادق علي العمد و الخطأ، و الخطأ الصادق علي القتل و غيره في قتل الخطأ فلا ينافي ذلك الدّية بدليله. و كذلك الأمر في الاضطرار و الحرج و غيرها من الاعذار،

و تفصيل الأمر و تحقيقه في «الاصول».

الثانية: التوسل و الاستشفاع:
اشارة

و في المقام آيات ذكرناها متفرقة في الأبواب بمناسبات اخري نذكرها هنا بذلك الملاك.

الأولي: قوله تعالي:

وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلّٰا لِيُطٰاعَ بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّٰهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً.

(النساء [4] الآية 64)

الآية كما تري بعد ما تبيّن غرض الرسالة و انه الطاعة فيما أتي الرسل به من عند اللّه باذنه فيهتدوا الي سبيل الخير و ينتهوا الي الحق المطلق؛ تشير الي ان الظالمين أنفسهم بمخالفتهم الرسل و ترك اطاعتهم لم ينقطع عليهم السبيل، و لو انهم جاءوك و انت خاتم النبيّين فاستغفروا اللّه تعالي و طلبوا غفرانه منك بان تدعو لهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 257

و تستغفر اللّه لذنوبهم، فاستغفرت لهم اللّه تعالي لوجدوا اللّه توّابا رحيما، فانك وجيه عند اللّه و رحمة للعالمين و لكنهم بقوا في ظلمهم أنفسهم و سدّوا السبيل.

و الشرطية تدلّ علي تنجز التعليق و تحققه و ان المشروط يوجد بوجود الشرط و هو اتيان الرسول و طلب الاستغفار عن اللّه لذنوبهم. فتدلّ صراحة علي جواز توسيط الرسول و التوسل إليه و طلب الدعاء منه، كما تدلّ علي ان للرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ان يستغفر لمن جاءه و توسّل به و لو استغفر لهم الرّسول لوجدوا اللّه توّابا رحيما، و بالملاك تدلّ علي جواز الاستشفاع بالأئمة المعصومين (عليهم السّلام) بل بعباد اللّه المقرّبين الصالحين المخلصين، فانه لا دخل لرسالته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)- و كذلك إمامتهم- في ذلك، و ما له دخل هو القرب باللّه تعالي و الوجاهة لديه علي اختلاف المراتب حسب تناسب الحكم

و الموضوع، و هو الذي بيده كل شي ء، يغفر لمن يشاء و يعذّب من يشاء.

الثانية- قوله تعالي:

… فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (النور [24] الآية 62)

الآية في مقام توضيح مستوي المؤمنين و انهم بعد الايمان باللّه تعالي و رسالة الرسول و اطاعة أوامر اللّه تعالي و نواهيه التي أتي بها الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و انهم هم الذين يستأذنونه في الأمور الاجتماعية و يطيعونه في أوامره و نواهيه الولائيّة فهم يطيعون اللّه و رسوله لما يعلمون ان له (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) زائدا علي مقام رسالته و نبوّته الذي به ينبئ عن اللّه تعالي وَ مٰا عَلَي الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلٰاغُ مقاما آخر من الولاية و الامارة، فانه أولي بالمؤمنين من أموالهم و أنفسهم فيطيعون اللّه فيما يأمر به عنه تعالي و ينبئ عنه، و يطيعونه بما انه وليّ و أمير عليهم من قبل اللّه تعالي في أوامره و نواهيه و ليس لهم العمل بشي ء من عندهم في الأمور الجامعة و شئون المجتمع.

و في هذا السياق يأمر اللّه تعالي رسوله ان يأذن لمن يشاء منهم لبعض الشئون

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 258

ثم يأمر ان يستغفر لهم فيما مضي عليهم من التخلفات فان اللّه غفور رحيم.

فاذا أمر اللّه تعالي رسوله ان يستغفر لهم و وعد بأنه لو استغفر لهم يغفر لهم اللّه تعالي فانه غفور رحيم، فلا إشكال في جواز طلب الأمر الجائز عليه منه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) كما لا إشكال في جواز قضاء حاجة المؤمن بل رجحانه له. فتدلّ الآية علي جواز التوسل به

(صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) للمؤمنين و جواز الاستغفار و الدعاء بالخير للمؤمنين، و بالملاك يجوز ذلك في طرفي المسألة بالنسبة الي الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) بل و عباد اللّه الصالحين، كما عرفت.

و لا يتوهّم ان جواز استغفار الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لهم رحمة عليهم غير جواز طلب ذلك عنه و التوسّل به، فان السياق أي الأمر بالاستغفار عقيب الأمر بالاذن حال استيذانهم يفيد أنّ الاستغفار أيضا بعد سؤال استغفارهم الرسول و طلب ذلك منه، فتدلّ علي جواز الطلب و التوسل صريحا أيضا كما لا يخفي.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّٰهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ* سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ. (المنافقون [62] الآية 5- 6)

الآية خلال بيان حالات المنافقين من انهم الذين قالوا بألسنتهم نشهد انك لرسول اللّه و اللّه يشهد علي كذبهم في الايمان بذلك و هو تعالي يعلم انك لرسول اللّه بالحق و انهم اتّخذوا اظهار الايمان باللسان جنّة لأنفسهم و أموالهم، و قد تعجبك أجسامهم و ظاهرهم و لكنهم هم العدوّ الأضر.

و عندئذ يأمر اللّه تعالي نبيّه بأن يحترز عنهم و يحذرهم، فانهم في نفاقهم و انحرافهم النفسي علي حد اذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم الرسول حتي يغفر اللّه تعالي ما مضي عنكم و يستوي لكم الطريق فتهتدون الي الخير و الحق، تولوا برءوسهم و يستكبرون عن ذلك فيصدّون علي أنفسهم السبيل الي النجاح و الفلاح.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 259

فالآية أيضا و ان كانت بصدد تعريف المنافقين، لكنها تدلّ علي جواز استشفاع

الرسول ليستغفر لهم اللّه كما تدلّ علي جواز دعاء الرسول و الاستغفار لهم اذا استشفعوا، و ترشد الي ان اللّه تعالي يغفر لهم لو استغفر لهم الرسول فانه لو لا ذلك كلّه لما صحّ ذمّهم علي ليّهم رءوسهم كما هو ظاهر.

نعم، المنافقون الذين يتولّون عن ذلك لشركهم بل كفرهم النفسي و هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول اللّه حتي ينفضّوا من حوله فلا يجوز الدعاء و الاستغفار لهم، فان ظاهر قولهم ذلك عدم اعتقادهم بالرسالة بل بالتوحيد، فانهم يفسّرون كل أمر علي موارد نظام الطبع و يظنون ان الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و من حوله يطلبون الدنيا و حطامها- نعوذ باللّه تعالي- و يتفرقون بعدم انفاقهم و لا يفقهون ان اللّه تعالي له خزائن السموات و الأرض و بيده الطبع و النفس و له الخلق و الأمر يبسط لمن يشاء و يقدر فيغني الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و المؤمنين من عنده و يحكم ما يريد.

و عندئذ فهم مشركون باللّه تعالي منكرون للرسالة و اللّه لا يغفر ان يشرك به و يغفر ما دون ذلك، و حينئذ سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر اللّه لهم (و هم مشركون) و اللّه لا يهدي القوم الفاسقين، الذين هم مشركون أو كافرون في أنفسهم متظاهرون بالاسلام في ألسنتهم. و تقدم الكلام بتفصيل في المنافقين و أقسامهم و أحكامهم ظاهريا و واقعيا في كتاب المحرّمات، و بذلك يخصص الإطلاقات السابقة و ينتج جواز استغفار الرسول و دعاء الخير للمذنبين الذين ظلموا أنفسهم إلا ان يكونوا مشركين فلا يجوز و لو كانوا أولي قربي كما يصرح

بذلك في الآية التالية.

الرابعة- قوله تعالي:

مٰا كٰانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كٰانُوا أُولِي قُرْبيٰ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ الْجَحِيمِ. (التوبة [9] الآية 112)

تخبر الآية إنشاء عن حكم من أحكام اللّه تعالي و هو انه ليس للرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 260

و كذلك ليس للمؤمنين ان يستغفروا و يدعوا بالخير للمشركين و لو كانوا أولي قربي فان المشرك لا يغفر، و القرابة النسبية لا توجب ولاية بين المؤمن و المشرك، بل لا يجوز الدعاء لكل من كان من أصحاب الجحيم، فانه الملاك المذكور صراحة، و اللّه تعالي جامع الكفّار و المنافقين في جهنّم جميعا. و تقدم الكلام في ذلك، و مصاديق المنافقين في كتاب المحرّمات «بحث في تولّي الكفّار» فراجع، و كما تري تصريح الكتاب بذلك في الآية التالية.

الخامسة- قوله تعالي:

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لٰا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ. (التوبة [9] الآية 80)

تصرّح الآية بأن اللّه تعالي لا يغفر بل لن يغفر للكفّار و المنافقين و لو استغفر لهم الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) رأفة بهم، فان كفرهم و شركهم و نفاقهم علي درجة تمنع تأثير دعاء الرسول و لو كان سبعين مرّة. و بيان ذلك بمساواة الاستغفار و عدمه و لو كان الاستغفار كثيرا مؤكدا. و نفي القبول ب «لن» - حرف التأبيد- و ذكر الملاك معقبا بقوله تعالي:

وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ أصرح بيان و أبين لسان بعدم جواز دعاء الخير للكفّار و الفسّاق و المنافقين.

و بتلك

الآيات الثلاث تخصّص اطلاقات السابقة و تنتج- مجموعا- جواز الاستشفاع عن النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) و عباد اللّه المقرّبين و التوسل بهم، و يجوز لهم الاستغفار و دعاء الخير للمؤمنين باللّه و رسوله دون الكفّار و المشركين و الفسّاق و المنافقين.

و من المعلوم ان توسيط المقربين من الأنبياء و المرسلين أو الأئمة المعصومين (عليهم صلوات اللّه أجمعين) لا ينافي التوحيد و لا يضرّ بصدق الايمان باللّه تعالي و إن الامور بيد قدرته، و ملكوتها بإرادته، فانه لا يطلب من عند اللّه شي ء مستقلا، بل يطلب منه الطلب ليكون بالاجابة أقرب لقربه اللّه تعالي لا بمعني عدم صحة الطلب

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 261

بلا واسطة، كما تري تلك الحقيقة في كثير من الأدعية المأثورة عن الأئمة المعصومين (عليهم السّلام).

اللّهم اني اسألك و أتوجّه أليك بنبيّك نبيّ الرّحمة محمّد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يا أبا القاسم يا رسول اللّه يا امام الرحمة يا سيدنا و مولانا انّا توجّهنا و استشفعنا و توسلنا بك الي اللّه و قدّمناك بين يدي حاجاتنا يا وجيها عند اللّه اشفع لنا عند اللّه …

و كذلك التعبير بالنسبة الي الأئمة (عليهم السّلام) كما تري في دعاء التوسل. و بالتأمل فيه تري انه المستفاد من الآيات، و تقديمهم بين يدي الحاجات لوجاهتهم عند اللّه تعالي و ليشفعوا لديه و يطلبوا منه تعالي من غير ان يكونوا هم المؤثرين مستقلا.

و هذا البحث غير مسألة ولايتهم تكوينا و امكان تصرّفهم فيما سوي اللّه تعالي من كل ما تجاوز عنه باذنه و إرادته. و ليس هنا محل الكلام فيه، و قد أشرنا إليه إجمالا بمناسبة

في كتاب النكاح آخر فصل المحرمات.

فروع التوسّل أربعة:

الأول: يجوز توسيط النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الأئمة المعصومين (عليهم الصلاة و السلام) بل الصالحين و المقرّبين من العباد و استشفاعهم ليدعوا اللّه تعالي و يستغفروه حتي يغفر اللّه تعالي الذنب و يقضي الحاجات، كما يجوز الدّعاء و الاستغفار من اللّه تعالي بلا واسطة.

الثاني: يجوز لعباد اللّه الصالحين و المؤمنين ان يدعوا لأهل الذنب و يستغفروا اللّه لهم ترحما عليهم أو بعد التماسهم اذا كانوا مؤمنين و لعلّه يستحب بعده قضاء لحاجة المؤمن و طلبا لخيره.

الثالث: لا يجوز الدّعاء بالخير و الاستغفار للمشركين أو الكفار أو المنافقين من المؤمنين الذين يبتغون في دين اللّه عوجا و لو كانوا من أولي القربي.

الرابع: و حيث ان غفران اللّه تعالي أقرب الي العباد اذا استغفر لهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 262

الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو الامام (عليه السّلام) أو عباد اللّه الصالحون، فالتوسل بهم- بطبعه ما لم ينته الي ترك الطلب من اللّه تعالي مستقلا أبدا- مستحب في الجملة مع الغمض عن السنة و إلا معها فالبحث واسع النطاق و الأدلة كثيرة «1».

______________________________

(1)- قد تم البحث الي هنا بحمد اللّه تعالي و توفيقه و الساعة السادسة بعد ظهر يوم الأحد، السابع و العشرين من شهر جمادي الأولي سنة خمس و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة علي مهاجرها آلاف التحية، و الحمد للّه و له الشكر و نرجو ان يجعله اللّه تعالي ذخرا ليوم الميعاد، و يتلوه كتاب الأطعمة و الأشربة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 263

كتاب الأطعمة و الأشربة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 265

الأطعمة و الأشربة

الانسان بل كل ذي حياة، بطبعه يحسّ الافتقار الي ما يسدّ به جوعه و يروي

به عطشه، و بالتالي يحفظ له حياته و يستبقي عيشته. و بذوقه و ادراكه يختار الطيّب من المطعوم و العذب من المشروب. فكان الانسان من أول زمن بني عيشته علي بساط الأرض و بسطها يأكل من طيّبات ما خلق اللّه له في البرّ و البحر و يجتنب الخبائث.

و كذلك كان يشرب من الفرات العذب و يحترز من الملح الأجاج. فانتفاع الانسان في كل زمان من الطيّبات بصورها الطبيعية الأولية، أو مع التصرف فيها، و احترازه عن الخبائث مطلقا مما كان يستقل به العقل من غير توقّف علي تشريع و جعل من أية شريعة.

نعم حيث ان طبع الانسان و ذوقه بل و حتي ادراكه قد يخطئ في التطبيق و يتخيل ما ظاهره الطيّب ذوقا انّه طيب علي الاطلاق- و كذا في ناحية الخبائث- فالشارع يرشد بنظره الثاقب الصائب في كل شي ء الي الطيّب الواقعي أو الخبيث الحقيقي فيما اشتبه الأمر فيه، و عليه فالاطلاقات الدالّة علي تحليل الطيبات و تحريم الخبائث ارشادات الي حكم العقل، و في التفصيلات توسعة أو تضييق بحسب نفس الأمر. اذا عرفت ذلك فقد ظهر لك ان الأصل الأولي في المقام الحلّيّة و الإباحة، ما لم يردع عنه الشرع، و في الكتاب فصول:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 266

الفصل الأول: الاطلاقات

و فيه آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبٰاتِ وَ اعْمَلُوا صٰالِحاً إِنِّي بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.

(المؤمنون [23] الآية 51)

تخاطب الآية الرّسل الذين أرسلوا واحدا بعد واحد، لهداية الناس و إرشادهم الي سبيل الحق و الخير، بعد ذكر شطر من حكاياتهم، و تأمرهم بأكل الطيّبات و العمل الصالح إرشادا الي إباحة الانتفاع من كل طيب، و أنّه حلال بحسب الشرع لا يصحّ التزهد

فيه ترفعا، فتفيد أنّ الطيبات محلّلة في كل شريعة و ملّة بل كل مجتمع و أمّة إلّا ما يتلي عليهم. نعم حرّم اللّه علي الذين هادوا كلّ ذي ظفر أي ما ليس بمنفرج الأصابع أو له مخلب من الأنعام و الطيور، و من البقر و الغنم حرّم عليهم شحومهما الّا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. و تحريم ذلك كلّه عليهم كان جزاءهم ببغيهم، لا أنّها محرّمات بالطبع أو في شرعهم بما هو «1» فتبقي علي حلّيتها في سائر الشرائع «2».

الثانية- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ كُلُوا مِمّٰا فِي الْأَرْضِ حَلٰالًا طَيِّباً وَ لٰا تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ الشَّيْطٰانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. (البقرة [2] الآية 168)

______________________________

(1)- «وَ عَلَي الَّذِينَ هٰادُوا حَرَّمْنٰا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنٰا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمٰا إِلّٰا مٰا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمٰا أَوِ الْحَوٰايٰا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنٰاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنّٰا لَصٰادِقُونَ». (الانعام [6] الآية 146)

(2)- و يرشد الي ذلك أيضا قوله تعالي: «كُلُّ الطَّعٰامِ كٰانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ إِلّٰا مٰا حَرَّمَ إِسْرٰائِيلُ عَليٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرٰاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرٰاةِ فَاتْلُوهٰا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ» (آل عمران [3] الآية 92) فإنّه ردّ عليهم في حلّيّة مطلق الطعام لهم مستندا بالتوراة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 267

الآية الكريمة تخاطب الناس و تأمرهم بأكل ما في الأرض إذا كان حلالا طيّبا دون ما كان حراما خبيثا؛ و الدّقة فيها تبيّن مركز البحث و نقطة النقل من أنّه النهي عن اتّباع خطوات الشيطان بأكل المحرّمات من الخبائث أو الطيّبات التي حرّمها اللّه تعالي و ترك المحلّلات الطيّبات رفيعها تزهّدا و وضيعها ترفّعا، و إلّا فأصل جواز الانتفاع من الطيّب مما

لا يحتاج الي بيان.

و الحاصل: انّ الآية عندنا تفيد وجود محرّمات بين الطيّبات العرفية فتنهي عن أكلها اتباعا لخطوات الشيطان بعد الفراغ عن حليّة الطيب و حرمة الخبيث عرفا، كما تفيد الردّ علي الذين يحرّمون علي أنفسهم الطيبات تزهدا أو ترفعا؛ فلا بد و ان يكون المأكول و المشروب حلالا طيبا و هما وصفان بينهما عموم من وجه، فانه ليس كل حلال بطيب عرفا و لا كل طيّب عرفي بحلال، و ليس ذلك بمعني تبديل الأصل حتي يكون كل شي ء حراما حتي تثبت حليّته كما توهّم، بل الطيّب حلال الي ان تثبت الحرمة، و بعبارة اخري ليس كل ما استطابه الانسان بطبعه السليم الأولي بما هو انسان متجردا عن العادات و مقتضيات الزمان و المكان محللا مطلقا كما عن الجواهر (رحمه اللّه تعالي)، و ان كان ذلك هو الملاك في المشتبه ليكون مجري اصالة الإباحة كما ذكره رحمه اللّه.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ. (البقرة [2] الآية 172)

أمر اللّه تعالي المؤمنين بأكل الطيّبات ممّا رزقهم و شكر نعمه ليزيدها عليهم و اكّد ذلك بقوله إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ، فان من يعبد اللّه فقط يعلم انه هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، و الأمر ذلك و ان كان توطئة للنهي عن المحرّمات المذكورة بعدها و لكن لا كلام في ارشاده الي إباحة المحللات من الرزق ما لم يردع عنه الشارع.

الرابعة- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 268

يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ وَ مٰا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوٰارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّٰا عَلَّمَكُمُ اللّٰهُ فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّٰهِ عَلَيْهِ وَ

اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ سَرِيعُ الْحِسٰابِ. (المائدة [5] الآية 4)

أمر اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ان يجيب عن السؤال عمّا أحلّ لهم بأنّه أحلّ لكم الطيّبات، و يضيف عليه مصداقا ان ما تصيدون بالكلاب المعلّمين بل كل صائد معلّم من الجوارح اذا ذكر اسم اللّه عليه حال ارسال الصائد أو ذبح الصيد بعد إدراكه حيّا، حلال طيّب، إن أمسكه الصائد لكم من دون نهش أو امساك لنفسه و اتقوا اللّه في تحقق تلك الشروط فإن اللّه سريع الحساب؛ و إرشاد الآية الي المطلوب أيضا ظاهر.

الخامسة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُحَرِّمُوا طَيِّبٰاتِ مٰا أَحَلَّ اللّٰهُ لَكُمْ وَ لٰا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَ كُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اللّٰهُ حَلٰالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (المائدة [5] الآية 87- 88)

تخاطب الآية المؤمنين و تنهاهم عن تحريم طيّبات ما أحلّ اللّه و الامتناع عن الانتفاع منها فان اللّه يحب أن يؤخذ برخصه كما يحبّ ان يؤخذ بعزائمه، فلم تحرّمون ما أحلّ اللّه لكم برأي و نظر؟ و الطيبات محللات إلّا أن يحرمه اللّه من عنده، و ليس لكم التحريم و التحليل من عند أنفسكم، فإنّ ذلك تصرّف في أحكام اللّه و افتراء عليه و اعتداء، و اللّه لا يحب المعتدين، فكلوا مما رزقكم اللّه من الزرع و النخل و الثمار و الفواكه و البقول و اللحوم في البر و البحر حَلٰالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ، فإنّه هو العالم بما يصلحكم و ما يفسدكم فيأمر و ينهي و عليكم الاتّباع من غير تصرف من عند أنفسكم.

فالآية ترشد الي الأصل من أنّ كل طيّب حلال

إلّا ان يحرمه اللّه تعالي.

السادسة- قوله تعالي:

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 269

آمَنُوا فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا خٰالِصَةً يَوْمَ الْقِيٰامَةِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.

(الاعراف [7] الآية 32)

الآية كسابقتها تسأل استنكارا عمّن حرّم زينة اللّه و الطيبات من الرزق و قد أحلّها اللّه للذين آمنوا بعد الأمر بالأكل و الشرب و النهي عن الإسراف و ذلك بمعني النهي عن تحريم الطيبات من الرزق برأي و نظر؛ فترشد أيضا الي ان كل طيب حلال الّا ان يحرمه اللّه تعالي، و قد مضي الكلام في الآية في مقدمة كتاب التجارة و سيأتي بحث الإسراف ان شاء اللّه.

السابعة- قوله تعالي:

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلٰالَ الَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

(الاعراف [7] الآية 157)

تعدّد الآية أوصاف النبيّ الأمّي الذي يجدونه مكتوبا في التوراة و الإنجيل و منها انه يأمرهم بالمعروف حتي يكونوا خير أمّة، و ينهاهم عن المنكر حتي يكونوا أناسا يتطهّرون، و يحلّ لهم الطيبات حتي تطيب عيشتهم و تهنأ و يحرّم عليهم الخبائث لئلا يتلوثوا فيتدرجوا الي الهوي و السقوط عن الانسانية، و يضع عنهم اصرهم و الاغلال التي كانت عليهم حتي يكونوا احرارا أمراء وارثين الأرض حاكمين عليها، كما فصلّ في محلّه. و عندئذ يصرح بحقيقة عينية و أمر لا يقبل التخلف و هو ان التقدم و الرّقي و الفلاح و النجاح في

الدارين لا يكون إلّا للذين اتبعوا هذا القائد العظيم و النبيّ الكريم فنصروه معظمين ايّاه و اتبعوا أوامره و كتابه النور الذي أنزل إليه و يكون معه، نعم، الحق هو هذا، و ان اولئك هم المفلحون لا الذين يتبعون كل ناعق و يميلون مع كل ريح. و عندنا السّياق يدلّ علي ان حليّة الطيبات و حرمة الخبائث

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 270

كان في كل شريعة بل في طبيعة كل انسان كما في اردافه و أعداله المذكورة.

الثامنة- قوله تعالي:

فَكُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اللّٰهُ حَلٰالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ. (النحل [16] الآية 114)

الآية- كما تري- تأمر بأكل ما رزقه اللّه من الحلال الطيّب و بشكر النعمة تفريعا علي ما حكاه من قصّة قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان فكفرت بأنعم اللّه فأذاقها اللّه لباس الجوع و الخوف بما كانوا يصنعون من كفرهم بأنعم اللّه؛ فلا تكفروها أنتم و اشكروا نعمة اللّه، مؤكدا ذلك بقوله ان كنتم ايّاه تعبدون. فان شكر النعمة و حمد المنعم من آثار العبودية و أساس البحث في الآية، و ان كان ذلك، إلا انها جعلت حليّة الطيّب مفروغا عنه فترشد الي المطلوب.

التاسعة- قوله تعالي:

فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلٰالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(الانفال [8] الآية 69)

الآية خلال آيات الجهاد و جهاته تصف الغنائم بانها محللات طيّبات فكلوها هنيئا مريئا؛ فكأنّها تطبيق علي كلّي مفروغ عنه و هو إباحة كل طيّب و حليّته، اضف الي ذلك كلّه قوله تعالي: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (البقرة [2] الآية 29) و قوله تعالي: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرٰاشاً وَ السَّمٰاءَ بِنٰاءً وَ أَنْزَلَ مِنَ

السَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرٰاتِ رِزْقاً لَكُمْ … الآية (البقرة [2] الآية 22)، و قوله تعالي: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنٰاكِبِهٰا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (الملك [67] الآية 15).

فان ذلك كلّه يفيد ان الأرض و ما فيها مما ينبت و يخرج أو ما يستخرج خلق للناس و لهم الانتفاع به كيف شاءوا في شتات و جهات حياتهم؛ و منها الأكل و الشرب، فترشد الي الأصل بمفهوم أوسع و ان الانتفاع مما حول الانسان حلال ما لم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 271

يحرمه اللّه تعالي، و الأمر في قوله تعالي: كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ لٰا تَطْغَوْا فِيهِ مقدمة للنهي، فلا يرتبط بالبحث و ان كان لا يخلو عنه اشعار و لنذكر الآية في بحث الإسراف ان شاء اللّه.

الفصل الثاني: خصوصيات المطعوم

الكلام الآتي في خصوصيات المطعوم و المأكول حال بيان اباحته و الانتفاع به؛ و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ إِلّٰا مٰا يُتْليٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّٰهَ يَحْكُمُ مٰا يُرِيدُ. (المائدة [5] الآية 1)

الآية بعد الأمر بايفاء العقود و العهود و العمل بالأحكام و الحدود، تحكم بحليّة الأنعام البهائم الّا ما يتلي عليكم فانها تطلق اصطلاحا علي ما عدا السباع و الطيور من الحيوانات اللائي في نطقهن بهم فيصعب دركه، و أصواتهنّ مبهمات فهنّ بهائم، فالأنعام محللات إلا ما يتلي عليكم من المحرّمات منها دون ما حرّمته الجاهليّة من البحيرة و السّائبة و أمثالهما، كما في الآية؛ قال تعالي مٰا جَعَلَ اللّٰهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لٰا سٰائِبَةٍ وَ لٰا وَصِيلَةٍ وَ لٰا حٰامٍ وَ لٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

يَفْتَرُونَ عَلَي اللّٰهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ (المائدة [5] الآية 103).

فان أهل الجاهلية كانوا اذا ولدت الناقة عشرة أبطن شقّوا اذنها فيسيّبونها من غير منع عن حوض أو علف في كل مرعي فكانوا يعتقدون ان لها احتراما، و لا يذبحونها و ما جعل اللّه لها ذلك، بحيرة كانت أو سائبة التي ولدت خمسة أبطن يرعي من غير منع، و كذلك الوصيلة و الحام من افتراءات الذين كفروا و ما هو من دين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 272

اللّه، فان الشاة التي ولدت، اخوها ذكرا أو انثي، و ان وصلت أخاها و لكن ليس ذلك منعا عن الذبح و تحريما. فالأنعام محللات طيّبات و لا أثر لخرافات جاهلية علي التحريم علي أساس الولد و اللبن كما بيّن الهنود للبقر علي سطح أرفع و بملاكات أقبح. كما لا وقع لما عن بعض من الرّحمة و العطوفة علي الحيوانات و تألمهم حال الذبح و شددوا ذلك التقريب الي الاستشهاد بأجهزة الانسان و ان حياته قائمة علي أكل النباتات و اللبنيات و الفواكه دون اللحوم، و يردّه نظام الخلقة و نواميس الطبيعة و حتي أجهزة الانسان، و صرّح بذلك أهل الفن و قد هدانا اللّه بحمده الي الحق فأوضح الحلال من الحرام، و صرّح بإباحة أكل اللحوم من الأنعام و الطيور و الاسماك- كما عرفت- و سيأتي ان شاء اللّه.

الثانية- قوله تعالي:

وَ الْأَنْعٰامَ خَلَقَهٰا لَكُمْ فِيهٰا دِفْ ءٌ وَ مَنٰافِعُ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ. (النحل [16] الآية 5)

تصرّح الآية بأن اللّه تعالي خلق الأنعام لانتفاع الناس منها بأيّ وجه، فلهم فيها دف ء و منافع كثيرة و منها يأكلون. فترشد الي إباحة الأنعام بلحومها و شحومها و … الا ما يتلي عليكم

فان اللّه تعالي هو الذي أنزل من السماء ماء منه شراب و منه شجر فيه يسيمون (أي الناس). و ينبت لهم به الزرع و الزيتون و النخيل و الأعناب و من كل الثمرات و من كل ما ذرأ للناس مختلف الألوان؛ و الآيات بصراحتها كما تري تفيد إباحة الاستمتاع من كل ما ينبت من الأرض زرعا و ثمارا و ما يدبّ عليها أو يعيش علي بساطها من البهائم و الحيوانات برّا و بحرا إلا ما يتلي عليكم.

الثالثة- قوله تعالي:

لِيَشْهَدُوا مَنٰافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّٰهِ فِي أَيّٰامٍ مَعْلُومٰاتٍ عَليٰ مٰا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعٰامِ فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا الْبٰائِسَ الْفَقِيرَ. (الحج [22] الآية 28)

الآية ضمن آيات الحج، و الإشارة الي مسألة الذبح و القربان و جواز الأكل منه و لزوم الإطعام علي البائس الفقير، تشير الي ان رعاية حرمات اللّه و أحكامه خير

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 273

و أنفع مطلقا؛ و في مثل الظروف تقول:

وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعٰامُ إِلّٰا مٰا يُتْليٰ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. (الحج [22] الآية 30)

فترشد الي حلّية الارتزاق و الانتفاع من الأنعام في سياق الأمر باجتناب الرجس و قول الزور، و قد مرّ الكلام فيها اجمالا في المحرّمات.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّٰاتٍ مَعْرُوشٰاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشٰاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّٰانَ مُتَشٰابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشٰابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذٰا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. (الأنعام [6] الآية 141)

الآية أيضا تصرّح بأن مواليد الطبيعة و محصولات الخلقة التي أنشأها اللّه تعالي و خلقها للانسان من فواكه الجنّات و ثمارها معروشات مرتفعات و

غير معروشات منبسطات علي الأرض و ثمر النخل و الزرع من التمر و الغلّات و الحبوبات و البقول مختلف الألوان و كذلك الزيتون و الرّمان و غيرها. و عندنا الغرض إباحة كل ما يستطيبه الانسان و يتقوي به حياته و يسدّ به جوعه أو يهنّئ به عيشته «1» و ان كان في انتخاب الأمثلة نكتة من الأنفعية أو الخواص الأخفي، فله ذلك كلّه من غير اسراف إلا ما يتلي عليه من المحرّمات.

الخامسة- قوله تعالي:

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعٰامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّٰا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خٰالِصاً سٰائِغاً لِلشّٰارِبِينَ* وَ مِنْ ثَمَرٰاتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنٰابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَ أَوْحيٰ رَبُّكَ إِلَي النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبٰالِ

______________________________

(1)- و يؤيد ذلك السياق من تحليلهم و تحريمهم من عند أنفسهم في الآيات السابقة حتي ينتهي الي قوله تعالي:

«قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلٰادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا مٰا رَزَقَهُمُ اللّٰهُ افْتِرٰاءً عَلَي اللّٰهِ قَدْ ضَلُّوا وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ». (الانعام [6] الآية 140)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 274

بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمّٰا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرٰاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهٰا شَرٰابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

(النحل [16] الآيات 66- 69)

تفيد الآيات ان اللّه تعالي أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها بإجراء الأنهار و إنبات النبات و الأشجار ليعيش عليها الانسان و كل ذي حياة بسهولة.

و في الأنعام و خصوصيات حياتها آيات من جهات شتّي سيّما جهاز اللبن الخالص السائغ للشاربين الخارج من بين فرث و دم، خلقه اللّه لكم، و

كذلك ثمرات النخيل و الأعناب بأقسامها و طعومها المختلفة ففيها بألوانها و طعومها و أشكالها و حركاتها نحو البقاء و الحياة آيات، و كذلك العسل المتّخذ من النحل مختلف الألوان فيه شفاء للناس، فان ذلك كلّه مع آيات في مختلف شئون الحياة خلق للناس و لهم الانتفاع منها، و قد قلنا ان في انتخاب المذكورات نكات راجعة الي امتيازات فيها اكتشف بعضها بالتجربيات الحاصلة في الأعصار اللاحقة كما تعلم، و في آخر الآيات أشير الي مسألة للبحث عنها محل آخر من ان اللّه تعالي هو الذي فضّل بعض الناس علي بعض في الرزق و ليس لهم التسوية أ فبنعمة اللّه يجحدون؟

السادسة- قوله تعالي:

وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنّٰا عَليٰ ذَهٰابٍ بِهِ لَقٰادِرُونَ* فَأَنْشَأْنٰا لَكُمْ بِهِ جَنّٰاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنٰابٍ لَكُمْ فِيهٰا فَوٰاكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ* وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنٰاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ* وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعٰامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّٰا فِي بُطُونِهٰا وَ لَكُمْ فِيهٰا مَنٰافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ.

(المؤمنون [23] الآيات 18- 21)

الآيات بعد بيان خلق الانسان و مراتب تكامله الأولي ثم تكامل جنينه في المراتب اللاحقة و استعداده لقبول روح اللّه و إنشاء خلق آخر، و بعد بيان أنّ المؤمنين منهم هم الذين في صلاتهم خاشعون، و للزكاة فاعلون، و لفروجهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 275

حافظون، اولئك هم المفلحون. و بعد بيان ان المسير الطبيعي للانسان و الحركة الي الموت ثم الحياة بالبعث في يوم القيامة، و عندئذ يمنّ اللّه تعالي علي الانسان بخلق النظام العلوي الذي يتمكّن به ان يعيش و يستمتع من الحياة في ظلاله بقوله لَقَدْ خَلَقْنٰا فَوْقَكُمْ سَبْعَ

طَرٰائِقَ وَ مٰا كُنّٰا عَنِ الْخَلْقِ غٰافِلِينَ و انا نحن انزلنا لكم من السماء ماء و قدّرنا لكم تقديرا لا زائدا و لا ناقصا لئلا تختل شرائط الحياة فانزلناه بقدر و أسكنّاه في الأرض في تخوم البرّ و عروق الجبال و في البحار و الأنهار، و لو شئنا هلاككم فانّا علي ذهاب به لقادرون، فتجفّ الأرض و تنقطع الحياة التي هي كل شي ء من الماء، ثم أنشأنا لكم بذلك الماء المنزل المضبوط الكافي جنّات من نخيل و أعناب و خلقنا لكم من تلك الجنّات فواكه كثيرة تأكلون منها و كذلك شجرة تخرج أولا من طور سيناء تنبت بالدهن و صبغ للآكلين، و هو الزيتون المذكور في الآيات الاخري ردف الفواكه «1» و انّ لكم في الأنعام لعبرة لمن يعتبر من جهات شتّي سيما فيما نسقيكم ممّا في بطونها من اللبن السائغ للشاربين الجامع لمواد كثيرة تغذّي الانسان و تقويه.. سهلة التناول عذبة الطعم، و كذلك تأكلون من لحوم الأنعام و شحومها و كل ما تستطيبونها إلّا ما يتلي عليكم و لكم فيها منافع كثيرة أخري حيا و مذبوحا كما ترون ما تصنعون من أنواع اللباس و الاثاث من جلودهم و شعورهم و أدبارهم و …

فالآيات- كما عرفت من صراحتها و سياقها- ترشد الي ان اللّه تعالي خلق العالم و ما فيه للانسان حتي يتمتع و ينتفع مما يشاء كيف يشاء إلّا ان يمنعه اللّه عن شي ء و يحدّه لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشيٰ و يشكر نعمة ربه و يعبده و يخلص له فيفلح.

______________________________

(1)- و في ذلك المقام أيضا قوله تعالي: «وَ نَزَّلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً مُبٰارَكاً فَأَنْبَتْنٰا بِهِ جَنّٰاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ* وَ النَّخْلَ بٰاسِقٰاتٍ لَهٰا

طَلْعٌ نَضِيدٌ* رِزْقاً لِلْعِبٰادِ» (ق [50] الآية 9- 11). تصرّح الآية بأن تنزيل الماء المبارك كثير المنفعة الذي يعطي المحصود من الحبوب كالحنطة و الشعير و الارز و … و الثمرات الباسقات كالنخل و الطلع النضيد بعضه فوق بعض و في النهاية احياء الأرض، كل ذلك كان رزقا للعباد. فتدلّ المفعول له في الآية علي إباحة الانتفاع الكلي و انه الأصل إلا ما خرج بدليل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 276

السابعة- قوله تعالي:

وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهٰا وَ تَرَي الْفُلْكَ مَوٰاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

(النحل [16] الآية 14)

تصرّح الآية أيضا بأن اللّه تعالي هو الذي سخّر البحر بقدرته فقيّده بحدود و قوانين بإرادته و لطفه فتهيأ لنماء الحيوانات الخاصة و صار ساحة لاعاشتهم، و تنازعهم، و تكاملهم، و تنوّعهم، و لهم في كل مرتبة شرائط خاصة بها يتمتعون و يعيشون، من الثقل و الحرارة و النور و نفوذ الهواء و غيرها، و لا سيما الاسماك بأنواعها الكثيرة و أشكالها المختلفة.. كل ذلك للانسان ليأكل منه لحما طريّا و يستخرج منه حلية يلبسونها و تجري فيها الفلك مواخر و يبتغي منه فضل اللّه تعالي من كل شي ء يمكن الانتفاع منه؛ من مائه و صيده و حليته و ملحه الي البترول المدّخر في أعماقه، اذا اقتدر الانسان ان يستخرجه؛ و كل ذلك لعلّ الانسان الذي هو لحبّ الخير لشديد و لربّه لكنود يشكر ربّه و نعمه فيعبده و يخلص له، و لكن هيهات و الانسان خلق ضعيفا هلوعا، و للخير منوعا، و اذا مسّه الشرّ جزوعا، يطغي اذا كشف عنه الضرّ و رأي انه استغني

و قد يمرّ كأن لم يدع ربّه و لم يعرفه.

الثامنة- قوله تعالي:

وَ مٰا يَسْتَوِي الْبَحْرٰانِ هٰذٰا عَذْبٌ فُرٰاتٌ سٰائِغٌ شَرٰابُهُ وَ هٰذٰا مِلْحٌ أُجٰاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهٰا وَ تَرَي الْفُلْكَ فِيهِ مَوٰاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. (فاطر [35] الآية 12)

تخبر الآية عن البحرين بأنهما لا يستويان أحدهما عذب فرات ماؤه سائغ شربه، و الآخر ملح اجاج لا يساغ شربه، كل منهما علي قوانين خاصة لا يختلطان، و هما يلتقيان، و في كل منهما تنشأ و تعيش ذوات الحياة أشدّ و أعظم ممّا في البرّ و منها الأسماك علي أنواعها الكثيرة، فتأكلون منهما لحما طريا و تستخرجون حلية

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 277

تلبسونها، و تجرون فيهما و عليهما الفلك مواخر تبتغون فضل اللّه مما فيها و عليها و علي السواحل بنقل الأمتعة من قطر الي قطر و التعاون علي العيش و الحياة الاجتماعية الانسانية حتي معرفة اللّه و العلم و الدين، و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و يمنعه عمّن يشاء، و كل ذلك لعلّكم تشكرون نعمة اللّه و لا تفسدون في الأرض برا و بحرا، فان ذلك بأيدي الناس و من كسبهم، لا من خلق اللّه و غرض الوجود، و قد ظَهَرَ الْفَسٰادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي النّٰاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم [30] الآية 41).

و الآيات كما تري و كسابقتها ترشد الي إباحة الانتفاع ممّا في البحر و أكل لحومه طريّا كما هو الغالب.

التاسعة- قوله تعالي:

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعٰامُهُ مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّٰارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مٰا دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.

(المائدة [5] الآية 96)

الآية ضمن آيات الحج و بيان أحكام الحاج و المعتمر المحرم تفرق بين صيد البرّ و البحر بأن الثاني حلال للمحرم متاعا له و للسيّارة دون الأول فانه حرام عليه ما دام محرما، فلا بأس به بعد التقصير و خروجه عن الإحرام، كما يجوز الانتفاع به في غيره متاعا و أثاثا، و هو ارشاد كما عرفت في أصل الحلية و لا يبعد استفادة حرمة صيد البحر أيضا حال الإحرام للتجارة لا للمتاع له و للسيّارة من قيد المتاع فتأمل.

العاشرة- قوله تعالي:

وَ اللّٰهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعٰامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهٰا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقٰامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوٰافِهٰا وَ أَوْبٰارِهٰا وَ أَشْعٰارِهٰا أَثٰاثاً وَ مَتٰاعاً إِليٰ حِينٍ. (النحل [16] الآية 80)

الآية- كما تري- تفيد جواز مطلق الانتفاع عن الأنعام و استخدامهم في مطلق شئون الحياة و من جميع اجزائهم بعد الذبح لحما و جلدا و صوفا و شعرا و وبرا بل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 278

و دما في غير الأكل و ما يشترط فيه الطهارة. و المستفاد الزائد هنا جواز الانتفاع من غير المأكول أيضا اثاثا و متاعا ما لم يمنع عنه الشرع. وَ اللّٰهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّٰا خَلَقَ ظِلٰالًا وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبٰالِ أَكْنٰاناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرٰابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرٰابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (النحل [16] الآية 81).

فالآيتان ترشدان الي الأصل الأوسع الأولي و هو إباحة الانتفاع من كل ما خلقه اللّه تعالي إلّا ما يتلي عليكم من المحرمات.

الفصل الثالث: المحرّمات

و لنعرف في الفصل مصاديق ما يتلي عليكم المذكور في أكثر الاطلاقات ليجتنب عنها و يبقي الباقي علي الاباحة الاصلية؛

و في الفصل آيات:

الأولي- قوله تعالي:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ، وَ الْمُنْخَنِقَةُ، وَ الْمَوْقُوذَةُ، وَ الْمُتَرَدِّيَةُ، وَ النَّطِيحَةُ وَ مٰا أَكَلَ السَّبُعُ إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ وَ مٰا ذُبِحَ عَلَي النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلٰامِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلٰا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجٰانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(المائدة [5] الآية 3)

تحصي الآية المحرّمات اخبارا عن الحكم في مقام الانشاء و انّها الميتة عرفا و هو كل ما مات حتف انفه، و الدّم، و لحم الخنزير بل و شحمه و كل شي ء منه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 279

- و اللحم ذكر تغليبا «1» - و ما أهلّ به حال ذبحه بغير اسم اللّه سواء ذبح باسم صنم أو بلا اسم اصلا «2» و المنخنقة التي خنقت نفسها حتي ماتت بعمد أو بدونه، و الموقوذة التي ضربت بحجر أو خشب حتي ماتت، و المتردية التي سقطت من علوّ فماتت، و المنطوح من حيوان آخر فمات منه، و ما اصطاده السبع و أكل منه قطعة جزأ عنه فمات الّا ان تدركوه حيّا فتذبحوه، و كذلك يحرم ما كان يذبح علي النصب و هي الأحجار المنصوبة حول البيت تعظيما أو حول الأصنام تقرّبا إليها، و الأزلام، فان ذلك كلّه فسق أكله و انحراف عن الطريق المتعادل في ذبح الحيوان للانتفاع منه من غير ايذائه. و حرمة ذلك كلّه في حال الاختيار و القدرة علي الاجتناب، و من اضطر في مخمصة بحيث توقف حياته علي أكل شي ء منها من

غير تجانف لاثم فانّ اللّه غفور رحيم. و اما الجملتان الواقعتان بين الآية فنعتقد ان محلهما هو هذا، كان ذلك بترتيب النزول أو بأمر النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و لكن الرمز الأساسي في مثل هذه الآيات «3» و تعيين محلّها حفظها عن أيدي المخالفين حتي ينتهي الأمر الي الأزمنة التي تنجو عن الخطر الخطير (الاسقاط و التحريف). و بعد فنفس الآيات بلسانها الطبيعي تنادي و ترشد الي المطلوب الحقيقي الأصلي، كما تعرف من المبحوث عنها ان اليومين الذين يئس الذين كفروا من دين الاسلام و أكمل فيه الدين و النعمة لا يرتبطان بتحريم أشياء و تحليلها من الحيوانات، فان ذلك كيف يوجب انقطاع رجاء الكفّار عن المقابلة مع الاسلام؟ و كيف يكون كمال الدين و تمام النعمة بذلك؟ و قد أشبعنا الكلام فيها في رسالتنا (حول آيات الولاية) فراجع.

الثانية- قوله تعالي:

______________________________

(1)- نعم لا بأس بالانتفاع به في غير الأكل مما لا يشترط فيه الطهارة كما يشير إليه ذكر اللحم.

(2)- الحاق ذلك جمعا مع قوله تعالي: «و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه»، كما سيأتي ان شاء اللّه و إلا فالتعبير لا يشمله كما لا يخفي.

(3)- آية التطهير و آية الولاية، و المبحوث عنها آية الاكمال.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 280

إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّٰهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(البقرة [2] الآية 172) و (النحل [16] الآية 144).

الآيتان بلسان واحد في المقامين بعد الأمر بأكل الطيّبات من الرزق و شكر النعمة تعد المحرّمات بأداة الحصر النسبي لا محالة لوجود محرّمات اخري

بآيات اخر كالخمر فتحصي الميتة و الدّم، و لحم الخنزير، و ما أهلّ به حال ذبحه لغير اللّه- سواء باسم صنم أو بلا اسم اصلا «1» - و ذلك كلّه كما عرفت في حال الاختيار و اما فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

الثالثة- قوله تعالي:

قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَليٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (الأنعام [6] الآية 145)

أمر اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ان يقول للناس ان الأشياء علي الحليّة و كلّ شي ء في الأرض و السماء، في البر و البحر، يحل الاستمتاع منه إلّا أشياء معدودة، و ذلك ببيان صريح من اني لا أجد فيما أوحي إليّ من أحكام اللّه و حدوده من حرامه و حلاله ممنوعا محرّما علي طاعم يطعمه إلّا ما أشير إليه من الميتة و الدّم و لحم المسفوح السائل الخارج عن جسد الحيوان دون الباقي فيه بعد التذكية «2» و لحم الخنزير فانّه رجس لا بدّ من الاجتناب عنه بلحمه و شحمه و جلده و كل شي ء منه «3» و كذلك ما أهلّ به لغير اسم اللّه فلم يسمّ اللّه حال تذكيته عمدا و فسقا فان ذلك كلّه

______________________________

(1)- قد عرفت ان الحاق ذلك القسم بمقتضي الجمع مع قوله تعالي: «و لا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه» كما سيأتي.

(2)- و دون غير السائل كما في البق و البرغوث و أمثالهما و ان امتص من انسان أو

غيره مما له نفس سائلة.

(3)- نعم لا بأس بالانتفاع به في غير ما يشترط فيه الطهارة كاسقاء الزرع بجلده مثلا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 281

حرام أكله و طعمه. و الحكم ذلك حال الاختيار و اما من اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه و لا بأس به فان ربّك غفور رحيم، و اما نجاسة الميتة و الدم و الخنزير بعد حرمتها فمبتن علي رجوع الضمير الي مستثني كما لا يبعد «1». نعم تعليل التحريم بالرجس يفيد حرمة أكل كل نجس و ان جاز سائر انتفاعاته كما هو ظاهر إثارة غفران الذنب، و المقترف لتلك المحرّمات في المخمصة غير متجانف لاثم فانه لا نهي حال الاضطرار فلا يكون عاديا مذنبا و ان كان مقتحما فيما به حرّم تلك المحرّمات علي قاعدة الأهم و دفع الأفسد بالفاسد، و اختيار الأقل حال دوران الأمر بين الضررين فلا إثم و لا بغي، و عندئذ فتعبير الغفران علي اللطف و العناية لتحقق مبغوض ما في الجملة و ان لم يصح التكليف و النهي عنه كما هو ظاهر.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَأْكُلُوا مِمّٰا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّٰهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّيٰاطِينَ لَيُوحُونَ إِليٰ أَوْلِيٰائِهِمْ لِيُجٰادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ. (الانعام [6] الآية 121)

تنهي الآية صريحا عن أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه حال ذبحه و تذكيته، سواء ذكر عليه اسم آخر من صنم و غيره أو لم يذكر اصلا، فلا تنحصر الحرمة بما اذا أهل به غير اللّه و ذكر اسم غيره تعالي كما قد يتوهّم من تعبير الاهلال به بغير اللّه المذكور في الآيات السابقة ليحلّ غير المذكور عليه غير اللّه- ذكر اللّه

أو لم يذكر- و قد عرفت ان المقصود من الاهلال به لغير اللّه أيضا ناحية الاثبات و انه لا بدّ من ذكر اللّه فيحرم ما لم يذكر اسم اللّه عليه كما صرّح به المقام، و ذلك أي التذكية بغير اسم اللّه أو أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه فسق، و الثاني هو المبحوث عنه و ان كان الأول سببا له، ثم تؤكد الآية الأمر بأن الشياطين ليوحون الي أوليائهم و تابعيهم و يوسوسون فيهم علي تأثير ذكر اسم اللّه تعالي في حليّة اللحم و حرمته فيجادلونهم في مثل تلك

______________________________

(1)- و قد أشرنا إليه في كتاب الطهارة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 282

الأحكام لينكروها فيتركوها و يتّبعوا الشيطان، فان اطعتموهم و اتبعتم ما يوحي هؤلاء المشركون و يقولون علي خفاء و ستر في الردّ و الانكار لأحكام اللّه تعالي فانكم اذا مثلهم فاتّبعوا اللّه و أطيعوه و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه- أدركتم وجه ذلك بعقولكم الناقصة أو لم تدركوه- و كيف تنكرون تأثير ذلك و لا وجود في العالم بلا أثر، فان كل مرحلة من الوجود حتي اللفظي منه له أثر حسب صدوره و مصدره، و ما يصدر له في وضع خاص كما عرفته في تأثير العقود في الحلية و الحرمة و ان رضاء الباطن من غير كاشف غير كاف. و قد أثبت العلم الطبيعي «1» تأثير توجهات النفس و الكلمات المتبادلة بين الزوجين حال المباشرة علي النطفة و الولد الحاصل منهما، و العالم بأجمعه واحد مرتبط بعضه مع بعض من غير انفكاك دون ان يتمكن شي ء من الخروج عنه، و لا يمكن الفرار من حكومته تعالي، فكيف الجرأة علي نفي تأثير

لفظ- و هو وجود في العالم- علي شي ء و العالم مرتبط، و النهي عن أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه يكشف عن أثر كما لا يخفي طريق ادراكه في الجملة.

ثم أكد الأمر في الآية الاخري السابقة عليها، قال تعالي: وَ مٰا لَكُمْ أَلّٰا تَأْكُلُوا مِمّٰا ذُكِرَ اسْمُ اللّٰهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلّٰا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ (الانعام [6] الآية 119) فالحرام اللازم تركه ما لم يذكر اسم اللّه عليه في غير الاضطرار، فلم لا تأكلون من الحلال و تحرمونه علي أنفسكم بالأهواء وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوٰائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ، فان التجاوز عن أحكام اللّه تعالي اعتداء سواء كان في ناحية تحليل الحرام أو تحريم الحلال لا فرق، أعاذنا اللّه منه.

الخامسة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (المائدة [5] الآية 90)

______________________________

(1)- في علم يعبّر عنه ب «علم الجينات» يبحث عن النطفة و مراحلها الأولية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 283

تخاطب الآية المؤمنين و تخبرهم بحقيقة طبيعية هي ان الخمر بطبعه و الميسر كذلك و الانصاب و الأزلام رجس قذر تتنفر عنه الطباع و العقول لا يعمله الّا الشيطان فانه من عمله. و اذا كان الأمر كذلك، فاجتنبوه و احترزوا عنه لعلّكم تفلحون بالائتمار للأوامر و التناهي عن المحرّمات الارجاس، و الشيطان يريد ان يوقع بينكم العداوة و البغضاء و يصدّكم عن ذكر اللّه فيأمركم بأمثال الخمر و الميسر فاذا سكر عقولكم و ستر و تغالبتم في الميسر، تباغضتم و تضاربتم فتعاديتم، و بذلك اعرضتم عن ذكر اللّه، و من أعرض عن ذكر اللّه

فان له معيشة ضنكا، و الأمر اذا كان كذلك فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ مجتنبون أو متّبعو الشيطان فيضلكم و يرديكم الي الخزي و الخسران.

و من المعلوم دلالة الآية بلسانها الخاص و سياقها المخصوص علي شدّة الحرمة و كبر الاثم في كل من الخمر و الميسر مطلقا.

السادسة- قوله تعالي:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا وَ يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ … (البقرة [2] الآية 219)

أمر اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ان يجيب عن السؤال حول الخمر و الميسر بأن فيهما اثما كبيرا لا يقترفه المؤمن باللّه و اليوم الآخر، و ان كان فيهما منافع أيضا ان استخدما علي وجه صحيح من الانتفاع من الكحول في الصنائع أو التداوي بغير شرب، كاعدام الجراثيم، و من الميسر في المسابقات النافعة للمتسابقين فكرا و جسما بل للأمّة كما فصّل في محلته. و مع ذلك كلّه اثمهما أكبر و أعظم خطرا الي جانب منفعتهما، فيحكم عليهما بالاجتناب علي الاطلاق، لئلا يبتلي الناس باسم المنافع باثم كبير. و مع ذلك يصرح بجواز الانتفاع في غير الشرب و ما يشترط فيه الطهارة.

و المستفاد من الآيتين انهما كانا محرّمين بطبعهما في كل شريعة و الاثم الطبيعي الموجود فيهما الغالب علي نفعهما مما لا يقبل التخصيص بزمان دون زمان

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 284

و قوم دون قوم و قليل أو كثير، فان النار و الذنب قليلهما كثير، فلا يتم ما يتوهم من التدرج في التحريم، كما لا يتم ما عن (سيد قطب) في (ظلال القرآن) من شرب نفر من الصحابة، و عن علي (عليه السّلام) في مقام بيان شدّة التنفير

عنه لو وقعت قطرة من الخمر في بئر فبنيت مكانها منارة لا أؤذن عليها، و لو وقعت في بحر ثم جفت و نبت فيه لم ارعه.

و مع الأسف فهما في بلادنا الاسلامية لا يعدان بنظر الحكّام منكرا بل يرغّبون فيها الشبّان عملا. فعلي سبيل المثال في البلدة التي ليست بعيدة من قزوين و قريبا من رشت في شمال ايران و نحن مبعدون إليه لا توجد مكتبة يباع فيها كتاب؛ و يباع و يشرب علي رءوس الاشهاد الخمر و الفقّاع. و لقد رأينا فيها ميّتا شيّعه المسلمون و قد مات علي مشربه تسابقا في الشرب. و لعنة اللّه علي مروجيه الصهاينة و مؤيديهم، و قطع اللّه أيدي الظلمة الفجّار عن بلاد المسلمين ان شاء اللّه بنصر منه تعالي و بأيدينا.

خاتمة فيها [خمسة] مسائل

اشارة

الأولي: مقتضي اطلاقات حليّة صيد البحر و أكل اللحم منه طريّا جواز الأكل من كل حيوان بحريّ و ان كان الغالب في الصيد السمك فانه الذي يصاد بسهولة في الأزمنة المختلفة. و الخارج بالسّنة السمك الذي لا فلس له، و غاية الاحتياط الحاق المماثل للمحرّمات البريّة من الكلب و الخنزير مع انهما و اشباههما نوع سمك غير ذي فلس فيبقي الباقي تحت الحليّة مما امكن اصطياده في زماننا هذا بالأجهزة الصناعية، و ليس بسمك و لا مماثل للمحرّمات البرية من ذوات الجثة العظيمة إلا ما اخرجته السّنة صريحا، فلا يخلو ما في كلمات الاصحاب (من انه لا يؤكل من البحر إلّا سمكه المفلس) من التأمّل و النظر، مع انهم (رضوان اللّه عليهم) افتوا بحليّة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 285

الروبيان و ليس هو بسمك «1» و لا مماثل للمحللات البريّة، و البحر طهور ماؤه و حلال ميتته،

لو لم نقل بانصراف الميتة في الآيات المحرّمة الي البري حتّي يتم استدلال الشيخ (ره) في (الخلاف). و غاية الأمر لزوم الذبح فيما كان من ذلك له نفس سائلة بما هو المتعارف فيه عرفا لو قلنا بانصراف ميتته الحلال الي السمك بالغلبة «2».

الثانية: يحرم كل ما يستخبث بالطبع و ليس طيبا و لو كان من اجزاء المذبوح المأكول اللحم كالطحال و القضيب و الانثيين و الفرج و المشيمة و المثانة و النخاع و الغدد و الفرث و أمثالها.

و لا يقال: ملاك الاستخباث ان كان طبع العرف العادي فنري خلاف ذلك عنهم في مثل الانثيين، و ان كان عرف المتشرعة فلا بد من دليل علي الحرمة غير الاستخباث و لا دليل إلا روايات ضعاف.

فانه يقال: الظاهر استخباث طبع الانسان بما هو عنهما و عمّا يتعلق بهما من آلات التناسل، و لا نعرف عرفا يستطيبهما للأكل حتي الذين يستحلونهما فانهم علي خفاء و تستّر كما يشربون الخمر، مع روايات في الباب لا يصح الاعراض عنها.

الثالثة: قوله تعالي:

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ … (المائدة [5] الآية 5)

______________________________

(1)- و العجب ما عن السيد (ره) في الوسيلة الحاقة بالسمك موضوعا و انه من جنسه، و الالحاق حكما أصحّ، و لقد شافهناه حينما كنّا مبعدين الي ميناء جنوبي (بوشهر)، و كذلك مشويّة علي ما كان متداولا، و هو بالخراطيم اشبه من السمك، و من آيات اللّه تذلل حيوان بحري جسيم قبال ذلك، مع انه يخاف و يحترز عنه أكثر البحريات فانه يدخل فمه يتغذي مما بين اسنانه فيستريح. لقد نقلنا ذلك عن فلم تلفزيوني رأيناه في سجن البلدة.

(2)- و مسألة تأثير

اخلاق الحيوان في الانسان بأكله، و لعلّه الملاك في تحريم السباع البرية و بعض الطيور بل في مثل الخنزير زائدا علي ضرره الجسمي الممكن ازالة شي ء منه باعدام الجراثيم بالحرارة و غيرها ليكون ذلك ملاك الحرمة في غير السمك المفلس من البحريات بحث علمي طبيعي لا فقهي يصحّ الاتكاء عليه في الفتوي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 286

صراحة الآية انّ طعام أهل الكتاب اليهود و النصاري و من ألحق بهم حلّ للمسلمين، كما ان طعام المسلمين حلّ لهم، و الطّعام- لغة- كل ما يتناول منه طعم، كما عن المفردات- سواء كان علي طبعه الأول أو بعد التصرّف فيه بطبخ أو مزج أو خلط أو غيرها- و عن الجوهري: الطعام ما يؤكل و ربّما خصّ به البر و إرادة قسم خاصّ كالبرّ في لغة أهل الحجاز.

و استعماله في لغتهم أو في الحديث النبوي المشهور انه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أمر بصدقة الفطر صاعا من الطعام أو صاعا من الشعير، في البرّ لا يوجب الاختصاص مع ما في افادة الحديث ذلك من الفطر لإمكان مقابلة غير البرّ الاعم منه مع الشعير.

و كيف كان فالظاهر ان الحكم قائم علي أساس المقابلة و بملاك الاضافة و الانتساب، كما عن صاحب الزبدة (رحمه اللّه). فكما لا يستفاد من حليّة طعام المسلمين لهم حليّته حتي فيما اذا كان نجسا بالعرض، الاجتناب عند أهل الكتاب أو كان ممّا يحرّمون أكله، فكذلك حليّة طعامهم لنا لا تدلّ علي حليته حتي من جهة النجاسة لو قلنا بانهم مشركون «1» و هم نجس، أو من جهة ما يستحلونه كالخمر و الخنزير. فكل ما صدق عليه طعامهم ما دام لم يكن من المحرّمات عندنا

كالخمر و الخنزير، أو متنجسا بالعرض كما لو قلنا بطهارتهم. و لا يبعد و لم يلحقه نجاسة اخري، أو لم يباشروه مع الرطوبة علي القول بنجاستهم فهو حلال لنا لا بأس بأكله و شربه و بيعه و شرائه كحليّة طعامنا لهم ما لم يكن مما يحرّمونه أو نجسا بالعرض لازم الاجتناب لديهم.

فان قلت: نفس كون الشي ء بعد حليّته ذاتا ملكا للغير لا يحتمل ان يكون ملاكا

______________________________

(1)- كما يؤيد ذلك قوله تعالي: «وَ قٰالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّٰهِ وَ قٰالَتِ النَّصٰاريٰ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّٰهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ يُضٰاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قٰاتَلَهُمُ اللّٰهُ أَنّٰي يُؤْفَكُونَ». (التوبة [9] الآية 30) و عندنا دلالة الآية علي شركهم مشكل مع دلالتها علي نقص في توحيدهم لو كان القول بالأبنية علي الحقيقة و مشابهة قولهم لمقالة الكفّار غير مقالتهم و للبحث محل آخر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 287

للحرمة مع اذن صاحبه و اجازته أو تمليكه حتي يمن اللّه تعالي المسلمين بحليّته.

قلت: نعم، نفس ذلك لا يوجب حرمته ذاتا و لكن يمكن ان يوجب حرمته عرضا كحرمة المغصوبة و الموطوءة و الجلالة، و حيث لا بدّ للمسلم التجنب عن المشركين و المعاندين فانهم اعداء اللّه و أعداء من يعبد اللّه، فيحتمل في حقهم ذلك علي ملاك التجنب المطلق؛ و أهل الكتاب سيّما اليهود أعداء المسلمين لا بدّ من اجتنابهم، كما فصلناه من قبل، فقد منّ اللّه تعالي علي المسلمين بحليّة طعامهم من تلك الجهة، و ان التجنب عنهم لا يوجب حرمة طعامهم فأحلّ لكم الطيبات و طعام الذين أوتوا الكتاب و لا ينافي ذلك الحرمة من جهات اخري ذاتية أو عرضية كما عرفت.

الرابعة: عدما عرفنا ان الأصل حليّة كل

شي ء يمكن ان يتغذي أو يتقوي به الانسان و يطعمه إلا ما أخرجه الدليل و عرفنا أيضا المحرّمات الذاتية بعناوينها الكلية؛ فليعلم ان الحلال قد يحرم عرضا كما اذا تنجس أو كان تصرفا في ملك الغير بغير اذنه شفاها أو فحوي «1» أو كان اسرافا؛ و حيث ان الاولين معلومان فلنختم الخاتمة بالكلام في الأخير.

الاسراف

الاسراف: هو التجاوز عن الحدّ سواء كان في الأموال أو في غيرها. قال تعالي:

وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بعد قوله تعالي وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ أَعْميٰ. قٰالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْميٰ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قٰالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيٰاتُنٰا فَنَسِيتَهٰا وَ كَذٰلِكَ الْيَوْمَ تُنْسيٰ. وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ

______________________________

(1)- كالأكل من البيوت التي ملكتم مفاتحه أو بيوت الاقرباء و الاصدقاء، و قد صرّح به قوله تعالي: «وَ لٰا عَليٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبٰائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهٰاتِكُمْ (الي قوله) أَوْ مٰا مَلَكْتُمْ مَفٰاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتٰاتاً» (سورة النور [24] الآية 61) فان ذلك كلّه لإذن الفحوي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 288

أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآيٰاتِ رَبِّهِ وَ لَعَذٰابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقيٰ. (طه [20] الآيات 124- 127)

فان صراحة هذه الآيات هي من استعمال الاسراف في غير المال؛ و كذلك قوله تعالي: قُلْ يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَليٰ أَنْفُسِهِمْ لٰا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ.

(الزمر [39] الآية 53)

و في الأموال خصوصا قال تعالي: كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ لٰا تَطْغَوْا فِيهِ. (طه [20] الآية 81)

فان الطغيان في الأكل و التجاوز عن الحدّ من الاسراف و هو يوجب الهويّ و السقوط

عن رحمة اللّه و يحلل غضب اللّه علي مقترفه، و لكنه غفّار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدي، و قال تعالي: يٰا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الاعراف [7] الآية 31)، و قال تعالي: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذٰا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الأنعام [6] الآية 141)

و التبذير أخذ من تفريق البذر و نشره في الأرض، و يطلق علي اضاعة المال «1» و تفويته- سواء كان في المؤن و المحاويج- فان تفريق البذر في الأرض اضاعة ظاهرا في بدو النظر. و عليه فكل تبذير اسراف و لا عكس، قال تعالي: وَ آتِ ذَا الْقُرْبيٰ حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لٰا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ الشَّيٰاطِينِ (الاسراء [17] الآية 26- 27).

و يقابلهما التقتير أي التقليل في الانفاق علي العيال و غيره عن حدّه اللازم المتعارف. قال تعالي- في مقام توصيف عِبٰادُ الرَّحْمٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَي الْأَرْضِ هَوْناً: وَ الَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً (الفرقان [25] الآية 67). أي لم يتجاوزوا زيادة و لم يقتصروا نقيصة و انفقوا علي حدّه

______________________________

(1)- و سنشير إليه في مسألة الرزق في القرآن.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 289

المتعارف.

و كيف كان، فالمبحوث عنه في المقام هو الاسراف في الأموال، و التجاوز عن حدودها الشرعية و العقلائية في المئونة، لا سيما في الأكل و الشرب. و المستفاد من آيات الباب: ان المطلوب شرعا؛ التوسيط و التعديل بين الاسراف و التقتير حتي لا يكون تبذيرا أيضا بل أمر بين

الأمرين. قال تعالي خطابا لنبيّه الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم):

وَ لٰا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِليٰ عُنُقِكَ وَ لٰا تَبْسُطْهٰا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً* إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كٰانَ بِعِبٰادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (الاسراء [17] الآية 29 و 30)، و كذلك قوله تعالي: وَ الَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً (الفرقان [25] الآية 67)- كما عرفت- فان دلالة الآيات علي المطلوب من رعاية التوسيط و التعديل في صرف المال ظاهر. و اما التجاوز عنه الي أحد الحدين: الاسراف و الزيادة أو التبذير و النقيصة فمحرم مبغوض و اتّباع لخطوات الشياطين و بعد عن رحمة اللّه، فيحلّ غضب الرحمن إلّا من تاب. قال تعالي: وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ في المقامين- كما عرفت- و النهي ظاهر في الحرمة، و عدم الحبّ تأكيد لا القرينة علي الكراهة، و كذلك ما يوجب اخوة الشيطان محرّم لا مكروه «1». أعاذنا اللّه من التجاوز عن حدوده تعالي و الابتلاء بمعاصيه و محرّماته في الأموال و غيرها ان شاء اللّه.

الرزق «2»
اشارة

الخامسة: الرزق و هو ما يتغذي به الانسان و يقوي به حياته و يستبقيها ماديا و معنويا دنيويا و اخرويا. و من المعلوم ان ذلك لا يكون إلّا بيد الذي يحيي و يميت و هو علي

______________________________

(1)- و لقد أشرنا الي ذلك في مقدمة كتاب التجارة علي نحو الاختصار.

(2)- عن المفردات: الرزق يقال للعطاء الجاري تارة- دنيويا كان أم اخرويا- و للنصيب تارة، و لما يصل الي الجوف و يتغذي به تارة. انتهي، و الظاهر ان المعني ما هو الساري في جميع تلك الموارد كما ذكرنا.

فقه

القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 290

كل شي ء قدير.

فاللّه تعالي هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ يرزق من يشاء بغير حساب في قبضه و بسطه في تقتيره و تكثيره.. يبسط الرزق لمن يشاء و يقبض.

و الانسان بنوعه علي بسيط استحق الارتزاق مما عليها من مائها و كلائها و مما يخرج عنها و ما ينبت عليها من الثمرات من غير تفاوت بين صنف و صنف أو فرد و فرد في الاستحقاق ابتداء «1». قال تعالي: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرٰاشاً وَ السَّمٰاءَ بِنٰاءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرٰاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلٰا تَجْعَلُوا لِلّٰهِ أَنْدٰاداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 22)

و قال تعالي: يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ كُلُوا مِمّٰا فِي الْأَرْضِ حَلٰالًا طَيِّباً وَ لٰا تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ الشَّيْطٰانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (البقرة [2] الآية 168) و غير ذلك من الآيات التي ذكرناها من قبل.

إلّا انه باختلاف مناطق الأرض و ما فيها، و كذلك اختلاف ما يخرج عنها و ينبت عليها من النجوم و الأشجار أو يدبّ عليها من دابّة اختلافا طبيعيا يقتضيه العوامل الكثيرة المنبثقة من نواميس عديدة، المتسق و حركات عالم الطبيعة بإرادة الخالق المتعال.

و أخيرا باختلاف مستوي القدرة و العمل بل الفكرة و العلم العامل في العمل في أفراد الانسان الناشئ من تركب ما ذكرنا من العوامل، مع ما اختاره من العمل الموجب لتشكل خلق و طبع فيه أو العادة المتقاربة و المتناسبة أكثرا، مع ما احاطه.

و لست أقول ان الانسان بكيفياته مخلوق و مصنوع لما احاطه و لا مسئولية، بل هو محصول للخلقة و القدرة المحيطة (إرادة اللّه تعالي) حسب استعداداته المتناسبة مع شرائطه الماديّة.. مسئول عمّا عرض عليها باعمالها المختارة المؤثّرة

بحكم الطبيعة

______________________________

(1)- و سياق الآيات و موردها يبيّن الحكم في الأكل و الشرب أيضا بعد شمول الاطلاق.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 291

و الخلقة من أحكام اللّه تعالي التكوينية علي ما فصّل في محله «1».

و كيف كان لا اشكال في اختلاف انسان مع انسان بعد اتحاد الجميع في الأصول الانسانية النوعية، و لا يمكن تساوي شخصين من جميع الجهات؛ و كل ذلك ينتج التفاوت الفاحش و اختلاف الظاهر فيما يعمله و مقدار العمل و ما يستحقه بعمله حسب تأثيره في سعادة المجتمع و قيمته حال التبادل و التقابل اللازم في العيش التعاوني الانساني.

و من ذلك تتفاوت امكانات استمتاعات الاشخاص حقوقا في العمل، و ذلك الاختلاف علي التعادل هو الحق و العدل دون ما اذا كان من بغي البعض علي الآخر و من الظلم بسؤال النعجة الي النعاج. و العدل غير مساواة الناس امام الاحكام و الحدود و الحقوق بحدودها علي السواء من غير تفاوت و تفاضل.

و أنت تعلم ان نتيجة تطبيق جميع قوانين الاسلام في مختلف الشئون الاقتصادية العملية «2» و التجارية و السياسية و … هو التعادل الاجتماعي بأعدل وجه دون التباعد الحاصل من الرأسمالية الغربية بين الطبقات و دون الكبت و تدمير الاستعدادات و الجمود الميكانيكي الحاصل من الاشتراكية الشرقية في الشيوعية، و غيرهم «3» فان اقتصاد الاسلام أعدل المسالك في مسألة كيفيّة الاستمتاع مما علي الأرض بل مما في الطبيعة للانسان، و تفصيل الكلام خارج عن وضع الرسالة، و ما استرسل فيه القلم كان مقدمة للمسألة. و كيف كان، ففي المقام آيات يمكن تنويعها الي قسمين؛ الأول: ما يصرّح بأن اللّه تعالي فضل البعض علي بعض بوجه عرفت؛ و ليس للفاضل ان يصير

مفضولا أو يري نفسه أشرف و أعلي. الثاني: ما يشير الي

______________________________

(1)- و تكلمنا حول المسألة في رسالة باللغة الفارسية طبعت تحت عنوان (سازندگي محيط).

(2)- سيما الانفاقات الواجبة من الخمس و الزكاة و الكفارات و المستحبة حسب المناسبات كما فصل في محله فكيف الايثار و تقديم الاخر مع افتقار نفسه ابتغاء لوجه اللّه تعالي.

(3)- مع ان فيهم أيضا طبقات و تفاضل بنحو آخر كما في مسالكهم المختلفة و استمتاع حكّامهم بأكثر من الشعب بنحو فاحش.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 292

ذلك. و في كليهما الأمر بيد اللّه تعالي.

فمن القسم الأول آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لٰا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِليٰ عُنُقِكَ وَ لٰا تَبْسُطْهٰا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً* إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كٰانَ بِعِبٰادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.

(الاسراء [17] الآية 29- 30)

ينهي اللّه تعالي رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) عن انفاق جميع ما في يده حتي يصير محدودا مغلولا تختل مدارات عيشته الظاهرية، فان الانفاق علي الفاقدين الفقراء لا بدّ و ان يكون من الزائد عمّا تدور عليه ضروريات العيشة المتعادلة المتناسبة «1».

ثم يذكر علّة ذلك بأن اللّه تعالي هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء فيعطيه كثيرا و يوسع عليه أو يقتر عليه فانه- تعالي- خبير بعباده يعلم ما يصلحهم و ما يفسدهم بصير بما تراه- يا رسول اللّه- من افتقارهم الظاهري.

و الآية، و ان كانت تخاطب الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) إلا انها بالكبري المذكورة فيها تدلّ علي انه ليس علي الواجد ان يجعل نفسه فاقدا لما يري من فقد الآخرين و فقرهم فان ما يراه ظاهرا لا يعزب عن علم اللّه تعالي فهو يبصره، بل عليه الانفاق

في الجملة و اللّه تعالي يقبض و يبسط و هو علي كل شي ء قدير.

الثانية- قوله تعالي:

وَ اللّٰهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَليٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَليٰ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوٰاءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اللّٰهِ يَجْحَدُونَ. (النحل [16] الآية 71)

تصرح الآية ان تفضيل البعض علي البعض في الرزق كان بيد اللّه تعالي و ليس للفاضل ان يردّ رزقه علي الآخر المملوك له أو كالمملوك في عدم القدرة و الفقر حتي

______________________________

(1)- و عندنا الجملتان في الآية الاولي راجعتان الي أمر واحد فانه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لم يكن ممن يترك الانفاق رأسا، و الغرض التعديل في الانفاق بين التقتير و الاسراف.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 293

يتساويا بل عليه الانفاق من فاضل رزقه لا أصله، فإن ردّ أصله إليه طلبا للتساوي جحد بنعمة اللّه تعالي و انكار لتفضيله ايّاه عليه و اللّه ذو فضل عليم.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلٰائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مٰا آتٰاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقٰابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. (الانعام [6] الآية 165)

مركز ثقل الآية و متّكاها- بعد الفراغ عن أصل ترفيع اللّه تعالي بعض الناس علي بعض فيما آتاهم- هو انه تعالي جعلهم خلائف الأرض، و ان كان ابتلاؤهم في تلك العطايا لاختبارهم فيها كيف يصنعون بها من الانفاق في سبيل اللّه و طريق الحق علي مبادئ العدل و الانصاف أو البذل في الطغيان و العصيان، فانه تعالي كما هو الغفور الرحيم كذلك سريع الحساب، إلا انها تدلّ علي ان التفاضل بيد اللّه تعالي و انه- في الجملة- من العدل و لا يلزم بل لا يمكن المساواة في الرزق

إلا ان علي الفاضل الإنفاق في الحق و العدل لئلا يتبدّل التفاضل بالتباعد فالتعاند فالتقاتل و يتبدّل الطيّب من العيش بالخبيث. اللّهم وفّقنا للعمل بما أمرتنا به.

الرابعة- قوله تعالي:

أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنٰا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ رَفَعْنٰا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ. (الزخرف [43] الآية 32)

سياق الآية و ان كان في بيان مشاجرات الناس مع الأنبياء و مع الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) إلا انها أشارت خلال البحث الي رحمة الرب تعالي و ان ما يعطيه الناس من الأموال و الزخارف لا يكون خيرا و رحمة لهم مطلقا، بل قد يكون عذابا و وبالا.

و حيث ان الكفار كانوا كثيرا ما يستعظمون أنفسهم بأموالهم و ما يمدهم اللّه من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 294

البنين، استحقارا لمستوي الأنبياء العظام في المجتمع المادي «1»، يسأل اللّه تعالي- استنكارا: أهم يقسمون رحمة الرّب بين العباد من الأموال و غيرها؟ لا ليس كذلك، بل نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض بالأموال و البنين فيتخذ المرفوع الموضوع سخريا «2» و يتوهّم ان ذلك بنفسه خير له، مع ان رحمة الرّب الشامل للموضوع بوجه آخر و للمرفوع اذا استخدمه في طريق الحق خير لهم مما يجمعون من الدنيا و زخرفها و لا ينفقونها في سبيل اللّه علي طريق الحق و العدل فيصدهم عن السبيل.

ثم ينتهي الكلام الي ان تقسيم المعيشة مع ذلك التفاضل هو من التعادل الاجتماعي و هو لصالح وحدة الأمّة و صيانة ارتباطهم، و الكرامة بينهم؛ و لو لا ذلك لَجَعَلْنٰا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ

فِضَّةٍ وَ مَعٰارِجَ عَلَيْهٰا يَظْهَرُونَ* وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوٰاباً وَ سُرُراً عَلَيْهٰا يَتَّكِؤُنَ* وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذٰلِكَ لَمّٰا مَتٰاعُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (الزخرف [43] الآيات 33- 35) و ليعلم ان ذلك كلّه متاع الحياة الدنيا ليتمكّنوا من المعيشة و يتمتعوا، و الآخرة عند ربك للمتقين.

الخامسة- قوله تعالي:

______________________________

(1)- و هم علي وضع: «إِذٰا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اللّٰهُ قٰالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشٰاءُ اللّٰهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلّٰا فِي ضَلٰالٍ مُبِينٍ» (يس [36] الآية 47)، يقولون ذلك ردّا علي الحق لا ايمانا به.

(2)- قال الراغب: و السخري (بالضم) هو الذي يقهر فليستسخر بإرادته، و فسّر الآية المبحوث عنها به ثم قال و السخرية و السخرية لفعل الساخر و فسر قوله تعالي: «فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتّٰي أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ» (المؤمنون [23] الآية 110)، به علي وجه، و كذلك قوله تعالي: «وَ قٰالُوا مٰا لَنٰا لٰا نَريٰ رِجٰالًا كُنّٰا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرٰارِ أَتَّخَذْنٰاهُمْ سِخْرِيًّا» (ص [38] الآية 64). و ما فهمنا وجه الفرق حتي انه قرأ سخريا بالضم في المقامين و معرب الكتاب بالكسر في الآخرين. و كيف كان، فالظاهر في المقام مع ملاحظة السياق ما ذكرنا من انه فعل الساخر و هو الأقرب و بدون ملاحظته و حمله علي مقالة المفردات يرجع الي مسألة استخدام المرفوع الموضوع في المشاغل و اجارته نفسه أو عمله ليدور مدار الحياة و المعامل بأيدي العمال الساعين تحت دساتير المؤجرين و ليس ذلك امضاء مسلك الطبقات الرأسمالية و الشرقية و حفظ تسلّط الغاصبين فان الكلام فيها بعد رعاية سائر الحدود كما أشرنا إليه اجمالا من قبل و ليس هنا

محل تفصيله فتأمّل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 295

وَ لٰا تَتَمَنَّوْا مٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَليٰ بَعْضٍ لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللّٰهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً.

(النساء [4] الآية 32)

النهي عن تمني ما فضّل اللّه تعالي بعض الناس علي بعض في مختلف الشئون من الذكورة و الأنوثة و جعله الرجال قوّامين علي النساء «1» الي التفاوت في السهم و النصيب في الارث و غيره، و من الحقوق الي التفاوت فيما اكتسبوا و ما اكتسبن من الأموال بل و الطاعات، ارشاد الي قبول ذلك و الرضا به و التوجيه الي انّه بيد اللّه تعالي و انه علي أساس المصالح العامة و العدالة المحيطة الكاملة. و ليكن بدل التمني السؤال من فضل اللّه تعالي ليرزقه و ينفق عليه من سعته في الدنيا و الآخرة، فان الفضل بيد اللّه تعالي يؤتيه من يشاء و اللّه واسع عليم (آل عمران [3] الآية 72).

هذا كلّه في القسم الأول.

و من القسم الثاني آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لَوْ بَسَطَ اللّٰهُ الرِّزْقَ لِعِبٰادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لٰكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مٰا يَشٰاءُ إِنَّهُ بِعِبٰادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ. (الشوري [42] الآية 27)

صراحة الآية في ان قبض اللّه تعالي و بسطه الرزق من الناس و عليهم كان علي مصلحة عريقة من سلامتهم و سعادتهم مع قدرته تعالي علي ان يبسط عليهم كل البسط إلا انّهم يبغون في الأرض لو بسط اللّه عليهم، و ان الانسان ليطغي ان رأي و توهّم انه استغني، و لا يمكن ان يستغني و هو ممكن «2»، و حيث ان اللّه خبير بالعباد

______________________________

(1)- قال تعالي: «الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَي النِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ

عَليٰ بَعْضٍ …» الآية (النساء [4] الآية 34)

(2)- قال تعالي: «وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لٰا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللّٰهُ يَرْزُقُهٰا وَ إِيّٰاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (العنكبوت [29] الآية 60)، فاللّه تعالي الرازق دابة لا تحمل رزقها كيف يغفل عن الانسان؟ و الانسان هو الذي يغفل عن اللّه تعالي و ينساء بما رزقه ثم يوم القيامة هو تعالي ينساه و يقال له «و كذلك اليوم تنسي» نلتجئ باللّه تعالي منه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 296

بصير بجميع شئونهم و مصالحهم، فهو ينزّل عليهم رزقهم بقدر و علي حدّ يشاء و يراه مصلحة لهم، فالاختلاف و التفاضل علي أساس العدل و لا مساواة بعد التساوي قبال الاحكام و الحدود.

الثانية- قوله تعالي:

لَهُ مَقٰالِيدُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ. (الشوري [42] الآية 12)

الآية أيضا تصرّح بأن مقاليد السموات و الأرض و مفاتيح الأرزاق و ما يستمد به الانسان لحياته الماديّة و المعنوية و ملكوت كل شي ء بيد اللّه تعالي و انه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدّره علي حدّ مقرّر يفيده، فانه تعالي بكل شي ء عليم لا يقلل عمّا يصلحه و لا يكثّر بما يفسده من عنده إلا من ظلم نفسه و اتبع هواه طلبا فيما ليس له فيضله اللّه علي علم و يختم علي قلبه و سمعه. و في المقام آيات أخر تصرّح بذلك مع اختلاف يسير في التعبير، نذكرها أيضا:

قال تعالي: أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. (الزمر [39] الآية 52)

و قال تعالي: اللّٰهُ لَطِيفٌ بِعِبٰادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ.

(الشوري [42]

الآية 19)

و قال تعالي: اللّٰهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ. (العنكبوت [29] الآية 62)

و قال تعالي: اللّٰهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ مَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا فِي الْآخِرَةِ إِلّٰا مَتٰاعٌ. (الرعد [12] الآية 26)

و قال تعالي: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّٰهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. (الروم [30] الآية 37)

و قال تعالي: … وَ اللّٰهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ. (البقرة [2] الآية 212)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 297

و قال تعالي: … قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ* يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. (آل عمران [3] الآية 73- 74)

و قال تعالي: إِنَّ اللّٰهَ هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ. (الذاريات [51] الآية 58)

و قال تعالي: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ النّٰاسِ لٰا يَعْلَمُونَ. (سبأ [34] الآية 36)

و قال تعالي: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرّٰازِقِينَ (سبأ [34] الآية 39)

و تقريب الاستدلال علي المطلوب في الجميع واحد قريب مما ذكر في الأولين و ان كان سياق بعضها انها ذكرت توطئة للترغيب في الانفاق الواجب و اعطاء حق ذي القربي بل و المستحب كما تعرف بملاحظة سياقها.

ختام بحث الرزق

و لا تتوهم من ذلك كلّه انه ليس علي الانسان شي ء من السعي و العمل، و ان الرزق مقسوم يطلب صاحبه حتي يدركه و ان لم يعمل و يسع- اهمالا و تسامحا فيما كان عليه-

فانه ليس للانسان إلا ما سعي و هو المخاطب بقوله تعالي: وَ لٰا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيٰا و هو مسئول مختار، له ان يعمل فيأخذ، و ان يترك فيحرم، و كلا الطرفين علي حدود و نظامات تكوينية و تشريعية.

فما هو علي اللّه تعالي خلق النظام علي أعدل وجه ممكن و تسبيب الأسباب بأسهل طريق ميسور بتمامه و كماله، بخلق الانسان بعينين و لسان و شفتين و هدايته النجدين و تكميله و تأييده بإرسال الهداة المهديين و إنزال الكتاب المبين.

و ما علي الانسان هو ان يقتحم العقبات و يكتسب و يسعي ابتغاء من فضل اللّه تعالي، فيرزقه بقدر منزل علي مستوي القرارات و القواعد الحاكمة من عند اللّه تعالي علي شراشر الوجود و الحياة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 298

فالرزق مقسوم مضبوط محدود.. رزق يطلبك في ذلك النظام العجيب الوسيع الذي لا يري له مبدأ و منتهي إلا مبدأ المبادئ و غاية الغايات و هو روح الحياة و الممات، و هو ما يصيبك مع السعي و العمل و تنتهي إليه مع الجدّ و الكدّ من مسير ذلك النظام و تلك الحدود المقررة و النواميس المنظّمة كلّها بإرادة اللّه تعالي، و رزق تطلبه بذلك أو منحرفا عن الدساتير و القرارات المضبوطة تكوينا أو تشريعا؛ فقد تصل إليه تكوينا و هو حرام لك شرعا غير مقرر لك جمعا و انت بسوء اختيارك و الإخلال في نظام التشريع «1» تكون قد انتهيت إليه، فبالنظام التكويني الذي لا يمكن الفرار عن حكومته تنتهي الي عذاب النار، إلا ان تتوب و ترجع عن طريقه الي الحق برد الحق الي صاحبه، و قد لا تصل إليه حتي مع الجدّ و السعي الكثير و

مع مراعاة المقررات التشريعية أو بدونها لما لم يكن في مجموع النظام و القرارات التكوينية المحيطة العادلة من العدل المطلق تعالي انتهاء ذلك العمل إليه تحفّظا علي العدالة الكلية الحاكمة، فاللّه تعالي يرزق من يشاء و يهدي من يشاء علي الحساب بغير حساب فانه تعالي لا يسأل عمّا يفعل لعدم موضع للسؤال بعد الحق و العدل الشامل و هم يسألون بعد ما ظلموا أنفسهم في تخطّيهم عن سواء الطريق. و تمام الكلام في مباحث المعارف «2».

تذييل في فروع الكتاب:

و هي اثنا عشر: -

الأول- الأصل إباحة كل مأكول و مشروب ما لم يردع عنه الشارع.

______________________________

(1)- قال تعالي: «وَ ابْتَغِ فِيمٰا آتٰاكَ اللّٰهُ الدّٰارَ الْآخِرَةَ وَ لٰا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيٰا وَ أَحْسِنْ كَمٰا أَحْسَنَ اللّٰهُ إِلَيْكَ وَ لٰا تَبْغِ الْفَسٰادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ». (سورة القصص [28] الآية 77) و قال علي (عليه السّلام) في هذا المقام: الرزق رزقان طالب و مطلوب فمن طلب الدنيا طلبه الموت حتي يخرجه عنها و من طلب الآخرة طلبته الدنيا حتي يستوفي رزقه منها. (نهج البلاغة كلمة 431)

(2)- و لقد تكلمنا علي العدل مع التوحيد و النبوّة في رسالة مطبوعة بالفارسية باسم (خدا و پيغمبر) بعد ما تكلمنا في الاصول الخمسة علي وجه آخر من قبل في رسالة فارسية مطبوعة باسم (گمشده شما).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 299

الثاني- لا بدّ و ان يكون المأكول و المشروب حلالا.

الثالث- يحل الانتفاع من الأنعام و من كل ما ينبت من الأرض.

الرابع- يحل ابتغاء فضل اللّه تعالي من البحر مطلقا من مائه و صيده لحما طريّا و حلية الي الملح و البترول. نعم، السمك غير ذي الفلس خارج بالنص، و الأحوط إلحاق المائل

للمحرّمات البرّية به، و ذبح ما يقبله كما هو مقتضي الأصل إلا ما أخرجه النص صريحا.

الخامس- تحرم الميتة بجميع أقسامها ماتت حتف الأنف أو عن طريق الخنق أو الضرب أو السقوط أو النطح أو اصطياد معلّم لم يمسكه، أو غير ذلك، و الدّم المسفوح الخارج دون الباقي بعد الذبح الشرعيّ، و لحم الخنزير و ما لم يذكر اسم اللّه عليه.

السادس- الخنزير رجس نجس لا ينتفع من جلده و شعره فيما يشترط فيه الطهارة.

السابع- يحرم كل ما يستخبثه الطبع مطلقا و لو كان من أجزاء المأكول اللحم المذبوح كالطحال و القضيب و الانثيين و المشيمة و الفرج و غيرها.

الثامن- يحرم شرب الخمر و كل مسكر و الفقاع مطلقا فانه اثم كبير.

التاسع- لا بأس باستعمال الكحول في الصنائع و ما لا يشترط فيه الطهارة.

العاشر- طعام أهل الكتاب حلّ لنا ما لم يكن محرّما ذاتا كالخمر و الخنزير أو عرضا كما اذا كان نجسا.

الحادي عشر- يجب التوسط في صرف الأموال في المحاويج و كذا في الأكل و الشرب.

الثاني عشر- يحرم الاسراف بالزيادة و التبذير بالتفويت.

و لا يخفي ان وجوب التوسيط و حرمة التجاوز الي أحد الحدين و ان كان في الحاصل أمرا واحدا- و لكن عرفت اعتبارهما بالأمر بالأول و النهي عن الثاني حسب

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 300

الظاهر كما عرفت- و الأمر سهل بعد وضوح الأمر بحمد اللّه تعالي.

تمّ الكتاب بحمده تعالي و يتلوه كتاب المجتمع و الآداب ان شاء اللّه و الساعة الآن الخامسة و الربع بعد ظهر اليوم الأخير من سنة ثلاث و خمسين و ثلاثمائة بعد الألف الشمسية المطابقة للسادس من ربيع الأول سنة خمسة و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة، و

نسأل اللّه التوفيق، و كنت حينها في رودبار فريدا مبعدا و الحمد للّه أولا و آخرا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 301

كتاب المجتمع و الآداب

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 303

المجتمع و الآداب

الانسان بنوعه لا يتمكن من العيش منفردا، و هو بطبعه مدني تعاوني يأنس و يألف، و هو مرتبط علي فطرته أولا بوالديه اللذين ولّداه و ربّياه كلّ بوجه، و ثانيا بأسرته … زوجته و أولاده و حفدته، و كذلك اخوته و اخواته، و ثالثا بعشيرته و قومه بعد الاسرة كوالدي والديه و اخويهما و اخوتهما و أولادهما، و رابعا بشعبه و امته، و الاسر التي تجمعها علاقات خاصّة دينية أو دنيوية من الأراضي التي يعمرونها و يزرعونها و البلاد التي يسكنونها. و المسلمون ملّة و أمّة اينما يعيشون و هم خير أمّة و اخوة. و الكفر ملّة واحدة. و خامسا بالانسانية بمعناها الأعم.

هذا النوع العائش علي بسيط الأرض و أقطارها بألوان مختلفة و جنسيّات متشتتة و ألسنة متفاوتة، و هو خليفة اللّه تعالي و المظهر لأوصافه و صفاته، فلكل فرد روابط و لكل رابطة حكم أو أدب نتعرّض له اجمالا في المقام خلال فصول علي ضوء كتاب اللّه العزيز بعونه و توفيقه مع ملاحظة الترتيب.

الفصل الأول: علاقة المؤمن و والديه

و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ قَضيٰ رَبُّكَ أَلّٰا تَعْبُدُوا إِلّٰا إِيّٰاهُ وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً إِمّٰا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 304

أَحَدُهُمٰا أَوْ كِلٰاهُمٰا فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ وَ لٰا تَنْهَرْهُمٰا وَ قُلْ لَهُمٰا قَوْلًا كَرِيماً* وَ اخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً.

(الاسراء [17] الآية 23- 24)

تحكي الآية عن قضاء الربّ تعالي و إردافه التوحيد في العبادة بالاحسان بالوالدين بجملة خبرية في مقام الانشاء، و تنهي عن أي قول يخالف الاحسان إليهما أقلّه الأفّ، فكيف بمن ينهرهما و يزجرهما؟ ثم تأمر ثانيا بقول كريم هو

أقل مراتب الاحسان، و بعده خفض الجناح و تذليل النفس لهما و الرحمة و الرأفة بهما و الدعاء لهما متذكّرا لما تصدّيا و تحمّلا من مشاقّ التربية بقوله: رَبِّ ارْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً. و كل ذلك من باب ذكر المصداق. و المطلوب كما تري وجوب الاحسان الي الوالدين و حرمة الاساءة إليهما و ايذائهما علي كليّتها القابلة للانطباق علي مصاديق مختلفة.

الثانية- قوله تعالي:

قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلّٰا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً.

(الأنعام [6] الآية 151)

الآية- كما تري- بصراحتها تأمر بالاحسان الي الوالدين بعد النهي عن الشرك باللّه تعالي في سياق بيان أحكام اللّه تعالي و محرّماته، و التعبير قريب من الأولي التي كانت توجب الاحسان رديف التوحيد في عبادة اللّه؛ و ترك الشرك به عبارة اخري عنه كما تعلم.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ لِتُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلٰا تُطِعْهُمٰا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. (العنكبوت [29] الآية 8)

تخبر الآية الكريمة إنشاء أيضا عن وصيّة اللّه تعالي الانسان بالاحسان الي والديه و المعاشرة معهما حسنا في كل أمر الّا في مسألة الكفر و الايمان بل كل باطل،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 305

فان جاهداه ليشرك باللّه تعالي فلا إطاعة لهما مع حسن المعاشرة و العمل بالمعروف، و تؤكد ذلك بان مرجعكم جميعا (الولد و الوالدين) إلينا فننبئكم بما عملتم من الاحسان أو الاساءة الي الوالدين، و كذلك دعوتهما الولد الي الخير و الفضيلة و عبادة الحق تعالي؛ أو الشرّ و الشرك و الرذيلة.

فالآية محصلا تطلب من الانسان الاحسان بوالديه للتقرب به الي اللّه، فلا احسان في اجابة دعوتهما إيّاه الي الشرك أو الي كل

ما يباعده عن اللّه تعالي و الخير و الحق، فان ذلك خارج موضوعا بتخصص عقلي أرشد إليه الشرع كما هو ظاهر.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ إِحْسٰاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلٰاثُونَ شَهْراً. (الاحقاف [46] الآية 15)

الآية الكريمة أيضا تخبر- إنشاء- عمّا وصّي تعالي به الانسان من الاحسان بوالديه مشيرا الي المشاقّ التي تحملتها أمّه فيما حملته كرها و وضعته كرها و رضعته شهورا حتي كان جمع حمله و فصاله ثلاثين شهرا، فكان مع ذلك أول وظائفهما في مراحل التربية. و الانسان لا سيما في أوان شبابه لا يدرك شيئا من ذلك ليحسّ قباله لزوم رعاية الوالدين عن ايمان و يقين، و للعواطف الانسانية في المقام دور لا ينكر في الطرفين (الولد و الوالدين) و يشير إليه ذيل الآية حَتّٰي إِذٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قٰالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَليٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

فالآية أيضا توجب الاحسان الي الوالدين علي مفهومه الكلي القابل للانطباق علي مصاديق مختلفة حسب اختلاف شرائط الزمان و المكان و الولد و الوالدين، الدائر مدار الصدق العرفي و ذلك أيضا في غير دعوتهما ايّاه الي الشرك بل الي كل شرّ و ضرر يستقل بحرمته العقل.

الخامسة- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 306

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَليٰ وَهْنٍ وَ فِصٰالُهُ فِي عٰامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوٰالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ* وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ عَليٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلٰا تُطِعْهُمٰا وَ صٰاحِبْهُمٰا فِي الدُّنْيٰا مَعْرُوفاً. (لقمان [31] الآية

14- 15)

الآية- كما تري- توجب الشكر للوالدين بعد الشكر للّه تعالي، و هو في أية مرتبة تحقق يصدق عليه الاحسان، فتوجبه بمرتبته الخاصة، و لعلّ ذكر المصداق بعد وجوب الاحسان كما عرفت يومئ الي ضعفه و وضعه حينما حملته أمّه و هنا علي وهن حتي انتهي فصاله عن الرضاع في عامين.

نعم و حيث ان الاحسان إليهما باطاعتهما في دعوتهما ايّاه الي الشرك بل الي كل شر و ضرر محرّم شرعا أو عقلا، اساءة الي نفسه يبعّده عن الربّ تعالي و ينقض الغرض، فقد حكم تعالي بأنه إن جاهداك علي ان تشرك باللّه تعالي أو ترتكب حراما فلا تطعهما، و مع ذلك صاحبهما في الدنيا و شئونها بما هو المعمول المتعارف بين الأولاد المحسنين الي والديهم، فالواجب الاحسان الي الوالدين بشكرهما علي تحمّلهما المشاقّ و تصدّيهما للوظائف، و مصاحبتهما بالمعروف؛ كل ذلك علي سعة النطاق المنطبقة علي مختلف المصاديق كما عرفت.

ثم انك بعد ملاحظة تحديد الفصال و مدته بعامين، و في السابقة تحديد الحمل و الفصال معا بثلاثين شهرا تجد- بوضوح- إفادة الآيتين ان أقل مدّة الحمل ستة أشهر، و عليه يتفرع مسائل كثيرة في الشبهات كما ذكر في المفصلات.

و الحاصل أنّ الآيات في الفصل بأجمعها و ألسنتها المتفاوتة توجب الاحسان الي الوالدين و تحرّم ايذاءهما و الإساءة إليهما علي اختلاف المصاديق في الطرفين؛ و الصدق عرفي نوعي لا شخصي، و قد أشبعنا الكلام في البحث و فروعه في رسالتنا في الجهاد علي طريق الأصحاب عند الكلام في اشتراط اذن الوالدين فراجع «1».

______________________________

(1)- و من المعلوم ان تأكيد الاسلام علي الاحسان الي الوالدين في الأبواب المختلفة هو للحفاظ علي كرامة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 307

الفصل الثاني: المؤمن و أسرته

و

في المقام بعد التوجه الي الآيات الراجعة الي روابط الزوجين و عيشتهما المشتركة علي أساس الود و الوفاء بالعهود الالهية و الانسانية و الآيات الراجعة الي روابط الأب و الولد في النفقة، من الرزق و الكسوة، و روابط الأم و الولد في الرضاع و وجوب التحفّظ و المراقبة حتي يبلغ أشدّه، و حرمة اسقاطه و قتله خشية إملاق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ كما فصلناها في كتاب النكاح و المحرّمات، بعد ذلك نشير الي بعض الآيات الراجعة الي الأولاد.

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَخُونُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمٰانٰاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلٰادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللّٰهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

(الانفال [8] الآية 27- 28)

تنهي الآية الأولي المؤمنين عن خيانتهم اللّه و رسوله بنقض عهودهما و ترك أوامر اللّه و الرسول أو ارتكاب نواهيهما و هم يخونون امانتهم بينهم و هم يعلمون، فتنهي عن ذلك أيضا بمحصل الآية الثانية بأن الأموال و الأولاد فتنة يختبر بهما الانسان حتي يميز المغشوش القلب عن الصافي الخالص: أَ حَسِبَ النّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لٰا يُفْتَنُونَ و اللّه ذو فضل عظيم علي الذين يفتنون بذلك فيخلصون عن كل دنس و شرك، يكتسبون الأموال عن طرقها المشروعة و ينفقونها في العيشة الانسانية و تربية الأولاد علي سبيل الحق و الخير و السعادة، فالآيتان

______________________________

الامة من خلال حفظ كرامة الأسر. و الانسان بنوعه يتكامل علي شرائط متغيرة؛ و ان ذلك الاختلاف بين الأولاد و الآباء أمر طبيعي قهري في كل زمان.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 308

بروحهما تحكمان علي المؤمنين بوجوب رعاية المال و الولد، و ان عليهم في الأموال بعد التحرّز عن

مكاسبها المحرّمة الإنفاق في سبيل الاسرة حتي يتمكنوا من التكامل في سبيل اللّه و الخير و طريق الحق، و في الأولاد بعد ذلك مراقبتهم عن الشرور و البلايا الجسمية و الروحية حتي يبلغوا الأشدّ و الكمال.

الثانية- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ وَ أَوْلٰادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلٰادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللّٰهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ* فَاتَّقُوا اللّٰهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. (التغابن [64] الآية 14- 16)

الآيات بعد ما تنادي بأن المؤمن حقّا هو المتوكل علي اللّه- فانه لا إله إلا هو- تحكي عن واقع في الحياة الدنيا من ان بعض الأزواج- زوجا أو زوجة- و الأولاد عدو لكم يباعدونكم عن اللّه و يصدّونكم عن سبيل اللّه، كما ان بعضهم وليّ و معاون علي سبيل اللّه و الخير فاحذروا العدو منهم و اجتنبوهم في الأعمال و الأفكار، و مع ذلك فاعفوا و اصفحوا كثيرا من خطاياهم حتي تهنأ العيشة مهما أمكن و اغفروا لهم بعض ما يغفر، فان اللّه غفور رحيم، و راقبوا أنفسكم في الزلّات الهالكة فان الأموال و الأولاد فتنة يختبر بهما الانسان؛ ان استخدما في سبيل اللّه و الحق و الخير فهو، و إلا فهما نقمتان و عذابان لا نعمتان و زينتان، و اللّه هو الموفّق و المعين و بيده تعالي ملكوت كل شي ء فنسأل منه الخير في كل حال و علي كل حال.

الثالثة- قوله تعالي:

الْمٰالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ الْبٰاقِيٰاتُ الصّٰالِحٰاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوٰاباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا. (الكهف [18] الآية

46)

تخبر الآية عن واقع في حياة الانسان مع التنبيه الي مسئوليته قبال ذلك، و هو ان المال و البنين زينة الحياة الدنيا، و الانسان يتحلّي و يتزيّن بهما، فان الوالدين بما

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 309

لهما الولد متحليان تجاه من لا ولد له و كذلك المالك، إلا انه لا ينبغي للانسان الاكتفاء بنفس التعلق و التحلّي ما لم يتعلق به الغرض الأعلي المساعد لشأن الانسان، و الباقيات الصالحات الجارية بعده المتمتع بها عباد اللّه مما عمله بماله و جهده بنفسه من بناء المساجد و المدارس و المستشفيات و كل خير، و تربية الأولاد الصالحين العاملين بالخير المؤمنين بشرائع اللّه تعالي الهادين عباده الي سبيل الحق و الخير أو كتاب يهتدي به القارئ فيقترب الي اللّه تعالي.. كل ذلك الباقيات خير عند ربك ثوابا و أملا من مال و بنين يقتصر علي التزين بهما و التفاخر علي عباد اللّه فان ذلك جاهلية و انحطاط.

و الحاصل ان الآية أيضا بروحها تقضي علي الانسان بمسئوليّة في الأموال و الأولاد و وجوب رعايتهما في الحياة الدنيا، فكيف في الاسرة و العيشة العائلية؟

الرابعة- قوله تعالي:

وَ مٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ لٰا أَوْلٰادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنٰا زُلْفيٰ إِلّٰا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَأُولٰئِكَ لَهُمْ جَزٰاءُ الضِّعْفِ بِمٰا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفٰاتِ آمِنُونَ.

(سبأ [34] الآية 37)

الآية تؤكد البحث السابق في سياق تحاور المستكبرين و المستضعفين لما رأوا العذاب فكل يرمي الآخر في ذنب الضلال و الهلاك، فان المستضعفين يقولون للمستكبرين: لو لا أنتم لكنّا مؤمنين فيجيبونهم بقولهم ان نحن صددناكم عن الهدي بعد اذ جاءكم بل كنتم مجرمين. حتي ينتهي الكلام الي قول المترفين في مواجهة الأنبياء المنذرين: نحن أكثر أموالا و

أولادا و ما نحن بمعذبين. ففي المقام أمر اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ان يقول للناس: ان ربي يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر … و ما أموالكم الكثيرة و لا أولادكم العديدة بالتي تقرّبكم عندنا زلفي إلّا من آمن باللّه تعالي و اليوم الآخر فعلم ان ذلك بيد قدرته تعالي يؤتيه من يشاء و يمنعه عمّن يشاء، و عمل في كل من المال و الولد صالحا؛ و عندئذ لهم جزاء الضعف بما عملوا و ما هم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 310

بمعذبين و هم في الغرفات آمنون. فان من سنّ سنّة حسنة فله مثل من عمل بها.

فالعامل في الأموال و الأولاد صالحا، كان له باقيا مما عمل، فيضاعف أجره باستمتاع الآخرين من باقياته الصالحات.

و عليه فالأموال و الأولاد- بما هما- زينة و تفاخر، و لكن بما استخدما في الأعمال الصالحة نعمة و تعاون يتقرّب بهما العبد الي اللّه، اللّهم اجعل ذريّاتنا مسلمة لك و بارك في أموالنا آمين.

الخامسة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُلْهِكُمْ أَمْوٰالُكُمْ وَ لٰا أَوْلٰادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْخٰاسِرُونَ. (المنافقون [63] الآية 9)

تعقّب الآية أيضا البحث و توقظ المؤمنين من غفلتهم و التهائهم بالأموال و الأولاد عن ذكر اللّه تعالي، أعاذنا اللّه من ذلك، فان من توغّل في تعاطي الأموال و التفاخر بالأولاد يستدرج الي نسيان اللّه تعالي و أوامره فيقترف الذنوب و يهوي الي الهلاك فاولئك هم الخاسرون.

الفصل الثالث: المؤمن و عشيرته

و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ* أُولٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّٰهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْميٰ أَبْصٰارَهُمْ. (محمد [47] الآية 22- 23)

سياق الكلام في الآيات

البحث عمّا يلج في صدر الذين اذا نزلت سورة محكمة و ذكر فيها القتال ينظرون الي رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بما في قلوبهم من مرض

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 311

نظر المغشيّ عليه خوفا من الموت فيعسون تمنّيا، و عندئذ تسألهم الآية اقرارا هل عسيتم ان تولّيتم عن القتال و تركتم الجهاد في سبيل اللّه أن تفسدوا في الأرض بما تتوهمون و تظنون و ان تقطعوا أرحامكم الذين اسلموا لما أنزل و اعتقدوا بالحق فجاهدوا في سبيل اللّه. ثم تحكم عليهم بفسادهم في الأرض بنفس التولّي عن الجهاد فينتشر الفساد، أو بعمل آخر يوجب ذلك، و بقطعهم الأرحام، بأنّ عليهم لعنة اللّه فأصمّهم و أعمي أبصارهم، و كان علي قلوبهم أقفال، و ان تدبّروا القرآن لما كانوا يفسدون في الأرض و لما قطعوا الأرحام، و لما انصرفوا عن القتال.

و الآية- كما تري- خلال البحث الواسع النطاق بالنسبة الي ما نحن فيه- تفيد بأصرح من التصريح حرمة قطيعة الرحم، و لزوم المعاشرة و المواصلة مع الأقارب و الأرحام علي المعروف المتداول بين الامّة المسلمة لا بين الناس مطلقا فيختصّ بغير المحرم أو ما أفضي الي ترك الواجب؛ و بذلك يتشخّص مصداق الوصل المأمور به و يتعيّن أجلي المصاديق في الآيات الآتية التي تشير إليه بقوله وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، كما ستعرف ان شاء اللّه، و قد فسّرته السّنة بصلة الرحم و زالت الشبهة بحمد اللّه تعالي و المنة.

الثانية- قوله تعالي:

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولٰئِكَ هُمُ الْخٰاسِرُونَ. (البقرة [2] الآية 27)

تعد الآية خلال أوصاف

الفاسقين انهم الذين ينقضون عهد اللّه و ميثاقه الذي عاهدوه تعالي بقولهم آمنّا بعد ما سمعنا مناديا ينادي للايمان ان آمنوا بربّكم المقتضي لرعاية حدود اللّه تعالي و أحكامه، فيتركون الواجبات أو يقترفون المحرّمات و لو ببعضها، و كذلك يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، و حيث ان ذلك القطع غير نقضهم عهد اللّه ظاهرا فهو غير ترك أوامر اللّه تعالي أو ارتكاب نواهيه العباديّة أو تجاوز حدوده و شرائعه الحكوميّة، و مقارنته بالفساد في الأرض ترشد الي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 312

انّه هو قطيعة الرحم، كما صرحت به الآية الأولي، و ان كان علي وجه أجلي المصاديق و بقاء المفهوم علي سعته. و المنافق هو الذي يقطع مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الرّحم أو اخوة المؤمنين أو المرابطين و المجاهدين أو العلماء العاملين أو غيرهم ممن هم المطلوب صلتهم بأدلتها المستقلة كما هو ظاهر.

فالذين يقطعون الأرحام هم الخاسرون أيضا فان الفاسقين هم الخاسرون، فتدلّ الآية علي حرمته و لزوم صلتهم كصلة غيرهم ممّن أمر اللّه به ان يوصل.

الثالثة- قوله تعالي:

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ وَ لٰا يَنْقُضُونَ الْمِيثٰاقَ* وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخٰافُونَ سُوءَ الْحِسٰابِ* … الي قوله تعالي وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّٰارِ. (الرعد [13] الآية 20- 25)

سياق الآيات في بيان أحوال الناس و اتباعهم الحق أو الباطل من ان الذين استجابوا لربّهم لهم الحسني و الذين لم يستجيبوا لهم سوء الحساب و مأواهم جهنم و بئس المهاد، فلا يستوي

الأعمي و البصير، أ فمن يعلم انّما انزل أليك من ربك الحق كمن هو أعمي و لا يعلم شيئا، لا يستوون، و انّما يتنبه بذلك و يتذكر أولو الألباب، و هم الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ فيعملون بما عليهم و لا ينقضون الميثاق مع ربهم عند قولهم بلي جوابا عن السؤال: أ لست بربكم و قولهم آمنّا كما قلنا، و هم الذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل و يخشون ربهم بالغيب و يخافون سوء الحساب و هم الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم دون رضا الناس و الشهرة و الشهوة، و اقاموا الصلاة علي صلبها من غير اكتفاء باتيانها بأنفسهم فقط و انفقوا مما رزقهم اللّه سرّا و علانية و يدرءون باتيان الحسنة سوء السيئة ان زلّوا إليها احيانا. فاولئك لهم عقبي الدار من جنات عدن يدخلونها و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذريّاتهم و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار (اللّهم اجعلنا من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 313

الصابرين لوجهك و ادخلنا معهم جنات عدن برحمتك و رضوانك و ان لم أكن من اللائقين للطفك و لكني من اللاجئين ببابك).

ثم تؤكّد الآيات البحث من الناحية السلبية أيضا و ان الذين ينقضون عهد اللّه فلا يعملون بما عليهم من مقتضي الايمان- كما عرفت- وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّٰارِ.

و من المعلوم ان الذين يصلون أو يقطعون ما أمر اللّه به ان يوصل هو غير الوفاء بعهد اللّه أو نقض ميثاقه من اتيان الأوامر و ترك النواهي أو بالعكس، و ذلك بمقتضي العطف كما عرفت،

و أجلي مصاديقه قطيعة الرحم و صلته مع بقاء المفهوم المطلوب علي سعته، فينطبق علي غيره أيضا مما عرفت.

فالآيات بلسانها الايجابي و السلبي (من طرفين) تفيد ان الواجب علي المؤمن باللّه و اليوم الآخر مواصلة أرحامه و عشيرته و مرافقتهم و مراودتهم بالمعروف من غير فصل و عزل و تفاخر و ان كانوا مختلفين علي أساس شئون الأموال و المناصب الدنيوية، فان اللّه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر وَ فَرِحُوا بِالْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ مَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا فِي الْآخِرَةِ إِلّٰا مَتٰاعٌ «1» (الرعد [13] الآية 26).

و من المعلوم ان صلة من يجب صلته لا تكون إلّا بتقديم العون له و رجاء الآخرة بإرشاده و تقويمه و سدّ احتياجاته، فعلي كل مؤمن مواصلة ارحامه و عشيرته بما يوجب خيرهم و سعادتهم في الدارين. وفّقنا اللّه و إيّاكم ان شاء اللّه.

______________________________

(1)- و كذلك يدلّ علي المطلوب اطلاق ذي القربي في قوله تعالي: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبيٰ حَقَّهُ» (الاسراء [17] الآية 26) و قوله تعالي: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي الْقُرْبيٰ» (النحل [16] الآية 90) فان المراد حسب ظاهر السياق مطلق أقرباء الانسان و لا ينافي التطبيق بعنوان المصداق علي قرابة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فان سعة نطاق المفهوم غير المراد في القائه مصداقا كما تعلم سيما في لسان القرآن.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 314

الفصل الرابع: المؤمن و شعبه

اشارة

و فيه أقسام:

الف- في علاقة أمير المؤمنين و وليّهم معهم. أي في علاقة القائد الاسلامي بشعبه و أمّته:

و فيه آيات: -

الأولي- قوله تعالي:

وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَ اخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمّٰا تَعْمَلُونَ* وَ تَوَكَّلْ عَلَي الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ «1».

(الشعراء [26] الآية 214- 217)

الآيات و ان كانت تخاطب النبي الأكرم رسول اللّه و وليّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الأولي بالمؤمنين من أنفسهم، فتأمره بإنذار عشيرته الأقربين و خفض الجناح للمؤمنين الطائعين و التبرّي من أعمال العاصين المخالفين مع التوكّل علي اللّه العزيز الحكيم في ارشاد الناس و هداية المؤمنين، و لكن ذلك لا يختص بنفسه الشريفة بل لكل منذر هاد، فعلي وليّ المؤمنين و أميرهم في كل زمان انذار الأقربين منه و اسرته و عشيرته أوّلا، و التوسّع في النطاق شيئا فشيئا حتي يكون الدين كلّه للّه، و لا يكون علي

______________________________

(1)- و قريب من ذلك في عناصره الاخلاقية بل العملية قوله تعالي: «فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (آل عمران [3] الآية 159)، و كذلك قوله تعالي: «لٰا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِليٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْهُمْ وَ لٰا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَ اخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» (سورة الحجر [15] الآية 88) و الآية كما تري تشتمل علي ناحيتي السلب و الايجاب من تولّي المؤمنين و خفض الجناح لهم و تبري الكفّار من تركهم و عدم النظر الي مسراتهم أو الحزن في مصائبهم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 315

الأرض من المشركين ديّار، و ان كان اللّه تعالي هو الهادي لمن يشاء.

و كذلك علي كل زعيم و رئيس

منصوب من قبلهم الدعوة و الارشاد أوّلا و خفض الجناح للمؤمنين باللّه تعالي و اليوم الآخر بمرافقتهم في شتّي شئون العشرة و التبرّي من المعاندين المخالفين «1» لئلّا يضرّوا المؤمنين شيئا، فعليه محافظتهم عن شرورهم بأيّ وجه و لو بالمقاتلة و المدافعة حسب المقتضيات في كل شأن من شئون الامة … ثقافتهم و اقتصادهم و هكذا …

الثانية- قوله تعالي:

ادْعُ إِليٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.

(النحل [16] الآية 125)

تأمر الآية الهادين المنذرين العلماء و المسئولين الزعماء العاملين، بالدعوة الي سبيل اللّه و كل خير و صلاح من طريق الحكمة و بيان المصالح و المضارّ للناس و افهامهم الحقائق السارية في الدنيا و الآخرة علي أساس الفطرة و الكون حسب ما تدركه مداركهم المتشتتة، لمن كان أهلا للبرهان و الاستدلال علي الأمور اثباتا و نفيا، و بعده الوعظ و النصح لتوضيح المطلوب و تنظير المبحوث عنه، علي وجه يحسّ المؤمن التابع انه لازم الرعاية مباشرة أو غير مباشرة، فيتبع الخير و السعادة و ينالها؛ و ذلك لمن لا يدرك البرهان و هم أكثر نفرا. و بعد ذلك الدعوة بطريق الجدال الحسن و افحام الخصم مما يتسلمه من قبل حتي ينتهي الي قبول الحق عملا، و لا أقل من اسكاته و منعه عن اغراء الآخرين و اغوائهم بأراجيفه الباطلة الذاهبة جفاء، و ان لم يهتد بنفسه، فان اللّه يهدي من يشاء الي صراط مستقيم. كل ذلك لمن يخاصم الحق عنادا سواء كان ممن يدرك البرهان أو لا، فانه لا يقبل النصح، و ليكن الجدال علي

______________________________

(1)- كما يشير الي ذلك بتعبير

آخر في قوله تعالي: «خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجٰاهِلِينَ».

(الاعراف [7] الآية 199)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 316

وجه حسن لينتج الخير و يهدي الي الحق و الفضيلة لا ان يغضبه و يضطرمه فيكون سكوته لا عن اقتناع، فينتظر الفرصة ليعمل علي خلاف الحق و يضلّ الناس عن سبيله.

و الجدال بوجه حسن آخر طرق الارشاد و الهداية لمن لم يتّعظ و لم يقبل الاستدلال- أدركه أو لا- فان العلم و الادراك غير تسليم النفس، و العمل.

فالآية تدلّ علي ان وظيفة أولياء الأمور و أمراء المؤمنين و هم أول الدعاة و أحقّهم و الأوجب عليهم، الدعوة الي سبيل اللّه و ارشاد الناس إليه تعالي لتكون عيشتهم عيشة اسلامية انسانية، كلّا حسب ما يناسبه بإحدي الطرق الممكنة من الحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال الأحسن «1».

و مع الأسف فإن الحكّام المعاصرين في بلادنا، الجائرين علي مواطنينا- سيّما الأول منهم يستمدون من كل امكاناتهم لتحكيم مبادئ ظلمهم و نشر الأراجيف و توسعة المنكرات في طريق محو الاسلام و القرآن باسمهما، و أهل العلم و ولاة الحق مظلومون شهداء مسجونون غرباء مبعدون عن كل ارشاد و انذار محرومون، فصبّ اللّه علي أعدائه سوط عذابه و عجّل فرج وليّه (عليه السّلام) و نوّابه ان شاء اللّه تعالي.

أضف الي ما ذكر في المقام ما فصّلناه في كتاب القضاء، من وجوب الحكم بما أنزل اللّه و رعاية حقوق الناس، و كذلك ما ذكرناه في كتاب الولاية من حدود الوالي من التصرّف في مصالح الأمّة دون المضارّ، كل ذلك حتي تكون الامّة خيرا تجذب كل مخالف إليها ليحلّ فيها و يكون منها و يكون الدين كلّه للّه. و متابعة هذا الهدف

لهو من أعظم وظائف ولي المؤمنين و أميرهم وفّقهم اللّه لذلك ان شاء اللّه.

______________________________

(1)- و لا يتم عندنا ما عن الفيض (رحمه اللّه) من عطف الموعظة الحسنة علي البرهان بيانا فيكون الجدال موعظة غير حسنة و منع الجدال مطلقا. كما في المحجة البيضاء.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 317

ب- في علاقة المؤمنين مع وليّهم و أميرهم. أي (الشعب و القائد):

في البحث مضافا الي آيات الطاعة «1» الدالة علي وجوب الرجوع الي ولاة الحق و اتباعهم في سبيل الخير و توسعة الحق و اعلاء كلمة اللّه تعالي و محو كلمة الشيطان و كذا الآيات الدالّة علي جواز تصرّف الولاة في شئون المؤمنين علي حدّ الولاية، و ان علي المؤمنين قبول ذلك- كما فصّلناه في كتاب القضاء و الولاية- و زائدا علي آيات الخمس و الزكاة الدالّة علي وجوب اداء سهم من الأموال ليصرفه الوليّ في سدّ احتياجات الامّة علي ما فصّلت في محالّة.

زائدا علي ذلك كلّه، في المقام آيات نشير إليها ان شاء اللّه.

الأولي- قوله تعالي:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لٰا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمٰالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لٰا تَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّٰهِ أُولٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللّٰهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْويٰ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ يُنٰادُونَكَ مِنْ وَرٰاءِ الْحُجُرٰاتِ أَكْثَرُهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ* وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّٰي تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (الحجرات [49] الآيات 1- 5)

تخاطب الآيات المؤمنين و تنهاهم عن التقديم بين يدي اللّه و رسوله بمعناه المطلق، فليس لهم تقديم رأيهم و نظرهم

علي أحكام اللّه تعالي و حدوده في شي ء، و علي آراء رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في أوامره الحكوميّة. قال تعالي: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اللّٰهَ و قال تعالي: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ في آيات كثيرة، كما عرفت من قبل. ثم تؤكد الآيات الأمر بايجاب تقوي اللّه، فان اللّه تعالي

______________________________

(1)- أشرنا إليها في كتاب الولاية، و أشبعنا الكلام عنها في رسالتنا (بحث حول الامامة).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 318

سميع لكل ما تقولون- وافق قول اللّه تعالي و رسوله أو خالف- عليم بما تعملون كذلك.

ثم تخاطبهم أيضا فتنهاهم عن رفع صوتهم فوق صوت النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و هم بمحضره يتفوّهون، كما تنهاهم عن الجهر بالقول له كجهر بعضهم بعضا، فان ذلك يحبط عملهم، فعليهم ابتغاء التوسيط بين الجهر و الإخفات حال الكلام في محضره الشريف فانّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول اللّه اولئك الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوي و ظهر انهم متّقون مراعون شأن رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و أمر اللّه تعالي فيه، فلهم مغفرة و أجر عظيم بما كانوا يعملون. و في المقام تؤدّب المؤمنين أيضا بأن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. و لو انهم صبروا حتي تخرج إليهم لكان خيرا لهم و اللّه غفور رحيم عمّا مضي من ندائهم الرسول من وراء الحجرات.

و عندنا الآيات و ان كانت واردة في رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) إلّا انها تؤدب المؤمنين في معاشراتهم مع ولاتهم و أمرائهم ابتداء بالرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و مرورا بالأئمة الهداة المعصومين (عليهم السّلام)

و انتهاء بالمنصوبين من قبلهم.. العلماء العاملين و وكلائهم العامة و الخاصة؛ فعلي المؤمنين اطاعتهم و الانقياد لهم في أوامرهم الحكوميّة بعد الاستماع و العمل بالأوامر الالهية، كما ان عليهم اداء الفرائض و الحقوق المالية إليهم في كل عصر حتي يتمكّنوا من تنفيذ حدود اللّه و اعلاء كلمته العليا. و كذلك عليهم- حال الكلام معهم- مراعاة الأدب من خفض الصوت و ترك الجهر أو استعمال كلمات ركيكة فلا تكون مكالمتهم معهم بما هو المتداول بين أنفسهم لغة و صوتا، كما ان عليهم ترك النداء من وراء الحجرات، و الصبر حتي يخرجوا إليهم عند قصد زيارتهم، فان ذلك كلّه خير لهم و اللّه تعالي غفور عمّا مضي رحيم عليكم فيما يأتي.

الثانية- قوله تعالي:

لٰا تَجْعَلُوا دُعٰاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعٰاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً. (النور [24] الآية 63)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 319

صدر الآية كذيل السابقة تنهي المؤمنين عن نداء الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) كدعاء سائر الناس بما هو المتعارف بينهم، فلا بدّ من ملاحظة السماحة و العظمة بالأدب حسب الصوت و الكلمة بأن تكون الألفاظ و اللغات المستعملة في نداء الرسول، و كل وليّ و أمير إلهي، بل كل شريف، بما يناسب المقام حسب مراتبهم و درجاتهم، و كذا من جهة الصوت لا بدّ من التعديل و الغضّ بخفضه بالنسبة الي دعاء الناس بعضهم بعضا، و قال لقمان لابنه و هو يعظه: وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ كما سيأتي ان شاء اللّه.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلّٰا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِليٰ طَعٰامٍ غَيْرَ نٰاظِرِينَ إِنٰاهُ وَ لٰكِنْ إِذٰا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذٰا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لٰا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ يُؤْذِي

النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللّٰهُ لٰا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ مٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ … (الاحزاب [33] الآية 53)

تنادي الآية المؤمنين و تخاطبهم، فتنهاهم عن دخول بيوت النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من غير اذن أوّلا، و اذا دخلوا مع الاذن و كان ذلك للطعام فلا يكونوا ناظرين للاناء و الاثاث نظرة النقد و البحث، فيتفوّهوا بالآراء مدحا و ذما، و ينتهي الكلام الي ما لا يناسب المقام، و اذا طعموا فعليهم الانتشار و الخروج حتي يستريح المضيف، و لا يطيلوا الجلوس باستيناس الحديث يحكي كل منهم شيئا يتكلمون فيه بالاثبات و النفي حتي التشاجر غالبا، فان ذلك كلّه يؤذي رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و يستحيي منكم ان يأمركم بالسكوت أو الخروج و الانتشار، و لكن اللّه تعالي لا يستحيي منكم في تأديبكم، و انت كما تري تلك الآداب بالنسبة الي الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) تكون بملاحظة شأنه العظيم و مقامه المنيع الرئيسي، فتكون لكل حاكم إلهي و آمر من قبله حسب شأنه مرتبة، و علي المؤمنين مراعاة ذلك كلّه بالنسبة الي ولاة أمرهم، و علي الملاك

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 320

الي كل مؤمن، فان صاحب البيت يستحيي من الضيف غالبا، فلا بد من الاستئذان للورود أوّلا علي الغير كائنا من كان، سيّما العلماء العظام و المؤمنين الكرام، و عدم النظر بعين النقد و البحث الي الاثاث و الاناء بعد الورود مع الاذن للطعام أو غيره ثانيا، و الانتشار بالخروج من غير استيناس للحديث، و الاجتناب عن

كل ما يؤذي ربّ البيت فانه يستحيي من الضيف غالبا، و كذلك لا بدّ و ان يكون السؤال عن أهل بيت المضيف عن المتاع أو الطعام أو غيره من وراء حجاب، كما سيأتي ان شاء اللّه.

و ذلك كلّه تأديب للمؤمنين بل الانسان بما هو انسان حتي ينجلي بمزاياه الانسانية؛ و مع الأسف يتراجع جمع من الناس اليوم باسم المدنية الي الوحشية و يرون ذلك رجعيا.

الرابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَنٰاجَيْتُمْ فَلٰا تَتَنٰاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَنٰاجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْويٰ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. (المجادلة [58] الآية 9)

الآية ضمن آيات، تبحث عن أدب آخر بعد العناية الي ان المؤمن يري و يعتقد ان اللّه بكل شي ء عليم و ما يكون من نجوي ثلاثة إلا هو رابعهم و لا خمسة الّا هو سادسهم و لا أدني من ذلك و لا أكثر إلا هو معهم اينما كانوا فينبّئهم بما قالوا و بما عملوا. فهو مؤمن بأنّ اللّه تعالي يعلم نجوي الاثنين بل محادثة الانسان مع نفسه بل ما تخفي الصدور، كما يعلم نجوي كل جمع و تآمرهم علي كل شي ء، و اذا كان الأمر كذلك فما معني النجوي في القول و أيّ أثر لذلك إلا تحريك خيال الآخرين الذين يتناجون عندهم فيحزنون، و ان كان المؤمن باللّه تعالي يعلم ان ذلك لا يضرّه شيئا و ان بيده تعالي ملكوت كل شي ء فينتهي النجوي الي ايذاء الغير، و لذا قال اللّه تعالي:

إِنَّمَا النَّجْويٰ مِنَ الشَّيْطٰانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضٰارِّهِمْ شَيْئاً إِلّٰا بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ عَلَي اللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. فلا ينبغي للمؤمن النجوي بالقول في حضور الآخرين و في

فقه القرآن

(لليزدي)، ج 4، ص: 321

الجمع، سيما مع الذين لهم خطر و شأن و لا سيما مع الأولياء و الولاة.

و لكن مع ذلك قد يحدث أمر يلزم ان يطّلع عليه كبير القوم و أميرهم حتي يأمر فيه بما يصلحهم، و لا يصلح ذكره لدي الجميع فيطّلعوا عليه و يتكلّموا فيه أو يعملوا بما يفسرونه، فلا بأس عندئذ بالنجوي حسب الضرورة، قال تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَنٰاجَيْتُمْ فَلٰا تَتَنٰاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَنٰاجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْويٰ فتنهي عن النجوي في كل شرّ و إثم، و لا بأس به في الخير و التقوي، ثم تحكم علي الذين نهوا عن النجوي ثم يعودون لما نهوا عنه و يناجون بالإثم و العدوان ان حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير.

فالنجوي بطبعه قبيح مذموم مطلقا لا يناسب كرامة المؤمن و محرّم بنفسه في الاثم و العدوان، زائدا علي ذلك الإثم، و ان كان جائزا احيانا حسب الضرورة في موارد خاصة من مهامّ الأمور مع الأكابر و من بيده الحلّ و العقد، و الضرورات تبيح المحظورات، و قد أمر اللّه تعالي بالكفارة بين يدي النجوي مع الرسول تقليلا لتصوّر الضرورة، فقال: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نٰاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقَةً ذٰلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و لا نفهم في المقام نسخا بقوله تعالي: أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقٰاتٍ الآية. بل سياق التشريع الأرجحية إلا ان تجمد علي صيغة الأمر و لفظ التوبة.

الخامسة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجٰالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللّٰهُ لَكُمْ وَ إِذٰا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا

مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجٰاتٍ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. (المجادلة [58] الآية 11)

تؤدّب الآية أيضا المؤمنين بما لا بدّ من مراعاته في المجالس و الالتفات الي ان للآخرين- أيضا- الحق في المجلس، فاذا قيل لكم تفسّحوا و رأيتم افتقار وارد إليه فافسحوا يفسح اللّه لكم و لا تأخذكم العزّة، و الشأن في الصدر و الذيل، و شرف

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 322

المكان بالمكين، و أيّ شرف يصيب الانسان بجلوسه في الصدر متّكئا و الناس منه في تعب، و العزّة و الرفعة للذين آمنوا، و الذين أوتوا العلم درجات. و نسأل اللّه ان يحفظنا من شرور أنفسنا، فلا بدّ من التفسح كما لا بدّ من القيام و النشوز اذا قيل لهم انشزوا، و ربّ البيت أمير علي الضيف ما دام في بيته، و ذلك لقوله تعالي: وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا.

السادسة- قوله تعالي:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذٰا كٰانُوا مَعَهُ عَليٰ أَمْرٍ جٰامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّٰي يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(النور [24] الآية 62)

الآية في نهاية الفصل تشتمل علي أمرين: أدب، علي المؤمنين رعايته مع وليّهم و أدب، علي وليّهم مراعاته معهم، فالأول ما ذكر لزوم رعايته علي حد له دخل في صدق الايمان، و هو كذلك، فان الاستيذان من الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و كل حاكم إلهي في أمور حكوميّة جزء من الايمان و قد صرّحت الآية بذلك بمقتضي الحصر و العطف و تكرار الأمر بقوله تعالي: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ

وَ رَسُولِهِ بعد قوله تعالي: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذٰا كٰانُوا مَعَهُ عَليٰ أَمْرٍ جٰامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّٰي يَسْتَأْذِنُوهُ فكانوا في مقام العمل و الاتباع من الرسول علي حد لم يذهبوا الي طريق في المسائل الحكومية و علي أمر جامع من شئون الامّة و المجتمع إلا باذن الحاكم، فلا يتّبعون إلا سبيل اللّه تعالي في إطاعة أوامره و ترك نواهيه و سبيل الحق في متابعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) عند أوامره الحكومية.

و اما الثاني فهو رعاية الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و كلّ حاكم أو آمر إلهي من الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) و نوابهم الخاصّين و العامّين، جانب المؤمنين و ملاحظتهم، فاذا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 323

استأذنوا لبعض شئونهم و كان صلاحا لهم، فعلي الحاكم و الوليّ الإذن، فإنّ مشيّة ذلك مشيته بما هو حاكم يراعي الامّة و شئونهم علي صلاحهم دون مشيته الفردية عن اشتهاء نفسه من غير صلاح الامّة، كما ان علي الولي ان يستغفر للأمّة فيما تخلّفوا و اقترفوا فإن اللّه غفور رحيم، لا ان يتركهم في خوضهم يلعبون.

ج- في علاقة المؤمنات مع المؤمنين، و هم معهنّ:

القرآن الكريم بعد ما يعدّ الرجل و المرأة من نوع انساني، كما هما كذلك بحسب الخلقة و الفطرة، بخطابه اياهما بقوله يا أيها الناس، يا أيها المؤمنون، من عمل صالحا من ذكر أو انثي فلنحيينّه حياة طيّبة و غير ذلك «1» يشير الي ميزة خلقيّة و فصل طبيعي بينهما به صارت المرأة مرأة و الرّجل رجلا، و كل منهما لباسا للآخر و سكينة له، و منه نشأت أحكام خاصّة لكل منهما في شتات الأبواب من الطهارة و الصلاة الي الشهادات و النكاح

و الطلاق، و بالنهاية الحدود و الديات و الإرث و …

و منها في المقام نشير إليها إجمالا؛ و في الباب آيات:

الأولي- قوله تعالي:

الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَي النِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَليٰ بَعْضٍ وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ فَالصّٰالِحٰاتُ قٰانِتٰاتٌ حٰافِظٰاتٌ لِلْغَيْبِ … (النساء [4] الآية 34)

تكشف الآية بجملة خبريّة اسميّة عن حقيقة عينية من ان الرّجال بصنفهم النوعي قوّامون علي النساء كذلك، لما في خلق الرّجل من الصّلابة و الصعوبة، و القوة في قلبه و حاسته و أعصابه و شرائر اجهزته الجسمية، حتي الشعور علي جلده و في فؤاده و روحه و ادراكاته. و في خلق المرأة من الظّرافة و اللطافة و الخفّة في كل شي ء منها جسما و روحا، كما أثبتته علوم الأحياء و التجربة العملية، و ذلك ما فضّل اللّه بعضهم علي بعض، و لا ينافي ذلك قوّة فرد من المرأة علي فرد من الرجل حسب

______________________________

(1)- أجمعها و اشملها قوله تعالي: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِمٰاتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ وَ الْقٰانِتِينَ وَ الْقٰانِتٰاتِ … الي قوله تعالي وَ الذّٰاكِرِينَ اللّٰهَ كَثِيراً وَ الذّٰاكِرٰاتِ أَعَدَّ اللّٰهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً». (الاحزاب [33] الآية 35)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 324

خصوصيات فرديّة فيهما أحيانا، و الرجل أقوي في ادراكاته العقلية، و المرأة في عواطفها و احساساتها. و الحياة الانسانية لا تؤمّن إلا بالعقل و العواطف معا، فان العمل راجع الي الثاني و صحته من الأول، و لا يكتفي بأحدهما دون الآخر، كما فصّل في محلّه، فجعل اللّه كلا منهما في كل منهما مع التفاوت حسب ما جعل عليهم من الوظائف الطبيعية من الفعل و الانفعال، و الحمل، و الوضع، و الرضاع و التربية و الوظائف

الشرعية المبنيّة علي تلك الأسس كنفقة الاسرة و قبول المهر و …

و من ذلك كلّه تظهر الحقيقة من ان العيشة و الحياة العائلية و الاسرية و الاجتماعية يقوم بهما الرجل و المرأة، و كل منهما يتصدّي حسب خلقته لسهم، الّا ان الرجال لقوّة تدبيرهم قوّامون علي النساء، و علي النساء لقوّة عواطفهنّ اتباع الرجال في المسائل العقلية و تعديل عواطفهن بهم، كما علي الرجال استدرار عواطفهنّ و استخدامها في هناءة العيشة و عذوبتها مع تعديلها فيها، تحفّظا عن مضارّ اطلاقها من غير حد كما هو ظاهر، و عندئذ فالصالحات من النساء هنّ الخاضعات القانتات لبعولتهنّ الحافظات لما علي الزوجة حفظه من نفسها و ماله و ما يجري بينهما بما هما زوجان.

الثانية- قوله تعالي:

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكيٰ لَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ* وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَليٰ جُيُوبِهِنَّ وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبٰائِهِنَّ أَوْ آبٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنٰائِهِنَّ أَوْ أَبْنٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوٰاتِهِنَّ أَوْ نِسٰائِهِنَّ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ أَوِ التّٰابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجٰالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَليٰ عَوْرٰاتِ النِّسٰاءِ … وَ لٰا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مٰا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَي اللّٰهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (النور [24] الآية 30- 31)

الآيتان تأمران رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بأن يقول للمؤمنين و المؤمنات يغضّوا من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 325

أبصارهم و يقصروا من نظرتهم بالعين، و كذلك يحفظوا فروجهم «1» أي سوءاتهم- قبلا و

دبرا- فان ذلك أزكي و أطهر لهم من اطلاق العين في النظر، و الفرج في النظر إليه أو العمل به أو فيه، ان اللّه تعالي خبير عالم بما تصنعون و تكسبون بجوارحكم و جوانحكم، و متعلق النظر اللازم الغضّ عنه مستفاد من المقام أي المؤمنين من المؤمنات، و المؤمنات من المؤمنين، و بعد ذلك تنهي المؤمنات عن ابداء زينتهنّ و اظهارها إلا ما ظهر منها بطبعها الاصلي مثل الثياب و الكحل و ما علي الوجه من الألوان الطبيعية، فان الزينة تعمّ ما يتزيّن به من الخارج أو من نفس الخلقة من تناسب الاعضاء، فكل ما يوجب شدّة حسن المتزين زينة؛ فمثل ما يعلّق علي الأذنين أو القلادة أو السوار و الخلخال مما يحرم اظهارها و ابداؤها فانها غير ظاهرة.

ثم يقول الرسول للمؤمنات ان يضربن بخمورهنّ «2» و ما يغطين به رءوسهنّ علي جيوبهن بإسداله علي الصدر أيضا حتي يكون الجيب مغطي مستورا بما يتستر به رأسهنّ فيحتجب الرأس و العنق فجانبا الخدين و الأذنين قهرا، و الجيب؛ و لزوم ستر باقي البدن ظاهر بالأولوية القطعيّة لشدّة الملاك فيه، و الظاهر ان ذلك هو الملاك للاجماع، لا الاجماع ملاك لذلك «3».

فلا تبدي المؤمنات زينتهنّ إلا للمحارم المذكورين في الآية، بعولتهن و آباء بعولتهن و آبائهنّ و ابنائهن و ابناء بعولتهن و اخوانهن و بني اخوانهن و بني اخواتهن و نسائهن أي نساء المسلمات، لتصدق الاضافة، فان الكافرات لسنّ من نسائهنّ، فلا تكرار مع ما ملكت ايمانهن من الاماء دون العبيد، كما يشير العطف بنسائهن علي

______________________________

(1)- الفرج و الفرجة الشق بين الشيئين كفرجة الحائط و الفرج ما بين الرجلين و كنّي به عن السوءة. (مفردات)

(2)- الخمر ستر

الشي ء و يقال لما يستر به خمار، لكن صار في العرف اسما لما يتغطي به المرأة و جمعه خمر قال تعالي: «وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَليٰ جُيُوبِهِنَّ». (المفردات).

(3)- فما هو المتداول بين الموظّفات في المستشفيات أو بعض المؤسسات من جمع شعورهنّ تحت الخمار و تعقيدها عقيب رءوسهنّ فتكون الخدود و الاذان و الأعناق مكشوفة خلاف صريح القرآن و متن الحكم و لا يعد حجابا كما توهم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 326

بني اخواتهن، و قد اشرنا الي نكتة التقييد في كتاب النكاح، فراجع «1». و التابعين من الرجال الذين لا يدركون شيئا من النكاح كالبلهاء التابعين أو الذين لا يحتاجون الي النكاح للخصاء أو الشيخوخة المفرطة، فهم غير أولي الإربة «2» و الطفل الذي لم يطّلع علي عورات النساء.

و ذيلا تنهي الآية- تأكيدا لحرمة ابداء الزّينة- عن ضرب أرجلهنّ علي الأرض حال المشي بوضعها عليها شديدا فيعلم زينتهنّ المخفيّة من الخلخال و شبهه.

و لعلّه يستفاد من ذلك عدم جواز تعطرهنّ و سيرهنّ في الشوارع و الأسواق، و كذلك كل ما يستجلب النظر الي مواضع الزينة فيتعاقبه التخيّل و الشيطان و لا أقل من الكراهة الشديدة، كما لا يخفي، و لعلّ من أجلي مصاديقه أيضا الخضوع في القول المنهي «3».

و قول الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ذلك من قبل اللّه تعالي هو بنفسه أمر اللّه تعالي الواجب اطاعته فان أمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أمر اللّه تعالي في مثل ذلك، و من يطع الرسول فقد أطاع اللّه، و أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول.

و لا يتوهّم بعد ذلك كلّه ان قوله تعالي ذٰلِكَ أَزْكيٰ لَهُمْ يرشد الي رجحان التستر و التحجب لا

الوجوب فان أطهريّة شي ء يساعد علي طهارة ما دونه، و ذلك لأن الاشارة الي حكمة الحكم لا يوجب انصراف الأمر عن الوجوب مع صراحة السياق و التعبير عندنا، أضف الي ذلك التعقيب بقوله تعالي: إِنَّ اللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ و التذييل بقوله تعالي: وَ تُوبُوا إِلَي اللّٰهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

______________________________

(1)- و سيأتي في الآية التالية المبيّنة موارد جواز النظر أيضا.

(2)- الإربة الحاجة الشديدة الي الشي ء الي حدّ الاحتيال، ثم يستعمل في كل منهما منفردا الحاجة أو الاحتيال.

(3)- كما في الآية الرجعة الي نساء النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): «يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسٰاءِ (الي قوله) فَلٰا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ …». (سورة الاحزاب [33] الآية 32)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 327

ثم ان تناسب الحكم و الموضوع يرشد الي ان علّة ذلك هو منع المجتمع عن اختلاط الرجال و النساء علي وجه يبدو منه الفساد، فتشيع الفاحشة بمراحلها الي الزّنا، فيهوي الي السقوط، لا المنع عمّا هو من عوامل تكامل الأمّة و رقيّ المجتمع، أو من لوازم المعيشة الانسانية من العلم و التجربة و العمل، كل حسب ما يناسبهما مع التحفّظ علي الشرف و السماحة و العفّة، فلا منع لتصدّي النساء تعليم النساء في الدين و الثقافة و علاجهنّ في الأمراض و ما يختصّ بهنّ حال الوضع، أو تعلّم الاطفال الذين لا يظهرون علي عورات النساء و غير ذلك مما لا ينافي مقامهنّ أو حقوق أزواجهنّ و أولادهن كما تعلم، و لا ينافي ذلك مع التزين و التعطّر و التبرّج في البيوت للأزواج فقط مع التحفّظ علي ما ذكر، فان ذلك يوجب تشديد المحبّة و تحكيم

العلاقة العائلية فإن المرأة ريحانة لا قهرمانة.

الثالثة- قوله تعالي:

… وَ إِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ … الي قوله تعالي: لٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبٰائِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰائِهِنَّ وَ لٰا إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ أَخَوٰاتِهِنَّ وَ لٰا نِسٰائِهِنَّ وَ لٰا مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ وَ اتَّقِينَ اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً. (الاحزاب [33] الآية 53- 55)

الآية- كما تري- تأمر ضمن تأديبات عديدة- بالسؤال من النساء من وراء حجاب اذا احتيج الي سؤالهنّ متاعا أو شيئا، فلا بأس بأصل سؤالهنّ و محاورتهنّ علي الحد اللازم إن كنّ محجّبات أو كان الستر مسدولا، فتفيد وجوب التحجّب علي النساء بما عرفت حدوده مع الاشارة الي حكمة الحكم من ان ذلك أطهر للقلوب.

و لا جناح عليهنّ في المحارم فلهنّ المكالمة معهم بلا حجاب، كما لهم المشافهة معنّ كذلك و هم (1) آباؤهنّ و (2) ابناؤهنّ و (3) اخوانهنّ و (4) ابناء اخوانهنّ و (5) ابناء اخواتهنّ و (6) نسائهنّ أي النساء المؤمنات حتي تصدق الاضافة و (7) ما ملكت ايمانهنّ من الاماء- مسلمات كنّ أو كافرات- دون العبيد لما عرفت من وجه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 328

التقييد، و يؤيد الأمر ذكر ما ملكت ايمانهنّ بعد نسائهنّ لا بعد ابناء اخواتهن كما لا يخفي «1».

و من المعلوم ان المورد لا يخصّص، فلا يختص الحكم بنساء النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بل يعمّ نساء المؤمنين أيضا كما تصرّح الآية التالية بذلك.

ثم تؤكد الآية أصل الحكم بالأمر بالتقوي و أنّ اللّه علي كل شي ء شهيد، فهو تعالي يشهد كل منظر و يري كل مرئي، فاتقوه في محارمه

و احذروه في معاصيه، فان النفس أمارة بالسّوء إلا ما رحم الرّب فارحمنا يا ربّنا يا أرحم الراحمين.

الرابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَ بَنٰاتِكَ وَ نِسٰاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنيٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلٰا يُؤْذَيْنَ وَ كٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً.

(الاحزاب [33] الآية 59)

تخاطب الآية رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و تأمره ان يقول لأزواجه و بناته و نساء المؤمنين فيما أمرهنّ ان يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ، و الجلباب القميص و الخمار، و إدناؤه عليهنّ ستر أنفسهنّ به، فيرجع الأمر الي وجوب ستر الرأس و البدن بأجمعه كما أوجبته الآية السابقة؛ و ذلك الستر أدني ان يعرفنّ أنّهنّ مؤمنات صالحات فلا يؤذين بانحراف الشبّان الفسّاق «2»، و حكمة الحكم- كما ذكرنا- لا ينافي الوجوب المطلق و اللّه تعالي غفور للمذنبين رحيم بعباده الصالحين.

الخامسة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا

______________________________

(1)- و قد عرفت ذلك في كتاب النكاح.

(2)- و ذلك مثل الحكمة العامة المذكورة في الآية الراجعة الي نساء النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و لعلّه لذلك يشمل الحكم سائر النساء أيضا. قال تعالي: «يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسٰاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلٰا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لٰا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰاهِلِيَّةِ الْأُوليٰ» (سورة الاحزاب [33] الآية 32 و 33)، فتوجّه تعرف ما ذكرنا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 329

الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلٰاثَ مَرّٰاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلٰاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيٰابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلٰاةِ الْعِشٰاءِ ثَلٰاثُ عَوْرٰاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لٰا عَلَيْهِمْ جُنٰاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّٰافُونَ

عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَليٰ بَعْضٍ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللّٰهُ لَكُمُ الْآيٰاتِ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَ إِذٰا بَلَغَ الْأَطْفٰالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللّٰهُ لَكُمْ آيٰاتِهِ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَ الْقَوٰاعِدُ مِنَ النِّسٰاءِ اللّٰاتِي لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنٰاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيٰابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجٰاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (النور [24] الآية 58- 60)

تفيد الآيات- أوّلا- وجوب استيذان من يريد الورود علي الغير كائنا من كان حتي المماليك و الذين لم يبلغوا الحلم بعد ظهورهم علي العورات سيّما في مواقع خاصة هي عورات عادة لما يضع الانسان فيها ثيابه، و في بعضها أكثر، كما في ما بعد صلاة العشاء الي صلاة الفجر و لا سيما للمتزوج. و في الظهيرة وقت الظهر حين تضعون ثيابكم فان الورود بلا اذن قد يوجب النظر الي حيث يجب ستره أو بما ينافي الكرامة. نعم في غير تلك المواقع و الانسان متستر عادة لا جناح علي المماليك و الذين لم يبلغوا الحلم من الذين يعاشرونكم و يطوفون عليكم بكثرة الدخول و الخروج حسب احتياجاتهم و استخداماتكم ان يدخلوا بغير اذن. و لا يدلّ ذلك علي جواز ورود العبد البالغ العزب علي السيّدة الشابة الجميلة و هي مكشوفة في تلك الأوقات فرضا «1» فان ذلك الاستيذان من الأدب و التحفّظ بعد أصل حكم وجوب الحجاب و التستر بوجه عرفت من اختصاص جواز ابداء الزينة لما ملكت ايمانهنّ بالاماء مسلمات كنّ أو كافرات قبال نسائهنّ المخصوصة بالمسلمات، فلا بدّ من التستر عن الكافرات من غير الاماء كما ذكرنا، فلا يشتمل علي جواز دخول المماليك بغير الاذن علي مالكيهم في غير تلك

الأوقات و العبيد علي السيّدات و هنّ

______________________________

(1)- كما عن المحقق الأردبيلي (رحمه اللّه) في زبدته ص 547.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 330

مكشوفات بل عليهنّ التستر أو عليهم الاستيذان قضيّة الجمع بين الآيات.

ثم تمنح الآية تسهيلا علي اللاتي لا يرجون نكاحا من القواعد فلا يرغب فيهنّ بوجه، أن لا جناح عليهنّ أن يضعن ثيابهنّ الظاهرة لا مطلقا ما لم يتبرّجن بالزينة، و مع ذلك ان يستعففن خير لهنّ، فليس لهنّ الانكشاف المطلق كما ليس عليهنّ الاحتجاب الكامل، و اللّه تعالي سميع لما تقولون و عليم بما تعملون.

و الحاصل المستفاد من الآيات وجوب التستر عمّن يطّلع علي العورات تحفّظا علي الكرامة و الانساب، و للمجتمع عن الفحشاء و الابتلاء بالزنا ذلك الذنب العظيم الشرعي و الفطري و العقلائي الذي يحكم عليه و يرده نظام الخلقة و سنة اللّه التي لن تجد لها تبديلا و لا تحويلا. و يري البعض ان عدم التعرّض لما يعمله المسلمون اليوم تأثرا بالغربيين، و تبعا لملوكهم العالين المفسدين في الأرض- و لا سيما في بلادنا- أفضل لأنه لا يزيد إلا همّا، و قليلا ما يؤثر في ايقاظهم و الشعور بمسئوليتهم و ترغيبهم في اقامة الدين و احياء الشرع المبين و محو كلمة الكفر، فيريحون أنفسهم باذكار أو كتب و يتعذرون بعدم تحصّل شرائط الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و ليس المقام بذلك من شي ء كما أشرنا إليه في آخر كتابه، و نسأل اللّه تعالي ان يوفّقنا لمرضاته و يقطع أيدي الظلمة عن مقدّسات الاسلام و شئون المسلمين ان شاء اللّه.

د- في علاقة المؤمنين بعضهم مع بعض:
اشارة

و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ

وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. (التوبة [9] الآية 122)

تفيد الآية حقيقة عقلائية و هي ان الانسان لا بدّ و أن يعيش متعاونا بعضه مع بعض بأن يتصدّي كل منهم لشطر مما تحتاج إليه الامّة فيعطي الآخرين من مجهوده

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 331

و يستفيد من ثمرات جهدهم، فيسيرون جميعا نحو الكمال و الحق و الفضيلة. فما كان المؤمنون لينفروا كافّة في سدّ احتياجات مجتمعهم سيّما الظرائف الدقائق، و لا سيما مثل التّفقّه في الدين و تعلّم معارفه و أحكامه، فلا بدّ و ان ينفر من كل قوم منهم طائفة و يهجروا وطنهم و علاقاتهم الشخصيّة و الاسرية الي موارد العلم و معالم الورود و التخصّص فيتعلموا و يتفقّهوا حتي يحصلوا علي مفتقرات القوم لينذروهم و ليرشدوهم الي الخير و الصلاح و يهدوهم الي سواء الطريق، الطريق السويّ الانساني اذا رجعوا إليهم. فبما انه منهم و يعرف خصائصهم و يعرفونه، فلهم به علائق و له بهم كذلك علائق فهو أوفق و أمكن في إرشادهم الي الحق عن الغير كما هو ظاهر.

و الحاصل ان الآية كما تدلّ علي وجوب تحصيل العلم و الفن في كل ما يحتاج إليه المجتمع الانساني بما هو انسان و ان توقّف علي النفر و الهجرة حتي الي بلاد نائية، و كلما كان ذلك أحوج كان تحصيله ألزم و أوجب مثل التفقّه في الدين و التعرّف علي معالمه و التخصّص في العلوم الاخري كالهندسة و الطب و تعلّم معارفها و مواردها، فان العلم علمان: علم الأديان و علم الأبدان. و قس عليهما فروع كل منها من العلوم و الصنائع … كذلك تدلّ (الآية) علي وجوب الانذار و الإرشاد و تبليغ

الدين، و كذلك وجوب الطبابة و حفظ الأبدان و الصناعة و تأمين احتياجات العباد، كل ذلك علي الكفاية.

و حيث لا يتمكّن كل فرد من تعلّم كل العلوم و التصدي لكل الصنائع، فلا بدّ من التقسيم، فيجب علي طائفة من كل فرقة ان ينفروا فيها، و حيث ان التفقّه في الدين- لا نفس التعلّم فقط- أحوج شي ء تضطر إليه الامّة المسلمة و لا حياة لها بدون الدين و التفقّه فيه، فقد أرشدت إليه الآية اشعارا الي شدّة الوجوب، و قد فطر اللّه تعالي كل فرد الي شي ء من العلقة و الاستعداد حتي يتمّ ذلك في الخلقة أيضا.

و أنت بنفسك تعلم ان ذلك الوجوب بما انه كفائي فهو لا ينافي جواز أخذ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 332

الأجرة عليه حيث ان طبع تلك الواجبات تأمين شطر من احتياجات الآخرين قبال تأمينهم احتياجاته من غير فرق في ذلك ان يكون من طريق بيت المال أو اشخاص الامّة. بل عندنا لا بأس بأخذ الأجرة علي الواجبات العينية بعد تمشي قصد القربة في التعبّديات منها فكيف في التوصليات كما أثبتناه في محله «1».

الثانية- قوله تعالي:

وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ إِلّٰا رِجٰالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ. (النحل [16] الآية 43)

الآية و ان كانت في مسألة النبوّة و كيفية مواجهة الناس لها، إلا انها ترشد الي أمر عقلائي كلي ينطبق علي المبحوث عنه من مراجعة أهل الذكر و سؤال كل موضوع ممّن هو أهله بحيث تعدّ المراجع الي الغير سفيها غير مبال، فكما ان علي الناس في مسألة النبوّة مراجعة أهل الفن حتي يعلموا الحق، فكذلك علي المؤمنين الرجوع الي أهل الذكر من العلماء الاعلام و الفقهاء العظام

في أمور دينهم دون الجبت و الطاغوت و كل من تظاهر بالحق و هو متعاون مع الظالمين، كما انّ عليهم الرجوع في أمور دنياهم الي أهل فنّه في مختلف الشئون، فكما ان رجوع المريض الي البنّاء و الخيّاط بدل الطبيب يعدّ سفها، فكذلك هو الرجوع في معالم الدين و معارفه الي غير أهله، بل لا بدّ فيهم أيضا من مراجعة كل مسألة الي أهلها من الفلسفة و الفقه و الأصول الي دقائق العقائد و ظرائف العرفان، فليس كل عالم ديني يعلم كل فنّ و علم من العلوم الاسلامية، و ليس كلّ من يعلم شيئا من علم عالم به حتي يرجع إليه في حلّ المشاكل بل لقد ظهرت المشاكل من ذلك، و لا يساعد المقام اطلاق القلم في ذلك و ذكر موارده.

الثالثة- قوله تعالي:

______________________________

(1)- و قد أشبعنا الكلام فيه بتفصيل في المسألة السادسة من المسائل التي أوردناها بعد بحث الشرائط في رسالتنا (القضاء في الاسلام) التي عملناها علي طريق الأصحاب، فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 333

وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لٰا تَنٰازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّٰهَ مَعَ الصّٰابِرِينَ* وَ لٰا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ بَطَراً وَ رِئٰاءَ النّٰاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ بِمٰا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. (الانفال [8] الآية 46- 47)

من المعلوم ان الاسلام يريد لأمّته ان تكون خير أمّة.. تعيش عيشة كريمة علي أساس الوحدة و الاخوة و التعاون و السماحة و العظمة حتي يكون المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضهم بعضا، و يكون كل منهم كالجبل الراسخ ذي عزم ثابت علي الحق لا تحركه العواصف.. اشداء علي الكفّار رحماء بينهم، فشرّع في ذلك السبيل شرائع و

آدابا عرفت كثيرا منها خلال الاحكام و نشير الي بعضها في المقام من جهة النفي و الإثبات؛ فمنها ما أفادت الآية بعد الأمر بإطاعة اللّه و رسوله- كما في موارد كثيرة- النهي عن التشاجر و التنازع فان ذلك يوجب الفشل و الوهن و يذهب الكرامة و السماحة، و روح العظمة و ريح الشّرف، فهو ينشأ من اثارة الانفعالات و غلبة الغضب علي العقل و الايمان، فليس للمؤمن التنازع في كبائر الامور فكيف بصغائرها، و كرامته أعظم شي ء يصاب فيه «1».

و منها أيضا في ناحية السلب ما تفيده الآية الثانية؛ و النهي عن مماثلة الذين خرجوا من ديارهم بطرا و رئاء الناس تأكيد النهي الأول، فان اساس المنازعات بين الاخوة المؤمنين هي تلك الأمور في الغالب كما تعلم.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا* وَ لٰا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبٰالَ طُولًا* كُلُّ ذٰلِكَ كٰانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً. (الاسراء [17] الآية 36- 38)

______________________________

(1)- و المورد لا يخصص و ان كان التنازع حول بعض مسائل الجهاد و لا سيما في تقسيم الغنائم، بمقتضي السياق و علي المؤمن الصبر علي بعض الأمور و الحذر من التنازع كما عليه الحذر من البطر و الرياء و الصدّ عن سبيل اللّه كما هو ظاهر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 334

الآية- كما تري، ضمن أوامر و نواه ايجابية و تحريمية مما ذكرناها في أبوابها- تنهي عن الاقتفاء «1» و تبعيّة ما ليس لك به علم، فان اتّباع غير المعلوم في القول أو العمل يقتفيه الشرّ و الضرر غالبا، و يورث التنازع

و التشاجر، فليس للمؤمن ان يقول أو يعمل بما لا يعلم، و لا اختصاص باتّباع ظن خاص أو عمل مخصوص من الغيبة أو الحكم بالنسب علي القيافة فانهما من المصاديق، إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا.

و تنهي بعده عن المشي علي الأرض مختالا فرحا متبخترا، مشيرة الي ضعف الانسان، و انك لن تخرق الأرض بقوّتك- كائنا من تكون- و لن تبلغ الجبال طولا، فان تثقيب الأرض أو تخريب قطعة منها باستخدام أجهزة خاصّة و بمعونة قوي الطبيعة هي جنود السّماوات و الأرض للرّب تعالي، و كذلك المشي علي قمم الجبال هو غير التسلّط علي الأرض و الجبال و النفوذ فيها بصورة أساسية و رئيسية. فعلي المؤمن باللّه تعالي بعد ادراكه انّه مخلوق له تعالي محكوم للنظام محبوس في العالم محدود بحدود الوجود، بيد الفيّاض القيّوم تعالي؛ ان يحفظ نفسه قولا و عملا فلا يقول و لا يعمل بما ليس له به علم و ان لا يتكبّر فيمشي علي الأرض فرحا فخورا، فان ذلك كلّه منفور مردود. و تري ذلك البحث في مواعظ لقمان أيضا في الآية التالية:

الخامسة- قوله تعالي:

وَ لٰا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّٰاسِ وَ لٰا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ* وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوٰاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ. (لقمان [31] الآية 18- 19)

خلال مواعظ لقمان و بعد بيان أصل كلي ثابت و حقيقة عينيّة قاطعة من ان الأعمال خيرا أو شرّا و ان تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات

______________________________

(1)- الاقتفاء أخذ القفاء و تبعيّته.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 335

أو في الأرض يأت بها اللّه

ان اللّه لطيف خبير. يتحدّث القرآن الكريم عن أمور كثيرة من بينها إقامة الصلاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الصبر علي النوائب و الحوادث مما يصيب الانسان، فان ذلك من عزم الأمور.

ثم ينهي عن تصعير الخدّ للناس و تحقيرهم بصرف الطرف عنهم فيميل عنقه «1»، كما ليس للمؤمن اذلال نفسه و تحقيرها لدي الآخرين فان له سماحة و كرامة لا بدّ و ان يحافظ عليها. فالاستقامة هي ان لا يتكبّر فيمشي علي الأرض فخورا مرحا رافعا صوته متغطرسا- بل يمشي علي الأرض هونا مقتصدا و يغضض من صوته فيقصر من ندائه فان أنكر الأصوات لصوت الحمير- كما ليس له في القصر و الغضّ ان يبالغ فيناجي فان النجوي من عمل الشيطان تنبثق عنه الوساوس كما مر الكلام فيه.

و الأصل ان الانسان اذا أدرك ان اللّه تعالي هو الذي سخّر للناس ما في السموات و ما في الأرض و أسبغ عليهم نعمه الظاهرة و الباطنة، و هو الذي يأتي بالعمل أيّا كان و اينما كان فيجازي به وفاقا، لا يخضع إلّا للّه تعالي و لا يخاف إلا منه، فيعيش مع عباد اللّه علي صفاء و هناءة من غير تكبر و لا احتقار فلا يصرف نظره عنهم برأسه و لا يصعّر خدّه و يمشي علي الأرض هونا مغترا فخورا، و يتكلم مع الناس علي وقار فلا يجاهر و لا يخافت و يبتغي بينهما سبيلا. اللّهم وفّقنا لما تحب و ترضي و اصرفنا عمّا لا تحب آمين ربّ العالمين.

السادسة- قوله تعالي:

وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً. (النساء [4] الآية 86)

الآية أيضا في سبيل المحافظة علي

كرامة الامّة، توجب أدبا آخر هو السّلام و التحية، أي طلب الخير و الحياة حال المزاورة و الملاقاة، فيحيي كل الآخر تحيّة

______________________________

(1)- الصعر ميل في العنق و التصعير إمالته عن النظر كبرا. (المفردات)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 336

بطلب الحياة و الخير من اللّه تعالي بأيّ تعبير و أقلّه السّلام، و لا بدّ من ردّها بأحسن منها و لا أقل بمثلها، فتدلّ علي أصل وجوب ردّ التحيّة، و بالأحسن أفضل، كما ورد عن الامام الصادق (عليه السّلام) السّلام تطوّع و الردّ فريضة، و لذلك يجب حتي في الصلاة. و عندنا يحيط الاطلاق كل ما يصدق عليه التحيّة من القول أو العمل بما هو المتعارف بين الأقوام ما لم يردع عنه الشرع، و ردّ التحية لمن حيّي سيّما بالأفضل يقوّي روابط الأفراد و يوثق علائقهم بعضهم مع بعض فيعيشوا متعاونين متكاملين الي سبيل اللّه.

السابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّٰي تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَليٰ أَهْلِهٰا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهٰا أَحَداً فَلٰا تَدْخُلُوهٰا حَتّٰي يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكيٰ لَكُمْ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. (النور [24] الآية 27- 28)

تنهي الآية أيضا- في سبيل حراسة السماحة و الكرامة- عن دخول بيوت الآخرين بلا اعلام و استيناس، و تأمر بالسلام علي أهل البيت «1» بعد الورود باعلام و استيناس فعلي الوارد السّلام «2» و التحيّة و علي المورود ردّ تحيّته بمثله ان لم يكن بأحسن، و ذلك خير. و اما اذا لم يكن في تلك البيوت أحد، أو لم تجدوا فيها أحدا، و لو كان، و لم يجبكم لغرض، فلا تدخلوها إلا ان يؤذن

لكم من صاحب البيت أو ممّن له الولاية عليه فان ذلك تصرّف في ملك الغير بغير اذنه، و كذلك اذا قيل لكم ارجعوا فارجعوا و لا تدخلوا و اعلموا ان اللّه تعالي عليم بما تعملون من الورود بلا

______________________________

(1)- بل السلام علي أنفسكم بقولكم مثلا السلام علينا و علي عباد اللّه الصالحين فان ذلك دعاء و بركة من اللّه.

قال تعالي: «فَإِذٰا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَليٰ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ مُبٰارَكَةً طَيِّبَةً» (سورة النور [24] الآية 61)، و قال تعالي: «وَ إِذٰا جٰاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِنٰا فَقُلْ سَلٰامٌ عَلَيْكُمْ» (سورة الانعام [6] الآية 54).

(2)- الآيات تعلّم أدبا للمسلمين بأن يكون أقل تحيتهم السّلام لا الاكتفاء بالاشارات كرفع اليد و امثاله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 337

اذن أو معه و الرجوع و عدمه و مقاصدكم في ذلك كلّه.

نعم، لا جناح عليكم ان تدخلوا بيوتا غير مسكونة بغير اذن و لكم فيها متاع أو شغل أو منفعة كالمساجد و المدارس و المتاجر و ما يعبّر عنها بالأمكنة العامة التي لكل أحد ان يستمتع بها فيجوز دخولها بلا اذن.

فرع:

و لعلّك يخطر ببالك جواز دخول أمناء الحكومة الحقّة و ولاة الأمر بيوت الناس بغير اذنهم تحفّظا علي مصالح الأمّة و منافع الشعب المسلم في شرائط خاصة يظن ان في تلك البيوت يخطط لمؤامرة و كيد و خيانة مثلا- كما يعمله اليوم موظفو الحكام الجائرين باسم رجال الأمن و يعملون ما تضطرب النفس و تخجل بذكر بعضها لعنهم اللّه و قطع أيديهم عن شئون المسلمين «1»، و لا يبعد ان يكون كذلك، بل هو كذلك في مواقع خاصة يراها الحاكم الاسلامي علي شعاع حكومته، فان النبي (صلّي اللّه عليه و آله

و سلّم) أولي بالمؤمنين من أنفسهم كما عرفت في كتاب الولاية- و المنصوب من قبل الحاكم حاكم علي حدّه كما تعلم- و ليس جواز الدخول بغير الاذن عند المصلحة جوازا لكل أمر، بل لا بدّ من رعاية تمام الحدود و الأحكام في تمام الجهات و الشئون، و بذلك قلما تنتهي الضرورة الي الورود بغير الاذن، و علي النهاية بغير الرضا بعد الاعلام و المراقبة.

الثامنة- قوله تعالي:

يٰا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ. (الأعراف [7] الآية 31)

و في انتهاء بحث التحفّظ علي كرامة الأمّة الاسلامية و التحرك نحو الكمال و الفضيلة في الناحيتين الظاهرية و الباطنية، تنادي الآية بني آدم و تأمرهم باتخاذ الزينة عند إرادة المسجد و المعبد بان يكونوا طاهرين متزيّنين، فان المساجد

______________________________

(1)- كما عملوا باستاذنا الأعظم و بنا و باصدقائنا و بكثير من أفاضل الحوزة العلمية، و بالأحرار المدافعين عن الحرية و الفضيلة و الاسلام.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 338

و المعابد مراكز تجمّع العباد و تلاقي المؤمنين و تزاورهم، و اللّه تعالي يحبّ ان يري عباده علي نعمه متحدّثين، قال تعالي: وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ و ذلك الأمر للعباد و بني آدم، فعلي المؤمنين بطريق ألزم. و ذكر المسجد لا يختصّ بالمؤمنين فان الآية عندنا حسب الملاك تفيد الأمر في كل زيارة للاخوان و ملاقاة للمؤمنين، بل و عند الخروج عن البيت مطلقا، فعلي المؤمنين التزيّن حسب شأنهم و امكاناتهم المشروعة عند إرادة المسجد أو زيارة النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو الامام (عليه السّلام) أو ملاقاة العلماء الاعلام، و مواجهة الاخوان الكرام، و مشافهة كل انسان، و بالجملة عند إرادة الخروج من البيت قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ

اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ و سخّر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا.. و حلية تلبسونها كما مرّ، و المسجد قد ذكر لما هو ملتقي المؤمنين بصورة أكثر.

و اللازم ما يصدق عليه التزيّن و اتخاذ الزّينة حسب تعارف الأقوام و البلاد من أنواع الألبسة و تمشيط الشعور و التدهين و التعطّر و أمثال ذلك ما لم يردع عنه الشرع من التشبّه بالأعداء.

ه- في خصائص الشعب المؤمن:

الشعب المسلم و الأمّة الاسلامية مثل كل شعب و أمّة لها حياة و ممات، غير حياة الفرد و مماته، باعمال شائعة فيها، و ترقي بأوصاف يتّصفون بها، و كذلك تضعف و تنحط فتموت أيضا بأعمال و أوصاف، و الاسلام يوجد و يصنع برغبة مفرطة و إرادة مؤكدة أمّة و مجتمعا متحرّكا علي الكرامة و السماحة الي حد أوحي اللّه تعالي الي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): طه، مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقيٰ إِلّٰا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشيٰ، و يوصي بالمكارم و الفضائل و يؤكد و يوجب اعمالا و أوصافا أو ينهي عن قبائح و رذائل، نشير الي بعضها بعد الواجبات و المحرّمات التي عرفتها في أبوابها و في الفصل آيات.

الأولي- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 339

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَي الْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً سِيمٰاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَويٰ عَليٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّٰاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّٰارَ وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً. (الفتح [48] الآية 29)

الآية- كما تري- توضيح و بيان لحالات المؤمنين و انهم متّفقون علي مسألة رئيسية

في الأمور الأصولية الاعتقادية «1» و هي انّ محمدا (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) رسول اللّه؛ فكلما يأمر و ينهي فهو من قبل اللّه تعالي عن طريق الوحي، و ما ينطق عن الهوي.

و اما الذين معه من المؤمنين باللّه تعالي و اليوم الآخر فهم أشدّاء علي الكفّار لا يأخذهم في دين اللّه لومة و لا رأفة الي حدّ المقاتلة، فيقتلون و يقتلون اذا كان عليهم ذلك، رحماء بينهم يرأف القويّ منهم علي الضعيف و الغنيّ منهم علي الفقير و الأمير الرئيس علي المأمور المرءوس، فالشعب المؤمن متراحم، و ان تنظر إليهم تراهم ركّعا سجّدا يصلون و يقيمون الصلاة أيضا فيخضعون و يسجدون للّه تعالي، و يبتغون من ذلك كلّه فضلا من اللّه تعالي و رضوانا من غير رئاء للناس و خضوع لغير اللّه تعالي، و يعلم ذلك من سيماهم، و الانسان يعلم من جبهاته و ظواهره و فلتات لسانه كثيرا ممّا في قلبه و أفكاره سيما من كان من أهله، كما فصّل في العلوم النفسيّة.

و كيف كان، ذلك مثل المؤمنين في التوراة يحكيه القرآن الكريم و يمثلهم علي لسانه هكذا، و اما تصويرهم في الإنجيل فان الذين مع الرّسول من الشعب المؤمن كزرع نما و بلغ في الرّشد و الكمال الي حدّ اخرج بذوره و حبوبه و نشر في جوانبه و شواطئه فقوي و آزر فاستحكم بشدّ أزاره فاستغلظ فاستوي علي سوقه و اقام صلبه بوجه يعجب الزرّاع من قوته و استقامته و شدّة حيويته و فرط عمله في التزايد و تكثير

______________________________

(1)- و لقد تعرضنا لتلك الأصول في رسالتنا (اسس الايمان في القرآن) فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 340

المثل، فان المؤمن الذي مع

الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و مع مدرسته و شريعته الاسلامية يقوّي نفسه شيئا فشيئا من روح الايمان و فيض القرآن حتي يستقلّ بنفسه فيأخذ في ارشاد الآخرين و إحياء ابناء آدم الذين يعيشون حواليه و في دائرة حياته ببذر اصول المعارف و اساس الدين علي مستوي قابليّتهم في نفوسهم، و تبليغ الأحكام و اجراء الحدود، فكل فرد منهم يستقل بنفسه و يستوي علي سوقه فهو يعمل و يتحرك في ساحة عيشه حتي يحيي الآخرين و يرشدهم الي الحق، ليغيظ بهم و بجمعهم الكفار و المعاندين، وَ تِلْكَ الْأَمْثٰالُ نَضْرِبُهٰا لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ … وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً.

هذا هو حال الذين آمنوا معه، و اذا كانوا كذلك، فكيف يمكن ان يتسلّط عليهم الكفّار فيهبطوا الي حدود مخجلة و ينزلوا منازل بشعة؛ و يا للاسلام و القرآن من الذين فرّقوا بين الناس و كتابهم و جعلوهم يكتفون بقراءة بعض الآيات للأموات و باستماع الألحان و الأصوات فقط. اللّهم اجعل منّا أمّة صالحة و شعبا صالحا حيّا منذرا و خير أمّة تفقه القرآن و تعمل بالحدود و الأحكام ان شاء اللّه.

الثانية- قوله تعالي:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذٰا ذُكِرَ اللّٰهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذٰا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيٰاتُهُ زٰادَتْهُمْ إِيمٰاناً وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الانفال [8] الآية 2)

تشير الآية بأداة الحصر تأكيدا الي أظهر أوصاف المؤمنين و انهم هم الذين اذا ذكر اللّه و جلت قلوبهم تجاه عظمة اللّه و قدرته و ازاء شعورهم بضعف أنفسهم و ادراكهم انّهم معلولون محكومون في نظام الخلقة و نواميس الفطرة، فليسوا بأنفسهم في شي ء، و اذا تليت عليهم آياته من الخلق و

الأمر مما في السموات و الأرض و في أنفسهم، زادتهم ايمانا و يقينا و اطمئنانا، فعلي ربّهم يتوكلون، و به يعتمدون، و الصلاة في مجتمعهم قائمة علي صلبها ظاهرة بمظاهرها في شتات و جهات معيشتهم، و ممّا رزقناهم ينفقون، اولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 341

عند ربّهم و مغفرة و رزق كريم.

الثالثة- قوله تعالي:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أُولٰئِكَ هُمُ الصّٰادِقُونَ. (الحجرات [49] الآية 15)

الآية أيضا- مع أداة الحصر و التأكيد- تشير الي ناحيتي العقيدة و العمل في الشعب المؤمن و الامة المؤمنة و انهم الذين يؤمنون باللّه و رسوله علي حدّ لا يعرض لهم الشكّ و لن يعتريهم الارتياب في ناحية الاعتقاد و التفكّر، و يجاهدون و يسعون في سبيل اللّه و طريق الحق من غير توان و تأنّ بأموالهم فيما احتيج إليها، و بأنفسهم في الجهاد بالمعني الخاص كما عرفت في محله.

و عندنا ذلك أظهر خواص الشعب المؤمن و أجمعها في جميع الجوانب، و ذلك الشعب هو الشعب الحيّ الخالد القائم علي قوائمه من غير اتّكاء علي الآخرين، فلا يستخدمهم الاعداء بل هم الوارثون للأرض، الحاكمون عليها المستخدمون سائر الأقوام في طريق الحق. و قريب منها آيات أخر.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَي الْأُخْريٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. (الحجرات [49] الآية 9- 10)

تخبر الآيات عن الشعب المؤمن و انّهم اخوة كأنّهم ولدوا

من أم واحدة تكفّلتهم و ربّتهم في حجرها.. حجر الايمان و الوحدة و الصفاء و الاخوة و الحق. فهم اسرة واحدة يعيشون في بيت واحد علي نظام واحد و يسعون الي غرض و هدف واحد، و من أجل تلك الوحدة و كرامة الاسرة، اذا ظهر فيهم الخلاف و التشاجر فعليهم الاصلاح علي الحق و القسط و العدالة برعاية حقوق الطرفين في ظلال حدود

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 342

اللّه تعالي لئلا يتّسع نطاق النزاع فيذهب ريحهم و يفشلوا. و يلزم الاصلاح ذلك الي درجة ان بغت احداهما علي الاخري فلا بد من مقاتلة الباغية حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ و حكمه و حفظ حدود الأخوة. فعليهم ان يحقوا الحق و يبطلوا الباطل.

الخامسة- قوله تعالي:

فَمٰا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتٰاعُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ وَ أَبْقيٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ وَ إِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ* وَ الَّذِينَ اسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُوريٰ بَيْنَهُمْ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَ الَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ* وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا. (الشوري [42] الآيات 36- 40)

الآيات- كما تري- في سياق بيان آيات اللّه تعالي و موقف الانسان تجاهها، حتي ينتهي الي بيان واقع ثابت و هو ان ما أوتيتم من شي ء- كائنا ما كان من النعم- فهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به، و ان هو إلا غرور، و لكن ما عند اللّه خير و أبقي.

و عندئذ فالشعب المسلم المؤمن هم الذين يتّبعون تلك النعم الباقية و هي للمؤمنين المتوكلين علي ربّهم طول حياتهم، الذين لا يرون شيئا من أسباب العالم و مسبباتها إلا وسائط

و وسائل، و بيده تعالي ملكوت كل شي ء، و كل شي ء يعمل بإرادته و قدرته. و الشعب المؤمن لعلمه و ايمانه بذلك لا يتكئ علي شي ء، و هم علي ربهم يتوكلون، و عن الكبائر و الفواحش من الاثم يجتنبون، و اذا غضبوا من أمر يسترون عليه و يغفرون فيكظمون غيظهم و يسكنون غضبهم، و هم الذين يستجيبون ربهم فيجيبون دعوة اللّه تعالي إيّاهم الي الخير و الحق فيعملون بما أمروا و ينتهون عمّا نهوا عنه و يقيمون الصلاة علي صلبها بعد ما يقرءونها بأنفسهم فردا فلا يضيعونها في المجتمع لا يعتني بها و بآثارها كما كان يفعل مدعو الاسلام «1».

______________________________

(1)- من أمثال الشاه البهلوي و أيّ اسلام و لم يبق منه إلا الاسم، و أيّ اسم و أكثر شباب المسلمين لا يصلّون و لا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 343

ثم ان المؤمنين أمرهم شوري بينهم، فهم في الموضوعات يتشاورون و يتعاونون بعقولهم و أفكارهم فيشخّصون ما هم فيه يختلفون، و بعد التعين بأجمعهم يعملون علي الوحدة في سبيله، حتي المخالفين منهم حذرا عن التفرّق و الفشل، و مما رزقناهم في سبيل الخير و الحق ينفقون «1» و كذلك الشعب المؤمن اذا أصابهم بغي منهم أو من عدو فهم ينتصرون و يتظاهرون و بتظافرهم يدافعون لا انهم بوهن و توان يخذلون و اذا غلبوا علي العدو أو الباغي فيجزون السيّئة سيئة مثلها فهم يعدلون و لا يظلمون.

السادسة- قوله تعالي:

… قٰالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤٰالِ نَعْجَتِكَ إِليٰ نِعٰاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطٰاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَليٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ. (ص [38] الآية 24)

الآية- كما تري- بعد بيان حكم داود النبيّ (علي نبينا و آله و

عليه السلام) بالحق و العدل و انه ظلم بسؤال نعجة الي نعاجه- تشير الي أمر كلي و هو ان كثيرا من الخلطاء المعاشرين في أيّ زمان ليبغي بعضهم علي بعض، و ان هذا طبع الناس المعتكفين علي الدنيا و حطامها، ثم تستثني الذين آمنوا و عملوا الصالحات؛ فالشعب المؤمن هم الذين لا يبغي بعضهم علي بعض في معاشراتهم و اختلاطاتهم فلا يظلمون و لا يظلمون و هم يعدلون.

السابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مٰا لٰا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لٰا تَفْعَلُونَ. (الصف [61] الآية 2- 3)

______________________________

- يصومون سيما الجامعيين و الموظفين فهم تاركوها أو مضيعوها، و أكثر الذنب علي عاتق الملك المخذول خذله اللّه بكفره.

(1)- و من المعلوم ان الانفاق لا بدّ و ان يكون من الطيبات مما يحبون، قال تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا كَسَبْتُمْ وَ مِمّٰا أَخْرَجْنٰا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لٰا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ» (البقرة [2] الآية 267)، و قال تعالي: «لَنْ تَنٰالُوا الْبِرَّ حَتّٰي تُنْفِقُوا مِمّٰا تُحِبُّونَ وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللّٰهَ بِهِ عَلِيمٌ» (آل عمران [3] الآية 92).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 344

تخاطب الآية المؤمنين و تسألهم تحضيضا: لم تقولون ما لا تفعلون؟! و المؤمن حقّ الايمان اذا قال بحق يعمل به و يري ان القول بلا عمل مقت و ذنب كبير، فالشعب المؤمن هم الذين يعملون كثيرا بالخير و الحق و يقولون قليلا، فان الأصل المنتج العمل، و القول لا وقع له إلا بما انّه عمل تبليغي له أثر، فله وقع بما انه عمل لا قول، و الشعب المؤمن حقّا عمليّ لا قولي.

الثامنة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا لٰا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسيٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لٰا نِسٰاءٌ مِنْ نِسٰاءٍ عَسيٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لٰا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لٰا تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمٰانِ. (الحجرات [49] الآية 11)

تخاطب الآية المؤمنين و تنهاهم عن سخرية قوم من قوم لا بالقول و لا بالعمل الذي يقهر الآخر انفعالا. و لعلّ الساخر أضعف و أوهن، و توهين الآخرين قبحه ظاهر، و لا فرق في ذلك بين الرّجال و النساء، و لا يسخر نساء من نساء لعلهنّ خير، فالشعب المؤمن لا يسخر بعضهم من بعض بوجه، كما نهم لا يلمزون، فلا يتتبعون معايبهم ليذكروها اغتيابا. و اللمز بنفسه مذموم لا يري في الشعب المؤمن- انتهي الي الغيبة أو لا- فهو ينافي السماحة و الكرامة؛ و الانسان لا يخلو من عيب. و كذلك التنابز بالألقاب الشنيعة فان المؤمن لا يؤذي أخاه المؤمن حتي بالتلقيب و لا يسخر و لا يلمز و لا ينابز بالألقاب، و في ذلك أيضا قال تعالي: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (الهمزة [104] الآية 1)، فان همز الغير و تعييره بذكر معايبه و لمزه بتتبع قبائحه و تصفح نواقصه ينافي كرامة الشعب و عظمته المطلوبة. و قد جعل اللّه تعالي للذين يتّبعون عيوب المؤمنين المصدقين تطوّعا- ظنا منهم ان ذلك ينزل منزلتهم- عذابا أليما، فقال تعالي: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقٰاتِ … الي قوله تعالي وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (التوبة [9] الآية 79).

التاسعة- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 345

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَليٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ. (الحجرات [49] الآية 6)

و في نهاية البحث

نعطف أمرا آخر في مجتمع المسلمين و الشعب المؤمن و هو أنّ الامّة المسلمة لا تتبع كل نبأ و خبر و لا تعمل بكل قول و أثر، قبل ان تبيّن واقعيّة الأمر و مشروعيته، فلا يعملون بلا تحقيق لئلا يصيبوا قوما أو امرأ بجهالة فيصبحوا علي ما فعلوا نادمين و لا ينفع الندم.

و قد استدلّ القوم بذلك علي حجّية خبر العادل، بتقريب ان نبأ الفاسق المحتمل في حقه الكذب هو الذي لا يعتمد عليه و لا يعمل به حتّي تبيّن صدقه، و اما العادل بل غير الفاسق- لو قلنا بالواسطة- فيعمل بخبره به من غير توقّف علي التبيّن. و عندنا العمل بقول الثقة العقلائي عقلائي لا يحتاج الي تكلّف الاستدلال بالآية، و هي ترد علي خبر الفاسق و انه لا يعمل به، و أين ذلك من حجيّة خبر العادل إلا علي مفهوم الوصف، و ليس ذلك لو كان علي حد ثبت به مثل المسألة. و دليل اعتبار خبر العادل كما عرفت بناء العقلاء أيّا كان مبناهم.

نتيجة الأبحاث

1- المؤمن و والديه:

الأول: يجب علي كل مؤمن الاحسان الي والديه بان يصاحبهما علي وجه يصدق انه محسن إليهما عرفا علي اختلاف شرائط الزمان و المكان و الولد و الوالدين.

الثاني: يحرم الإساءة الي الوالدين و ايذاؤهما من كل ما يصدق عليه ذلك عرفا.

الثالث: لا طاعة للوالدين في الشرك باللّه تعالي و معصيته و في كل باطل و حرام بل و في كل ضرر يستقل به العقل أو يحكم به العقلاء.

الرابع: أقلّ مدة الحمل ستّة أشهر يستفاد من مقارنة الآيتين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 346

2- المؤمن و أسرته:

الأول: ان من الأموال و الأولاد و الأزواج عدوّا يلهي الانسان عن ذكر اللّه، يجب التحرّز عنهم كما يجب العمل فيهم صالحا حتي يكونوا باقيات فيضاعف الأجر و الثواب.

الثاني: يجب صلة ما أمر اللّه به ان يوصل: الرحم، الأقرباء، الاخوة المؤمنين، المرابطين، المجاهدين، العلماء الصالحين، كفاية و في الجملة.

الثالث: يحرم قطيعة الرحم بتركهم و ترك مراودتهم و مزاورتهم فلا بدّ من معاونتهم علي كل خير و سعادة و تقويتهم في الايمان و الهداية و تأمين احتياجاتهم في الدنيا و الآخرة حسب ما يقتضيه المتعارف بين الامّة المسلمة.

الرابع: لا يجوز مواصلة الأرحام و غيرهم بالحرام أو ما يستلزم ذلك و لو بترك الواجب كما في العوائل غير المبالية بالدين.

3- المؤمن و شعبه:
ألف- أمير المؤمنين و وليّهم معهم:

الأول: يجب علي وليّ المؤمنين انذار العشيرة و الأقربين- أوّلا- ثم توسعة النطاق شيئا فشيئا حتي لا يبقي علي الأرض من الكافرين ديّار أو يصيروا مؤمنين.

الثاني: يجب علي وليّ المؤمنين و رئيسهم خفض الجناح لهم و الرأفة و الرحمة عليهم.

الثالث: يجب علي وليّ المؤمنين التبرّي و الانقطاع عن الكفّار و المعاندين لئلا يضروا المسلمين شيئا، فيراقبهم لتنحصر الروابط بما تفيدهم، و ينقطع عمّا يضرّهم، كما ذكرناه في كتاب الجهاد أيضا.

الرابع: يجب علي أولياء الأمور دعوة الناس الي سبيل اللّه بأيّ طريق ممكن، و كلا بوجه يناسبه من الحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال الأحسن، فعليهم تهيئة كل ما يناسب، و تسبيب كل سبب يساعد علي تكامل الأفراد في طريق الهداية

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 347

و سبيل اللّه من المكتبات و المدارس الي الكليّات و الاحتفالات و الاذاعات السمعية و المرئية و الجرائد و الفنون و غيرها من أدوات الثقافة و الدعاية و التبليغ و الاعلام.

باء- المؤمنون مع وليّهم:

الأول: يجب إطاعة وليّ الأمر و متابعته في أوامره الحكوميّة و ارشاداته الي أوامر اللّه تعالي و نواهيه حسب المصداق.

الثاني: يجب اداء الفرائض المالية من الخمس و الزكاة و غير الواجب من الصدقات الي الوليّ الشرعي ليصرفها في مصارفها و يجعلها في مواردها و هو الأعرف بها.

الثالث: يجب خفض الصوت عند رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الائمة المعصومين (عليهم السّلام) و العلماء و الامراء و الولاة من قبلهم، فلا جهر بالقول و لا خفاء بالكلام، بل بين ذلك سبيلا.

الرابع: لا بدّ من الصبر حتي يخرج الوليّ من بيته إليهم لا عن ندائه من وراء الجدار و الستر، عند قصد زيارته و لقائه فان ذلك (الصبر

و المراعاة) أدب و خير و تحفّظ عن حقوق المجتمع.

الخامس: لا يجوز الورود علي الولي و الأمير و كل مؤمن بل كل مورد بغير اذنه في المساكن الخاصّة.

السادس: لا ينبغي النظر بوجه التفحص و التفقد الي الاناء و أثاث البيت بعد الورود مع الاذن علي الطعام أو غيره بل مطلقا.

السابع: ينبغي الانتشار و الخروج بعد ما طعموا من غير استيناس للحديث عند ما كان الدخول للاطعام و كذلك ترك كل ما يؤذي ربّ البيت المضيّف فانه يستحيي غالبا.

الثامن: علي المؤمنين الاستيذان من الوليّ و الحاكم الشرعيّ في كل أمر يرجع الي مجتمع الامّة من مختلف شئون حياتهم الاجتماعية و المسائل الحكومية،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 348

و علي الوليّ أن يأذن لهم في بعض مصالحهم عند ما يستأذنونه. ليهديهم اللّه تعالي بأجمعهم الي الخير و الحق ان شاء اللّه.

التاسع: سؤال الطعام عن أهل بيت المضيف لا بدّ و ان يكون من وراء حجاب.

العاشر: التناجي قبيح في الاثم و حرام، و قد يجوز في البر حسب الضرورة.

الحادي عشر: لا بدّ من التفسّح في المجالس ارتياحا للآخرين، كما لا بدّ من النشوز و القيام أي الخروج اذا أمر به ربّ البيت.

جيم- المؤمنات مع المؤمنين و هم معهنّ:

الأول: الرّجال قوّامون علي النساء، فعليهنّ الاتباع منهم في التدبير و عليهم الانتفاع منهنّ في العواطف دون تركهنّ معطّلات.

الثاني: يجب علي كل مؤمن و مؤمنة غضّ نظره عن الآخر، كما يجب عليها حفظ الفرج و السّوءة.

الثالث: يحرم علي المرأة ابداء زينتها و اظهارها إلا ما ظهر منها من الثوب و ما علي الوجه من الألوان الطبيعية دون غيرها.

الرابع: يجب علي المرأة ضرب خمارها علي جيبها بإسداله حتي تستر صدرها بما يتستر به رأسها فيجب ستر الأذنين و

العنق و جانبي الخدين الي الجيب و الصدر كما يجب ستر باقي البدن بما يصدق عليه ستره.

الخامس: لا بأس علي المرأة في ابداء زينتها علي طوائف خاصة اثني عشرة:

1) البعل 2) أبي البعل 3) ابنه من زوجة اخري 4) الآباء 5) الابناء 6) الاخوة 7) ابناء الاخوة 8) ابناء الاخوات 9) النساء المؤمنات 10) الاماء المملوكات- مؤمنات كنّ أو كافرات 11) الرجال التابعين غير أولي الاربة كالبلهاء و الشيوخ الكهلة 12) الاطفال الذين لا يظهرون علي عورات النساء.

السادس: لا يضربن النساء علي الأرض بأرجلهنّ عند المشي لئلا يعلم ما يخفين من زينتهنّ، و كذلك كل ما هو كذلك كالتعطّر عند الخروج من البيت.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 349

دال- في علاقات المؤمنين بعضهم مع بعض:

الأول: يجب علي المؤمنين ان يتصدي كل منهم لأمر من أمور الأمّة كفاية مع رعاية الأهم فالأهم.

الثاني: يجب علي كل طائفة من قوم ان ينفروا ليتفقهوا في الدين و يتعلّموا معارفه و أحكامه. كما يجب علي كلّ من تفقّه بعد التعليم أن ينذر و يرشد قومه الي سبيل اللّه كفاية.

الثالث: يجب علي كل من تعلّم الطبّ أو فنا من الفنون اللازمة للناس ان يلبي احتياجاتهم و يعطيهم ما يطلبون كفاية.

الرابع: يجب علي الناس الرجوع في كل أمر الي أهله؛ ففي أمور الدين عليهم الرجوع الي العلماء الرّبانيّين، و في الدنيا الي المتخصّصين، كما هو ظاهر.

الخامس: المؤمن لا يتنازع مع الآخرين، و لا يخرج بطرا فرحا فخورا مرائيا للناس و هو صابر علي النوائب.

السادس: المؤمن لا يتّبع غير المعلوم قولا و فعلا، فلا يغتاب، و لا يحكم بالنسب بالظن، و لا يعمل بشي ء لا عن علم.

السابع: المؤمن لا يصعّر خدّه للناس فلا ينظر إليهم نظرة احتقار بل يقصد

في مشيه و يغضض من صوته.

الثامن: المؤمن يحيي أخاه تحيّة لدي الملاقاة و لا أقل من السّلام، و لا بدّ من الجواب، و بالأحسن أفضل، فان السّلام تطوّع و الردّ فريضة، و يشمل ذلك كل ما يصدق عليه التحيّة و ردّها حسب المتعارف، و لكن أدب الاسلام السّلام «1».

التاسع: لا يجوز دخول دار الغير بغير اذنه قبل الاعلام و الاستيناس، و يجب الرجوع اذا قيل ارجعوا لأيّ غرض.

______________________________

(1)- قال تعالي: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلٰامٌ». (سورة الاحزاب [33] الآية 44)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 350

العاشر: لا بأس بدخول أمناء الحكومة الحقّة بيوتا بغير رضا أهلها بعد الاعلام عند وجود المصلحة مع رعاية تمام الحدود و الحقوق الشرعية، تحفّظا علي مصالح الامة.

الحادي عشر: علي المؤمنين التزيّن بكل ما يصدق عليه ذلك عند إرادة المساجد و المجامع و زيارة النبيّ و الامام (عليه و عليهم الصلاة و السلام) و ملاقاة العلماء الاعلام و الصلحاء العظام؛ بل عند إرادة الخروج من البيت مطلقا.

هاء- خصائص الشعب المؤمن:

الأول: المؤمنون اشدّاء علي الكفار و أعدائهم، رحماء بينهم، يرحم القويّ الضعيف و الغنيّ الفقير و هكذا.

الثاني: المؤمن مستقل صلب في ايمانه يروّج الحق و ينشره في معاشرته، و يوجب ايمانهم، فهو حيّ يولد المثل، و بنفسه بشير و نذير و يدعو لما يحيي الآخرين.

الثالث: الشعب المؤمن علي احساس من عظمة اللّه تعالي، و في تزايد الايمان، كلّ يوم أكمل من أمسه و لا يعتمد إلّا علي اللّه، فهم علي ربّهم يتوكلون.

الرابع: الشعب المؤمن في اعتقاده الراسخ باللّه و الرسول يجاهد في سبيل اللّه و طريق الحق مدي حياته، فيطلب بقاء الحق و يستخدم في سبيل ذلك ماله و نفسه و تمام طاقاته.

الخامس: الشعب المؤمن اخوة

يعيشون في بيت واحد و اسرة واحدة و يصلحون بينهم ان اختلفوا و يقاتلون الباغي منهم حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ تعالي فيحكمون بينهم بالقسط و العدل.

السادس: الشعب المؤمن 1) لا يبتغي متاع الغرور 2) فعلي اللّه تعالي يتوكّل 3) و من الاثم يجتنب و 4) علي الغضب يغفر و 5) دعوة اللّه يستجيب و 6) للصلاة يتمّ و 7) في الموضوعات أمرهم شوري بينهم فهم يتعاونون و 8) مما رزقوا ينفقون

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 351

و 9) اذا تسلّطوا غلي الباغي فلا يجزون السيئة إلّا سيئة مثلها.

السابع: الشعب المؤمن لا يبغي بعضهم علي بعض كما لا يبغي علي الغير فلا يظلم و لا يظلم و هم يعدلون.

الثامن: الشعب المؤمن لا يقول بالحق إلا يعمل به فهو عمليّ لا قولي.

التاسع: الشعب المؤمن لا يسخر بعضهم ببعض و لا يلمز عيوب الآخرين و لا ينابز بالألقاب.

العاشر: الشعب المؤمن لا يعمل بكل ما يسمع فلا يعتني بكل خبر حتي يتبين له الحق.

هذا تمام الكلام في الكتاب و فروعه، و الحمد للّه أوّلا و آخرا، و يتلوه كتاب الوصيّة ان شاء اللّه تعالي «1».

______________________________

(1)- و الساعة الآن العاشرة من ليلة التاسع من شهر ربيع الثاني سنة خمس و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة علي مهاجرها الف الف تحية 9/ 24/ 1395 ه. ق.- 1/ 2/ 1354 ه. ش.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 353

كتاب الوصيّة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 355

الوصيّة

تمهيد: لعلّك تسأل لما ذا جعلنا كتاب الوصيّة و الارث آخر الكتب خلاف ترتيب الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) في كتبهم الفقهية، و الجواب ظاهر فان الترتيب الطبيعي يقتضي ان يكون مثل القصاص و الحدود الراجع الي شئون حياة

المجتمع الاسلامي ضمن أحكامه الاجتماعية، و اما مثل الوصيّة و الارث الراجع الي الفرد في آخر حياته و بعده فيقع في نهاية الأبحاث الفقهية طبعا. و لنشرع في الأول بعون اللّه تعالي و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي الْمُتَّقِينَ. (البقرة [2] الآية 180)

الآية- كما تري- تخبر بصيغة الماضي إنشاء بواجب، بل توجب خلال بيان واجبات اخر من القصاص و الصّيام، انّه اذا حضر أحدكم الموت فشعر بدنو أجله، و هو واجد خيرا من الأموال أو حقوقا محلّلة و مشروعة سيتركها في دار الغرور و يقضي نحبه، فعليه الوصيّة للوالدين و الأقربين بالمعروف المتناسب لشأن المؤمن الواجد، المحسن لوالديه، الموصل لرحمه و أقربائه، المراعي لحقوق اخوانه، و ذلك نوع حق علي المتقين. فمن لم يترك خيرا بأن لم يكن له شي ء من الأموال و الحقوق فليس عليه شي ء بنفي الموضوع. و من لم يكن له الوالدان و الأقربون و ترك خيرا فله بملاك الوالدين و الأقربين ان يوصي فيما ترك بالتعاون علي التقوي بتأسيس المدارس و المكتبات و المستشفيات و الإنفاق في سبيل اللّه، و بالجملة في اعلاء

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 356

كلمة الحق و ترويج شريعة سيد المرسلين (عليه و علي آله الطاهرين الصلاة و السلام).

و الكتابة تلك بعد كتابة القصاص و قبل كتابة الصّيام و حال بيان الحلال و الحرام، صريحة في الوجوب، إلا ان قوله تعالي: حَقًّا عَلَي الْمُتَّقِينَ يوجب ضعف ذلك. و اما الوجوب الناشئ من المتعلّق بأن كان عليه واجب إلهي من الصوم و الصلاة و الخمس و الزكاة أو شي ء من الديون و الحقوق فلا يرتبط

بوجوب نفس الوصيّة بما هي.

هذا و لكن الانصاف ان التأمّل في مقارنة آيات الوصيّة مع آيات الارث الصريحة في تعلّق تركة الانسان بالوالدين و الأقربين و أولي الأرحام بالموت- كما سيأتي ان شاء اللّه- يفيد انصراف الطائفة الأولي الي الاستحباب، توضيح ذلك ان آيات الارث بعد فراغها عن أصل التعلّق بالورثة بمجرد الموت ناظرة الي مسألة التفاوت، و ان للرجال نصيبا و للنساء نصيبا و ان لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فان الانسان اذا مات انقطع عمله و تصرفه و لا يعتبر لدي العقلاء ارتباط بين الميّت و شي ء حتي تنتزع عنه الملكية حتي فيما يتعلق بتجهيزاته، و استحقاقه له بحسب تكليف الذين مات بينهم و كان منهم بوجه.

و عندئذ تنتقل تركته بمجرد الموت الي ورثته الوالدين و الأقربين و أولي الأرحام قهرا، بمعني ان العقلاء يعتبرونه لهم بالموت كما كانوا يعتبرونه له بأسباب خاصة.

و الوصيّة: ايصاء الغير لعمل في وقته علي وجه يراه لازما فلا يتركه. و اذا تعلقت بالأموال للوالدين و الأقربين تكون بمعني ان يكون لهم كذا و كذا بعد موته فهي أيضا توجب الانتقال بعد الموت مع تفاوت و هو ان الارث ينقسم علي كتاب اللّه و سنّة نبيّه لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بحكم من اللّه تعالي في كيفية الانقسام و الانتقال بعد الانقطاع عن المالك الأول. و الوصيّة، تصرّف من المالك في أمواله حيث يشاء عقلائيا و ان كان ظرف العمل بعد وفاته وافق الكتاب بأن أوصي شيئا لهم علي كتاب

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 357

اللّه لينقسم علي التفاوت، أو خالف بأن أوصي أن يكون لهم علي السويّة- مثلا-.

و من هنا ظهر توهّم النسخ بآيات الارث و هو ضعيف غاية الضعف،

و نحن بحمد اللّه تعالي و في ظل ارشادات العترة الطاهرة (عليهم السّلام) عدل الكتاب و السنن الواصلة عنهم في فسحة من التكلفات، لبيانها حقيقة الأمر و تعيينها مواردها جمعا بين الآيات و حفظا للحقوق بأن الوصيّة نافذة في ثلث التركة، و فيما زاد منوط باذن الورثة. فان حق الوصيّ للموصي له تعلّق بما هو متعلق لحق الورثة طبعا «1».

و لعل ذيل الآية يرشد الي ذلك اجمالا- كما سيأتي من جواز تبديل الوصيّة و التصرف فيها اذا خيف من الموصي الميل عن الحق و الجنف أو الاثم بالوصيّة بالحرام أو تحريم حق.

و الحاصل ان وجود بحث الارث و آياته و مقارنته مع الوصيّة يوجب تضعيف ظهور الكتابة في آية الوصيّة حتي مع السياق في الوجوب، فهي نوع حق علي المتقين، لهم ان يستفيضوا منه في ثلث أموالهم، و للورثة المال، من بعد وصيّة يوصي بها أو دين، و الأمر بيدهم في الزائد عليه، ان شاءوا أجازوا و إلّا ردّوا معا أو بالتفريق كلّ في سهمه.

الثانية- قوله تعالي:

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مٰا سَمِعَهُ فَإِنَّمٰا إِثْمُهُ عَلَي الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* فَمَنْ خٰافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (البقرة [2] الآية 181- 182)

الآيتان كما تري تفيدان أوّلا حرمة التصرّف في الوصيّة تقليلا أو تكثيرا أو تبديلا عن موضعها أو موعدها زمانا و مكانا مع التأكيد في الحرمة بعنوان الفراغ عن أصل الاثم و الذنب، ان الذنب علي عاتق من؟ و المذنب من هو؟ فتقول انما اثمه

______________________________

(1)- و لعلّه الي ذلك أشار قوله تعالي: «غَيْرَ مُضَارٍّ» بعد قوله: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ» في (سورة النساء

[4] الآية 12) كما سيأتي ان شاء اللّه في بحث الارث.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 358

علي الذين يبدلونه، و اللّه تعالي سميع لما تقولون في المقامات، و عليم بالأغراض و النيّات، نعم اذا خيف من موص جنفا و ميلا الي الباطل بأعماله غرضا غير مشروع أو إثما من وصيّة في محرم أو تحريم حق، فلا اثم في تبديلها و جعلها في موضعها.

و الاثم قرينة علي ان المراد من خوف الجنف ما اذا علم به، و التعبير للأدب و ليكون ذلك التبديل من الباطل الي الحق بإصلاح بين الورثة أو بينهم و بين الموصي له و تراضيهم علي الحق. لا يقال ان تقييد نفي الاثم بالاصلاح قرينة علي بقاء الخوف علي ظهوره، و الاصلاح تحفّظ علي الواقع، و لعلّ الموصي لم يكن به جنف، فانه يقال: نعم ذلك تام لو لم يكن في البين اثم، و الاصلاح قيد لنفي الاثم في الاثم و الجنف و التبديل واجب في الاثم قطعا، فان الوصيّة لا تحلل حراما.

و لا يبعد ان يقال بعد حفظ ظهور الكلمات و ان المعني- و اللّه تعالي أعلم- ان لا اشكال في تبديل الوصيّة و التصرّف فيها اذا ظن و احتمل الاثم أو الجنف مع الاصلاح بمعني المصالحة بين الورثة فيما كانت بينهم علي غير وجه الارث أو بينهم و بين الموصي له، فانه بالمصالحة تحفظ الحقوق، حيث لا يعلم و لا يقطع بالجنف أو الاثم، و اما مع العلم بهما فلا بد من التصرّف و التبديل، و لا يتوهّم في المقام الاثم و الحرمة حتي يدفع به، فان الوصيّة لا تحلل حراما و لا تبطل حقا، بل للمبدّل أجر و ثواب، فانه لكل

من يحق الحق و يبطل الباطل علي اختلاف المستويات.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلٰاةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لٰا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبيٰ وَ لٰا نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اللّٰهِ إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ. (المائدة [5] الآية 106)

الآية- كما تري- تفيد لزوم الاشهاد- علي الوصيّة حينما يوصي أو علي كتابتها- اثنين ذوي عدل منكم ان كان حضور الموت في الحضر، و من غيركم اذا كان

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 359

في السفر، و ذلك تحكيما للأمر و رعاية للحقوق عند اجراء الوصيّة. و حينئذ ان لم يكن ارتياب فيها و في الشهادة عليها فهو، و إلّا فبالشهادة تستحكم الوصية، و اما ان ارتبتم في نفس الشهادة لكونها من أقرباء الموصي، فعليهما القسم علي تفصيل ذكرناه في كتاب الشهادة فراجع، و ضمير الجمع راجع الي أقرباء الموصي و أفراد عشيرته و قومه لا اخوانه في الدين ليكون المراد من غيركم غير المسلم سيّما في السفر مع دلالة كيفية القسم علي ذلك.

و لكن الحق الوثوق و الاعتماد بالملاك كما فصّلناه في كتاب الشهادة، فلا بأس باشهاد غير المسلم في السفر لدي الضرورة كما تعلم مع الوثوق. و بالجملة: لا بدّ مما يصحّ الاستناد إليه حال الاختلاف و الاثبات شرعا و عقلائيا.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوٰاجِهِمْ مَتٰاعاً إِلَي الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرٰاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِي مٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. (البقرة [2] الآية 240)

حاصل مفاد الآية

استحباب وصيّة الزوج- اذا حضره الموت- لزوجته متاعا لها بعدم اخراجها عن بيتها التي كانت تعيش فيه مع زوجها الي سنة، و كذلك نفقتها، فليس للورثة اخراجها- سواء قلنا بإرثها عن الاعيان أو لا، كما سيأتي ان شاء اللّه في كتاب الارث- إلا ان تخرج بنفسها عنه و تفعل بالمعروف من التزوّج بعد انقضاء عدّتها، فلا جناح عليهم في ترك الانفاق و السماح لها بالخروج حتي تذهب مع زوجها الجديد و تعيش معه، و ينفق عليها ما تفتقر إليه من المسكن و الملبس و ما بينهما.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 360

تذييل في نتيجة الأبحاث

الأول: الوصيّة مستحبة لكل من شعر بدنو أجله و ان الموت قد أدركه و كان له خير من مال أو حق للوالدين و الأقربين بل مطلق الورثة بل في مطلق الخير و سبيل اللّه تعالي.

الثاني: الوصيّة نافذة في ثلث التركة، و في الزائد معلق علي اذن الورثة ردّا أو امضاء معا أو بالتفريق جمعا بين الحقوق و ذلك مستفاد من السّنة.

الثالث: لا يجوز التصرّف في الوصيّة و تبديلها بوجه.

الرابع: يجوز تبديل الوصيّة عند احتمال الاثم أو الجنف مع المصالحة بين الورثة أو بينهم و بين الموصي له.

الخامس: لا بدّ من التصرّف في الوصيّة و تبديلها عند العلم بالاثم أو الجنف بجعل الحق في موضعه و ابطال الباطل.

السادس: ينبغي الاشهاد علي الوصيّة بالعدلين تحفّظا علي الحق.

السابع: لا بأس باشهاد غير المسلم الموثوق به في السفر لدي الضرورة بل تحكيم الأمر بكل ما يمكن ان يستند إليه لدي الاختلاف من السجلات.

الثامن: يستحب الوصيّة للزوجة بعدم اخراجها عن البيت الي الحول و الانفاق عليها، إلّا ان تتزوّج بعد عدّتها فلا بأس بإخراجها و ترك انفاقها.

هذا تمام الكلام

في الوصيّة و فروعها، و يتلوها كتاب الارث ان شاء اللّه تعالي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 361

كتاب الارث

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 363

الارث

مقدمة: من المعلوم لدي العقلاء وجود علاقة بين الانسان و ما يختصّه بنفسه بالاصطياد أو الاحتطاب أو احياء الاراضي الموات من المملكات الأوليّة أو بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة من المملكات الثانوية، فهم يعتقدون ان ذلك له أو هو أحقّ بالاستمتاع منه في الجملة، و لا يجوز لغيره التصرّف فيه بغير اذنه و رضاه، و قد فصّلنا ذلك في مقدمة كتاب التجارة.

ثم ان ذلك الاعتبار العقلائي المسمّي بالملكيّة- كما تعلم- قائم بالطرفين المالك و المملوك، فاذا انعدم المملوك انعدمت الملكيّة، و لا مالك بلا مملوك، و أمّا اذا مات المالك ماتت مالكيّته أيضا معه، و حيث تكون السلعة القابلة للانتفاع المرغوبة فيها باقية، لا يضيعها العقلاء بل يجعلونها في اختيار من هو أقرب بمن حصّله و تملّكه أولا، و كذلك حقوقه التي كانت له من قبل، يعتبرونها له بالنسب أو بحق كان له عليه من الولاية الخاصّة بعتق أو ضمان … أو العامة من الامامة حيث لم يكن آخر.

و تقدم تلك الروابط بعضها علي بعض كتقدم أولي الأرحام بعضهم علي بعض، طبيعي عقلائي في الجملة، أرشد إليه الشرع بالتفصيل. و آيات الباب علي قسمين: العامّة و الخاصة؛ فمن الأولي آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لِكُلٍّ جَعَلْنٰا مَوٰالِيَ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمٰانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً. (النساء [4] الآية 33)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 364

الموالي المجعولة لكل أحد جمع المولي، و هو في أحد معنييه (المناسب للمقام) من له الولاية و حق التصرّف، و المتعلق ما

تركه الوالدان و الأقربون مما قلّ أو كثر، فقد جعل اللّه تعالي لكل أحد موالي و ذوي حق بالتصرّف في ما ترك، و هو والدهم أو قريبهم و هم ولده أو أقرباؤه، فهم ورثته بجعل من اللّه تعالي علي ملاك النسب «1»، و كذلك الذين عقدت ايمانكم، و جعلت اليمين و العهد و القرار لهم ربطا و علاقة يرثونكم ان كان معطوفا علي الموالي أو ترثون منهم ان كان معطوفا علي الوالدين و الأقربين، فتفيد الجملة- كيف كان- ثبوت التوارث بملاك آخر غير النسب من العقد و العهد الذي نعبّر عنه بالولاية التي تتحقق بينهما من العتق أو الضمان لجريرة أو غيرها الي الولاية العامة و الامامة الحاصلة كلّها بنوع من العقد و اليمين، فمحصّل مفاد الآية ثبوت التوارث بالنسب و بالولاية في الجملة من غير تفصيل كما هو ظاهر.

الثانية- قوله تعالي:

لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّٰا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. (النساء [4] الآية 7)

الآية- كما تري- تصرّح بثبوت سهم للرجال و سهم للنساء من تركة الوالدين و الأقربين، و كأنّها تعتمد علي التفاوت في سهامهم من طرف الوارث و ان نصيب الرجال غير نصيب النساء و سهمهنّ، و إلا لم يكن وجه للتكرر، و تفيد زائدا ان ذلك السهم و النصيب مفروض مضبوط- سواء كانت التركة قليلة أو كثيرة- و لعلّ الذيل أيضا يشير الي التفاوت في فروضهم و سهامهم؛ و محصل المفاد أمران: القرابة و النسب من أسباب الارث في الجملة. و الارث مقسم مفروض كذلك.

______________________________

(1)- و يؤيّد ذلك اطلاق زكريا (عليه السّلام) الوليّ علي ولد يرثه و يرث من آل

يعقوب كما حكاه اللّه تعالي عنه في قوله: «وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوٰالِيَ مِنْ وَرٰائِي وَ كٰانَتِ امْرَأَتِي عٰاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» (مريم [19] الآية 5 و 6) و سيأتي الكلام فيه ان شاء اللّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 365

الثالثة- قوله تعالي:

… وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْليٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ. (الانفال [8] الآية 75)

الآية في مقام بيان اثبات الولاية بين المؤمنين حقا، و نفيها بينهم و بين الكفّار، تشير الي قاعدة اخري خلال الكلام و هي ان أولي الأرحام و الأقرباء بينهم التفاوت و الاختلاف بحسب القرب و البعد، فبعضهم أولي من بعض في مختلف الشئون و المستويات، و يشمل ذلك الارث و هو مسطور في كتاب اللّه.

فتفيد الآية ان القرابة و الرحم من أسباب الارث، فانّه كما انّ بينهم الأولوية و يمنع الأقرب منهم الأبعد، كذلك هم أولي من غيرهم بالأولوية يمنعون غيرهم من غير الرحم- ذوي الولاية كانوا أو من غيرهم- و الأقرب أولي من الأبعد.

الرابعة- قوله تعالي:

النَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْليٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهٰاجِرِينَ إِلّٰا أَنْ تَفْعَلُوا إِليٰ أَوْلِيٰائِكُمْ مَعْرُوفاً كٰانَ ذٰلِكَ فِي الْكِتٰابِ مَسْطُوراً. (الاحزاب [33] الآية 6)

الآية أيضا عند بيان ولاية النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) علي المؤمنين و انه أولي بهم من أنفسهم، تشير الي أولويّة أولي الأرحام بعضهم علي بعض من المؤمنين و المهاجرين من غير اختصاص بقوم أو صنف، فتفيد أيضا سببيّة القرابة و ترتّب المراتب فيها، فيمنع الأقرب الأبعد في الارث أيضا كما عرفت، إلّا ان تفعلوا

الي أوليائكم من الأقرباء و الأرحام أو غيرهم معروفا بإيصاء اعطاء شي ء لهم، فعندئذ يقدم ذلك الفعل المعروف الأولويّة الرّحميّة أي التوارث بالقرابة، و يعود ذلك عندنا الي قوله تعالي: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ كما سيأتي ان شاء اللّه في آيات من تأخّر الارث عن الوصيّة، و اختصاص المعروف في المقام بالوصيّة بمناسبة الحكم و الموضوع، و يؤيّده تمام الآية من انه كان ذلك في الكتاب مسطورا، عادت الاشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 366

الي أصل القرابة و الأولوية فيها أو الي تقدم المعروف الوصيّة علي الارث أو إليهما.

تتميم: لا بدّ من التنبّه الي مسير تلك المراتب التي أفادت الأولوية فيها و تقدّم بعضها علي بعض، و الانسان له ارتباط طبيعي بمن ولد عنه- من أب و أم- و بمن ولد له من ابن أو بنت، و هذا أول ارتباط رحمي يقدم علي كل ارتباط. فالأبوان في رتبة الأولاد من أول المراتب.

ثم هذا الانسان بعد ذلك مرتبط بمن ولد عن والده أو ولد والده عنه أبا و أمّا أو هما معا من الاخوة و الاخوات، و كذلك الأجداد و الجدّات أي والدي والديه فصاعدا فهم في مرتبتهم ثاني المراتب، ثم ارتباط الانسان بمن كان مع والديه من والد واحد من الاعمام و العمّات و الأخوال و الخالات فانهم في ثالث المراتب.

و ترتب المراتب في كل مرتبة (بمعني ان الأقرب يمنع الأبعد) ظاهر.

و لقائل ان يقول: الانسان المفروض المرتبط بلحاظ نظام التوالد من الجهة عالية بالأبوين و من الدانية بالأولاد، أجداده في رتبة آبائه مرتبطون به مؤثرون في تولده برتبة و اما الاخوة الواقعون في رتبة تولده من أبويه المرتبطون باجداده كارتباطه، كيف يكونون

في مرتبتهم و هم في عرضه؟ نعم الاخوان و الخالات إخوة الأم و الأعمام و العمّات إخوة الأب في رتبة واحدة متأخرون عنه مرتبطون به علي السّواء.

و لكن بعد التأمّل نجد ان تأخّر الاجداد بمرتبة في تولد ذلك الانسان و تأخر الاخوة أيضا بمرتبة بالنسبة الي الآباء و الأولاد من جهة نظام التوالد واحد و ان كان الأجداد دخيلين في تولده دون الاخوة و لا دخل لذلك في جميع المراتب، كما تري ذلك في ارتباط الاعمام و الأخوال اخوة الأمّ و الأب المنفصلين عن تأثير التوليد في مرتبة الجدّ و الجدّة كإخوته المنفصلين عن التأثّر في تولّده في مرتبة الأب و الأمّ.

و الأساس حفظ المراتب علي أصل التوالد مع التأثير في تولده أو توليده كما في المرتبة الأولي أو المقارنة و الارتباط بتلك السلسلة التي كان لها ذلك التأثير و ان لم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 367

يكن مؤثرا في تولده بخصوصه في أي مرحلة كالأخوة و الأعمام، و هكذا صاعدا و نازلا. و المحصل ان المراتب الثلاث في كل منها طبيعيّة علي أساس ثابت لا تعبديّة، و قد فصّلها الشرع كما في المفصّلات.

و أما الآيات الخاصّة:

فالأولي- قوله تعالي:

يُوصِيكُمُ اللّٰهُ فِي أَوْلٰادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسٰاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثٰا مٰا تَرَكَ وَ إِنْ كٰانَتْ وٰاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّٰا تَرَكَ إِنْ كٰانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَوٰاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كٰانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ لٰا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً. (النساء [4] الآية

11)

تحكم الآية- كما تري- بقاعدة أساسية في مسألة الأولوية الرحميّة أولا بحيث يكون ساريا في جميع مراتب الأقرباء الوارثين و هو أنّ حظّ الذكر يساوي حظّ الانثيين، و له مثل ما لهما، فاذا لم يكن للمورّث إلّا ذكر و انثيان فالمخرج من أربع للذكر نصف المجموع ربعان و لكل منهما ربع واحد، و اذا كانوا ذكرين و انثي فالمخرج من خمسة خمس للأنثي و لكل منهما خمسان و هكذا في جميع المراتب.

ثم بعد ذلك الأصل تبيّن الفرائض المقدّرة من اللّه تعالي، و هي في الآية أربع؛ الأولي: ثلثان اذا كان الورثة اثنين «1» فما فوقهما، الثانية: النصف اذا كانت بنتا واحدة، الثالثة: السدس لكل واحد من الأبوين اذا كانا مع ولد للمورث ذكرا أو انثي أو معا، واحدا أو متعددا، الرابعة: الثلث للأمّ اذا لم يكن له ولد و لا وارث آخر في مراتب تالية من الاخوة و ورثه أبواه فقط، و إلّا فان كان له اخوة فلأمّه السّدس.

كل ذلك بعد الوصيّة و الدين فانهما أقدم، سواء كان من آبائكم أو ابنائكم،

______________________________

(1)- ايرادهما في حكم ما فوقهما لقيد الوحدة فيما بعده في الآية كما تري.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 368

و اعلموا ان اداء الدين و العمل بالوصيّة (في الثلث كما عرفت) أنفع بحالكم و أنتم لا تدرون ان ذلك أقرب إليكم نفعا «1» من تركهما و تقسيم التركة، و ذلك فريضة من اللّه تعالي، و قد كان عليما بمصالحكم في جعل تلك الحدود حكيما في تحديدها.

و محصّل الآية أمور:

الأول: ان للذكر مثل حظ الانثيين.

الثاني: ذكر فرائض أربعة:

الأولي: ثلثان لبنتين فصاعدا فلهنّ مجموع التركة ان لم يكن معهنّ وارث آخر في مرتبتهنّ. الثلثان بالفرض و الباقي

بالردّ يقتسمنه علي السّواء. و ان كنّ مع الأبوين أو أحدهما فالمخرج السّدس لكل واحد منها السّدس ثلث المجموع ان كانا معا و الباقي أسداس ثلثان لهنّ يقتسمنّه علي السواء، أو خمسة أسداس ان كنّ مع احدهما أربعة بالفرض لهنّ و واحدة بالردّ إليهنّ و الي الأب اخماسا «2».

الثانية: النصف للبنت الواحدة لها المجموع ان لم يكن معها آخر في رتبتها، النصف بالفرض و الباقي بالردّ و ان كانت مع الأبوين أو أحدهما فالمخرج من اثني عشر الحاصل من ضرب مخرج سهمهما، في مخرج سهمها و لكل مهما اثنان سدس المجموع و لها السّتة نصف المجموع بالفرض و الباقي الاثنان ان كانت معهما أو أربع ان كانت مع احدهما لهما بالردّ «3».

الثالثة: الثلث و هو فرض الأمّ ان لم تكن مع ولد و حيث لا فرض للأب حينئذ فالمخرج من ثلث مع عدم الحاجب من الاخوة، أو الستة معه منهم، و لها الثلث أو

______________________________

(1)- فان كثيرا ما ينتهي نفع ذلك الي المجتمع و يعود إليكم مع تحكيم الروابط و تلطيف اجواء المعيشة، و بالتقسيم انتفعتم ببعضكم قليلا كما هو ظاهر.

(2)- فيصير المخرج في الصورة ثلثين الحاصل من ضرب الخمسة مخرج ذلك في الستة مخرج السّهام للأب عشرة و لهما فما فوقهما عشرين.

(3)- أي للبنت و الأبوين اذا لم يكن للأمّ حاجب عن الزيادة من الاخوة أو لها و لأحد الأبوين أخماسا ان كانت معهما و المخرج من ثلثين و أرباعا ان كانت مع احدهما و المخرج من أربع و عشرين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 369

السّدس و الباقي للأب فان من عليه الغرم فله الغنم.

الرابعة: السّدس نصف الثلث لكل واحد من الأبوين اذا كان له ولد

فان كانا مع ذكر واحد المخرج من السّدس لكل منهما واحد و الباقي له بالرّد و مع بنت واحدة المخرج من اثني عشر كما ذكرنا في النصف، و مع ابن و بنت المخرج من ثمانية عشر الحاصل من ضرب مخرج السّدس في مخرج سهما مهما ثلاثة، لكل واحد منها ثلاثة أسدس المجموع و للذّكر ثمانية و للأنثي أربعة و هكذا في تعدد الأولاد ذكورا أو اناثا أو مختلفا.

الثالث: تفيد الآية ان الأبوين يشتركان مع الأولاد في رتبة واحدة و اما مع الاخوة فيتقدّمان بالأولوية إلا انهم يحجبون الأمّ عن الثلث الي السدس فينتقل الباقي الي الأب و من معه، فلأمّ فرضان الثلث مع عدم الولد و عدم الحاجب، و السّدس معه.

الرابع: تفيد الآية ان تلك السهام و الفرائض و بالجملة قسمة التركة لا تكون إلا بعد الوصيّة أو الدين و هما مقدمان علي الارث بلا اشكال.

الثانية- قوله تعالي:

وَ لَكُمْ نِصْفُ مٰا تَرَكَ أَزْوٰاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كٰانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّٰا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّٰا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كٰانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّٰا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كٰانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلٰالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كٰانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكٰاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصيٰ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ. (النساء [4] الآية 13)

تبيّن الآية أيضا فرائض و ذويها:

الأولي: ان للزوج نصف تركة الزوجة اذا لم يكن لها ولد منه أو من غيره، و ربعه

اذا كان لها ولد كذلك، و ذلك بعد الوصيّة و الدين و هما من أصله.

الثانية: ان للزوجة ربع تركة الزوج ان لم يكن له ولد منها أو من غيرها، و الثمن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 370

ان كان له ولد كذلك من غير فصل في ذلك حسب اطلاق الآية بين العقار و غيرها، فهي كغيرها من الورثة بالنسبة الي التركة سواء كانت ذات ولد منه أو لم تكن. إلا ان الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) أفتوا في غير ذات الولد منها بمنعها عن الأرض مطلقا و عن رقبات البناء و الآلات و الأشجار دون قيمتها مستندين الي روايات صحاح معلّلين بانها تدخل علي الورثة من يكرهونه بالتزوّج، مع انك تري ان العلّة تعمّ ذات الولد أيضا و لا نفي بمنعها عن قيمة الأرض، و للتحقيق في المسألة محل آخر فترقّبه ان شاء اللّه.

ثم ان ذلك الفرض لها، و لكم بعد الوصيّة و الدين من أصل التركة و ثلثها كما عرفت.

الثالثة: فرائض الكلالة للرّجل أو المرأة أخ أو أخت أي الاخوة من غير اختصاص بالامّي أو الابي أو الأبويني «1» و لا ينافي ذلك مقتضي الجمع الاختصاص بالامّي كما سيأتي ان شاء اللّه، فتفيد الآية ان الأخ أو الأخت ان كان واحدا فله السّدس يرث من أخيه أو اخته و ان كانوا أكثر فلهم الثلث بالشركة و السّوية ذكورا كانوا أو اناثا أو مختلفين؛ و ذلك بعد الوصية و الدين.. وصيّة غير مضارّ لحق الورثة أي غير متجاوز عن الثلث، و تكرار ذلك يفيد قطعيّة تأخر الارث عن الوصيّة و الدين، و القيد يشير الي تحديد الثلث، و في الزائد علي اختيار الورثة «2».

و يستفاد من الآية أيضا

ان الزوجين يجتمعان مع الاخوة الواقعين في المرتبة

______________________________

(1)- عن المفردات ان الكلالة اسم لما عدا الولد و الوالد من الورثة. و انّه سئل من النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فقال من مات و ليس له ولد و لا والد فجعله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) اسما للميّت، و كلا القولين صحيح فان الكلالة مصدر يجمع الوارث و المورث الي آخر ما قال و أشار الي نكتة في قوله و انما خصّ الكلالة ليزهد الانسان في جمع المال فان تركه لهم أشدّ من تركه للأولاد و ذلك مثل قولك ما تجمعه فهو للعدوّ.

(2)- و اما تقدّم الوصية علي الدين أو الدين عليها فلا يستفاد من ظاهر الآية و ليست في مقام بيان ذلك، و طبع ماهيّتهما يقتضي تقدّم الدين فان الوصيّة في التركة و المدينون كأن تركته للدائن و لو بتعلّق الحق و انتقال الدين الي العين بالموت. و السنة أوضحت الأمر بحمد اللّه فلا تحتاج الي تكلّفات مثل تفسير «أو» بمعني «إلّا» أو «الي» كما لا يخفي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 371

الثانية فاجتماعهما مع المرتبة الأولي الآباء و الأولاد أولي، و ان كانا بحيث لم يختصّ بهما مرتبة فيجتمعان مع أي مرتبة حتي الأعمام و الأخوال و أولادهم من أولي الأرحام الذين لم يذكر منهم في كتاب اللّه تعالي بخصوصهم اسم أو فريضة و هم في ثالث المراتب.

الثالثة- قوله تعالي:

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّٰهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلٰالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ فَإِنْ كٰانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثٰانِ مِمّٰا تَرَكَ وَ إِنْ كٰانُوا إِخْوَةً رِجٰالًا وَ نِسٰاءً

فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّٰهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ. (النساء [4] الآية 176)

تفتي الآية بعد الاستفتاء عن الكلالة أي ورثة امرئ هلك ليس له ولد و لا من في رتبته من الأب و الأم كما اقتصته الآية الأولي بانها ان كانت اختا واحدة فلها نصف ما ترك أخوها أو اختها فان المرء هنا يعمّ المرأة كما انّه يشمل الأخت الواحدة كذلك ان لم يكن لها ولد و من في رتبته.

و اما ان كانت الكلالة اختين فصاعدا فلهما الثلثان مما ترك، و ان كانوا اخوة رجالا و نساء ف لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، و تلك حدود اللّه و يبيّن اللّه لكم كي لا تضلوا عن الحق، و اللّه تعالي بكل شي ء عليم، فكيف بقسمة الأرزاق و الأموال بينكم حسب التشريع و التكوين نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ «1».

ثم انك تري تضاربا بدويا بين الآيتين في حكم الكلالة، فان الآية الأولي تحكم فيها بالسّدس و الثانية بالنصف ان كانت واحدة، و كذلك في الأكثر تحكم الأولي بالثلث مشتركا بينهم مطلقا، و الثانية بالثلثين في الاختين، و اما ان كانوا اخوة رجالا و نساء ف لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

______________________________

(1)- و قد مرّ بحث الرزق في القرآن الكريم في ذيل كتاب الأطعمة و الأشربة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 372

و لكنك بعد التأمّل فيها و التنبّه الي ان سهم من يتقرّب الي المورث بواسطة يؤثّر فيه وضع تلك الرابطة و الواسطة، تجد دلالة الآية الأولي بنفسها علي اختصاصها بالكلالة الأميّة للحكم فيها بالثلث في المتعدد منهم مطلقا رجالا كانوا أو نساء أو مختلفين. و في الآية الثانية تحكم علي القاعدة لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عند التفاوت،

و ذلك لا يكون إلا لوساطة الأم كما تري في أولاد الأولاد من التسوية بين من يرتبط بالبنت مع اختلافهم ذكورا أو اناثا، و الاختلاف بين من يرتبط بالابن عند الاختلاف.

و عليه ترجع الآية الثانية الحاكمة علي القاعدة من التفاوت عند التفاوت الي الاخوة غير الاميّين الأبيّين و لا تهافت في النصف و السّدس أيضا لتعدد الموضوع، فان الثاني في الآية الأولي للكلالة الواحدة الأميّة و الأولي في الثانية لها في غير الأمي. ثم تقدّم الابويني علي الابي ظاهر بحكم الأولوية الرحميّة، مع ان السنّة بحمد اللّه فصّلت الأمر و بينته و لم يبق ريب.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ إِذٰا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبيٰ وَ الْيَتٰاميٰ وَ الْمَسٰاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً* وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعٰافاً خٰافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّٰهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً. (النساء [4] الآية 8- 9)

تأمر الآية بارزاق شي ء من التركة و اعطائه لأولي القربي و اليتامي و المساكين ان كانوا حاضرين قسمتها لأولي الأرحام الورثة. و ظاهر الأمر الوجوب، و الوجوب علي المالكين بالفعل، و لكن السياق يرشد الي الاستحباب لقوله تعالي: وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعٰافاً خٰافُوا عَلَيْهِمْ من اللّه تعالي و ليعلموا انّه تعالي هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ و هو الذي يعطي من يشاء و يمنع عمّن يشاء، فليست العزّة و الثروة بما يرثونه من الأقرباء، فلا يخافوا علي فقر ذريّتهم فيتركوا الانفاق علي الفقراء الحاضرين، فليقولوا لهم قولا سديدا مع اعطاء شي ء أو ردّهم بلين اللسان

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 373

و شي ء من الاعتذار. و الحاصل استحباب الانفاق علي الفقراء الحاضرين للقسمة و لا سيما اذا كانوا

من أولي القربي كاستحباب الانفاق من الزرع يوم الحصاد علي من حضر يومه كما عرفته في كتاب الزكاة.

تتميم: محصل مجموع الآيات الخاصّة أمور:

الأول: ان الفرائض ستة و لكلّ منها أهل:

الأولي: النصف للبنت الواحدة، و للزوج اذا لم يكن لزوجته ولد، و للكلالة غير الامّي أخ أو أخت واحدة، أبويني أو أبوي عند عدمه.

الثانية: الثلثان لبنتين فصاعدا، و اختين فصاعدا أبوينيتين أو أبويتين عند عدمه، الكلالة المتعددة.

الثالثة: الثلث للأمّ اذا لم يكن للميت ولد و لا حاجب من الاخوة و لكلالة الأمي و أخوته اذا كانوا أكثر من واحد، و هم فيه شركاء علي السواء مطلقا.

الرابعة: الربع للزوج اذا كان لزوجتها ولد. و للزّوجة اذا لم يكن لزوجها ولد.

الخامسة: السدس لكل واحد من الأبوين ان كان له ولد، و للأم ان لم يكن له ولد و حجب عنها الحاجب من الاخوة، و لكلالة الواحدة الاميّة الاخت أو الأخ.

السادسة: الثمن للزوجة اذا كان لزوجها ولد أو من غيرها.

الأمر الثاني: ان الأبوين يرثان في رتبة الأولاد أول المراتب.

الثالث: ان الاخوة و الكلالة يرثون حينما لم يكن للميت ولد و لا والد، فهم في ثاني المراتب، و باقي الأقرباء أولو الأرحام من الأعمام و الأخوال و أولادهم يرثون في ثالث المراتب.

الرابع: ان الزوجين يرثان مع كل وارث في أي مرتبة.

الخامس: ان الارث بعد الوصيّة غير المضارّة و بعد الدّين، فلا إرث فيما استوفي الدين التركة و لا في ثلثها اذا استوفتها الوصيّة.

السادس: يستحب انفاق شي ء من التركة علي الأقرباء و اليتامي و المساكين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 374

الحاضرين قسمتها علي أولي الأرحام الورثة كاستحباب الانفاق من الزرع علي من حضر الحصاد يومه.

خاتمة في العول و التعصيب

اعلم ان هنا بحثا ينبثق عن العناية

الي الفروض الستّة و أهاليها الثلاثة عشر اختلف فيه المسلمون، فأصحابنا في ضوء العترة (عليهم السّلام) علي جانب اليمين و الآخرون علي الآخر، و هو ان الفروض و السهام قد يتوافقان فلا كلام، كما في الأبوين و ابنتين مثلا فان لكل واحد منهما السدس جمعهما ثلث المجموع و لهما الثلثان أو في زوج و أخت أبوينية أو أبوية فان فرض كل منها نصف.

و أما مع عدم التوافق بأن زادت الفريضة علي السهام كما في بنت و أبوين فلكل واحد منهما السدس و لها النصف ثلاثة أسداس، يبقي سدس آخر أو نقصت عنها كما في بنتين و أبوين مع الزوج أو الزوجة فان فريضتهما الثلثان و لكل واحد منهما السدس فينقص سهم الزوج الرّبع أو الزوجة الثمن.

وقع الكلام و البحث في كيفية التوافق و التطبيق ان الزيادة ترد علي العصبة ساير الأقرباء أو علي ذوي الفروض أنفسهم، و يطلق علي ذلك التعصيب، و ذهب إليه الجمهور، و منعه أصحابنا بردّهم الزائد الي الوارث المقدّم صاحب الفرض، و كذا في النقيصة، و انه يقع علي الجميع كما عنهم أو علي من له فرض واحد لا ينقص الي فرض آخر كالبنت و البنات و الأخوات دون الزوج و الزوجة و الأم الذين لهم فرضان في كتاب اللّه لا ينقص إلّا الي فرض فيعطي أوّلا كما عن أصحابنا.

و الانصاف ان الآيات خالية عن بيان ذلك و لا يتمّ ما توهّم من اشعار قوله تعالي حكاية عن زكريا: وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوٰالِيَ مِنْ وَرٰائِي وَ كٰانَتِ امْرَأَتِي عٰاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ علي الرّد الي العصبة كما أشار إليه صاحب الكنز (رحمه اللّه)

و أجاب عنه في مسألة التعصيب بل الأولوية الرّحمية تقتضي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 375

الرد الي ذوي الفروض.

و لكن لا يبعد استيناس مسألة العول علي ضوء ارشادات الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) عن الآيات، فان تقسيمها ذوي الفروض و جعل فرض لقسم و فرضين لقسم آخر لا يكون جزافا، فمن لا يتغير فرضه إلّا الي فرض آخر مثل الزوج و الزوجة و الأم لا يرد عليه النقص بلا فرض و لا بدّ من اداء فرضه إليه أوّلا فيقع النقص طبعا علي مثل البنت و البنات، و أيم اللّه لو قدّموا من قدّمه اللّه ما عال الفريضة «1» من قبل من قال ما أدري أيّكم قدّم اللّه و أيّكم أخّر و ما أجد شيئا أوسع من ان اقسّم هذا المال بالحصص، عند ما عرض عليه كثرة عائلة الفروض و قلّة المال، و لم يدر علي من يردّ النقص، و لم يكن إلّا ابن الخطّاب.

و نحن بحمد اللّه حيث قدّمنا من قدّمه اللّه تعالي من العترة الطاهرة (عليهم الصلاة و السلام) عدل الكتاب، و اتبعناهم في الأصول و الفروع علي نصّ الكتاب و السّنة، ما ابتلينا بالعول فأوردنا النقص علي من أخّره اللّه و كذلك ما ابتلينا بالعصبة كما ابتلوا.

تذييل في نتيجة الأبحاث

الأول: اسباب الارث أمور: النسب، و الزواج و الولاء.

الثاني: الارث مقسّم علي ضوابط و مفروض علي القواعد.

الثالث: الأقرباء فيهم المراتب يمنع الأقرب الأبعد.

الرابع: المراتب الاصليّة في الرّحم ثلاثة: الآباء و الأولاد، الأجداد و الأخوة، الأعمام و الأخوال و أولادهم.

______________________________

(1)- و في كلام ابن عباس كما تري اشعار الي مسألة أهم من المبحوث عنه أي الولاية و الزعامة العامة و ان من قدّمه اللّه تعالي في أمر الولاية هو

عليّ (عليه السّلام) و لو قدّموه و أعطوا حقّه باطاعته و الاستفتاء عنه (عليه السّلام) لم يتفق امثال تلك الخطايا في الحدود و الأحكام فكيف في سائر الأمور من ابن الخطّاب و أمثاله، و قد صرّح بذلك عليّ (عليه السّلام) في كلام له في الباب (الوسائل كتاب الارث باب التعصيب و العول).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 376

الخامس: للرّجال نصيب و للنساء نصيب، و لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

السادس: فريضة البنت الواحدة النصف و البنتان فما فوقهما الثلثان.

السابع: فريضة كل واحد من الأبوين السدس اذا كان له ولد و للأمّ الثلث اذا لم يكن له ولد و لا حاجب يمنعها من الاخوة و إلا فلها السدس.

الثامن: فريضة الزوج عن زوجته النصف اذا لم يكن لها ولد منه أو من غيره، و الربع اذا كان لها ولد كذلك.

التاسع: فريضة الزوجة عن الزوج الربع اذا لم يكن له ولد منها أو من غيرها، و الثمن اذا كان له ولد كذلك نصف الفرضين للزوج و المرأة نصف الرجل.

العاشر: الزّوجان يرثان مع كل وارث من أيّ مرتبة.

الحادي عشر: الكلالة ورثة من لا ولد له و لا والد من الاخوة الاميّة لهم السدس ان كانت واحدة، و الثلث ان كانوا أكثر بالشركة مطلقا.

الثاني عشر: الاخوة غير الاميّة فريضتهم النصف ان كانت واحدة، و الثلثان لأختين فصاعدا، و ان كانوا إخوة رجالا و نساء ف لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، و الابنيّة منهم مقدّم علي الأبيّة بأولوية الرحميّة.

الثالث عشر: يستجب اعطاء شي ء من التركة لمن حضر القسمة من ذوي القربي و اليتامي و المساكين غير أولي الأرحام الورثة كاستحباب الانفاق علي من حضر المحصد يوم الحصاد.

الرابع عشر: الارث بعد الوصيّة غير المضارّة أي غير

المتجاوز عن الثلث و بعد الدين، فلا إرث و قد استوفي الدين التركة و لا في الثلث اذا استوفته الوصيّة.

الخامس عشر: لا عول عندنا و لا تعصيب، فلا نكثر عائلة الفروض بايقاع النقص علي الجميع و لا تردّ الزيادة عنها الي العصبة سائر الأقرباء عند عدم توافق الفريضة السهام بل النقيصة علي من أخره اللّه من ذوي الفروض الواحدة و الزّيادة الي ذوي الفروض كما عرفت.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 377

و الي هنا تمّ كتاب الارث آخر الكتب حسب ترتيبنا من (فقه القرآن) و بحمد اللّه تعالي، و نشكره علي ما وفّقنا لاتمام هذا المجهود، و نرجو من اللّه تعالي ان يجعله زادا ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون و نلتمس عمّن نظر فيه دعاء الخير و اللّه رءوف بالعباد «1».

______________________________

(1)- تمّ في يوم 10 جمادي الأولي/ 1395 ه. ق المطابق ليوم 1/ 2/ 1354 ه. ش في مدينة رودبار و الحمد للّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 379

كتاب الدعاء و الابتهال

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 381

الدعاء و الابتهال في القرآن الكريم

و لنختم مجهودنا بمسألة الدعاء و الابتهال في القرآن الكريم لعلّ اللّه تعالي يتقبّل منّا و يجعله ذخرا ليوم المعاد يوم لا ينفع مال و لا بنون و ليس فيه خلّة و لا شفاعة إلّا لمن ارتضي، و الترجي لما فيه من آيات اللّه التي فصّلت من لدن حكيم خبير و لما فيها من اسمائه الحسني التي أمرنا بدعائه بها و وعدنا الاجابة فانه قريب مجيب.

و ان لم يكن بما فيه مما استظهرناه عنها بتوفيقه و عنايته بشي ء يليق ان يعدّ ضمن مجهودات الأصحاب (رضوان اللّه تعالي عليهم) إلا انّه تعالي يقبل اليسير و يعفو

عن الكثير و هو الرءوف الرحيم.

الدعاء و الابتهال (أي نداء اللّه تعالي بأسمائه الحسني) و الاسترسال في ذلك بالتضرّع و التذلل ثم طلب الخير و السعادة و كل ما يراد في الدنيا و الآخرة، راجح مسنون في الجملة، فانه بعد الفراغ من كونه عبادة، يتقرّب به العبد، و اللّه سميع الدعاء، و كثيرا ما يجيبه و يقضي حاجته، فهو ذكر اللّه تعالي تطمئن به القلوب. و لا يعني اللجوء الي الدعاء ترك النظام الطبيعي و طلب الأمور عنه تعالي عن غير مجاريها و أسبابها المقررة المودعة و قد أبي أن يجريها إلا بها، بل هو واقع في المجري بين حلق سلسلة العلل و لا تنحصر بالطبيعيّة. و المحال هو المعلول بلا علّة لا بلا علة طبيعية، مع ان المطلوب الأكثر في الدعاء شمول عنايته تعالي و إرادته السارية الكلية لانتهاء تلك العلل الطبيعية أيضا الي ما هو المراد بعدم ظهور مانع من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 382

سلسلة أخري منظمة في المجموع بأحسن نظم «1» فصل في محلّه.

و كيف كان، فالبحث يتضمن- بعد رجحان أصل الدعاء- وجه الداعي، و ما يدعو به، و ما هو المطلوب فيه، و في كل آيات نشير إليها خلال أمور:

الأمر الأول: في أصل رجحان الدعاء و مطلوبيته

و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ قٰالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ. (المؤمن [40] الآية 60)

صراحة الآية ان اللّه تعالي أمر عباده بدعائه و طلب الخير منه، و وعدهم بإجابتهم علي قضاء حاجتهم، فان الاستجابة هنا الإجابة، و هم يعبدونه بذلك أيضا، و المستكبرون عن عبادته سيدخلون جهنّم أذلّاء داخرين «2». و الأمر يفيد الوجوب بعد أصل المطلوبية و الرجحان، و لا يبعد ذلك بطبعه

الكلي في الجملة لئلا يجوز تركه المطلق مطلقا كما لا يخفي.

الثانية- قوله تعالي:

وَ إِذٰا سَأَلَكَ عِبٰادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّٰاعِ إِذٰا دَعٰانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. (البقرة [2] الآية 186)

الظاهر انقطاع سياق الآية عن بحث الصوم و آياته. و أنّ المخاطب هو النبيّ الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الداعي الي اللّه تعالي حتي يجيب سؤال العباد عن قرب اللّه تعالي و بعده، و هل يسمع نداءهم فيجيبهم أو لا؟ بأنه قريب يسمع و يجيب دعوة الداعي

______________________________

(1)- يمحو اللّه ما يشاء و يثبت و عنده أمّ الكتاب (الرعد [13] الآية 39) و مع ذلك النظام أحسن نظم.

(2)- و من المعلوم ان المراد مطلق العبادة فان ترك الدعاء لا يصلي جهنّم فلا يتمّ حمل البعض عليه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 383

اذا دعاه بل هو أقرب إليكم من حبل الوريد و ما يكون من نجوي ثلاثة إلّا هو رابعهم و لا خمسة إلا هو سادسهم و لا أدني من ذلك و لا أكثر إلا هو معهم، فكيف باستماع النداء، فعلي العباد ان يدعوه تعالي و يستجيبوا له و هم مؤمنون باجابته، و انه بكل شي ء محيط، و علي كل شي ء قدير. و دلالة الأمر بالاستجابة و طلب الجواب لدعاء الخير علي مطلوبيّة ذلك، بل الوجوب في الجملة مما هو ظاهر.

الثالثة- قوله تعالي:

قُلْ مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لٰا دُعٰاؤُكُمْ. (الفرقان [25] الآية 77)

صراحة الآية في ان اللّه تعالي لا يعبأ بالعباد و لا يبالي بهم في مجريات الأمور في نظام الخلقة علي أنظمتها و مجاريها، و افق مطالب العباد أو خالف، لو لا دعاؤهم و طلبهم الخير منه تعالي، فانه

عند دعائهم، يجيبهم و يقضي حاجتهم، و يجري الأمور علي مجاريها بوجه ينتهي الي مقاصدهم التي فيها صلاحهم في الدنيا و الآخرة بإرادته و قدرته الشاملة السارية في شراشر الوجود يَمْحُوا اللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتٰابِ (الرعد [13] الآية 39).

الأمر الثاني: في كيفية الدعاء حسب حال الداعي

و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَ لٰا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلٰاحِهٰا وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّٰهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.

(الاعراف [7] الآية 55- 56)

الآية- كما تري- تتكئ علي حالة الدعاء بعد الأمر بأصله، بانه لا بدّ و ان يكون

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 384

تضرّعا و تذللا بأن يتضعف الداعي علي فناء مولاه، و قد خلق ضعيفا، و يتعبّد بذيل عنايته مظهرا عظم الربّ و صغر المربوب، معلنا إحاطة قدرة الخالق وسعة إرادته، معترفا: لا شيئية المخلوق و محكوميّته في نظام الخلقة و إرادة الخالق.

ثم ان ذلك ينبغي ان يكون علي تستر و اختفاء عن الناس، فانه أطهر عن الرياء و أوثق بينه و بين اللّه، و الليل و الظلمة من عوامل التستّر و التوجّه، فانّ ناشئة الليل هي أشدّ وطأ و أقوم قيلا.

و أيضا ينبغي ان يكون علي خوف و رجاء فيدعو اللّه خوفا من عذابه و عقابه و طمعا في ثوابه و رحمته فان رحمة اللّه قريب من المحسنين، و المؤمن لا يكون مؤمنا حتي يكون خائفا راجيا، و لا يكون خائفا راجيا حتي يترك ما يخاف و يعمل لما يرجو، فان الركون الي كل منهما يوجب هويّ الانسان نحو الذنب و المخالفة.

فالداعي لا بدّ و ان يكون حال دعائه متضرّعا مبتعدا عن الرئاء، متوسّطا بين الخوف و الرجاء،

الحالة التي يكون عليها المؤمن دائما، فاللّه تعالي يجيبه فإنه قريب مجيب.

الثانية- قوله تعالي:

فَادْعُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكٰافِرُونَ. (المؤمن [40] الآية 14)

الأمر في الآية متعلّق بالاخلاص في دعاء اللّه تعالي مترتّبا علي انّه تعالي هو الذي يريكم آياته و ينزل لكم من السماء رزقا، و الخلوص الخلو عن غيره و عن كل ما هو دونه، فعلي العبد ان يدعوه متيقنا ان الأمر بيده و انه رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره علي من يشاء من عباده، و هو بكل شي ء عليم، و عليه قدير، و له الخلق و الأمر، و بيده مقاليد السموات و الأرض، فليس دعاء الغير إلا في ضلال.

الثالثة- قوله تعالي:

هُوَ الْحَيُّ لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ.

(المؤمن [40] الآية 65)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 385

الأمر أيضا بالاخلاص في دعائه تعالي مترتبا علي انه هو الحيّ القيوم و ان لا إله و لا ملجأ إلا هو، فانه الذي جعل لكم الأرض قرارا، و السماء بناء، و صوّركم فأحسن صوركم و رزقكم من الطيّبات، ذلكم اللّه ربّكم فتبارك اللّه ربّ العالمين.. يفيد ضرورة الاخلاص و وجوبه في دعائه تعالي و نفي كل شي ء غيره مما يشركون، و ذلك بعد العلم بأنّ كل خير و رحمة و فضل و رأفة و كل وجود و نور ليس إلا عنه تعالي، فالحمد للّه ربّ العالمين.

الرابعة- قوله تعالي:

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. (الأعراف [7] الآية 29)

في الآية أيضا تعلّق الأمر بالاخلاص في دعائه تعالي بعد الأمر بالقسط و اقامة الوجوه عند كل مسجد،

فانه تعالي بيده مبدأ كل أمر و ختامه في الدنيا و الآخرة، كما بدأكم تعودون، و هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن، و هو علي كل شي ء شهيد، و ليس اقامة الوجوه و استواؤها عند كل مسجد إلا توجيهها إليه تعالي و تصعيرها عن كل ما دونه و توجيه الوجه إليه تعالي فقط تقدمة لدعائه خالصا مخلصا عن غيره، و هكذا ينبغي ان يكون دعاء العبد ربّه بل لا بدّ و ان يكون لمكان الأمر.

لا يقال: ان السياق في تلك الآيات الثلاث يفيد انصراف ظهورها عن مسألة الدعاء المبحوث عنها، و انها راجعة الي بحث التوحيد و نفي الشرك و ان علي العباد الاخلاص في عبادته و الايمان به فقط بنفي الغير مما يشركون.

ألا تري ما في الأولي من سبق البحث في التوحيد و نفي الشرك عنه قوله تعالي: ذٰلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذٰا دُعِيَ اللّٰهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلّٰهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (المؤمن [40] الآية 12) و في الثانية من لحوق ذلك: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ … (المؤمن [40] الآية 66) و كذلك في الثالثة: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيٰاطِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (الاعراف [7] الآية 30).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 386

فانه يقال: نعم و ان كان الأمر كذلك في الجملة، و لكن حيث ان الأمر بالدعاء غير الأمر بالعبادة في القرآن الكريم- كما تراه في مواضعهما- فالظهور قوي فيما استظهرناه، فان ظاهر قوله تعالي: وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتّٰي يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أو قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ و فَلٰا تَجْعَلُوا لِلّٰهِ أَنْدٰاداً غير ما نحن فيه من قوله

تعالي: فَادْعُوهُ [أو و ادعوه] مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، مع ان الاطلاق يشمل حال الدعاء من العبادات أيضا فانه منها، و الاخلاص عندها آكد و ألزم بعد استقامة الوجه و توجيهه بل ماهيّتها تتقوّم به كما حقّق في محلّه.

الأمر الثالث: فيما ينبغي ان يدعي به اللّه تعالي من الاسماء

و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لِلّٰهِ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنيٰ فَادْعُوهُ بِهٰا وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمٰائِهِ سَيُجْزَوْنَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ. (الاعراف [7] الآية 180)

الآية- كما تري- تفيد أنّ للّه تعالي اسماء خاصة حسني، و لا بدّ من دعائه بها، و ترك الذين يلحدون في اسمائه و ينادونه بما يتوهّمون له من الأسماء.

و المستفاد منها أوّلا ان أسماء اللّه تعالي توقيفيّة محدودة بما سمّي به نفسه، و موقوف فيما اطلق عليه تعالي في الكتاب الكريم أو السنة القطعيّة، فلا يجوز دعاؤه بما هو صحيح علما غير مطلق عليه شرعا مثل بحث الوجود، وجود البحث، أو واجب الوجود و المبدأ الفيّاض و أشباه ذلك «1».

و ثانيا ان له الاسماء الحسني أجمعها، لها و للأوصاف الموضع المسمّي في

______________________________

(1)- قال عليّ (عليه السّلام): … فانظر ايها السائل، فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتم به …

نهج البلاغة خطبة 91 ص 125

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 387

الآية لفظ الجلالة: اللّه تعالي، و هو الأكثر اطلاقا عليه في الكتاب و السنة.

و أخيرا الأمر بدعائه تعالي بتلك الأسماء الحسني و ترك غيرها.

فلا بدّ و ان يبدأ الدعاء ب (اللّهم) أو (يا اللّه) و أمثالهما دون يا واجب الوجود و يا مفيض الفيض و مشرقه و أمثال ذلك، فكيف بما يدعونه به الملحدون في اسمائه ممّا يشركون من الأصنام اللاتي كانوا يتقرّبون بها و يقولون و ما نعبدهم إلا ليقرّبونا الي اللّه زلفي، فانه أمر

بتركهم بأنفسهم فكيف بدعائهم.

الثانية- قوله تعالي:

قُلِ ادْعُوا اللّٰهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمٰنَ أَيًّا مٰا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنيٰ.

(الاسراء [17] الآية 110)

الآية بعد ما تفيد انه لا فرق في دعاء اللّه تعالي بين اسم الجلالة أو وصف الرحمة، تشير الي ما هو مفروغ عنه من ان له الاسماء الحسني لا بدّ و ان يدعي بها حال دعائه و ندائه، فكأنّ نقطة الثقل و الغرض الأساس في الآية بيان المساواة بين اسمائه الحسني في الدعاء بعد الفراغ عن أصل الانحصار بها، فكما يجوز ان يدعوه تعالي بقوله (يا اللّه) و (يا رحمن) يجوز الدعاء بسائر اسمائه الحسني و أوصافه بقوله يا رحيم يا رءوف يا ودود و … من البسائط أو يا ربّ العالمين، يا ربّ العزّة يا مالك الملك، و يا ذا العرض المجيد و غيرها من المركّبات «1».

______________________________

(1) و البسائط منها في الكتاب الكريم كما تصفحه بعض تسعة و مائة و المركبات سبعون يبلغ جمعها تسعة و سبعين و مائة. فهارس القرآن للفاضل محمود راميار.

نعم هنا مسألة أخري و هي دعاؤه تعالي باسماء غير واردة في الكتاب مثل العطوف و الصبور و المسئول:

(الجوشن الكبير 57 ص 94) و الوكيل و الفرد و الوتر و الصبور و … دعاء المجير ص 83 و في المركبات مثل قرة عين المساكين (دعاء اليوم الثالث عشر من شهر رمضان ص 240 مفاتيح الجنان) فان اسماءه تعالي توقيفيّ و أَيًّا مٰا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنيٰ … لا بدّ من التأمّل في ذلك.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 388

الأمر الرابع: فيما ينبغي ان يبتغيه الداعي و يطلبه من اللّه تعالي

فان سؤال الرخيص لا يناسب شأن القويّ الغني العزيز، و القرآن في المقام يحكي مطالب الأنبياء العظام و مقاصد عباد اللّه الصالحين تعليما لذلك،

نشير إليها في شطرين حتي نقتفي أثرهم: قَدْ كٰانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرٰاهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ (الممتحنة [60] الآية 4).

و من المعلوم ان الأنبياء (علي نبينا و آله و عليهم السلام) قد كان في أدعيتهم ما يناسب مقام نبوّتهم و ولايتهم علي الناس، و كانوا يطلبون من اللّه بما هم أنبياء مسئولون و أولياء مأمورون دون عباد اللّه الصالحين علي الحد، و كل انسان راع و مسئول، كما عن رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) «كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته».

و كيف كان، ففي الشطر الأول آيات أدعية أنبياء أولي العزم و غيرهم عليهم السّلام:

1- فعن نوح النبي (عليه السّلام) بعد ما كذّبه قومه و قالوا انه مجنون، و بعد ما يئس عن قومه و طال زمان دعوته و قصر و قلّ اجابة الناس ايّاه دعا ربّه و قال: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ* فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الشعراء [26] الآية 177- 118)، وَ قٰالَ نُوحٌ رَبِّ لٰا تَذَرْ عَلَي الْأَرْضِ مِنَ الْكٰافِرِينَ دَيّٰاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبٰادَكَ وَ لٰا يَلِدُوا إِلّٰا فٰاجِراً كَفّٰاراً* رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوٰالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ وَ لٰا تَزِدِ الظّٰالِمِينَ إِلّٰا تَبٰاراً (نوح [71] الآيات 26- 28).

و من المعلوم انّه (عليه السّلام) كان مشفقا علي الناس حريضا علي خيرهم و سعادتهم، فيطلب منه تعالي و يدعوه لينصره و يؤيّده علي دينه حتي يتمكّن من إرشاد الناس و هدايتهم، و ما كان يدعو عليهم و لم يطلب تبارهم إلا بعد ما طالت دعوته و يئس منهم معللا بأنهم يضلّون العباد و

لا يلدون إلا فاجرا كفّارا، و كان يتأثر و يتأسف علي ما يري من مسير الناس سبيلهم الي الضلال و الفجور، ثم بعد ذلك

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 389

يدعو و يطلب الغفران له و لوالديه و لأهل بيته اذا كانوا مؤمنين «1» و لغيرهم من المؤمنين و المؤمنات، ثم يؤكد ما دعا به أوّلا علي الكفّار.

فمحصل مطالبه و مبتغياته (عليه السّلام) من اللّه تعالي نصرته في اعلاء كلمة اللّه و شعار الحق بأيّ وجه ممكن، ثم سعادة الناس و هدايتهم، و غفران اللّه تعالي عن معاصيهم السالفة، و اخيرا هلاك الظالمين و تبارهم، معلّلا بصدّهم عن سبيل الحق علي العباد. و قد استجيب دعاؤه (عليه السّلام). قال تعالي: فَفَتَحْنٰا أَبْوٰابَ السَّمٰاءِ بِمٰاءٍ مُنْهَمِرٍ (القمر [45] الآية 11)، و في نهاية القصّة قال: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبٰارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (المؤمنون [23] الآية 29).

و التقييد بالايمان في دعائه لمن دخل بيته يشعر الي عدم جواز الدعاء للكفّار و من بحكمهم و لو كانوا من أقرب الأقرباء، كما عرفت في كتاب المحرّمات- ختام بحث تولّي الكفار.

2- و عن ابراهيم (عليه السّلام) حينما كان يرفع قواعد البيت أول ما وضع للناس ببكة مباركا مع ابنه إسماعيل: رَبَّنٰا تَقَبَّلْ مِنّٰا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنٰا وَ اجْعَلْنٰا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنٰا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنٰا مَنٰاسِكَنٰا وَ تُبْ عَلَيْنٰا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنٰا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. (البقرة [2] الآية 127- 129)

و محصل ما استدعياه من اللّه تعالي قبول العمل العبادي أوّلا، فان الامتثال و اسقاط التكليف غير ما يقع

مقبولا لدي المولي و مرضيا عنده، و أين هو من ذلك؟

ثم الدوام و البقاء علي الاسلام و هو التسليم له تعالي في كل حال ثانيا، و هو أعلي درجة تحصل للعبد بفناء مولاه و أوثق و أثبت حبل يعتصم به و لم يختصا به انفسهما بل وسّعا ذلك لذرّيتهما، و الانسان لا بدّ و ان يعتني بشأن الذين يأتون من بعده من الأجيال، فان حياة المجتمع أشمل و أقوي من الفرد، ثم دعوا اللّه ثالثا و طلبا منه

______________________________

(1) و قال: «رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

(الشعراء [26] الآية 117- 118)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 390

تعالي إراءة المناسك في معرفة الوظائف حتي يعبد اللّه مع العلم و يتمّ التوبة و الرجوع إليه انّه هو التوّاب الرحيم، و اخيرا الدعاء للناس و الأمّة ليبعث فيهم رسولا يكون منهم حتي يعرفهم بافتقاراتهم و يعرفونه فيتلو عليهم آياته و يهديهم إليه تعالي فيعبدونه وحده من غير شريك و يعطيهم الكتاب و الحكمة حتي يتّسعوا في العلم و يكونوا قوما عالمين متمتعين بما خلق اللّه لهم بوجه حسن و يبلغوا مراحل انسانية عالية، و اللّه هو العزيز الحكيم.

و تلك الأمور و الأدعية، له و لأولاده و ذريّته و قومه و أمّته في سبيل الحق و الدين و الخير و السعادة مجتمعة في دعائه الآخر المنقول في قوله تعالي: وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «1» وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنٰامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّٰاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصٰانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* رَبَّنٰا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوٰادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ

عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنٰا لِيُقِيمُوا الصَّلٰاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّٰاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ* رَبَّنٰا إِنَّكَ تَعْلَمُ مٰا نُخْفِي وَ مٰا نُعْلِنُ وَ مٰا يَخْفيٰ عَلَي اللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا فِي السَّمٰاءِ* الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَي الْكِبَرِ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعٰاءِ* رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلٰاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنٰا وَ تَقَبَّلْ دُعٰاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوٰالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسٰابُ. (ابراهيم [14] الآيات 35- 41)

فان محصل ادعيته (عليه السّلام) في المقام أمن مكة (خير البلاد) لتكون حرما يعبدون اللّه تعالي فيه علي الاطمئنان، و تجنّبه و أولاده عن عبادة الأصنام، فانهنّ أضللن كثيرا من الناس عن عبادة اللّه و سبيل الحق، ثم دعاؤه (عليه السّلام) من اللّه تعالي توجّه الناس الي ذلك البيت … بيت اللّه الحرام.. و ذرّيته التي أسكنهم بالوادي ليقيموا الصلاة و رزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون، فيدعو ربّه ليجعله و ذرّيته مقيمي الصلاة و ان يقبل دعاءه و يغفر له و لوالديه و للمؤمنين يوم يقوم الحساب. و خلال

______________________________

(1) و قد استجيب دعاؤه (عليه السّلام)، قال تعالي: «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثٰابَةً لِلنّٰاسِ وَ أَمْناً» (البقرة [2] الآية 125).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 391

ذلك يشكر اللّه تعالي و يحمده علي ما أنعم عليه و وهب له علي الكبر إسماعيل و إسحاق فانه يسمع الدعاء، و قد دعا ربّه قبلا و قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّٰالِحِينَ (الصافات [37] الآية 100)، و استجيب له قال تعالي: فَبَشَّرْنٰاهُ بِغُلٰامٍ حَلِيمٍ و بعد تفصيل قصّة ذبح إسماعيل و فداء اللّه تعالي بذبح عظيم: بَشَّرْنٰاهُ بِإِسْحٰاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّٰالِحِينَ.

و يرجع ذلك

كلّه أيضا الي تمكّنه و ذريّته و أمّته و توفيق الناس لعبادة الحق و اقامة الصلاة و شكر النعمة و الغفران في الآخرة، و لم يستدع توجّه الناس الي ذريّته و ارزاقهم اللّه بما هم كذلك بل ليقيموا الصلاة و لعلّهم يشكرون.

فكان (عليه السّلام) مشفقا علي ذريّته و أمّته و الناس، و طالبا لهم الخير الأصلي (الايمان باللّه تعالي و اطاعته و الشكر له) كما كان مشفقا علي نفسه و قد دعا ربّه في موضع آخر حال احتجاجاته مع قومه و دعوتهم الي اللّه و تركهم الأصنام، و بعد توجهه الي اللّه تعالي الذي بيده الأمور: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ* وَ إِذٰا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ* رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّٰالِحِينَ* وَ اجْعَلْ لِي لِسٰانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ* وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ* وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كٰانَ مِنَ الضّٰالِّينَ* وَ لٰا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. (الشعراء [26] الآيات 78- 87)

و اما مسألة ضلالة أبيه بل أبوّة الضال له، فقد فصّلنا الكلام فيها في كتاب المحرّمات- ختام بحث تولّي الكفار. و عليه فمدار أدعية ابراهيم و إسماعيل (عليهما السّلام) معرفة الوظائف الالهيّة و توفيق العمل بها و قبول ذلك العمل من اللّه تعالي لأنفسهما و ذريّتهما و للناس جميعا و غفران اللّه تعالي يوم الحساب، فأصل المطلوب ليس إلا علوّ كلمة اللّه و تحقق سعادة الناس بالعبوديّة الحقّة.

3- و عن موسي (عليه السّلام) بعد ما رجع الي قومه غضبان من شركهم باتّباعهم السامريّ و اتّخاذهم العجل، و بعد تهديده اخاه هارون و اعتذار اخيه

بأن القوم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 392

استضعفوني: قٰالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنٰا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرّٰاحِمِينَ (الاعراف [7] الآية 151).

و كذلك بعد ما اخذت الرجفة الذين اختارهم موسي من قومه سبعين رجلا و شبه تعرضه بانّه ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل قال: أَنْتَ وَلِيُّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا وَ ارْحَمْنٰا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغٰافِرِينَ* وَ اكْتُبْ لَنٰا فِي هٰذِهِ الدُّنْيٰا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنّٰا هُدْنٰا إِلَيْكَ (الاعراف [7] الآية 155- 156).

و عند ما اشتد عليه الأمر من عناد الناس و كفرهم: فَدَعٰا رَبَّهُ أَنَّ هٰؤُلٰاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (الدخان [44] الآية 22) و: قٰالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ (القصص [28] الآية 21).

وَ قٰالَ مُوسيٰ رَبَّنٰا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوٰالًا فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا رَبَّنٰا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَليٰ أَمْوٰالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَليٰ قُلُوبِهِمْ فَلٰا يُؤْمِنُوا حَتّٰي يَرَوُا الْعَذٰابَ الْأَلِيمَ (يونس [10] الآية 88).

قٰالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنٰا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرّٰاحِمِينَ (الاعراف [7] الآية 151).

و محصل تلك الأدعية أيضا الناشئة عن الولع الشديد بهداية الناس و سعادتهم في ظلال كلمة التوحيد و شريعة الحق الاسلامية التابعة عن ملة ابراهيم حنيفا.. طلب الغفران عمّا مضي و شمول رحمة اللّه تعالي لما يأتي و ازالة عوامل ضلالة الناس و طغيانهم حتي يطّهروا عن الأرجاس و يهتدوا الي الخير و الحق و الدين لتكون كلمة اللّه هي العليا و يكونوا ممن كتب لهم في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة كما كان ذلك هو المطلوب في أول أمره عند دعائه المستجاب «1».

4- و عن عيسي (عليه السّلام) بعد ما آمن باللّه و رسوله

الحواريون بوحي من اللّه

______________________________

(1)- فانه (عليه السّلام) بعد ما أمر بقوله تعالي «اذْهَبْ إِليٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغيٰ* قٰالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسٰانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي الي قوله تعالي: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰا مُوسيٰ».

(طه [20] الآيات 24- 36)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 393

تعالي و توفيقه، ثم قالوا يا عيسي هل يستطيع ربك ان ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا اللّه ان كنتم مؤمنين، فلم ينف ذلك و لم يردّهم بل أشار الي ان الأمور تجري في مجاريها الطبيعية التي جعلها لها ربّ العالمين، و لا يلازم الايمان به نقضها بل تلك المجاري بأنفسها آيات للّه تعالي و علامات لقدرته و علمه و حياته و ارادته، و مع ذلك كلّه فهو علي كل شي ء قدير: قٰالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهٰا وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنٰا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنٰا وَ نَكُونَ عَلَيْهٰا مِنَ الشّٰاهِدِينَ (المائدة [5] الآية 113)، قٰالَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ اللّٰهُمَّ رَبَّنٰا أَنْزِلْ عَلَيْنٰا مٰائِدَةً مِنَ السَّمٰاءِ تَكُونُ لَنٰا عِيداً لِأَوَّلِنٰا وَ آخِرِنٰا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنٰا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرّٰازِقِينَ (المائدة [5] الآية 114).

فقد نادي (عليه السّلام) ربّه و دعاه لينزل عليهم مائدة من السماء مع انّه أمر غير طبيعي لا يطلب إلا في موارد خاصة، و لذلك علّله بأن يكون آية من اللّه تعالي وعيدا لهم تثبيتا لدين الحق و تحكيما لشريعة اللّه و اطمئنانا لقلوب المؤمنين، و طلب الرزق ذيلا و ان كان يشمل ذلك المائدة و لكنه لا يختصّ به بل يطلب الرزق مطلقا علي معناه الأعم فانه خير الرازقين.

و محصل مطلوبه (عليه السّلام) من اللّه تعالي ظهور اعجاز و آية من

اللّه تعالي زائدا علي ما كان اعلاء لكلمة الحق و تحقيقا للدين و تثبيتا لقدرته تعالي علي كل شي ء إِذْ قٰالَ الْحَوٰارِيُّونَ يٰا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنٰا مٰائِدَةً مِنَ السَّمٰاءِ قٰالَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قٰالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهٰا وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنٰا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنٰا وَ نَكُونَ عَلَيْهٰا مِنَ الشّٰاهِدِينَ، فان الايمان بالقدرة عن المجاري الطبيعية و رؤية قدرته تعالي نفسها مما يحتاج الي عيون أنفذ و أبصار أحدّ كما يشير إليه قوله اتَّقُوا اللّٰهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و اما في خرق العادة و نقض الطبيعة فيراه كل أحد كما يشير إليه جوابهم نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهٰا وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنٰا.

هذا كلّه في أدعية الأنبياء أولي العزم منهم، و قريب منها في غيرهم، ألا تري ان سليمان (عليه السّلام) مع عظمته و سلطته قال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 394

أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَليٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبٰادِكَ الصّٰالِحِينَ (النمل [27] الآية 19)، بعد ما طلب من ربّه ملكا في قوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لٰا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّٰابُ (ص [38] الآية 35)، فاستجاب له ربّه و وهبه الملك فتوجّه الي توفيق شكر النعمة و اداء حقها و ان يكون من عباد اللّه الصالحين، و كذلك زكريا (عليه السّلام) حينما رأي مقام مريم و تقرّبها الي اللّه تعالي: كُلَّمٰا دَخَلَ عَلَيْهٰا زَكَرِيَّا الْمِحْرٰابَ وَجَدَ عِنْدَهٰا رِزْقاً قٰالَ يٰا مَرْيَمُ أَنّٰي لَكِ هٰذٰا قٰالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ (آل عمران [3] الآية 37)،

هُنٰالِكَ دَعٰا زَكَرِيّٰا رَبَّهُ قٰالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعٰاءِ (آل عمران [3] الآية 38)، فأجيب دعاؤه و أعطاه ربّه سؤله: فَنٰادَتْهُ الْمَلٰائِكَةُ وَ هُوَ قٰائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرٰابِ أَنَّ اللّٰهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْييٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّٰهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصّٰالِحِينَ (آل عمران [3] الآية 39).

و المطلوب في دعائه (عليه السّلام) كما تري ذريّة طيبة يعبدون اللّه علي أرضه و لا يشركون به شيئا، كما تقصّ أيضا سورة مريم بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ كهيعص* ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّٰا* إِذْ نٰاديٰ رَبَّهُ نِدٰاءً خَفِيًّا* قٰالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعٰائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوٰالِيَ مِنْ وَرٰائِي وَ كٰانَتِ امْرَأَتِي عٰاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا* يٰا زَكَرِيّٰا إِنّٰا نُبَشِّرُكَ بِغُلٰامٍ اسْمُهُ يَحْييٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (مريم [19] الآيات 1- 7) فطلب كونه رضيّا.

و كذلك دعاء يوسف الصدّيق (عليه السّلام) حينما هددته امرأة العزيز بقولها وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مٰا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصّٰاغِرِينَ* قٰالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلّٰا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجٰاهِلِينَ* فَاسْتَجٰابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (يوسف [12] الآيات 32- 34).

و بعد ما نجي و ملك مصر و أنعم عليه اللّه (تعالي) بالنعم الي ان رفع أبويه علي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 395

العرش و خرّوا له سجّدا و ابتهل في دعاء ربّه شكرا علي نعمائه و قال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ

تَأْوِيلِ الْأَحٰادِيثِ فٰاطِرَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّٰالِحِينَ (يوسف [12] الآية 101).

فكان محصل دعائه (عليه السّلام) أيضا راجعا الي المعني من التحفّظ من الذنب و من عصيان اللّه و لو بالسجن فان النفس لأمارة بالسوء ثم التوفي مسلما بالبقاء علي الاسلام و التسليم للمولي و أوامره في تمام أوقات الحياة، و اخيرا اللحوق بالصالحين مع الشكر علي النعماء «1» و الاعتراف بولاية اللّه المطلقة في الدنيا و الآخرة.

و كذلك دعاء لوط (عليه السّلام) في قوله: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَي الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (العنكبوت [29] الآية 30)، و دعا يونس (عليه السّلام) في قوله: لٰا إِلٰهَ إِلّٰا أَنْتَ سُبْحٰانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّٰالِمِينَ (الأنبياء [21] الآية 87)، و دعاء شعيب (عليه السّلام) في قوله:

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَ قَوْمِنٰا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفٰاتِحِينَ (الأعراف [7] الآية 89)، و دعا أيوب (عليه السّلام) وَ أَيُّوبَ إِذْ نٰاديٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرّٰاحِمِينَ (الأنبياء [21] الآية 83).

و ما وجدنا في أدعية أنبياء اللّه العظام كما رأيت طلب شي ء من المحقرات بل المعظمات من ضروريات تلك الحياة الأدني بل كانوا متوجهين الي أصول الحياة و حقيقتها الثابتة و يدعون اللّه تعالي لتوفيق نيلها بمراتبها حياة طيّبة. و لنا فيهم اسوة و علينا منهم الاتّباع. اللّهم احينا حياة طيّبة و ارزقنا السعادة و السماحة و الكرامة و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة.

و أما الشطر الثاني من الأمر الرابع فنشير فيه الي 1) دعاء الانسان بنوعه، 2) أقوام الأنبياء، 3) أولي الألباب، 4) المؤمنين و المؤمنات، 5) الصابرين الصادقين، 6) عباد الرحمن، 7) الراسخين في

العلم، 8) و المبتلين بعذاب الطغاة في سبيل الحق، 9) و المجاهدين، بمتونها المنقولة في القرآن الكريم، ثم نري المطلوب

______________________________

(1)- و عن سليمان حينما سمع مقالة النملة: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَليٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبٰادِكَ الصّٰالِحِينَ». (النمل [27] الآية 19)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 396

المشترك في الجميع و ما هو وجهة همتهم في الكل ان شاء اللّه لنتربي و نتأدّب بهم.

1- قال تعالي:

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ إِحْسٰاناً الي قوله تعالي: قٰالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَليٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. (الاحقاف [46] الآية 15)

2- و قال تعالي حكاية عن ابراهيم و الذين معه:

رَبَّنٰا لٰا تَجْعَلْنٰا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنٰا رَبَّنٰا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

(الممتحنة [60] الآية 5)

2- و قال تعالي حكاية عن موسي «1»:

فَقٰالُوا عَلَي اللّٰهِ تَوَكَّلْنٰا رَبَّنٰا لٰا تَجْعَلْنٰا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ وَ نَجِّنٰا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكٰافِرِينَ. (يونس [10] الآية 85- 86)

2- و قال تعالي حكاية عن الذين آمنوا مع النبي الخاتم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الذين نورهم يسعي بين أيديهم و بأيمانهم:

يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَتْمِمْ لَنٰا نُورَنٰا وَ اغْفِرْ لَنٰا إِنَّكَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.

(التحريم [66] الآية 8)

3- و قال تعالي عن أولي الألباب:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَليٰ جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلًا سُبْحٰانَكَ فَقِنٰا عَذٰابَ النّٰارِ* رَبَّنٰا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّٰارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ* رَبَّنٰا إِنَّنٰا سَمِعْنٰا مُنٰادِياً يُنٰادِي لِلْإِيمٰانِ

أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّٰا رَبَّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا وَ كَفِّرْ عَنّٰا سَيِّئٰاتِنٰا وَ تَوَفَّنٰا مَعَ الْأَبْرٰارِ* رَبَّنٰا وَ آتِنٰا مٰا وَعَدْتَنٰا عَليٰ رُسُلِكَ وَ لٰا تُخْزِنٰا يَوْمَ الْقِيٰامَةِ إِنَّكَ لٰا تُخْلِفُ الْمِيعٰادَ* فَاسْتَجٰابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ … (آل عمران [3] الآيات 191- 195)

______________________________

(1)- الذين آمنوا به ذريّة من قومه علي خوف من فرعون و ملئه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 397

4- و قال تعالي حكاية عن المؤمنين الذين آمنوا باللّه و كتبه و رسله و قالوا سمعنا و أطعنا:

رَبَّنٰا لٰا تُؤٰاخِذْنٰا إِنْ نَسِينٰا أَوْ أَخْطَأْنٰا رَبَّنٰا وَ لٰا تَحْمِلْ عَلَيْنٰا إِصْراً كَمٰا حَمَلْتَهُ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنٰا رَبَّنٰا وَ لٰا تُحَمِّلْنٰا مٰا لٰا طٰاقَةَ لَنٰا بِهِ وَ اعْفُ عَنّٰا وَ اغْفِرْ لَنٰا وَ ارْحَمْنٰا أَنْتَ مَوْلٰانٰا فَانْصُرْنٰا عَلَي الْقَوْمِ الْكٰافِرِينَ. (البقرة [2] الآية 286)

و عن المؤمنات مثل امرأة عمران و امرأة فرعون، قال تعالي:

إِذْ قٰالَتِ امْرَأَتُ عِمْرٰانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مٰا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* فَلَمّٰا وَضَعَتْهٰا قٰالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهٰا أُنْثيٰ وَ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثيٰ وَ إِنِّي سَمَّيْتُهٰا مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُهٰا بِكَ وَ ذُرِّيَّتَهٰا مِنَ الشَّيْطٰانِ الرَّجِيمِ* فَتَقَبَّلَهٰا رَبُّهٰا. (آل عمران [3] الآيات 35- 37)

و عن الثانية: وَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قٰالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ. (التحريم [66] الآية 11)

5- و قال تعالي حكاية عن العباد الصابرين الصادقين:

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا إِنَّنٰا آمَنّٰا فَاغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا وَ قِنٰا عَذٰابَ النّٰارِ.

(آل عمران [3] الآية 16)

6- و قال تعالي عن عِبٰادُ الرَّحْمٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَي الْأَرْضِ هَوْناً:

وَ الَّذِينَ

يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنّٰا عَذٰابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذٰابَهٰا كٰانَ غَرٰاماً …

وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا هَبْ لَنٰا مِنْ أَزْوٰاجِنٰا وَ ذُرِّيّٰاتِنٰا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنٰا لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً. (الفرقان [25] الآيات 65 و 74)

7- و قال تعالي عن الراسخين في العلم:

رَبَّنٰا لٰا تُزِغْ قُلُوبَنٰا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنٰا وَ هَبْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّٰابُ. (آل عمران [3] الآية 8)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 398

8- و قال تعالي حكاية عن المبتلين بعذاب الطغاة كما عن سحرة فرعون الذين آمنوا بربّ العالمين ربّ موسي و هارون بعد ما رأوا اعجاز موسي و هددهم فرعون قالوا إنّا الي ربنا منقلبون:

رَبَّنٰا أَفْرِغْ عَلَيْنٰا صَبْراً وَ تَوَفَّنٰا مُسْلِمِينَ. (الاعراف [7] الآية 126)

9- و قال تعالي حكاية عن المجاهدين:

رَبَّنٰا أَفْرِغْ عَلَيْنٰا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدٰامَنٰا وَ انْصُرْنٰا عَلَي الْقَوْمِ الْكٰافِرِينَ.

(البقرة [2] الآية 250)

و أنت تري في تلك الدعوات ان المطالب من اللّه تعالي علي أيّ مستوي من المعاني، و كيف كانت النفوس الداعية و تفكيرها في الخلقة و الخالق و الحياة، فكانوا لاجئين الي اللّه تعالي قانتين متضرّعين إليه طالبين منه توفيق الطاعة و العمل الصالح و شكر النعمة و ذريّة طيّبة صالحة و ان لا يجعلوا فتنة للكفّار و الظلمة، و النجاة منهم و من أعمالهم، و الصبر علي النوائب، فالنصرة علي الكفار و التوفّي مسلما باستيفاء تمام اناء الحياة مسلما، هذا كلّه في الدنيا، ثم العفو و الغفران عن الذنب و الخطأ و صرف نار جهنّم و التوقي عنها و قبول الأعمال و تتميم النور في الآخرة.

هكذا لا بدّ و ان ندعوا اللّه تعالي و نناجيه لطلب المعالي القيّمة في الدنيا و الآخرة دون الأداني الموهونة، الملاعب للأطفال، ربنا

لا تجعلنا فتنة للظالمين و انصرنا علي القوم الكافرين و لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا و توفّنا مسلمين. ربنا تقبّل منّا و اغفر لنا و ارحمنا و اصرف عنّا عذاب جهنّم و أجعل لنا نورا آمين ربّ العالمين.

و ليس لنا ان لا نلتفت الي طبع الانسان بما هو في ابتهالاته في ذلك الختام و انه هو الذي خلق ضعيفا «1» هلوعا، اذا مسّه الشرّ جزوعا، و اذا مسّه الخير منوعا «2». قال

______________________________

(1)- قال تعالي: «يُرِيدُ اللّٰهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسٰانُ ضَعِيفاً». (النساء [4] الآية 28)

(2)- قال تعالي: إِنَّ الْإِنْسٰانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذٰا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذٰا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً».

(المعارج [70] الآيات 19- 21)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 399

تعالي: وَ إِذٰا مَسَّ الْإِنْسٰانَ ضُرٌّ دَعٰا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذٰا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مٰا كٰانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلّٰهِ أَنْدٰاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحٰابِ النّٰارِ. (الزمر [39] الآية 8)

و قال تعالي: لٰا يَسْأَمُ الْإِنْسٰانُ مِنْ دُعٰاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ* وَ لَئِنْ أَذَقْنٰاهُ رَحْمَةً مِنّٰا مِنْ بَعْدِ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هٰذٰا لِي وَ مٰا أَظُنُّ السّٰاعَةَ قٰائِمَةً … وَ إِذٰا أَنْعَمْنٰا عَلَي الْإِنْسٰانِ أَعْرَضَ وَ نَأيٰ بِجٰانِبِهِ وَ إِذٰا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعٰاءٍ عَرِيضٍ. (فصّلت [41] الآيات 49- 51)

و قال تعالي: وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنّٰا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنٰاهٰا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ* وَ لَئِنْ أَذَقْنٰاهُ نَعْمٰاءَ بَعْدَ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئٰاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. (هود [11] الآية 9- 10)

و غيرها من الآيات في ذلك السياق «1» أو ما تقصّ قصّته و إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَيَطْغيٰ* أَنْ رَآهُ

اسْتَغْنيٰ (العلق [96] الآية 6- 7)، لا اذا استغني، و انه في كبد، يحسب ان لن يقدر عليه أحد «2» و هو كادح الي ربه كدحا فملاقيه «3» و قد جعله اللّه سميعا بصيرا و هداه السبيل اما شاكرا و إمّا كفورا «4».

______________________________

(1)- مثل قوله تعالي: «وَ مٰا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّٰهِ ثُمَّ إِذٰا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ* ثُمَّ إِذٰا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» (سورة النحل [16] الآية 53- 54) و ذلك الفريق هو الانسان و لا ايمان حقا.

و قال تعالي: «وَ إِنّٰا إِذٰا أَذَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنّٰا رَحْمَةً فَرِحَ بِهٰا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسٰانَ كَفُورٌ». (الشوري [42] الآية 48)

و قال تعالي: «وَ إِذٰا مَسَّ الْإِنْسٰانَ الضُّرُّ دَعٰانٰا لِجَنْبِهِ أَوْ قٰاعِداً أَوْ قٰائِماً* فَلَمّٰا كَشَفْنٰا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنٰا إِليٰ ضُرٍّ مَسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ» (يونس [10] الآية 12)، و كذا الآيات 21 الي 23 من هذه السورة.

و قال تعالي: «وَ إِذٰا مَسَّ النّٰاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذٰا أَذٰاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ». (الروم [30] الآية 33)

(2)- قال اللّه تبارك و تعالي: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ فِي كَبَدٍ أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ».

(البلد [90] الآية 4- 5)

(3)- قال تعالي: «يٰا أَيُّهَا الْإِنْسٰانُ إِنَّكَ كٰادِحٌ إِليٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلٰاقِيهِ». (الانشقاق [84] الآية 6)

(4)- قال تعالي: «إِنّٰا خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشٰاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنٰاهُ سَمِيعاً بَصِيراً* إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً». (الانسان [74] الآية 2- 3)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 400

الا ان هذا طبعه و لا ايمان دون ما اذا كان مؤمنا باللّه

تعالي متيقّنا ان الأمور كلها بيده و ان له ما في السموات و ما في الأرض و مقاليدها و الخلق و الأمر، يعطي من يشاء، فانه حينئذ مسلّم وجهه إليه تعالي في كل حال و يطمئن قلبه بذكر اللّه و ان مشيّته خيرا دائما عَسيٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسيٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ البقرة [2] الآية 216 … فَعَسيٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً النساء [4] الآية 19.

و لذلك تري الاستثناء في قوله تعالي: وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنّٰا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنٰاهٰا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ* وَ لَئِنْ أَذَقْنٰاهُ نَعْمٰاءَ بَعْدَ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئٰاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (هود [11] الآية 9- 10)، بقوله تعالي: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ هود [11] الآية 11، و كذا ذيل آية الزمر: أَمَّنْ هُوَ قٰانِتٌ آنٰاءَ اللَّيْلِ سٰاجِداً وَ قٰائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبٰابِ الزمر [39] الآية 9، و دون ما اذا كان مؤمنا لا علي يقين فان: مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّٰهَ عَليٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصٰابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصٰابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَليٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ الْخُسْرٰانُ الْمُبِينُ (انظر الي سورة الحج [22] الآيات 11- 15). الآيات.

اللّهم اجعلنا من عبادك الصالحين المتذكرين و ارزقنا خير الدنيا و الآخرة، و تقبّل منّا هذا المجهود و اجعله ذخرا في يوم الميعاد، و لقد فرغنا منه و الساعة الحادية عشرة و

النصف من بعد ظهر يوم الاثنين السادس و العشرين من شهر ذي الحجة الحرام سنة خمس و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة علي مهاجرها الف تحية، و انا مبعد في رودبار و الحمد للّه أوّلا و آخرا، و هو الموفق و المعين.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.